الحدائق الناضرة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

الوضوء بالتوزيع. وفيه بعد لظهور ان الوضوء والغسل علة لرفع الحدث مطلقا وهذا ينسحب في جميع الأغسال سوى الجنابة» انتهى. وسياق هذا الكلام وما اشتمل عليه من الخلاف ظاهر في ان غسل المس رافع عندهم وهو موجب لكون المس عندهم من جملة النواقض كما سلف ذكره عن جملة منهم واما الحدث في أثناء هذا الغسل فقد تقدم الكلام في نظيره.

وقال في الدروس : «ولا يمنع هذا الحدث من الصوم ولا من دخول المساجد في الأقرب نعم لو لم يغسل العضو اللامس وخيف سريان النجاسة الى المسجد حرم الدخول وإلا فلا» انتهى. أقول : ظاهر هذا الكلام هو ان حدثية المس الموجبة للغسل كالحدث الأصغر فيجب لما يجب له الوضوء من الصلاة والطواف ونحوهما ولا يجب للصوم ولا لدخول المساجد للأصل وعدم الدليل المخرج عنه ، نعم يأتي في دخول المساجد لو لم يغسل العضو اللامس ما يأتي في سائر النجاسات من تحريم الدخول مطلقا أو بشرط خوف التعدي الى المسجد أو شي‌ء من الآية.

(السابعة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وجوب الغسل بمس القطعة المبانة ذات العظم من حي أو ميت ، وادعى في الخلاف الإجماع عليه ، واستدلوا على ذلك برواية أيوب بن نوح عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة فإذا مسه انسان فكل ما فيه عظم فقد وجب على كل من يمسه الغسل ، وان لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه». وهذه الرواية شاملة بإطلاقها المبانة من حي أو ميت. أقول : ويدل عليه ايضا قوله (عليه‌السلام) (٢) في الفقه الرضوي : «وان مسست شيئا من جسد اكلة السبع فعليك الغسل ان كان فيما مسست عظم ، وما لم يكن فيه عظم فلا غسل عليك في مسه». وبهذه العبارة عبر في الفقيه بأدنى تغيير فقال : «ومن مس قطعة من جسد أكيل السبع فعليه الغسل ان كان

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢ من أبواب غسل المس.

(٢) ص ١٧.

٣٤١

فيما مس عظم وما لم يكن فيه عظم فلا غسل عليه في مسه» انتهى. ومورد العبارة المذكورة وان كان بالنسبة إلى القطعة المبانة من الميت إلا انه لا دلالة فيها على الاختصاص

ولم أقف على من خالف في الحكم المذكور إلا المحقق في المعتبر وتبعه في المدارك قال في المعتبر بعد ان نقل عن الشيخ دعوى الإجماع على ذلك والاستدلال بالرواية المتقدمة : «والذي أراه التوقف في ذلك ، فإن الرواية مقطوعة والعمل بها قليل ودعوى الشيخ في الخلاف الإجماع لم يثبت فاذن الأصل عدم الوجوب ، وان قلنا بالاستحباب كان تفصيا من اطراح قول الشيخ والرواية» انتهى. قال في المدارك بعد نقل كلامه : «هذا كلامه وهو في محله».

أقول : فيه (أولا) ـ ما قدمنا نقله عنه في أوائل المعتبر من وجوب العمل بالخبر وان ضعف سنده متى قبله الأصحاب ، والأمر هنا كذلك فإنه لا راد له سواه ومن تبعه ، وكل من تأخر عنه من أصحاب هذا الاصطلاح ما عدا صاحب المدارك فإنهم ردوا كلامه بان ضعف الخبر مجبور بشهرة العمل به وان الإجماع المنقول بخبر الواحد حجة كما حقق في الأصول ، واما المتقدمون فقد عرفت في غير موضع مما تقدم انه لا اثر لهذا الاصطلاح عندهم ومن ذكر المسألة منهم فإنما حكم فيها بما تقدم ومن لم يتعرض لها فإنه لا يدل على إنكارها وعدم القول بها ، فقوله : «والعمل بها قليل» لا وجه له. و (ثانيا) ـ ان ما ادعاه ـ من ان في القول بالاستحباب تفصيا عن اطراح قول الشيخ والرواية ـ ليس في محله ، لانه متى كان قول الشيخ وكذا ظاهر الرواية انما هو الوجوب الموجب مخالفته للمؤاخذة بالعقاب والقول بالاستحباب موجب لجواز الترك وعدم المؤاخذة ، فكيف يكون فيه تفص عن مخالفة الشيخ والرواية؟ وبذلك يظهر ان القول المشهور هو المؤيد المنصور.

وهل يجب الغسل بمس العظم المجرد متصلا أو منفصلا؟ قولان أشهرهما العدم ، وذهب في الذكرى والدروس الى الوجوب لدوران الغسل معه وجودا وعدما. ورد

٣٤٢

بمنع حجية الدوران وجواز كون العلة هي المجموع المركب منه ومن اللحم ، ولان العظم طاهر في نفسه حيث انه مما لا تحله الحياة فلا يوجب نجاسة غيره ، ولو فرضت نجاسته فهي عرضية خبثية تزول بتطهيره كباقي المتنجسات بالخبث ، هذا مع انفصاله واما مع الاتصال فالظاهر وجوب الغسل بمسه لا من حيث هو هو بل من حيث وجوب الغسل بمس الميت الصادق بمس اي جزء منه. ونحوه ايضا مس الشعر والظفر على اشكال ينشأ مما ذكرناه من ان مس الشعر والظفر لا يسمى مسا للميت عرفا سيما إذا طالا بخلاف العظم والضرس لان الظاهر صدق مس الميت بمسهما ، والاحتياط يقتضي الغسل بمس كل من هذه الأشياء المذكورة حال الاتصال.

ويتفرع على وجوب الغسل بمس العظم ما لو وجد العظم في مقبرة ، فإن كانت مقبرة المسلمين فلا غسل لان الظاهر انه دفن بعد الغسل حملا لأفعال المسلمين على الصحة وان كانت مقبرة الكفار وجب الغسل إذ لا عبرة بغسل الكافر كما تقدم ، ولو تناوب عليها الفريقان فإشكال لتعارض أصالة عدم الغسل لجواز كونه كافرا ، والشك في حصول الحدث فلا يرفع يقين الطهارة التي عليها الماس ، إلا ان في عدم رفع يقين الطهارة بمثل هذا الشك بحثا تقدم الكلام فيه في المقدمة الحادية عشرة من مقدمات الكتاب ، ورجح في الدروس هنا سقوط الغسل. وان جهلت فلم يعلم كونها مقبرة المسلمين أو الكفار تبعت الدار فيلحق بأهلها.

قال في الروض : «واعلم ان كل ما حكم في مسه بوجوب الغسل مشروط بمس ما تحله الحياة من اللامس لما تحله الحياة من الملموس فلو انتفى أحد الأمرين لم يجب الغسل ، فان كان تخلف الحكم لانتفاء الأول خاصة وجب غسل اللامس خاصة ، وان كان لانتفاء الثاني خاصة فلا غسل ولا غسل مع اليبوسة ، وكذا ان كان لانتفاء الأمرين معا ، هذا كله في غير العظم المجرد كالشعر والظفر ونحوهما ، اما العظم فقد تقدم الاشكال فيه ، وهو في السن أقوى ، ويمكن جريان الإشكال في الظفر ايضا لمساواته العظم في ذلك ، ولا فرق

٣٤٣

في الاشكال بين كون العظم والظفر من اللامس أو الملموس» انتهى.

الفصل السادس

في غسل الأموات وما يستتبعه من أحكام الاحتضار والدفن ونحوهما ، والكلام فيه يقع في مقاصد (الأول) ـ في الاحتضار ، ولا بأس بتقديم بعض الأخبار المناسبة للمقام والمتعلقة بهذه الأحكام :

فعن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) رفع رأسه الى السماء فتبسم فسئل عن ذلك فقال : نعم عجبت لملكين هبطا من السماء إلى الأرض يلتمسان عبدا مؤمنا صالحا في مصلى كان يصلى فيه ليكتبا له عمله في يومه وليلته فلم يجداه في مصلاه ، فعرجا الى السماء فقالا ربنا عبدك فلان المؤمن التمسناه في مصلاه لنكتب له عمله ليومه وليلته فلم نصبه فوجدناه في حبالك ، فقال الله (عزوجل) اكتبا لعبدي مثل ما كان يعمل في صحته من الخير في يومه وليلته ما دام في حبالي فان علي ان اكتب له أجر ما كان يعمله إذا حبسته عنه». وعن الباقر (عليه‌السلام) (٢) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ان المؤمن إذا غلبه ضعف الكبر أمر الله تعالى الملك ان يكتب له في حاله تلك مثل ما كان يعمل وهو شاب نشيط صحيح ، ومثل ذلك إذا مرض وكل الله تعالى به ملكا يكتب له في سقمه ما كان يعمله من الخير في صحته حتى يرفعه الله ويقبضه ، وكذلك الكافر إذا اشتغل بسقم في جسده كتب الله له ما كان يعمل من الشر في صحته».

أقول : لعل الوجه في ذلك ان المؤمن لما كان من نيته المداومة على تلك الأعمال

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١ من أبواب الاحتضار.

(٢) رواه في الكافي ج ١ ص ٣٢ وروى في الوسائل قطعة منه في الباب ١ من أبواب الاحتضار.

٣٤٤

الصالحة فمتى حيل بينه وبينها بالمرض أو الكبر فان الله سبحانه يكتب له ثواب ذلك من حيث نيته ، والكافر ايضا لما كان في نيته المداومة على تلك الأعمال القبيحة كتب له ، وهو السر في الحديث الوارد بان كلا من أهل الجنة والنار انما خلدوا فيها بالنيات.

وعن الباقر (عليه‌السلام) (١) : «سهر ليلة من مرض أفضل من عبادة سنة». وعن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «الحمى رائد الموت وهو سجن الله تعالى في الأرض وهو حظ المؤمن من النار». وبهذا المضمون جملة من الأخبار. وعن الباقر (عليه‌السلام) (٣) : «حمى ليلة تعدل عبادة سنة وحمى ليلتين تعدل عبادة سنتين وحمى ثلاث ليال تعدل عبادة سبعين سنة. قال قلت : فان لم يبلغ سبعين سنة؟ قال فلأبيه وامه. قال قلت : فان لم يبلغا؟ قال : فلقرابته. قال قلت : فان لم يبلغ قرابته؟ قال : فلجيرانه». وعن الرضا (عليه‌السلام) (٤) قال : «المرض للمؤمن تطهير ورحمة وللكافر تعذيب ونقمة ، وان المرض لا يزال بالمؤمن حتى ما يكون عليه ذنب». وعن جعفر بن محمد عن آبائه في وصية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لعلي (عليه‌السلام) (٥) قال : «يا علي أنين المؤمن تسبيح وصياحه تهليل ونومه على فراشه عبادة وتقلبه من جنب الى جنب جهاد في سبيل الله تعالى ، فإن عوفي مشى في الناس وما عليه ذنب». وعن الباقر (عليه‌السلام) (٦) قال : «إذا أحب الله تعالى عبدا نظر اليه فإذا نظر إليه أتحفه بواحدة من ثلاث : اما صداع واما حمى واما رمد». وعن علي بن الحسين (عليهما‌السلام) (٧) قال : «حمى ليلة كفارة سنة وذلك لان ألمها يبقى في الجسد سنة». وعن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (٨) «انه تبسم فقيل له تبسمت يا رسول الله؟ فقال عجبت للمؤمن وجزعه من السقم ولو يعلم ما له في السقم من الثواب لأحب ان لا يزال سقيما حتى يلقى ربه عزوجل». وعن أبي إبراهيم (عليه‌السلام) (٩) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله)

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٧ و ٨ و ٩) رواه في الوسائل في الباب ١ من أبواب الاحتضار.

٣٤٥

للمريض اربع خصال : يرفع عنه القلم ويأمر الله تعالى الملك فيكتب له كل فضل كان يعمله في صحته ويتبع مرضه كل عضو في جسده فيستخرج ذنوبه منه فان مات مات مغفورا له وان عاش عاش مغفورا له». وعن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليهم‌السلام) (١) «انه عاد سلمان الفارسي فقال له : يا سلمان ما من أحد من شيعتنا يصيبه وجع إلا بذنب قد سبق منه وذلك الوجع تطهير له. فقال له سلمان : فليس لنا في شي‌ء من ذلك أجر خلا التطهير؟ قال علي (عليه‌السلام) : يا سلمان لكم الأجر بالصبر عليه والتضرع الى الله تعالى والدعاء له بهما تكتب لكم الحسنات وترفع لكم الدرجات ، فاما الوجع خاصة فهو تطهير وكفارة». وعن الباقر (عليه‌السلام) (٢) قال : «كان الناس يعتبطون اعتباطا فلما كان زمان إبراهيم (عليه‌السلام) قال : يا رب اجعل للموت علة يؤجر بها الميت ويسلي بها عن المصاب ، قال : فانزل الله تعالى الموم وهو البرسام ثم انزل بعده الداء».

أقول : الاعتباط بالمهملتين أولا وآخرا : نزول الموت بغير علة. والموم بضم الميم والبرسام : علة معروفة يهذى فيها ، يقال : برسم الرجل فهو مبرسم ، والداء سائر أنواع المرض

وعن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «أكثر من يموت من موالينا بالبطن الذريع». أقول : البطن محركة : داء البطن ، يقال بطن الرجل على صيغة المجهول : اشتكى بطنه ، والذريع : السريع الكثير ، وهو عبارة عن كثرة الإسهال وسرعته بسبب انطلاق البطن. وعن الصادق (عليه‌السلام) «ان أعداءنا يموتون بالطاعون وأنتم تموتون بعلة البطون ألا انها علامة فيكم يا معشر الشيعة». وعن الصادق (عليه‌السلام) «ما من داء إلا وهو شارع الى الجسد ينتظر متى يؤمر به فيأخذه». قال في الكافي وفي رواية أخرى «إلا الحمى فإنها ترد ورودا». وعن الصادق (عليه‌السلام) قال :

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١ من أبواب الاحتضار.

(٢) رواه في الكافي ج ١ ص ٣١.

(٣) رواه في الكافي ج ١ ص ٣١ عن الرضا «عليه‌السلام».

٣٤٦

«قال موسى يا رب من اين الداء؟ قال : منى. قال فالشفاء؟ قال مني. قال : فما يصنع عبادك بالمعالج؟ قال : تطيب أنفسهم فيومئذ سمي المعالج بالطبيب».

أقول : لا يخفى ما في هذا الحديث من الإشكال ، إذ لا يظهر هنا وجه مناسبة بين المشتق والمشتق منه ، فإن أحدهما من «طيب» بالياء المثناة والآخر من «طبب» بالبائين الموحدتين ، ولعل قوله (عليه‌السلام) : «تطيب أنفسهم» انما هو بالبائين لا بالياء ، فان الطب كما يكون للبدن يكون للنفس ايضا كما قال في القاموس : «الطب مثلث الطاء : علاج الجسم والنفس» فالاشتقاق متجه ، وما في النسخ من الكتابة بالياء المثناة من تحت في اللفظ المشار اليه فالظاهر انه غلط من النساخ.

وعن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «قال الله تعالى : أيما عبد ابتليته ببلية فكتم ذلك عواده ثلاثا أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه وبشرا خيرا من بشره ، فإن أبقيته أبقيته ولا ذنب له وان مات مات إلى رحمتي». وزاد في خبر آخر مثله «قال قلت : جعلت فداك وكيف يبدله؟ قال يبدله لحما ودما وشعرا وبشرا لم يذنب فيها». وعن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «من مرض ليله فقبلها بقبولها كتب الله له عبادة ستين سنة. قلت ما معنى قبولها؟ قال لا يشكو ما اصابه فيها الى أحد». وعن الصادق (عليه‌السلام) (٣) وقد سئل عن حد الشكاية للمريض قال : «ان الرجل يقول حممت اليوم وسهرت البارحة وقد صدق وليس هذا شكاية ، وانما الشكوى ان يقول لقد ابتليت بما لم يبتل به أحد ويقول لقد أصابني ما لم يصب أحدا ، وليس الشكوى ان يقول سهرت البارحة وحممت اليوم ونحو هذا». وعن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «ينبغي للمريض منكم أن يؤذن

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٣ من أبواب الاحتضار.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٥ من أبواب الاحتضار.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ٨ من أبواب الاحتضار.

٣٤٧

إخوانه بمرضه فيعودونه فيؤجر فيهم ويؤجرون فيه قال فقيل له نعم هم يؤجرون فيه بممشاهم اليه فكيف يؤجر هو فيهم؟ قال فقال باكتسابه لهم الحسنات فيؤجر فيهم ، فيكتب له بذلك عشر حسنات ويرفع له عشر درجات ويمحى بها عنه عشر سيئات». وعن ابي الحسن (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا مرض أحدكم فليأذن للناس يدخلون عليه فإنه ليس من أحد إلا وله دعوة مستجابة». وعن الصادق (عليه‌السلام) (٢) «ما من أحد يحضره الموت إلا وكل به إبليس من شياطينه من يأمره بالكفر ويشككه في دينه حتى تخرج نفسه فمن كان مؤمنا لم يقدر عليه ، فإذا حضرتم موتاكم فلقنوهم شهادة ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله حتى يموتوا». وعنه (عليه‌السلام) في حديث (٣) «ان ملك الموت يتصفح الناس في كل يوم خمس مرات عند مواقيت الصلاة فإن كان ممن يواظب عليها عند مواقيتها لقنه شهادة ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله ونحى عنه ملك الموت إبليس». وعن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «لا عيادة في وجع العين ولا تكون عيادة في أقل من ثلاثة أيام فإذا وجبت فيوم ويوم لا فإذا طالت العلة ترك المريض وعياله». وعن بعض موالي جعفر بن محمد (عليه‌السلام) (٥) قال : «مرض بعض مواليه فخرجنا اليه نعوده ونحن عدة من موالي جعفر فاستقبلنا جعفر (عليه‌السلام) في بعض الطريق فقال لنا اين تريدون؟ فقلنا نريد فلانا نعوده. فقال لنا : قفوا فوقفنا فقال : مع أحدكم تفاحة أو سفر جلة أو أترجة أو لعقة من طيب أو قطعة من عود بخور؟ فقلنا ما معنا شي‌ء من هذا. فقال أما تعلمون ان المريض يستريح الى كل ما ادخل عليه؟». وعن الصادق

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٩ من أبواب الاحتضار.

(١ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب الاحتضار.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ١٣ من أبواب الاحتضار.

(٥) رواه في الوسائل في الباب ١٧ من أبواب الاحتضار.

٣٤٨

(عليه‌السلام) (١) قال : «تمام العيادة للمريض ان تضع يدك على ذراعه وتعجل القيام من عنده فإن عيادة النوكى أشد على المريض من وجعه». أقول : النوك بالضم : الحمق ، ورجل أنوك والجمع نوكى كقتلى. وعن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «ان أمير المؤمنين (عليه‌السلام) قال. ان من أعظم العواد اجرا عند الله لمن إذا عاد أخاه خفف الجلوس إلا ان يكون المريض يحب ذلك ويريده ويسأله ذلك.». وعن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «إذا أدخل أحدكم على أخيه عائدا له فليسأله يدعو له فان دعاءه مثل دعاء الملائكة». وعن الباقر (عليه‌السلام) (٤) قال : «من عاد مريضا في الله لم يسأل المريض للعائد شيئا إلا استجاب الله له». وعن الصادق (عليه‌السلام) (٥) قال : «عودوا مرضاكم وسلوهم الدعاء فإنه يعدل دعاء الملائكة». وعن الباقر (عليه‌السلام) (٦) قال : «أيما مؤمن عاد مؤمنا خاض الرحمة خوضا ، فإذا جلس غمرته الرحمة. فإذا انصرف وكل الله تعالى به سبعين الف ملك يستغفرون له ويسترحمون عليه ويقولون طبت وطابت لك الجنة إلى تلك الساعة من غد ، وكان له يا أبا حمزة خريف في الجنة. قلت ما الخريف جعلت فداك؟ قال زاوية في الجنة يسير الراكب فيها أربعين عاما». والأحاديث في استحباب العيادة وزيادة فضلها أكثر من ان يأتي عليها هذا المقام.

وعن ابي عبيدة الحذاء (٧) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) : حدثني بما انتفع به فقال : يا أبا عبيدة أكثر ذكر الموت فإنه لم يكثر انسان ذكر الموت إلا زهد في الدنيا». وعن ابي بصير (٨) قال : «شكوت الى ابي عبد الله (عليه‌السلام) الوسواس فقال : يا أبا محمد اذكر تقطع أوصالك في قبرك ورجوع أحبائك عنك إذا دفنوك في

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ١٥ من أبواب الاحتضار.

(٣ و ٤ و ٥) رواه في الوسائل في الباب ١٢ من أبواب الاحتضار.

(٦) رواه في الوسائل في الباب ١٠ من أبواب الاحتضار.

(٧ و ٨) رواه في الوسائل في الباب ٢٣ من أبواب الاحتضار.

٣٤٩

حفرتك وخروج بنات الماء من منخريك وأكل الدود لحمك فان ذلك يسلي عنك ما أنت فيه. قال أبو بصير فوالله ما ذكرته إلا سلى عني ما انا فيه من هم الدنيا». وعن الباقر (عليه‌السلام) (١) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : الموت الموت ألا ولا بد من الموت ، الى ان قال وقال : إذا استحقت ولاية الله والسعادة جاء الأجل بين العينين وذهب الأمل وراء الظهر ، وإذا استحقت ولاية الشيطان والشقاوة جاء الأمل بين العينين وذهب الأجل وراء الظهر. قال وسئل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أي المؤمنين أكيس؟ فقال أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم له استعدادا».

وعن أبي حمزة عن بعض الأئمة (عليهم‌السلام) (٢) قال : «ان الله تبارك وتعالى يقول يا ابن آدم تطولت عليك بثلاث : سترت عليك ما لو يعلم به أهلك ما وأروك ، وأوسعت عليك فاستقرضت منك فلم تقدم خيرا ، وجعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم تقدم خيرا». وعن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما‌السلام) (٣) قال : «قال علي (عليه‌السلام) : من اوصى فلم يجحف ولم يضار كان كمن تصدق به في حياته. قال وقال (عليه‌السلام) : ستة يلحقن المؤمن بعد وفاته : ولد يستغفر له ومصحف يخلفه وغرس يغرسه وبئر يحفرها وصدقة يجريها وسنة يؤخذ بها من بعده». وعن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما‌السلام) (٤) «ان النبي سئل عن رجل يدعى الى وليمة والى جنازة فأيهما أفضل وأيهما يجيب؟ قال يجيب الجنازة فإنها تذكر الآخرة ، وليدع الوليمة فإنها تذكر الدنيا». وعن الصادق (عليه‌السلام) (٥) قال : «الوصية حق على كل مسلم». وعن زيد الشحام (٦) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الوصية فقال هي حق على كل مسلم».

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٣ من أبواب الاحتضار.

(٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٣٠ من أبواب الاحتضار.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ٣٤ من أبواب الاحتضار.

(٥ و ٦) رواه في الوسائل في الباب ١ من كتاب الوصايا.

٣٥٠

قال بعض مشايخنا (عطر الله مراقدهم) : قوله : «الوصية حق» اي لازم وجوبا إذا كانت ذمته مشغولة ولم يظن الوصول الى صاحب الحق إلا بها ، واستحبابا مؤكدا في غيره من الخيرات والمبرات.

وقال بعض مشايخنا المحدثين : «الوصية العهد ، يقال أوصاه ووصاه توصية : عهد اليه ، والوصية التي هي حق على كل مسلم ان يعهد الى أحد إخوانه أن يتصرف في بعض ماله بعد موته تصرفا ينفعه في آخرته ، فان كان عليه حق لله سبحانه أو لبعض عباده قضاه منه ، وان كان له أولاد صغار قام عليهم وحفظ عليهم أموالهم ، أو كان في ورثته مجنون أو معتوه أو سفيه فكذلك نظرا لهم وصيانة لأموالهم وتخفيفا على المؤمنين مؤنتهم وان يفرض شيئا من ماله لأصدقائه وأقرباؤه ممن لا يرث ان فضل عن غنى الورثة وكان ذلك الصديق أو القريب به أحرى الى غير ذلك مما يجري هذا المجرى ، وان يشهد جماعة من المؤمنين على ايمانه وتفصيل عقائده الحقة ويعهد إليهم ان يشهدوا له بها عند ربه يوم يلقاه ، ولا يشترط في الوصية ان تكون عند حضور الموت بل ورد انه لا ينبغي ان لا يبيت الإنسان إلا ووصيته تحت رأسه» انتهى كلامه زيد إكرامه.

وعن الصادق (عليه‌السلام) (١) «قال له رجل اني خرجت إلى مكة فصحبني رجل وكان زميلي فلما ان كان في بعض الطريق مرض وثقل ثقلا شديدا فكنت أقوم عليه ثم أفاق حتى لم يكن عندي به بأس فلما ان كان في اليوم الذي مات فيه أفاق فمات في ذلك اليوم. فقال الصادق (عليه‌السلام) ما من ميت تحضره الوفاة إلا رد الله تعالى عليه من سمعه وبصره وعقله للوصية أخذ الوصية أو ترك وهي الراحة التي يقال لها راحة الموت ، فهي حق على كل مسلم».

وعن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «قال رسول الله (ص) من لم يحسن وصيته

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٤ من كتاب الوصايا.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٣ من كتاب الوصايا.

٣٥١

عند الموت كان نقصا في مروته وعقله. قيل يا رسول الله وكيف يوصي الميت؟ قال إذا حضرته الوفاة واجتمع الناس اليه قال (اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) الرحمن الرحيم ، اللهم إني أعهد إليك في دار الدنيا اني اشهد ان لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وان محمدا عبدك ورسولك وان الجنة حق والنار حق وان البعث حق والحساب حق والقدر حق والميزان حق وان الدين كما وصفت وان الإسلام كما شرعت وان القول كما حدثت وان القرآن كما أنزلت وانك أنت الله الحق المبين ، جزى الله محمدا عنا خير الجزاء وحيا الله محمدا وآله بالسلم ، اللهم يا عدتي عند كربتي ويا صاحبي عند شدتي ويا وليي عند نعمتي ، إلهي وإله آبائي لا تكلني الى نفسي طرفة عين أبدا فإنك إن تكلني الى نفسي طرفة عين كنت أقرب من الشر وأبعد من الخير ، وآنس في القبر وحشتي واجعل لي عهدا يوم ألقاك منشورا. ثم يوصي بحاجته ، وتصديق هذه الوصية في القرآن في السورة التي يذكر فيها مريم في قوله تعالى : «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» (١) فهذا عهد الميت ، والوصية حق على كل مسلم وحق عليه ان يحفظ هذه الوصية ويعلمها ، وقال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) علمنيها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وقال رسول الله علمنيها جبرئيل».

إذا عرفت ذلك فالكلام في هذا المقصد يقع في مواضع (الأول) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه يجب حال الاحتضار ـ وهو وقت نزع الروح من البدن ، وسمى به لأن الملائكة تحضره أو لحضور اهله عنده أو لحضور المؤمنين لتجهيزه ـ توجيهه إلى القبلة بأن يلقى على ظهره ويجعل باطن قدميه إلى القبلة بحيث لو جلس كان مستقبلا ، وعن الخلاف القول بالاستحباب ، قال في المعتبر : «وهو مذهب الجمهور خلا سعيد بن المسيب فإنه أنكره» والى هذا القول ذهب المحقق في المعتبر وصاحب المدارك وصاحب الذخيرة ، قال شيخنا الشهيد الثاني بعد ذكر الحكم المذكور : «ومستنده من الاخبار

__________________

(١) سورة مريم. الآية ٨٧.

٣٥٢

السليمة سندا ومتنا ما رواه محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن ابي عمير عن هشام بن سالم عن سليمان بن خالد (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : إذا مات لأحدكم ميت فسجوه تجاه القبلة ، وكذلك إذا غسل يحفر له موضع المغتسل تجاه القبلة فيكون مستقبلا بباطن قدميه ووجهه إلى القبلة». واما غيره من الاخبار التي استدل بها على الوجوب فلا يخلو من شي‌ء اما في السند أو في الدلالة» واعترضه سبطه في المدارك فقال بعد نقل ذلك : «هذا كلامه ، ويمكن المناقشة في هذه الرواية من حيث السند بإبراهيم بن هاشم حيث لم ينص علماؤنا على توثيقه وبان راويها وهو سليمان بن خالد في توثيقه كلام ، ومن حيث المتن بان المتبادر منها ان التسجية تجاه القبلة انما يكون بعد الموت لا قبله ، ومن ثم ذهب جمع من الأصحاب : منهم ـ المصنف في المعتبر الى الاستحباب استضعافا لأدلة الوجوب وهو متجه» انتهى.

أقول : لا يخفى ان هذه المناقشة من المناقشات الواهية وان كان قد تقدمه فيها شيخه المحقق الأردبيلي :

(اما أولا) ـ فمن حيث طعنه في إبراهيم بن هاشم بعدم التوثيق وكذا طعنه في سليمان بن خالد ورده الرواية بذلك ، فإنه قد قبل رواية إبراهيم في غير موضع من شرحه وعدها من قسم الحسن مصرحا بأنها لا تقصر عن الصحيح ، بل نظمها في الصحيح أيضا في مواضع وان طعن فيها أيضا في مواضع أخر مثل هذا الموضع ، كل ذلك يدور مدار احتياجه لها تارة وعدمه اخرى ، وهذا من جملة المواضع التي اضطرب فيها كلامه ، ومن ذلك ما ذكره في كتاب الصوم في مسألة رؤية الهلال قبل الزوال حيث قال : «والمسألة قوية الإشكال لأن الروايتين المتضمنتين لاعتبار ذلك معتبرتا الاسناد ، والاولى منهما لا تقصر عن مرتبة الصحيح لان دخولها في مرتبة الحسن بإبراهيم بن هاشم» انتهى على ان حديث إبراهيم بن هاشم مما عده في الصحيح جملة من محققي متأخري المتأخرين

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب الاحتضار.

٣٥٣

كالشيخ البهائي ووالده والمولى محمد باقر المجلسي ووالده وغيرهم ، وهو الحق الحقيق بالاتباع ، إذ لا يخفى ان ما ذكره علماء الرجال في حقه من انه أول من نشر حديث الكوفيين بقم من أعلى مراتب التوثيق ، لما علم من تصلب أهل قم في قبول الروايات والطعن بمجرد الشبهة في جملة من الثقات وزيادة احتياطهم في ذلك ، فأخذهم عن هذا الفاضل وسماعهم عنه الحديث واعتمادهم عليه لا يقصر عن قولهم ثقة بقول مطلق ان لم يزد على ذلك ، وبالجملة فأهل هذا الاصطلاح مجمعون على قبول روايته ولا راد لها بالكلية إلا من مثل السيد (رحمه‌الله) في مقام حب المناقشة ، وبالجملة فإنه ليس له في هذا الباب ضابطة ولا يقف على رابطة. واما سليمان بن خالد فإنه قد نظم حديثه في الصحيح في مواضع عديدة من كتابه : منها ـ في بحث غسل الجنابة في مسألة خروج البلل المشتبه بعد الغسل ، ومنها ـ في بحث القنوت في قنوت الجمعة ، ومنها ـ في نوافل يوم الجمعة وفي مبحث الوقت في آخر وقت صلاة الليل وانه الفجر الثاني وفي مواضع من الجلد الثاني في مواضع تنيف على عشرين موضعا ، ولا أعلم أحدا من أصحاب هذا الاصطلاح ينقل حديثه إلا ويعده في الصحيح.

و (اما ثانيا) ـ فما ناقش به في متن الرواية المذكورة بما ذكره فهو وان كان بحسب ما يترائى إلا انه قد وقع تجوز في العبارة ، وهو مجاز شائع كما في قوله سبحانه «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ..(١) أي إذا أردتم «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ» (٢) ونحو ذلك ، والمراد هنا من قوله (عليه‌السلام) : «إذا مات لأحدكم ميت» يعني إذا أشرف على الموت واحتضر لا وقوع الموت بالفعل ، وإلا للزم وجوب توجيه الميت إلى القبلة حيث ما وضع ما لم يدفن ولا أظنه يلتزمه ، وكذا القول في قوله في الخبر المذكور «إذا غسل» أي إذا أريد غسله نظير الآيتين المذكورتين ، وبما ذكرنا صرح ايضا شيخنا البهائي في الحبل المتين فقال : «وأنت خبير بأن إطلاق الميت على المشرف على الموت شائع في الاستعمال كثير في الاخبار كما في الحديث الثاني والثامن والتاسع والعاشر» انتهى.

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٨.

(٢) سورة النحل الآية ١٠.

٣٥٤

و (اما ثالثا) ـ فإنه إذا كانت الرواية باعتبار المعنى الذي صار اليه لا دلالة فيها على وجوب توجيه المحتضر إلى القبلة كما هو القول المشهور لان موردها انما هو بعد الموت ، وغيرها من الروايات الواردة في المقام كما ستمر بك ان شاء الله تعالى كلها من هذا القبيل ، فالاستحباب الذي صاروا إليه بأي دليل اعتمدوا فيه عليه؟ إذ لا ريب ان الاستحباب حكم شرعي يتوقف على الدليل ، وعلى هذا فينعكس الاشكال فيما ذهبوا اليه لقولهم باستحباب توجيه المحتضر إلى القبلة من غير دليل ، إذ ليس إلا هذه الروايات ومعناها ـ كما زعمه ـ انما هو التوجيه بعد الموت ، فأي دليل دل على استحباب التوجيه حال الاحتضار؟ ما هذه إلا مجازفات واهية ، وصاحب الذخيرة هنا انما التجأ في الحمل على الاستحباب الى قاعدته التي قدمنا الكلام فيها من عدم دلالة الأوامر في أخبارنا على الوجوب ، فالتجأ إلى الاستحباب تفاديا من طرح الاخبار ، وقد عرفت ما فيه.

ثم ان من روايات المسألة ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا وفي العلل مسندا عن الصادق عن أمير المؤمنين (عليهما‌السلام) (١) قال : «دخل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على رجل من ولد عبد المطلب وهو في السوق وقد وجه الى غير القبلة ، فقال وجهوه إلى القبلة فإنكم إذا فعلتم ذلك أقبلت عليه الملائكة. الحديث». وهو صريح ـ كما ترى ـ في كون التوجيه إلى القبلة في حال الاحتضار. وطعن فيه في المعتبر بأنه قضية في واقعة معينة فلا تدل على العموم ، وان التعليل في الرواية كالقرينة الدالة على الفضيلة. وأنت خبير بما فيه من الوهن والقصور إذ لو قام مثل هذا الكلام لانسد به باب الاستدلال في جميع الأحكام ، إذ لا حكم وارد في خبر من الأخبار إلا ومورده قضية مخصوصة فلو قصر الحكم على مورده لانسد باب الاستدلال ، فإنه إذا سأل سائل الامام اني صليت وفي ثوبي نجاسة نسيتها فقال أعد صلاتك ، فلقائل أن يقول في هذا الخبر كما ذكره هنا مع انه لا خلاف بين الأصحاب في الاستدلال به على جزئيات الأحكام

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب الاحتضار.

٣٥٥

والنجاسات مما هو نظير هذه الواقعة ، وأضعف من ذلك استناده إلى دلالة التعليل على الاستحباب. واما طعنه في المعتبر في اخبار المسألة أيضا بضعف الاسناد فقد تقدم الكلام فيه وبيان منافاته لما قرره في صدر كتابه. وبالجملة فإن مناقشاتهم في هذه المسألة مما لا يلتفت إليها ولا يعول عليها.

ومنها ـ ما رواه في الكافي في الحسن بإبراهيم بن هاشم على المشهور والصحيح عندي إلى إبراهيم الشعيري وغير واحد عن الصادق (عليه‌السلام) (١) : «في توجيه الميت؟ قال : تستقبل بوجهه القبلة وتجعل قدميه مما يلي القبلة».

وعن معاوية بن عمار (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الميت فقال : استقبل بباطن قدميه القبلة».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن ذريح المحاربي عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) في حديث قال : «إذا وجهت الميت للقبلة فاستقبل بوجهه القبلة لا تجعله معترضا كما يجعل الناس ، فإني رأيت أصحابنا يفعلون ذلك وقد كان أبو بصير يأمر بالاعتراض.». والظاهر ان قوله : «وقد كان أبو بصير» من كلام الراوي ، ويحتمل ان يكون من كلام الامام (عليه‌السلام) ولعل أمر أبي بصير بذلك انما كان من حيث التقية (٤).

وهل يبقى لمتأمل منصف بعد الوقوف على هذه الأخبار السالمة عن المعارض

__________________

(١ و ٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب الاحتضار.

(٤) في البحر الرائق لابن نجيم الحنفي ج ٢ ص ١٧٠ «وبوجه إلى القبلة على يمينه للسنة المنقولة واختار مشايخنا بما وراء النهر الاستلقاء على ظهره وقدماه إلى القبلة لأنه أيسر لخروج الروح» وفي المهذب للشيرازي الشافعي ج ١ ص ١٢٦ «يستحب ان يضجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة» وفي نيل الأوطار للشوكانى ج ٤ ص ١٨ «واختلف في صفة التوجيه إلى القبلة فقال الهادي والناصر والشافعي في أحد قوليه انه يوجه مستلقيا ليستقبلها بكل وجه ، وقال المؤيد وأبو حنيفة والامام يحيى والشافعي في أحد قوليه انه يوجه على جنبه الأيمن».

٣٥٦

توقف في الحكم بالوجوب.

وفي المقام فوائد (الأولى) ـ لا يخفى انه على تقدير القول بالوجوب فهل يسقط بالموت أم يجب دوام الاستقبال بالميت مهما أمكن؟ اشكال ، قال في الذكرى : «ظاهر الأخبار سقوط الاستقبال بموته وان الواجب ان يموت إلى القبلة ، وفي بعضها احتمال دوام الاستقبال ، ونبه عليه ذكره حال الغسل ووجوبه حال الصلاة والدفن وان اختلفت الهيئة عندنا» وقال المحقق الأردبيلي : «والظاهر إبقاؤه على تلك الحالة حتى ينقل الى المغتسل ويراعى هناك ايضا كذلك لا انه يكون حين خروج الروح فقط لان ظاهر الاخبار بعد الموت».

أقول : مبنى كلام الشهيد على ما قدمناه من حمل الميت في الأخبار على المشرف على الموت ، حيث انه قائل بوجوب الاستقبال بالميت حال الاحتضار ، وبذلك يظهر ما في كلام صاحب المدارك حيث قال بعد نقل ذلك عنه : «ولم أقف على ما ذكره من الاخبار المتضمنة للسقوط» انتهى. وفيه ما عرفت من انه متى حملت الأخبار على المشرف على الموت وخصت به فظاهرها السقوط بعد الموت ، ومبنى كلام المحقق المذكور على حمل الأخبار المذكورة على ظاهرها من كون الاستقبال بعد الموت حيث انه ممن اختار عدم الوجوب ، وشيخنا المشار اليه انما صار الى احتمال الدوام من حيث اخبار الغسل والصلاة والدفن كما ذكره. والأقرب بناء على تأويل تلك الاخبار بما ذكرناه هو اختصاص الوجوب بحال الاحتضار ، إذ هو مقتضى الدليل خاصة والتعدي عنه يحتاج الى الدليل ، وورود الاستقبال في اخبار الغسل والصلاة والدفن لا يقتضي الحكم به فيما بينها وما قبلها.

(الثانية) ـ لو اشتبهت القبلة فالظاهر سقوط وجوب الاستقبال لعدم إمكان توجيهه في حالة واحدة إلى الجهات الأربع ، واحتمل في الذكرى ذلك. أقول : هذا الكلام مبني على القول المشهور من ان فاقد القبلة يصلى الى أربع جهات ، واما على ما هو

٣٥٧

المختار في المسألة من انه يصلي الى اي جهة شاء فيكون هنا كذلك ايضا. واما ما احتمله في الذكرى بناء على المشهور فالظاهر بعده.

(الثالثة) ـ الظاهر انه لا فرق في هذا الحكم بين الصغير والكبير للعموم ، قالوا : والظاهر اختصاص الحكم بوجوب الاستقبال بمن يعتقد وجوبه ، فلا يجب توجيه المخالف إلزاما له بمذهبه كما يغسل غسله ويقتصر في الصلاة عليه على اربع تكبيرات. أقول : هذا التفريع انما يتجه على تقدير الحكم بإسلام المخالف ووجوب تغسيله والصلاة عليه ودفنه كما هو المشهور بين متأخري أصحابنا ، واما على ما هو الحق من كفره وعدم جواز تغسيله ولا الصلاة عليه ولا دفنه كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى في المباحث الآتية فلا وجه له. والله العالم.

(الموضع الثاني) ـ المشهور بين الأصحاب بل ادعى عليه الإجماع جمع منهم ان جميع أحكام الميت من توجيهه إلى القبلة وتكفينه وتغسيله وتحنيطه وحفر قبره واجبة كفائية على من علم بموته من المسلمين ، قالوا : والمراد من الواجب الكفائي هنا مخاطبة كل من علم بموته من المكلفين ممن يمكنه مباشرة ذلك الفعل به استقلالا أو منضما الى غيره حتى يعلم تلبس من فيه الكفاية به فيسقط حينئذ عنه سقوطا مراعى باستمرار الفاعل عليه حتى يفرغ.

وهل يبقى الوجوب على من علم الى ان يعلم وقوع الفعل شرعا أو يكتفى بظن قيام الغير به؟ قولان : صرح بالثاني العلامة وجماعة ، قالوا لان العلم بان الغير يفعل كذا في المستقبل ممتنع ولا تكليف به والممكن تحصيل الظن ، ولاستبعاد وجوب حضور أهل البلد الكبير عند الميت حتى يدفن ، وفرعوا عليه انه لو ظن قوم قيام غيرهم به سقط عنهم ولو ظنوا عدمه وجب عليهم. وبالأول صرح شيخنا الشهيد الثاني في الروض وسبطه في المدارك وأجاب في الروض عن الدليل المتقدم بأنه يشكل بان الظن انما يقوم مقام العلم مع النص عليه بخصوصه أو دليل قاطع ، وما ذكره لا تتم به الدلالة لأن تحصيل العلم بفعل الغير في المستقبل

٣٥٨

ممكن بالمشاهدة ونحوها من الأمور المثمرة له والاستبعاد غير مسموع ، وباستلزامه سقوط الواجب عند عدم العلم بقيام الغير به ، وبان الوجوب معلوم والمسقط مظنون والمعلوم لا يسقط بالمظنون.

أقول : والظاهر بناء على ثبوت ما ذكروه من الوجوب كفاية هو القول الأول لما ذكره شيخنا المشار إليه فإنه الأوفق بالقواعد الشرعية ، إلا اني لا اعرف لهذا القول ـ وان اشتهر بينهم بل ادعي عليه الإجماع ـ دليلا يعتمد عليه ولا حديثا يرجع فيه اليه ، ولم يصرح أحد منهم بدليل في المقام حتى من متأخري المتأخرين الذين عادتهم المناقشة في الأحكام وطلب الأدلة فيها عنهم (عليهم‌السلام) وكأن الحكم مسلم الثبوت بينهم. مع ان الذي يظهر لي من الاخبار ان توجه الخطاب بجميع هذه الأحكام ونحوها من التلقين ونحوها كما ستقف عليها ان شاء الله تعالى في مواضعها ، واخبار توجيه الميت إلى القبلة وان لم يصرح فيها بالولي إلا ان الخطاب فيها توجه الى أهل الميت دون كافة المسلمين فيمكن حمل إطلاقها على ما دلت عليه تلك الاخبار. ولا أعرف للأصحاب مستندا فيما صاروا اليه من الوجوب الكفائي إلا ما يظهر من دعوى الاتفاق حيث لم ينقل فيه خلاف ولم يناقش فيه مناقش ، ومما يؤكد ما ذكرنا ما صرح به في الروض في مسألة ما يستحب ان يعمل بالميت حال الاحتضار حيث قال : «واعلم ان الاستحباب في هذا الموضع كفائي فلا يختص بالولي وان كان الأمر فيه آكد ، وفي بعض الاخبار وروايات الأصحاب ما يدل على اختصاصه بذلك» ثم نقل في حاشية الكتاب عن العلامة في النهاية انه قال : والأقوى انه إذا تيقن الولي نزول الموت بالمريض ان يوجهه إلى القبلة. الى آخره ، ثم حكى حديثا يظهر منه ذلك. انتهى. ولا يخفى ما في الخروج عن مقتضى الأخبار الدالة على الاختصاص ـ كما اعترف به ـ من غير دليل من المجازفة ، ولا ريب ان الواجب هو العمل بمقتضى الدليل من الاخبار المشار إليها. نعم لو أخل الولي بذلك ولم يكن ثمة

٣٥٩

حاكم شرعي يجبره على القيام بذلك أو لم يكن ثمة للميت ولي انتقل الحكم الى المسلمين بالأدلة العامة ، كما تشير اليه اخبار العراة الذين رأوا ميتا قد قذفه البحر عريانا ولم يكن عندهم ما يكفنونه به وانهم أمروا بدفنه والصلاة عليه (١).

وربما يقال ان الوجوب كفاية شامل للولي وغيره وان كان الولي أو من يأمره اولى بذلك فتكون هذه الأولوية أولوية استحباب وفضل ، كما يفهم من عبارة المحقق في الشرائع في مسألة التغسيل وقوله : انه فرض على الكفاية واولى الناس به أولاهم بميراثه. وبه صرح في المنتهى حيث قال : «ويستحب ان يتولى تغسيله اولى الناس به. الى آخره» إلا ان فيه (أولا) ـ ان ذلك فرع ثبوت الوجوب الكفائي وقد عرفت انه لا مستند له من الأخبار بل ظاهرها خلافه. و (ثانيا) ـ ان ظاهر كلامهم في مسألة الصلاة على الميت اناطة الحكم بالولي أو من يأمره ولا يجوز التقدم في الصلاة بغير اذنه ، ومن الظاهر انه لا فرق بين الصلاة وغيرها بالنسبة الى ما يفهم من الأخبار ، إذا الخطابات فيها في جميع هذه المواضع على نهج واحد وان كان الأصحاب انما ذكروا ذلك في مسألة الصلاة. والله العالم.

(الموضع الثالث) ـ في آداب الاحتضار ، ومنها ـ تلقينه الشهادتين والإقرار بالأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) وكلمات الفرج.

ويدل على ذلك جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «إذا حضرت الميت قبل ان يموت فلقنه شهادة ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله».

وعن محمد بن مسلم في الصحيح أو الحسن عن الباقر (عليه‌السلام) عند الموت وحفص بن البختري عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «انكم تلقنون موتاكم لا إله إلا الله

__________________

(١) رواها في الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب صلاة الجنازة.

(٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب الاحتضار.

٣٦٠