الحدائق الناضرة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

فيخرج؟ قال : ان كان مريضا فليغتسل وان لم يكن مريضا فلا شي‌ء عليه ، قال : فقلت : فما فرق بينهما؟ فقال : لان الرجل إذا كان صحيحا جاء الماء بدفقة وقوة وإذا كان مريضا لم يجي‌ء إلا بعد».

أقول : ومن الاخبار الواردة أيضا في المريض صحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن رجل احتلم فلما انتبه وجد بللا قليلا فقال : ليس بشي‌ء الا ان يكون مريضا فإنه يضعف فعليه الغسل».

وصحيحة زرارة (٢) قال : «إذا كنت مريضا فأصابتك شهوة فإنه ربما كان هو الدافق لكنه يجي‌ء ضعيفا ليست له قوة لمكان مرضك ساعة بعد ساعة قليلا قليلا فاغتسل منه».

ورواية محمد بن مسلم (٣) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) : رجل رأى في منامه فوجد اللذة والشهوة ثم قام فلم ير في ثوبه شيئا؟ فقال : ان كان مريضا فعليه الغسل وان كان صحيحا فلا شي‌ء عليه».

إلا ان هذه الرواية لا تخلو من اشكال لتضمنها وجوب الغسل على المريض بمجرد وجود اللذة والشهوة مع عدم رؤية شي‌ء بعد انتباهه. ولم يذهب اليه ذاهب من الأصحاب ولم يرد به خبر آخر في الباب ، بل ربما دلت الاخبار على خلافه ، ومنها ـ

حسنة الحسين ابن ابي العلاء (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يرى في المنام حتى يجد الشهوة فهو يرى انه قد احتلم فإذا استيقظ لم ير في توبة الماء ولا في جسده. قال : ليس عليه الغسل». وحينئذ فالواجب حمل تلك الرواية على وجود شي‌ء وإلا فطرحها رأسا. ثم لا يخفى ان غاية ما يستفاد من هذه الاخبار هو البناء على الظن بواسطة أحد

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٨ من أبواب الجنابة.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ٩ من أبواب الجنابة.

٢١

هذه الأشياء في المريض بل الصحيح ايضا حال الشك ، ومن المقطوع به نصا وفتوى انه لا يعارض يقين الطهارة ، لكن الظاهر من الأصحاب (رضوان الله عليهم) الاتفاق على العمل بما دلت عليه هذه الأخبار وعدم الراد لها ، ولعله على الاستثناء من قاعدة عدم نقض اليقين بالشك وتخصيصها بهذه الأخبار ، إذ المراد بالشك هنا ما يشمل الظن كما تقدم تحقيقه في المقدمة الحادية عشرة.

(المسألة الرابعة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ان من نام ولم ير في منامه انه احتلم ثم وجد بعد الانتباه في ثوبه أو على بدنه منيا فإنه يجب عليه الغسل للعلم بتحقق الجنابة بذلك ، وكثير من الأصحاب عبروا في هذا المقام بان واجد المني على جسده أو ثوبه المختص به يغتسل ، ومن الظاهر بعده عن مورد الأخبار المتعلقة بهذه المسألة :

ومنها ـ موثقة سماعة (١) قال : «سألته عن الرجل يرى في ثوبه المني بعد ما يصبح ولم يكن رأى في منامه انه قد احتلم. قال : فليغتسل وليغسل ثوبه ويعيد صلاته».

وموثقته الأخرى (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل ينام ولم ير في نومه انه احتلم فيجد في ثوبه أو على فخذه الماء هل عليه غسل؟ قال : نعم».

واما ما رواه أبو بصير (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يصيب في ثوبه منيا ولم يعلم انه احتلم. قال ليغسل ما وجد بثوبه وليتوضأ». فحمله الشيخ (رحمه‌الله) على ما إذا شاركه في الثوب غيره جمعا بين الاخبار. ولعل الأقرب في وجه الجمع حمل موثقتي سماعة على من وجد المني بعد النوم بغير فصل مدة بحيث يحصل له العلم أو الظن الغالب باستناد المني اليه لا الى غيره كما يظهر من سياقهما ، ورواية أبي بصير على وجدانه في الثوب في الجملة من غير تعقبه للنوم على الوجه المتقدم.

وكيف كان فالظاهر ان مفاد الموثقتين المذكورتين لا يخرج عن مجرد الظن

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ١٠ من أبواب الجنابة.

٢٢

بخروج المني منه ، إذ دعوى حصول اليقين بمجرد وجوده كذلك بعيدة ، وحينئذ فلا بد من تخصيص قاعدة عدم نقض اليقين بالشك بذلك أيضا الا ان يقيد بذلك والمفهوم من كلام المحدث الكاشاني في الوافي اعتبار حصول اليقين بحصول حدث الجنابة بتلك العلامة ، نظرا الى ان يقين الطهارة لا يرتفع الا بيقين الحدث.

وبالجملة فالجمع بين الأخبار المذكورة لا ينحصر فيما ذكروه ، حتى انهم بسبب ذلك جعلوها مسألة برأسها في البين وفرعوا عليها فروعا لا اثر لها في النصوص ولا عين إذ من الممكن حمل الموثقين المذكورتين على ما ذكرنا من انه وجد المني بعد الانتباه على وجه يحصل له العلم باستناده اليه كما يظهر من سياقهما ، وحمل رواية أبي بصير على وجدانه في الثوب في الجملة ، فإنه يستصحب البقاء على يقين الطهارة لعدم حصول العلم في الصورة المذكورة باستناده اليه ، وغاية ما يمكن دعواه الظن وان كان غالبا وهو لا يعارض اليقين السابق ، والى هذا يميل كلام المحدث الكاشاني في الجمع بين الاخبار المذكورة ولا ريب انه أقرب مما ذكروه ، إذ لا قرينة في خبر تؤنس بالمشاركة في ذلك الثوب بل المتبادر من إضافته إلى الضمير الاختصاص بصاحبه ، والأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) ـ بناء على ما صوروه من هذه المسألة التي طرحوها وجعلوها مقرا للبحث ـ عبروا بان واجد المني على جسده أو ثوبه المختص به يغتسل ، ومن الظاهر بعده عن ظاهر الموثقتين المذكورتين. إذ الظاهر منهما ـ كما عرفت ـ هو رؤية المني على وجه يوجب اليقين باستناده اليه لا مجرد وجوده ، فإنه لا يوجب ذلك ، ومن الممكن احتماله لدفع سورة الاستبعاد انه يجوز ان يكون احتلم في الثوب واغتسل ولم يعلم بالمني ثم رآه بعد يومين أو ثلاثة مثلا ، فمجرد وجوده لا يوجب الحكم عليه بالجنابة مع ان يقين الطهارة لا يخرج عنه الا بيقين النجاسة ، وهذا بحمد الله ظاهر لا سترة عليه ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه.

فوائد : (الأولى) ـ لو كان الثوب الذي رأى فيه المني مشتركا بينه وبين

٢٣

غيره ـ اما بان يكونا معا مجتمعين فيه دفعة كالكساء الذي يفترش أو يلتحف به ، أو كان بينهما على سبيل النوبة ـ فأكثر الأصحاب على انه لا يجب الغسل عملا باستصحاب يقين الطهارة وعدم الخروج عنها الا بيقين النجاسة. وفي حكمه المختص أيضا إذا احتمل كون المني الموجود عليه من غيره كما حملنا عليه رواية أبي بصير ، وظاهر جمع : منهم ـ ثاني المحققين وثاني الشهيدين تخصيص الاشتراك الموجب لسقوط الغسل بما كان على سبيل المعية ، اما المتناوب بينهما فأوجبوا الغسل فيه على صاحب النوبة وان احتمل جواز التقدم كما صرح به في الروض واليه يميل كلام الدروس ايضا ، ولهذا فسر شيخنا الشهيد الثاني (نور الله مرقده) في الروض الثوب المختص الذي يوجب رؤية الجنابة فيه الغسل بما اختص بلبسه أو النوم عليه حين الوجدان وان كان يلبسه أو ينام عليه هو وغيره تناوبا. وفيه ان المسألة لما كانت خالية من النص فالواجب فيها الوقوف على مقتضى القواعد المقررة التي من جملتها عدم جواز نقض اليقين بالشك كما هو المتفق عليه نصا وفتوى ، فالحكم بالوجوب على صاحب النوبة مطلقا وان احتمل جواز التقدم مدفوع بعدم جواز الخروج عن يقين الطهارة إلا بالعلم يكون المني من واجده ، نعم لو علم ذو النوبة انه منه بوجه من الوجوه وجب الغسل عليه الا انه لا من حيث كونه صاحب النوبة ، وكذا لو علم السبق سقط عنه قطعا ولم يجب على الأول الا مع التحقق ايضا وبالجملة فالمعتبر في الخروج عن يقين الطهارة اليقين بكون المني من واجده والا لم يجب عليه شي‌ء.

(الثانية) ـ الأشهر الأظهر انه لا يحكم على هذا الواجد المحكوم عليه بوجوب الغسل بإعادة شي‌ء من الصلوات الا ما جزم بتأخره عن الجنابة ، وهي المتعقبة لآخر نومة وجد عقيبها المني المذكور ، عملا بأصالة عدم التقدم ، واستصحابا للطهارة المتيقنة الى ان يتيقن الحدث ، وحينئذ يحكم عليه بكونه محدثا ويجب عليه قضاء ما يتوقف على الطهارة من ذلك الوقت الى ان تحصل منه طهارة رافعة. خلافا للشيخ (رحمه‌الله) في المبسوط

٢٤

حيث حكم ـ كما نقل عنه ـ بوجوب قضاء كل صلاة صلاها بعد آخر غسل رافع ، ولعله أخذ بالاحتياط كما حمله عليه جملة من الأصحاب. الا ان فيه (أولا) ـ ان الاحتياط هنا ليس بدليل للوجوب. و (ثانيا) ـ انه لا احتياط في إعادة ما وقع من الصلوات بعد آخر الأغسال الرافعة وقبل النوم. و (ثالثا) ـ ان مقتضى الاحتياط ان يعيد ما صلاه قبل آخر الأغسال أيضا متى احتمل ان يكون خروج المني سابقا عليه ، وحينئذ فمتى أريد سلوك جادة الاحتياط فالطريق إليها ان يعيد كل صلاة لا يعلم سبقها على المنى ولم يفصل بينها وبينه على تقدير سبقه غسل رافع هذا بالنسبة إلى الحدث.

واما بالنسبة إلى الخبث فتبني الإعادة منه على ما سيأتي ان شاء الله في محله من الخلاف في وجوب إعادة المصلي في النجاسة جاهلا ، فعلى القول بالوجوب يمكن ان يستند وجوب الإعادة هنا على تقديره الى كل من الحدث والخبث ، والى الحدث خاصة كما لو حصل إزالة النجاسة ولو اتفاقا ، والى الخبث خاصة كما لو اتفق الغسل الرافع في البين. ونقل عن الشيخ في المبسوط هنا انه يستحب ان يعيد كل صلاة صلاها من أول نومة نامها في ذلك الثوب. ويجب ان يعيد ما صلاه من آخر نومة نامها فيه. ثم قوى عدم وجوب إعادة شي‌ء من الصلوات الا ما لم يخرج وقتها. والظاهر ان تقويته عدم اعادة ما خرج وقته بناء على عدم وجوب الإعادة على جاهل النجاسة بعد خروج الوقت كما هو المنقول عنه في المبسوط في المسألة المشار إليها ، وبذلك يظهر ما في كلام السيد السند في المدارك في هذا الموضع من الغفلة ان ثبت ما نقل عن المبسوط في الموضعين المتقدمين فان الكتاب لا يحضرني الآن لاحقق ذلك منه ، حيث قال السيد (قدس‌سره) في الكتاب المذكور حاكيا خلاف الشيخ في المبسوط ما لفظه : «وذهب الشيخ في المبسوط أولا إلى إعادة كل صلاة لا يعلم سبقها على الحدث ثم قوى ما اخترناه وقوته ظاهرة» انتهى. وأشار بما اختاره الى ما ذكره أولا من انه انما يحكم على واجد المني بالجنابة من آخر أوقات إمكانها.

٢٥

(الثالثة) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في حكم المشتركين في الثوب الموجود عليه المني مع عدم تيقن اختصاصه بأحدهما بعد الاتفاق على سقوط أحكام الجنب عن كل منهما في حد ذاته من وجوب الغسل وتحريم قراءة العزائم ونحوهما من الأحكام الآتية ، فيجوز لهما معا دخول المسجد دفعة وقراءة العزائم كذلك ، وانما تظهر فائدة الخلاف هنا في انعقاد الجمعة بهما وائتمام أحدهما بصاحبه ، فقيل بالقطع بوجود جنب فلا يصح انعقاد الجمعة بهما لأن أحدهما جنب البتة ، ولا تصح صلاة المأموم منهما لانه نفسه أو امامه جنب ، واليه ذهب المحقق في المعتبر والشهيد في الدروس وثاني المحققين وثاني الشهيدين ، ورجحه بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين وقيل بسقوط هذه الجنابة عن الجميع في نظر الشارع ، ومال إليه العلامة في جملة من كتبه ، واختاره السيد السند في المدارك وغيرهما.

حجة الأول القطع بجنابة أحدهما البتة ، وسقوط بعض أحكام الجنب انما كان لتعذر العلم بالجنب المستلزم للمحذور وهو منتف في موضع النزاع.

وأجيب بأنه ان أريد القطع بخروج المني من أحدهما فمسلم لكن خروج المني من واحد لا بعينه لا يوجب حكما ، وان أريد القطع بكون أحدهما لا بعينه جنبا لا تصح منه الأفعال التي لا تصح من الجنب ويتعلق به أحكامه فظاهر الفساد ، لان عدم صحة أفعال واحد منهما لا بعينه وتعلق أحكام الجنب به مع ان كل واحد بعينه أفعاله صحيحة فلا يتعلق به حكم الجنب مما لا معنى له ، وبالجملة القدر المسلم في اشتراط انعقاد الجمعة ان تكون صلاة كل من العدد صحيحة في الواقع وههنا كذلك ، واما ما وراء ذلك فلا ، وكذا يلزم في صحة صلاة المأموم عدم علمه بفساد صلاة الامام وقد تحقق هنا ، ومن يدعي زيادة على ذلك فعليه البيان.

حجة القول الآخر ـ زيادة على ما علم من الجواب المذكور ـ التمسك بيقين الطهارة ولم يعارضه الا الشك في الحدث وكل منهما متيقن الطهارة شاك في الحدث.

٢٦

أقول : والمسألة لخلوها من نصوص أهل الخصوص لا تخلو من الاشكال وان كان القول الثاني أوفق بالقواعد الشرعية وادخل في تلك الضوابط المرعية.

(أما أولا) ـ فلما ذكر من التمسك بأصالة يقين الطهارة التي هي أقوى متمسك

و (اما ثانيا) ـ فلان المفهوم من النصوص ان الشارع لم يجعل الواقع مناطا لشي‌ء من الأحكام وانما بناها على ما يظهر للمكلف ، ويعضده ان الذي دلت عليه نصوص هذا الباب هو ان الشارع قد ناط حكم الجنابة بالنسبة إلى خروج المني ، إما بالعلم بخروجه كما تضمنته النصوص المستفيضة ، أو بوجوده على بدن الجنب أو ثوبه المختص به كما تقدم في موثقتي سماعة ، وما عدا ذلك فلم يدل عليه دليل ، ولا يخفى على من تتبع مظان الإحكام انه كثيرا ما يغلب على الظن بالقرائن الحالية أحد الأحكام الشرعية من نجاسة وحرمة ونحوهما ، والشارع بمجرد معارضة احتمال ينافي ذلك وان بعد لا يلتفت الى ما غلب على الظن وترجح عنده كما في موثقة عمار الواردة في الفأرة المتفسخة (١) ونحوها.

و (اما ثالثا) ـ فلان القول بثبوت الجنابة على واحد لا بعينه ـ مع اتفاقهم على صحة أفعال كل واحد منهما وسقوط أحكام الجنب عنه وان مظهر الخلاف انما هو في الصورتين المذكورتين ـ لا يخلو من تدافع.

الا ان الحكم بعد لا يخلو عندي من شوب الاشكال ، نظرا الى ان المفهوم من النصوص في غير موضع من الأحكام ـ كما تقدم بسط الكلام عليه في مسألة الإناءين ـ ان الشارع قد اعطى المشتبه بالنجس حكم النجس والمشتبه بالحرام حكم الحرام في الافراد المحصورة ، ولم يلتفت الى أصالة الحلية والطهارة في تلك المواضع ، كما في مسألة الإناءين واللحم المختلط ذكية بميتة ، والصلاة في كل من الثوبين المتيقن نجاسة أحدهما لا بعينه ، ووجوب تطهير الثوب الذي أصاب بعض أجزائه النجاسة مع اشتباه موضع الإصابة بباقي

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٤ من أبواب الماء المطلق.

٢٧

الثوب ، الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع ، فان النصوص في جميع هذه المواضع قد أعطت المتيقن الطهارة والحلية حكم المشتبه به ، وربما ظهر من ذلك تخصيص اخبار التمسك بيقين الطهارة والحلية بغير مورد هذه الاخبار وهو الأشياء المعلومة بشخصها ويكون ذلك هو وجه الجمع بين اخبار الطرفين. وكيف كان فالوقوف على ساحل الاحتياط ـ بالغسل لكل منهما واجتناب ما يجتنبه الجنب قبله ـ سبيل السلامة والنجاة ، عجل الله تعالى الفرج والظهور لمن به تحل مشكلات الأمور.

وجملة من أصحابنا بناء على اتفاقهم على سقوط وجوب الغسل في المسألة صرحوا باستحبابه ، والظاهر ان منشأه الاحتياط لعدم دليل له على الخصوص.

(المسألة الخامسة) ـ لو خرج منه بلل بعد الغسل فلا يخلو اما ان يعلم انه مني أو بول أو يعلم انه غيرهما أو لا يعلم شيئا من ذلك ، ولا خلاف ولا إشكال انه في الصورة الاولى يكون موجبا للغسل وفي الثانية للوضوء وفي الثالثة لا يوجب شيئا ، واما الصورة الرابعة فلا يخلو اما أن يكون قد بال قبل الغسل واجتهد أو لم يأت بشي‌ء منهما أو اتى بأحدهما أما البول أو الاجتهاد ، ثم انه مع الإتيان بالاجتهاد خاصة فاما ان يكون مع إمكان البول أو مع عدم إمكانه ، فههنا صور خمس :

(الاولى) ـ ان يغتسل ثم يجد بللا مشتبها وقد بال واجتهد ، والظاهر انه لا خلاف في عدم وجوب شي‌ء عليه من غسل أو وضوء ، ومما يدل على ذلك عمومات الأخبار الدالة على عدم نقض اليقين بالشك (١) وخصوصا ، اما بالنسبة إلى سقوط الغسل فالأخبار لدالة على انه بالبول قبل الغسل يسقط عنه الغسل ، كقول الصادق (عليه‌السلام) في حسنة الحلبي (٢) : «ان كان بال قبل ان يغتسل فلا يعيد الغسل».

وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة محمد (٣) وهو ابن مسلم : «... الا ان يكون بال قبل أن يغتسل فإنه

__________________

(١) تقدم بعضها في الجزء الأول ص ١٤٢.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب الجنابة.

٢٨

لا يعيد غسله». ومثلهما أخبار كثيرة طوينا نشرها للاتفاق على الحكم المذكور فتوى ورواية ، واما بالنسبة إلى سقوط الوضوء فللأخبار الدالة على انه بالاجتهاد لا ينتقض بما يخرج كذلك ، كقول الصادق (عليه‌السلام) في صحيحة حفص بن البختري (١) : «ينتره ثلاثا ثم ان سال حتى يبلغ الساق فلا يبالي». وغيرها من الاخبار التي تقدمت في مسألة الاستبراء من البول.

واما ما رواه ابن سنان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «ثلاث يخرجن من الإحليل وهن المني فمنه الغسل ، والودي فمنه الوضوء لانه يخرج من دريرة البول.». فمحمول على ما قبل الاستبراء جمعا لصحيحة زيد الشحام وزرارة ومحمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «ان سال من ذكرك شي‌ء من مذي أو ودي فلا تغسله ولا تقطع له الصلاة ولا تنقض له الوضوء ، انما ذلك بمنزلة النخامة. الحديث».

واما صحيح محمد بن عيسى (٤) قال : «كتب اليه رجل هل يجب الوضوء مما خرج من الذكر بعد الاستبراء؟ قال : نعم». فحمله في التهذيبين على الاستحباب ، وزاد في الاستبصار حمله على التقية لموافقته لمذهب أكثر العامة (٥).

أقول : وهو الأقرب ، ويحتمل ايضا حمل ذلك على ما إذا كان الخارج بولا ، لتطرق الوهم الى ان ما خرج بعد الاستبراء لا ينقض وان كان بولا ، ولعله (عليه‌السلام) علم ذلك ، فإنهم (صلوات الله عليهم) كثيرا ما يجيبون على علمهم من حال السائل وان لم يفصح عنه السؤال.

(الثانية) ـ خروج البلل مع عدم البول والاستبراء ، والمشهور بين الأصحاب ـ بل ادعى ابن إدريس عليه الإجماع ـ وجوب الغسل ، وظاهر الفقيه والمقنع الاكتفاء بالوضوء في هذه الصورة.

__________________

(١ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ١٣ من أبواب نواقض الوضوء.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ١٢ من أبواب نواقض الوضوء.

(٥) راجع التعليقة (٥) ج ٢ ص ٦١.

٢٩

ويدل على المشهور روايات : منها ـ موثقة سماعة (١) قال : «سألته عن الرجل يجنب ثم يغتسل قبل ان يبول فيجد بللا بعد ما يغتسل. قال يعيد الغسل.».

وصحيحة سليمان بن خالد عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن رجل أجنب فاغتسل قبل ان يبول فخرج منه شي‌ء. قال : يعيد الغسل». وفي الصحيح عن منصور بن حازم (٣) مثله.

وصحيحة محمد بن مسلم (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يخرج من إحليله بعد ما يغتسل شي‌ء. قال : يغتسل ويعيد الصلاة الا ان يكون بال قبل ان يغتسل فإنه لا يعيد غسله. قال محمد : وقال أبو جعفر (عليه‌السلام) : من اغتسل وهو جنب قبل ان يبول ثم وجد بللا فقد انتقض غسله ، وان كان بال ثم اغتسل ثم وجد بللا فليس ينتقض غسله ولكن عليه الوضوء ، لان البول لم يدع شيئا».

وقول الصادق (عليه‌السلام) في صحيحة معاوية بن ميسرة (٥) : «... وان لم يبل حتى اغتسل ثم وجد البلل فليعد الغسل».

ويدل عليه ايضا مفهوم الشرط في جملة من الاخبار : منها ـ حسنة الحلبي المتقدمة لقوله : «ان كان بال قبل ان يغتسل فلا يعيد الغسل».

(لا يقال) : ان هذه الاخبار انما تدل على خروج البلل مع عدم البول بعد الغسل ولا تعرض فيها للاستبراء كما هو المدعى.

(لأنا نقول) : تعليق الحكم فيها على عدم البول ـ الذي هو أعم من ان يكون مع عدم الاستبراء كما هو موضوع هذه الصورة ، أو معه مع إمكان البول أو عدمه كما هو موضوع الصورة الآتية ـ كاف في الاستدلال ، وحينئذ فالاستدلال بها من حيث الإطلاق.

الا انه قد ورد بإزاء هذه الاخبار ما يدل على عدم الوجوب في الصورة المذكورة

__________________

(١ و ٢ و ٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب الجنابة.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ١٣ من أبواب الجنابة.

٣٠

ومنه ـ رواية جميل (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل تصيبه الجنابة فينسى أن يبول حتى يغتسل ثم يرى بعد الغسل شيئا أيغتسل ايضا؟ قال : لا قد تعصرت ونزل من الحبائل».

ورواية أحمد بن هلال (٢) قال : «سألته عن رجل اغتسل قبل ان يبول. فكتب : ان الغسل بعد البول الا ان يكون ناسيا فلا يعيد منه الغسل».

ورواية عبد الله بن هلال (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يجامع اهله ثم يغتسل قبل أن يبول ثم يخرج منه شي‌ء بعد الغسل. فقال : لا شي‌ء عليه ان ذلك مما وضعه الله عنه».

ورواية زيد الشحام عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن رجل أجنب ثم اغتسل قبل ان يبول ثم رأى شيئا. قال لا يعيد الغسل ، ليس ذلك الذي رأى شيئا».

ومما يعارضها أيضا الأخبار الدالة على عدم نقض اليقين بالشك

والشيخ جمع في بعضها بالحمل على ترك البول ناسيا وفي بعض بالحمل على من اجتهد قبل الغسل ولم يتأت له البول ، وأورد على الحمل الأول دليلا مضمرة أحمد بن هلال المذكورة ولم يورد للحمل الآخر مستندا.

ولا يخفى ما فيه من البعد ، اما الحمل على النسيان فلان النسيان وان وقع في رواية جميل الا انه (أولا) ـ في كلام الراوي فلا يصلح للتقييد ، مع ضعف سند الرواية باشتماله على علي بن السندي وهو مهمل في كتب الرجال ، بل ظاهر التعليل في الرواية بقوله : «تعصرت ونزل من الحبائل» الدلالة على عدم الفرق بين حالتي النسيان والعمد. و (ثانيا) ـ ان الخارج مع عدم البول متى حكم بكونه منيا فكيف يعذر الناسي فيه ، إذ الأسباب لا يفرق فيها بين الناسي والعامد. واما الحمل على من اجتهد ولم يتمكن من

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب الجنابة.

٣١

البول ففيه ـ مع عدم الدليل عليه في الاخبار ـ ان عدم القدرة على البول لا يخرج الخارج عن كونه منيا ليسقط وجوب الغسل ، فان مقتضى العلة المستنبطة من جملة من الاخبار بل المنصوصة في صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة عن الباقر (عليه‌السلام) حيث قال في آخرها : «لان البول لم يدع شيئا». ان مع عدم البول وان تعذر لا يقطع بزوال المني ونظافة المخرج منه.

واما الجمع بين الاخبار ـ بالحمل على الاستحباب كما صار إليه جملة من متأخري المتأخرين ـ

ففيه (أولا) ـ انه وان اشتهر بينهم البناء على هذه القاعدة في الجمع بين الاخبار بحمل ما يدل على الوجوب على الاستحباب وما يدل على التحريم على الكراهة الا انه لم يرد بها اثر من الآثار ، والقواعد المقررة عن أهل العصمة (صلوات الله عليهم) في اختلاف الأخبار خالية عنها.

و (ثانيا) ـ انه لا ريب ان الحمل على ذلك مجاز لا يصار اليه الا مع القرينة ، ووجود المعارض ليس قرينة ، لجواز خروجه مخرج التقية (١) أو احتماله لمعنى آخر.

وبالجملة فالتحقيق ان الاخبار المذكورة صريحة المنافاة في الحكم المذكور ، وطريق الجمع بينها وبين ما تقدمها بعيد ، فالواجب النظر في الطرق المرجحة للحمل على أحد الطرفين ورمى الطرف الآخر من البين ، ولا ريب انها مع اخبار الإعادة لصحتها سندا وكثرتها وصراحتها دلالة وتعددها منطوقا ومفهوما ، واعتضادها بعمل الطائفة قديما وحديثا ، وموافقتها للاحتياط في الدين ، وضعف ما يعارضها ، فاما رواية جميل فيما

__________________

(١) في المغني ج ١ ص ٣٠١ «إذا احتلم أو جامع فأمنى ثم اغتسل ثم خرج منه منى فالمشهور عن احمد لا غسل عليه بال أو لم يبل ، وفي رواية ثانية عنه ان خرج بعد البول فلا غسل عليه وان خرج قبله اغتسل وبه قال أبو حنيفة ، وفي رواية ثالثة عليه الغسل بكل حال وهو مذهب الشافعي».

٣٢

عرفت من اشتمال سندها على علي بن السندي ، واما رواية أحمد بن هلال فبضعف الراوي المذكور حتى ورد فيه انه كان غاليا متهما في دينه ، وورد فيه ذموم عن سيدنا ابي محمد العسكري (عليه‌السلام) مضافا الى إضماره ، مع انه لا دلالة فيه على موضع البحث بوجه ، لعدم اشتماله على خروج شي‌ء بعد الغسل ، واما رواية عبد الله بن هلال فبعدم ذكره في كتب الرجال بمدح أو قدح ، واما رواية الشحام فباشتمالها على ابي جميلة المفضل بن صالح ، وقد رمي بالكذب ووضع الحديث كما ذكره العلامة في الخلاصة. هذا. والأقرب عندي خروج الاخبار المشار إليها مخرج التقية ، إذ هي السبب التام في اختلاف اخبارهم (عليهم‌السلام) وان لم يعرف بذلك قائل من العامة كما تقدم تحقيقه في المقدمة الاولى. واما المعارضة بأخبار عدم نقض اليقين بالشك فلا ورود لها ، إذ هو عام مخصوص كما تقدم تخصيصه غير مرة.

وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا المحقق صاحب كتاب رياض المسائل وحياض الدلائل في الكتاب المذكور من التوقف في الحكم لتعارض الاخبار في المسألة وجبر ضعف الأخبار الأخيرة بالاعتضاد بالأصل وباخبار عدم نقض اليقين بالشك. وفيه ـ زيادة على ما عرفت ـ ان الترجيح بالأصل لا يعرف له أصل والا لذكر في جملة المرجحات المنصوصة عن أهل الذكر (سلام الله عليهم).

واما ما ذهب اليه الصدوق (قدس‌سره) ـ من الاكتفاء هنا بالوضوء ، حيث قال في الفقيه (١) ـ بعد نقل صحيحة الحلبي الآتية المتقدم عجزها في أدلة وجوب الإعادة ـ ما لفظه : «وروي في حديث آخر «ان كان قد رأى بللا ولم يكن بال فليتوضأ ولا يغتسل انما ذلك من الحبائل». قال مصنف هذا الكتاب رحمة الله عليه : اعادة الغسل أصل والخبر الثاني رخصة» ونحوه في المقنع ، واليه يميل ظاهر المحدث الكاشاني (طاب ثراه) في الوافي ، حيث قال بعد نقل كلام الفقيه : «أقول وبه يجمع بين الاخبار المتقدمة والآتية» ـ

__________________

(١) ج ١ ص ٤٧ وفي الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب الجنابة.

٣٣

ففيه ان الخبر المذكور مع صحته وثبوته لا يعارض الأخبار المتقدمة لما ذكرنا آنفا وان كان فتواه به لا يخلو من تأييد له ، الا ان الخبر المذكور لا يخلو من اشكال ، لأن الحكم فيه بالوضوء مع قوله في آخره : «انما ذلك من الحبائل». لا يخلو من تدافع ، إذ ما يخرج من الحبائل لا يوجب وضوء ، ولم أر من تنبه لذلك من أصحابنا (رضوان الله عليهم) ولو حمل الوضوء في الخبر المذكور على مجرد الغسل لذلك البلل لما ذكرنا لكان وجها ، وبه يخرج عن صلاحية الاستدلال.

وبالجملة فقوة القول المشهور مما لا ينبغي ان يرتاب فيها بوجه ، لكن شيخنا الشهيد في الذكرى نقل عجز صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة في صدر هذه الصورة هكذا : «قال محمد قال أبو جعفر (عليه‌السلام) : من اغتسل وهو جنب قبل ان يبول ثم وجد بللا فليس ينقض غسله ولكن عليه الوضوء».

ونزل رواية الفقيه التي استند إليها في الرخصة على هذه حيث قال : «ورواه الصدوق بعد رواية إعادة الغسل مع ترك البول» انتهى.

وأنت خبير بان ما نقله لم نقف عليه في شي‌ء من كتب الاخبار بل ولا كتب الاستدلال ، بل الموجود في التهذيب والاستبصار وكذا في المنتهى هو ما قدمناه ، والذي يخطر بالبال هو وقوع السهو في النقل أو الغلط في المنقول عنه بترك ما بين «بللا» الأول إلى «بللا» الثاني. والله أعلم.

(الثالثة) ـ خروج البلل بعد البول بدون الاجتهاد ، والمعروف من مذهب أكثر الأصحاب وجوب الوضوء خاصة ، ويدل عليه مفهوم الأخبار الدالة على انه «بعد الاستبراء ان سال حتى يبلغ الساق فلا يبالي» كما في صحيحة حفص ،. و «ان خرج بعد ذلك شي‌ء فليس من البول ولكنه من الحبائل» كما في حسنة محمد بن مسلم ،. وقد تقدمتا في مسألة الاستبراء من البول (١) وخصوص منطوق صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة في صدر الصورة الثانية. وموثقة سماعة (٢) قال : «سألته عن الرجل يجنب ثم يغتسل قبل

__________________

(١) ج ٢ ص ٥٤.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب الجنابة.

٣٤

ان يبول فيجد بللا بعد ما يغتسل. قال : يعيد الغسل ، وان كان بال قبل ان يغتسل فلا يعيد غسله ولكن يتوضأ ويستنجي». ورواية ابن ميسرة (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول في رجل رأى بعد الغسل شيئا قال : ان كان بال بعد جماعه قبل الغسل فليتوضأ وان لم يبل حتى اغتسل ثم وجد البلل فليعد الغسل».

وإطلاق هذه الروايات وان شمل وجوب الوضوء مع الاستبراء بعد البول حيث رتب الوضوء فيها على البول خاصة أعم من ان يكون معه استبراء أم لا. الا ان تصريح صحيحة حفص وحسنة محمد بن مسلم المشار إليهما آنفا ـ بنفي كون الخارج بعد الاستبراء من البول بولا وان بلغ الساق ، مضافا الى عدم القائل بالوضوء مع الاجتهاد ـ يوجب تقييد إطلاق الاخبار المذكورة ، وبالجملة فالصورة المفروضة ترجع الى ما قدمنا في مسألة الاستبراء من البول ، إذ هي فرد من إفرادها وعدد من أعدادها ، والظاهر انه لا مدخل لخصوصية الجنابة في المقام ، ولا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الوضوء في الحال المذكورة استنادا الى المفهوم المتقدم ذكره. واما ما عارضه من صحيحتي ابن ابي يعفور وحريز فقد تقدم الجواب عنه ثمة (٢).

الا انه ربما ظهر من كلام الشيخين (قدس‌سرهما) في المقنعة والتهذيب والاستبصار عدم وجوب الوضوء في الصورة المذكورة ، قال في المقنعة : «وإذا وجد المغتسل من الجنابة بللا على رأس إحليله أو أحس بخروج شي‌ء منه بعد اغتساله ، فإنه ان كان قد استبرأ بما ذكرناه قبل هذا من البول أو الاجتهاد فليس عليه وضوء ولا اعادة غسل ، لان ذلك ربما كان وذيا أو مذيا وليس ينتقض من هذين ، وان لم يكن استبرأ بما ذكرناه أعاد الغسل» وأشار بقوله : «بما ذكرناه» الى ما قدمه قبيل هذا الكلام حيث قال : «وإذا عزم الجنب على التطهير بالغسل فليستبرئ بالبول ليخرج ما بقي من المني في مجاريه ، فان لم يتيسر له ذلك فليجتهد في الاستبراء : بمسح تحت الأنثيين

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب الجنابة.

(٢) ج ٢ ص ٥٩.

٣٥

الى أصل القضيب الى آخره» والمفهوم من هذا الكلام انه بعد خروج البلل المشتبه بعد الغسل ان كان قد استبرأ أما بالبول مع إمكانه أو بالاجتهاد خاصة مع عدم إمكانه فلا وضوء عليه ولا غسل ، وهو ظاهر في نفي الوضوء مع البول الخالي من الاجتهاد.

واما الشيخ في التهذيب فإنه بعد ان أورد صحيحة محمد بن مسلم ورواية معاوية ابن ميسرة قال : «فما تضمن هذان الحديثان من ذكر اعادة الوضوء فإنما هو على طريقة الاستحباب ، لأنه إذا صح بما قدمنا ذكره ان الغسل من الجنابة مجزئ عن الوضوء ولم يحدث هنا ما ينقض الوضوء فينبغي ان لا تجب عليه الطهارة ولا تعلق على ذمته الطهارة إلا بدليل قاطع ، وليس ههنا دليل يقطع العذر ، ويحتمل ايضا ان يكون ما خرج منه بعد الغسل كان بولا فيجب عليه حينئذ الوضوء وان لم يجب الغسل حسبما تضمنه الخبر» ونحوه قال في الاستبصار (١) وظاهر هذا الكلام بل صريحه ان البلل المشتبه بعد البول بدون الاستبراء لا يوجب اعادة الوضوء مطلقا.

ولا يخفى ما فيه (اما أولا) ـ فلما قدمنا في مسألة الاستبراء من البول من دلالة مفهوم تلك الاخبار على ذلك ، مع انه نقل الروايات المذكورة في باب وجوب الاستبراء من البول في أحكام الوضوء من الاستبصار ثم ذكر بعدها في المنافي رواية محمد بن عيسى الدالة على اعادة الوضوء بعد الاستبراء وحملها على الاستحباب ، وكيف يتم الحمل على الاستحباب بعد الاستبراء مع عدم الوجوب قبله ، مع انه أفتى في المبسوط بما يوافق الجماعة من انتقاض الوضوء بالبلل المشتبه إذا لم يستبرئ. وما استند اليه من اجزاء غسل

__________________

(١) فإنه قال بعد نقل خبر سماعة ومحمد بن مسلم ما لفظه : «وما يتضمن خبر سماعة ومحمد ابن مسلم من ذكر اعادة الوضوء محمول على الاستحباب ، ويجوز ان يكون المراد بما خرج بعد البول والغسل ما ينقض الوضوء فحينئذ يجب عليه الوضوء ، ولأجل ذلك قال (عليه‌السلام) «عليه الوضوء والاستنجاء» في حديث سماعة. وذلك لا يكون الا فيما ينقض الوضوء» انتهى. منه (قدس‌سره).

٣٦

الجنابة عن الوضوء مسلم بالنسبة الى ما قبل الغسل ، فان كل ما يتجدد من الأحداث يندرج تحت الجنابة ، اما بعد الغسل فلا. ومنعه من إيجاب البلل المشتبه الوضوء ممنوع ، لدلالة مفاهيم تلك الاخبار مع مناطيق هذه على ذلك معتضدا بالبلل المشتبه الخارج بعد الغسل مع عدم البول الموجب للغسل.

و (اما ثانيا) ـ فلبعد ما ذكره من التأويل بمعنييه ، اما الحمل على الاستحباب فمردود بما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى من استفاضة الاخبار بعدم مشروعية الوضوء مع غسل الجنابة ، واما الحمل على كون الخارج بولا ففيه انه لو كان كذلك فكيف يتجه التفصيل في تلك الأخبار بأنه ان كان قبل البول فيجب اعادة الغسل به أو بعده فلا يجب اعادة الغسل بل الوضوء ، إذ البول لا يوجب الغسل سواء بال قبل الغسل أو لم يبل.

وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا المحقق صاحب كتاب رياض المسائل وحياض الدلائل في الكتاب المذكور ، حيث جمد على كلام الشيخين بعد نقله ، واثبت الخلاف في المسألة بظاهر كلاميهما ، وقوى القول بعدم الوضوء بخروج البلل المشتبه في شي‌ء من الأحوال ، وأوجب حمل ما دل على الإعادة مطلقا أو في بعض الأحوال منطوقا أو مفهوما على الاستحباب أو التقية أو على تخصيص الخارج بالناقض.

(الرابعة) ـ خروج البلل المذكور بعد الاجتهاد خاصة بدون البول مع إمكانه والظاهر من كلام الأكثر وجوب الغسل ، وربما ظهر من عبارتي الشرائع والنافع هنا العدم وهو ضعيف ، وعموم الأخبار ـ الدالة على إيجاب الغسل مع عدم البول كما تقدم في الصورة الثانية ـ يدفعه.

(الخامسة) ـ الصورة المذكورة مع عدم إمكان البول ، وظاهر الأكثر ـ ومنهم الشيخان فيما تقدم من كلاميهما في الصورة الثالثة ـ عدم وجوب شي‌ء هنا من غسل أو وضوء ، وتوقف في النهاية والمنتهى.

احتجوا على ذلك بالأخبار المتقدمة في الصورة الثانية الدالة على عدم الغسل مع

٣٧

عدم البول بحملها على عدم إمكانه. وقد عرفت ما في هذا الحمل آنفا.

واحتج المحقق الثاني في شرح القواعد ايضا على ذلك بأصالة البراءة لعدم العلم بكون الخارج منيا ، قال : «وإيجاب الإعادة فيما تقدم للدليل لا يقتضي الوجوب هنا».

ولا يخفى عليك ما فيه من الوهن ، فإن أصالة البراءة يجب الخروج عنها بعموم الأخبار المتقدمة الموجبة للإعادة مع عدم البول مطلقا ، وبه يظهر ما في باقي كلامه.

واستند الشهيدان (قدس‌سرهما) في الذكرى والروض الى

قوله (عليه‌السلام) في رواية جميل المتقدمة في الصورة الثانية : «قد تعصرت ونزل من الحبائل».

وفيه (أولا) ـ ان ذلك فرع الحمل على التعذر كما هو المدعى ، وليس في الخبر المذكور ولا في غيره من الأخبار قرينة تؤنس به فضلا عن الدلالة عليه. و (ثانيا) ـ ان مورد الخبر حال النسيان والمدعى أعم من ذلك فلا يقوم حجة. و (ثالثا) ـ ان التعليل المذكور لا يخلو من الإشكال ، إذ حملهم له على ان المراد انه مع ترك البول نسيانا اجتهد واستبرأ لا يساعده لفظ الرواية وغيره غير ظاهر في البين.

وبالجملة فالأظهر والأحوط هو القول بوجوب الإعادة عملا بعموم تلك الأخبار ، واليه مال جملة من فضلاء متأخري المتأخرين.

فرع

المعروف من مذهب الأكثر عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة بعد الغسل وقبل خروج ذلك البلل الموجب له أو للوضوء ، لانه حدث جديد والصلاة الواقعة قبله مستكملة لشرائط الصحة. وتخيل فساد الغسل ببقاء المني في مخرجه واحتباسه في الطريق باطل ، لان موجب الجنابة خروجه من الفرج لا بروزه من مقره الأصلي وان احتبس في المجرى.

ونقل عن بعض الأصحاب الميل الى بطلان الصلاة المذكورة ، وهو باطل بما

٣٨

ذكرنا. وربما استدل له بصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة في صدر الصورة الثانية ، والظاهر حملها على من صلى بعد وجدان البلل وعدم الغسل منه ، ورجح بعض حملها على الاستحباب وهو بعيد الا انه أحوط. وربما احتج على ذلك أيضا بمرسلة أحمد بن هلال المتقدمة لدلالتها على ان الغسل قبل البول لا اعتداد به. وفيه مع ضعفها التقييد بحال العمد.

تذنيب

المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل كاد يكون إجماعا انه يجب الغسل على الكافر لان الكفار مكلفون بالفروع ، ولم ينقلوا في المسألة خلافا عن أحد من الخاصة بل من العامة إلا عن أبي حنيفة ، قالوا : لكن لا يصح منه حال كفره لاشتراط الصحة بالإسلام ولا يجبه الإسلام وان جب الصلاة لخروجها بدليل خاص.

وما ذكروه (نور الله مراقدهم وأعلى في الفردوس مقاعدهم) منظور فيه عندي من وجوه :

(الأول) ـ عدم الدليل على التكليف المذكور وهو دليل العدم كما هو مسلم بينهم ، وما استدلوا به مما سيأتي ذكره مدخول بما سنذكره.

(الثاني) ـ الاخبار الدالة على توقف التكليف على الإقرار والتصديق بالشهادتين ، ومنها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الكافي (١) في الصحيح عن زرارة قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق؟ فقال : ان الله بعث محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى الناس أجمعين رسولا وحجة لله على خلقه في أرضه ، فمن آمن بالله وبمحمد رسول الله واتبعه وصدقه فان معرفة الإمام منا واجبة عليه ، ومن لم يؤمن بالله وبرسوله ولم يتبعه ولم يصدقه ويعرف حقهما فكيف يجب عليه معرفة الامام وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقهما. الحديث». وهو ـ كما ترى ـ

__________________

(١) الأصول ج ١ ص ١٨٠.

٣٩

صريح الدلالة على خلاف ما ذكروه ، فإنه متى لم تجب معرفة الإمام قبل الإيمان بالله ورسوله فبطريق الأولى معرفة سائر الفروع التي هي متلقاة من الامام (عليه‌السلام) والحديث صحيح السند باصطلاحهم صريح الدلالة ، فلا وجه لرده وطرحه والعمل بخلافه إلا مع الغفلة عن الوقوف عليه.

والى العمل بالخبر المذكور ذهب المحدث الكاشاني (قدس‌سره) حيث قال في كتاب الوافي بعد نقله ما صورته : «وفي هذا الحديث دلالة على ان الكفار ليسوا مكلفين بشرائع الإسلام كما هو الحق خلافا لما اشتهر بين متأخري أصحابنا» انتهى.

ويظهر ذلك ايضا من المحدث الأمين الأسترآبادي (عطر الله مرقده) في كتاب الفوائد المدنية ، حيث صرح فيه بأن حكمة الله تعالى اقتضت ان يكون تعلق التكاليف بالناس على التدريج ، بان يكلفوا أولا بالإقرار بالشهادتين ثم بعد صدور الإقرار عنهم يكلفون بسائر ما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : ومن الأحاديث الدالة على ذلك صحيحة زرارة المذكورة في الكافي ، ثم ساق الرواية بتمامها ، وقال ايضا ـ بعد نقل جملة من اخبار الميثاق المأخوذ على العباد في عالم الذر بالتوحيد والإمامة ونقل جملة من الاخبار الدالة على فطرة الناس على التوحيد وان المعرفة من صنع الله ـ ما لفظه : «أقول : هنا فوائد. الى ان قال : الثالثة ـ انه يستفاد منها ان ما زعمه الا شاعرة ـ من ان مجرد تصور الخطاب ـ من غير سبق معرفة الهامية بخالق العالم وبان له رضى وسخطا وانه لا بد من معلم من جهته ليعلم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم ـ كاف في تعلق التكليف بهم ـ ليس بصحيح» انتهى.

ومنها ـ ما رواه الثقة الجليل احمد بن ابي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج (١) عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في حديث الزنديق الذي جاء اليه مستدلا بآي من القرآن قد اشتبهت عليه ، حيث قال (عليه‌السلام): «فكان أول

__________________

(١) ص ١٢٨ طبعة سنة ١٣٠٢.

٤٠