الحدائق الناضرة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

المتقدمة التي هي مستندهم في هذا الحكم (١) من قوله (عليه‌السلام) : «أقل ما يكون عشرة من حين تطهر الى ان ترى الدم» بعد قوله : «لا يكون القرء في أقل من عشرة» وقوله (عليه‌السلام) ـ : «فإن رأت بعد ذلك الدم ولم يتم لها من يوم طهرت عشرة أيام فذلك من الحيض» ـ معناه انه إذا كان حيضها خمسة أيام ـ مثلا ـ ثم انقطع الدم فإنها تغتسل وتصلي ، فإن عاد الدم بعد مضي عشرة أيام من انقطاعه فلا إشكال في كونه حيضة ثانية لتوسط أقل الطهر بين الدمين ، وان كان قبل تمام العشرة فإنه يكون من الحيضة الاولى وما بينهما طهر حسبما تقدم في الثلاثة المتفرقة ، نعم انما يحكم بكون الدمين حيضا ما لم يتجاوز الجميع عشرة أيام التي هي أكثر الحيض وإلا فلو تجاوز كان ما زاد على العشرة استحاضة ، والى هذا أشار (عليه‌السلام) بقوله في تتمة الخبر : «وان رأت الدم من أول ما رأت الثاني. إلخ» بمعنى انه ان رأت هذا الدم الثاني من أول ما رأته متمما للعشرة التي مبدأها أول اليوم الأول ثم دام وتجاوز العشرة عدت أيام الدم الأول وأيام الدم الثاني وجعلت حيضها منه عشرة أيام وعملت في الباقي ما تعمله المستحاضة ، وفي قوله : «عدت من أول ما رأت الدم الأول والثاني عشرة أيام» إشارة الى ان ما بين الدمين طهر لأنها انما تعد أيام الدم خاصة.

و (منها) ـ ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) (٢) قال : «إذا رأت المرأة الدم قبل عشرة أيام فهو من الحيضة الاولى وان كان بعد العشرة فهو من الحيضة المستقبلة».

وما رواه الشيخ في الموثق عن محمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «أقل ما يكون الحيض ثلاثة أيام ، وإذا رأت الدم قبل عشرة أيام فهو من الحيضة الاولى ، وإذا رأته بعد عشرة أيام فهو من حيضة أخرى مستقبلة».

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ١١ من أبواب الحيض.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ١٠ من أبواب الحيض.

١٦١

والتقريب فيهما انهما ظاهرتان في انه إذا رأت المرأة الدم بعد ما رأته أولا سواء كان الأول يوما أو أزيد ، فإن كان بعد توسط عشرة أيام خالية من الدم كان الدم الثاني حيضة مستقلة ، وان كان قبل ذلك كان من الحيضة الاولى.

واما ما ذكره في المدارك ـ بعد ان نقل عن الشيخ الاستدلال على هذا القول برواية يونس وصحيحة محمد بن مسلم حيث قال : «والجواب ان الرواية الأولى ضعيفة مرسلة والثانية غير دالة على المطلوب صريحا ، إذ مقتضاها ان ما تراه في العشرة فهو من الحيضة الاولى ولا نزاع فيه لكن لا بد من تحقق الحيض أولا ، قال في المعتبر بعد ان ذكر نحو ذلك : ونحن لا نسمي حيضا إلا ما كان ثلاثة فصاعدا ، فمن رأت ثلاثة ثم انقطع ثم جاء في العشرة ولم يتجاوز فهو من الحيضة الأولى لا انه حيض مستأنف ، لأنه لا يكون بين الحيضتين أقل من عشرة. وهو حسن» انتهى ـ

ففيه (أولا) ـ ان ما طعن به على رواية يونس من الضعف لا يقوم حجة على الشيخ ونحوه من المتقدمين الذين لا اثر لهذا الاصطلاح عندهم ، بل اعترف جملة من محققي أصحاب هذا الاصطلاح كالمحقق الشيخ حسن في المنتقى والبهائي في مشرق الشمسين بصحة الأخبار كملا عند المتقدمين لوضوح الطرق الدالة على صحتها لديهم ، وان هؤلاء المتأخرين إنما جددوا هذا الاصطلاح لخفاء تلك القرائن التي أوجبت صحة الأخبار عند المتقدمين عليهم. و (ثانيا) ـ ما قدمناه في مقدمات هذا الكتاب من بطلان هذا الاصطلاح. و (ثالثا) ـ ان ما ذكره في صحيحة محمد بن مسلم من عدم دلالتها على المطلوب صريحا مؤذن بأنها دالة عليه ظاهرا وهو كاف في الاستدلال ، فإنها وان لم تكن في الصراحة كرواية يونس المذكورة إلا انها ظاهرة في ذلك ، وما ارتكبوه في تأويلها خلاف الظاهر بل تعسف محض كما لا يخفى على الخبير الماهر ، وذلك فان ظاهر الخبر المذكور ومثله الموثقة التي بعده ان العشرة التي وقع التفصيل فيها في الخبر بكون رؤية الدم قبل تمامها فيكون من الحيضة الأولى أو بعده فيكون حيضة مستقلة انما هي عشرة

١٦٢

واحدة وهي ما بعد رؤية الدم الأول سواء كان يوما أو يومين أو ثلاثة ، ومبدأها انقطاع الدم الأول ، واللام في العشرة الثانية عهدية كما في قوله تعالى : «... أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ...» (١) وعلى هذا بنى الاستدلال بالرواية المذكورة ، وعلى ما ذكروه يلزم ان يكون مبدأ العشرة من أول الدم ، وهو وان تم لهم بالنسبة إلى أول الترديدين إلا انه لا يتم لهم بالنسبة إلى الترديد الثاني وهو قوله : «وان كان بعد العشرة» فإنها عبارة عن عشرة أيام الطهر البتة ، وبالجملة فإن مبنى كلامهم على ان المراد بالعشرة الاولى مبدأ الدم الأول والعشرة الثانية من انقطاعه. ولا يخفى ما فيه من التمحل بل البطلان ، إذ المتبادر من الترديد المذكور هو اتحاد العشرة لا تعددها.

ومما يؤيد ما ذكرناه من ان العشرة التي وقع الترديد فيها هي عشرة الطهر ما رواه الشيخ في التهذيب عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن المرأة إذا طلقها زوجها متى تكون أملك بنفسها؟ فقال إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فهي أملك بنفسها. قلت فان عجل الدم عليها قبل أيام قرءها؟ فقال : إذا كان الدم قبل العشرة أيام فهو أملك بها وهو من الحيضة التي طهرت منها ، وان كان الدم بعد العشرة فهو من الحيضة الثالثة فهي أملك بنفسها».

والتقريب فيها كما مر في صحيحة محمد بن مسلم الا ان هذه أظهر في كون الطهر يكون أقل من عشرة أيام ، وان ما ذكروه من حمل العشرة الاولى في تلك الرواية على مبدأ الدم الأول لا يجري في هذه الرواية ، بل المراد بالعشرة فيها في الموضعين هي عشرة الطهر الخالي من الدم ، وذلك فان معناها انها إذا حاضت الحيضة الثانية وطهرت ثم أتاها الدم ، فان كان قبل تمام العشرة أيام الطهر فله الرجوع فيها لأنها باقية في العدة ، وان

__________________

(١) سورة المزمل. الآية ١٥ و ١٦.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ١٧ من أبواب العدد.

١٦٣

كان بعد تمام العشرة فقد خرجت عن عدته لحصول الأقراء الثلاثة التي هي عبارة عن الاطهار وتقريب الاستدلال بهذه الروايات الثلاث بناء على ما ذكرناه زيادة على ما عرفت ان الحكم بكون ما تراه قبل تمام العشرة من الحيضة الأولى انما يتم على إطلاقه بناء على الحكم بكون أيام النقاء المتخللة طهرا ، والا فلو فرضنا ان حيضها الأول خمسة أيام أو ستة أيام ثم بعد الطهر والغسل رأت الدم في اليوم السابع أو الثامن من طهرها قبل تمام العشرة فإنه (عليه‌السلام) في هذه الاخبار حكم بكون الدم من الحيضة الاولى ، فلو حكم بكون النقاء ايضا حيضا كما يدعونه للزم زيادة الحيض على عشرة أيام ، وهو باطل إجماعا نصا وفتوى ، وفي معنى هذه الرواية ما صرح به في الفقه الرضوي (١) حيث قال : «وربما تعجل الدم من الحيضة الثانية ، والحد بين الحيضتين القرء وهو عشرة أيام بيض ، فإن رأت الدم بعد اغتسالها من الحيض قبل استكمال عشرة أيام بيض فهو ما بقي من الحيضة الاولى ، وان رأت الدم بعد العشرة البيض فهو ما تعجل من الحيضة الثانية». انتهى. وهو ظاهر في ان ما تخلل من النقاء بين الدمين ـ متى كان في العشرة ـ طهر لما فرضناه من المثال المتقدم ونحوه ، وفي هذا الكلام ما يشير الى ما قدمناه من حمل روايات «أقل الطهر عشرة». على ما كان بين حيضتين لا مطلقا.

ومما حققناه في هذا المقام يظهر ان ما يأتي ان شاء الله تعالى في كلامهم ـ من انه متى رأت الدم ثلاثة ـ مثلا ـ وانقطع ثم رأته قبل العاشر ولم يتجاوز العشرة فإن جميع العشرة حيضة ـ لا وجه له ، فان ظاهر هذه الاخبار ان الحيض أيام الدم خاصة كما عرفت واما قول صاحب المعتبر فيما نقله عنه في المدارك : «ونحن لا نسمي حيضا الا ما كان ثلاثة فصاعدا. إلخ» ففيه انه أول المسألة لأن مراده بالثلاثة يعنى المتوالية ، وإطلاق الحيض في الرواية على الدم المتقدم وان كان أقل من ثلاثة كما ندعيه انما وقع من حيث رجوع الدم في العشرة الموجب لكون المتقدم بانضمام المتأخر اليه حيضا واحدا وبهذا يصح إطلاق الحيض على الدم الأول وان كان أقل من ثلاثة ، لظهور كونه حيضا

__________________

(١) ص ٢١.

١٦٤

بانضمام الدم الأخير اليه. وبالجملة فالرواية مطلقة بالنسبة إلى الدم المتقدم ، وإطلاق الحيض على ما كان أقل من ثلاثة أيام صحيح بما ذكرناه ، فالعمل بها على إطلاقها لا يعتريه وصمة الإشكال.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان ما استدلوا به على ما ذكروه من القول المشهور أمور :

(الأول) ـ ان الصلاة ثابتة في الذمة بيقين فلا يسقط التكليف بها إلا مع تيقن السبب ولا تيقن بثبوته مع انتفاء التوالي.

(الثاني) ـ ان المتبادر من قولهم : «ادنى الحيض ثلاثة وأقله ثلاثة» (١). كونها متوالية ، ذكر ذلك في المدارك والأول منهما العلامة في المختلف ايضا.

(الثالث) ـ ان تقدير الحيض أمر شرعي غير معقول فيقف على مورد الشرع. ولم يثبت في المتفرق التقدير الشرعي ، احتج به العلامة في المختلف.

(الرابع) ـ ان اللازم من القول بخلاف القول المشهور كون الطهر أقل من عشرة وهو خلاف الإجماع نصا وفتوى.

(الخامس) ـ ما ذكره (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي (٢) حيث قال : «وان رأت يوما أو يومين فليس ذلك من الحيض ما لم تر ثلاثة أيام متواليات ، وعليها ان تقضى الصلاة التي تركتها في اليوم واليومين». وهذه العبارة عين العبارة المتقدم نقلها عن الصدوق في رسالة أبيه اليه وكذا ما بعدها ايضا ، ومنه يعلم ان مستنده في هذا الحكم انما هو الكتاب المذكور كما عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى.

والجواب (اما عن الأول) فإن ما ذكروه من ثبوت الصلاة في الذمة بيقين مسلم الا انه قد دلت الأخبار المتفق عليها على انها تسقط بالحيض الذي أقله ثلاثة ، وهي مطلقة شاملة بإطلاقها لما لو كانت متوالية أو متفرقة في ضمن العشرة ، ومدعى التقييد بالتوالي عليه الدليل وليس فليس ، بل الأدلة بصريحها وظاهرها عاضدة لهذا الإطلاق كما عرفت.

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ١٠ من أبواب الحيض.

(٢) ص ٢١.

١٦٥

و (اما عن الثاني) فبالمنع من هذه الدعوى (اما أولا) ـ فلأنه لو نذر المكلف صيام ثلاثة أيام على الإطلاق فاللازم بمقتضى ما ذكره وجوب التوالي فيها وهو لا يلتزمه و (اما ثانيا) ـ فلانه لو تم ذلك في الثلاثة للزم مثله في العشرة لاشتراكهما في الإطلاق في اخبار هذه المسألة كما تقدم وهم لا يقولون به. و (اما ثالثا) ـ فلانه لو سلم ذلك فإنه يجب الخروج عنه بقيام الدليل على خلافه وهو الاخبار المتقدمة.

و (اما عن الثالث) فبما عرفت من ان غاية ما دلت عليه الاخبار ان أقله ثلاثة وهي أعم من ان تكون متوالية أو متفرقة ، ومدعى التقييد بالتوالي يحتاج الى الدليل ، وتخرج الأخبار التي ذكرناها شاهدة على ذلك.

و (اما عن الرابع) فيما تقدم آنفا من ان وجه الجمع بين الاخبار يقتضي حمل أخبار «أقل الطهر عشرة أيام» على الطهر الواقع بين حيضتين بمعنى انه لا يحكم بتعدد الحيض إلا مع توسط العشرة لا الواقع في حيضة.

ومما يعضد ما ذكرناه من وقوع الطهر في أقل من عشرة أيام ما رواه الشيخ في الموثق عن يونس بن يعقوب (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : المرأة ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تدع الصلاة. قلت : فإنها ترى الطهر ثلاثة أيام أو أربعة؟

قال : تصلي. قلت فإنها ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تدع الصلاة. قلت فإنها ترى الطهر ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تصلي. قلت فإنها ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعة؟ قال تدع الصلاة تصنع ما بينها وبين شهر فان انقطع الدم عنها والا فهي بمنزلة المستحاضة». ونحوها رواية أبي بصير ايضا (٢).

و (اما عن الخامس) فالظاهر ان كلامه (عليه‌السلام) هنا خرج مخرج البناء على الغالب لا انه حكم كلي ، لأنه قد صرح قبيل هذا الكلام بما قدمنا نقله عنه قريبا مما هو ظاهر المنافاة لو حمل هذا الكلام على ظاهره ، فان ظاهر الكلام هو انه قد يكون

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٦ من أبواب الحيض.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٦ من أبواب الحيض.

١٦٦

الطهر أقل من عشرة إذا كان في حيضة واحدة ، فلا بد من حمل هذا الكلام على ما ذكرناه جمعا.

وينبغي التنبيه على أمور (الأول) ـ قال في الروض : «وعلى هذا القول ـ يعني عدم اعتبار التوالي ـ لو رأت الأول والخامس والعاشر فالثلاثة حيض لا غير» واعترضه سبطه بان مقتضاه ان أيام النقاء المتخللة بين أيام رؤية الدم تكون طهرا ، وهو مشكل لان الطهر لا يكون أقل من عشرة أيام إجماعا ، وايضا قد صرح المصنف في المعتبر والعلامة في المنتهى وغيرهما من الأصحاب بأنها لو رأت ثلاثة ثم رأت العاشر كانت الأيام الأربعة وما بينهما من النقاء حيضا ، والحكم في المسألتين واحد انتهى. وفيه نظر من وجهين : (أحدهما) ـ ان قوله : «ان الطهر لا يكون أقل من عشرة إجماعا» على إطلاقه ممنوع ، فان ذلك انما هو فيما إذا كان بين حيضتين يعني لا يحكم بتعدد الحيض الا مع توسط العشرة ، كما يشير اليه كلامه (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي حسبما نبهنا عليه آنفا ، وقد عرفت دلالة الأخبار على انه لا مانع منه في الحيضة الواحدة ، وهذا معظم الشبهة عندهم في اطراح هذا القول ، وفيه ما عرفت. و (ثانيهما) ـ ان ما نقله عن المعتبر والمنتهى وغيرهما انما استندوا فيه الى صحيحة محمد بن مسلم وموثقته المتقدمتين بناء على ما توهموه من المعنى الذي زعموه ، وقد أوضحنا بعده ومخالفته لظاهر الخبرين المذكورين كما يفصح عنه خبر عبد الرحمن بن ابي عبد الله وكلامه (عليه‌السلام) في كتاب الفقه ، فإنهما صريحان في المدعى كما أوضحناه آنفا ، وحينئذ فما ذكروه خال من الدليل بل الدليل على خلافه واضح السبيل. وبالجملة فإن الروايات المذكورة كملا قد اشتركت في الدلالة على ان ما تراه في عشرة الطهر قبل تمامها فهو من الحيضة الاولى وان ما بين الدمين طهر ، وإلا لزم المحذور الذي قدمنا ذكره من زيادة الحيض على العشرة وهو باطل ، الا انها مختلفة في الظهور شدة وضعفا ، وهم انما حكموا بكون النقاء المتوسط حيضا بشبهة ان الطهر لا يكون أقل من عشرة ، وقد أوضحنا فساده فلا اشكال بحمد الله المتعال.

١٦٧

(الثاني) ـ اعلم ان ظاهر الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) ان محل الخلاف في هذه المسألة الثلاثة مطلقا أعم من ان تكون في أيام العادة أم لا ، وصريح رواية يونس هو كونها في أيام العادة ، وظاهر روايتي محمد بن مسلم وان كان الإطلاق بناء على ما ذكرناه من معناهما الا انه يمكن حمله على رواية يونس حمل المطلق على المقيد ، وبذلك يجمع بين هذه الاخبار وكلامه (عليه‌السلام) في كتاب الفقه بحمله على غير أيام العادة ، ولا بأس به اقتصارا في الخلاف على القدر المتيقن ، الا انه صلح من غير تراضي الخصمين.

(الثالث) ـ قد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ الشهيد الثاني في الروض بان المراد بالأيام الثلاثة ما يدخل فيها الليالي اما تغليبا واما لدخول الليل في مسمى اليوم عرفا ، قال : «وقد صرح بدخولها في بعض الاخبار وفي عبارة بعض الأصحاب» أقول : هو ابن الجنيد على ما نقله عنه بعض أصحابنا. والظاهر ان المراد بالثلاثة مقدارها من الزمان ولو بالتلفيق لا خصوص الثلاثة ، فلو رأته من أول الظهر ـ مثلا ـ اعتبر الامتداد الى ظهر اليوم الرابع.

(الرابع) ـ اختلف الأصحاب في المعنى المراد من التوالي على تقدير القول المشهور فقيل بأنه عبارة عن استمراره في الثلاثة بلياليها بحيث متى وضعت الكرسف تلوث ، وهو اختيار الشيخ علي في شرح القواعد بعد ان ذكر انه لا يعرف الآن في كلام أحد من المعتبرين تعيينا له ، ثم قال : «وقد يوجد في بعض الحواشي الاكتفاء بحصوله فيها في الجملة وهو رجوع الى ما ليس له مرجع» ونقل هذا القول عن الشيخ جمال الدين ابن فهد في التحرير. وقيل بالاكتفاء بوجوده في كل يوم من الثلاثة وقتاما ، ونقله في المدارك عن ظاهر الأكثر عملا بالعموم ، وهو اختيار الروض قال : «ظاهر النص الاكتفاء بوجوده في كل يوم من الثلاثة وان لم يستوعبه لصدق رؤيته ثلاثة أيام لأنها ظرف له ، ولا تجب المطابقة بين الظرف والمظروف ، وهذا هو الظاهر من كلام المصنف» انتهى وقيل انه يعتبر ان يكون في أول الأول وآخر الآخر وفي أي جزء من الوسط ، فإذا

١٦٨

رأته في أول جزء من أول ليلة من الشهر فلا بد ان تراه في آخر جزء من اليوم الثالث بحيث يكون عند غروبه موجودا وفي اليوم الوسط يكفي أي جزء كان ، ونسب هذا القول الى الفاضل السيد حسن ابن السيد جعفر معاصر شيخنا الشهيد الثاني ، واستبعده في المدارك ونفى عنه البعد في الحبل المتين ، قال بعد نقله : «وهذا التفسير لبعض مشايخنا المتأخرين وهو غير بعيد ، وانما اعتبر وجود الدم في أول الأول وآخر الآخر عملا بما ثبت بالنص والإجماع من انه لا يكون أقل من ثلاثة أيام. إذ لو لم يعتبر وجوده في الطرفين المذكورين لم يكن الأقل مما جعله الشارع أقل فلا تغفل» انتهى. أقول : والمسألة عندي لا تخلو من شوب الاشكال ، لعدم النص الموضح لهذا الإجمال والتعليلات متدافعة ، وان كان القول بما عليه ظاهر الأكثر لا يخلو عن قرب. والله العالم.

(المسألة الخامسة) ـ لا خلاف بين الأصحاب في ان ما تراه المرأة من الدم قبل إكمال التسع فليس بحيض وما تراه بعد بلوغ سن اليأس فليس بحيض ، فالكلام هنا يقع في مقامين :

(الأول) ـ في ما تراه قبل التسع ، وهو ـ كما عرفت ـ إجماعي حتى من العامة (١) ويدل عليه من الاخبار صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (٢) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : ثلاث يتزوجن على كل حال ، وعد منها التي لم تحض ومثلها لا تحيض ـ قال قلت وما حدها؟ قال : إذا اتى لها أقل من تسع سنين ـ والتي لم يدخل بها والتي قد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض. قال قلت وما حدها؟ قال : إذا كان لها خمسون سنة».

__________________

(١) كما في بدائع الصنائع ج ١ ص ٤١ وفي المغني ج ١ ص ٣٠٧ وفي الفروع لابن مفلح ج ١ ص ١٧٧ وفي المهذب ج ١ ص ٣٧ وفي المدونة لمالك ج ١ ص ٥٤ وفي شرح الزرقانى على مختصر ابى الضياء في فقه مالك ج ١ ص ١٣٣ وفي الميزان للشعرانى ج ١ ص ١١٧.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٢ من أبواب العدد.

١٦٩

وعن عبد الرحمن بن الحجاج أيضا في الموثق (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : ثلاث يتزوجن على كل حال : التي يئست من المحيض ومثلها لا تحيض ـ قلت ومتى تكون كذلك؟ قال إذا بلغت ستين سنة فقد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض ـ والتي لم تحض ومثلها لا تحيض ـ قلت ومتى تكون كذلك؟ قال ما لم تبلغ تسع سنين فإنها لا تحيض ومثلها لا تحيض ـ والتي لم يدخل بها».

وههنا اشكال مشهور وهو ان الأصحاب ذكروا من علامات بلوغ المرأة الحيض وحكموا ههنا بان ما تراه المرأة قبل التسع فليس بحيض ، وهو بحسب الظاهر مدافع للأول ، فما الذي يعلم به البلوغ؟

وأجيب عن ذلك بحمل ما هنا على من علم بلوغها التسع ، فإنه لا يحكم على الدم الذي تراه قبل التسع بكونه حيضا ، وحمل ما ذكروه من ان الحيض علامة البلوغ على من جهل سنها مع خروج الدم الجامع لصفات الحيض ، فإنه يحكم بكونه حيضا ويعلم به البلوغ كما ذكره الأصحاب ونقلوا عليه الإجماع.

أقول : ويؤيده رواية عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنة وكتبت عليه السيئة وعوقب ، وإذا بلغت الجارية تسع سنين فكذلك ، وذلك انها تحيض لتسع سنين». ويستفاد من هذه الرواية ان الحيض لازم للتسع ، وحينئذ فمتى كان سنها مجهولا وحصل لها الحيض فإنه دليل على بلوغ التسع.

واما ما أجيب به عن الاشكال المذكور ـ من ان البلوغ مما اختلف فيه فقيل انه بالتسع وقيل بالعشر فلو رأت دما بعد التسع وقبل بلوغ العشر حكم بالبلوغ ـ فأورد عليه بان هذا انما يتم على قول من قال بالعشر واما من قال بان بلوغها بالتسع فإنه لا يكون

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣ من أبواب العدد.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٤٤ من أبواب الوصايا.

١٧٠

الدم هنا دليلا على البلوغ عنده ، بل الحق هو الأول.

(الثاني) ـ في ما تراه بعد بلوغ سن اليأس ، وقد عرفت انه لا خلاف بينهم في انه ليس بحيض ، وعليه تدل الأخبار التي في المسألة.

انما الخلاف في ما به يتحقق اليأس ، فقيل بأنه يتحقق ببلوغ خمسين سنة مطلقا ، ذهب اليه الشيخ في النهاية والجمل واختاره المحقق في كتاب الطلاق من الشرائع. وقيل ببلوغ الستين مطلقا ، واختاره العلامة في بعض كتبه والمحقق في الشرائع في باب الحيض. وقيل بالتفصيل بين القرشية وغيرها واعتبار الستين فيها والخمسين في غيرها ، واختاره الشيخ في أكثر كتبه ، وهو ظاهر الصدوق في الفقيه ايضا حيث قال (١) : «وقال الصادق (عليه‌السلام) : المرأة إذا بلغت خمسين سنة لم تر حمرة إلا ان تكون امرأة من قريش ، وهو حد المرأة التي تيأس من الحيض». انتهى. وهذا الكلام بعينه عين مرسلة ابن ابي عمير الآتية ، ورجحه المحقق في المعتبر ، والظاهر انه المشهور. وربما الحق بعض أصحاب هذا القول بالقرشية النبطية كالشهيد في كتبه الثلاثة.

والذي وقفت عليه من الأخبار في هذه المسألة روايتا عبد الرحمن المتقدمتان وصحيحة أخرى له ايضا عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «حد التي يئست من المحيض خمسون سنة». ورواية أحمد بن محمد بن ابي نصر عن بعض أصحابنا (٣) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : المرأة التي قد يئست من المحيض حدها خمسون سنة». رواها الكليني والشيخ في الضعيف والمحقق في المعتبر عن كتاب احمد بن محمد بن ابى نصر وعلى هذا فلا يضر ضعف السند بناء على الاصطلاح الغير المعتمد ، ومرسلة ابن ابي عمير عن بعض أصحابنا عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «إذا بلغت المرأة خمسين سنة لم تر حمرة الا ان تكون امرأة من قريش».

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ٣١ من أبواب الحيض.

١٧١

حجة القول الأول رواية عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة في المقام الأول وصحيحته المنقولة هنا ورواية ابن ابي نصر.

وحجة القول الثاني موثقة عبد الرحمن الثانية من روايتيه المتقدمتين في المقام الأول ، ورواية مرسلة ذكرها في الكافي (١) بعد نقل رواية أحمد بن محمد بن ابي نصر قال : «وروى ستون سنة ايضا».

حجة القول الثالث الجمع بين الاخبار ، ومستند هذا الجمع مرسلة ابن ابي عمير التي هي في عداد المسانيد عندهم ، حيث دلت على الخمسين الا ان تكون امرأة من قريش وأورد على ذلك عدم صراحة الرواية في كون الحمرة التي تراها القرشية بعد الخمسين حيضا ، إذ لا منافاة بين رؤيتها الحمرة وعدم اعتبار الشارع تلك الحمرة حيضا ، مع انه ليس في الخبر ذكر الستين.

أقول : يمكن الجواب عن الأول بأن الظاهر ان لفظ الحمرة هنا كناية عن الحيض والا فإنه يصير معنى الكلام مغسولا متهافتا يجل عنه كلام الإمام الذي هو امام الكلام وعن الثاني (أولا) ـ بأنه لما كانت الروايات عنهم (عليهم‌السلام) قد صرحت بالخمسين مطلقا تارة وبالستين كذلك اخرى وقد نفى الخمسين عن القرشية فإنه يعلم منه ان مراده الستون ، إذ لم يخرج عنهم سوى هذين العددين وبنفي أحدهما يتعين الآخر. و (ثانيا) ـ انه نقل عن المبسوط انه قال (٢) : «تيأس المرأة إذا بلغت خمسين سنة إلا ان تكون امرأة من قريش فإنه روى انها ترى دم الحيض الى ستين سنة». وقال المفيد في المقنعة (٣) «روى ان القرشية من النساء والنبطية تريان الدم الى ستين سنة». وكلام الشيخين المذكورين مؤذن بوصول رواية لهما دالة على الستين في القرشية بل النبطية ، ومراسيل هذين الشيخين لا تقصر عن مراسيل ابن ابي عمير ونحوه ، وحينئذ فيجب تقييد إطلاق المرسلة المذكورة بهذه الرواية المرسلة في كلام الشيخين ، وبه يظهر قوة القول بالتفصيل ، وبذلك يظهر

__________________

(١ و ٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٣١ من أبواب الحيض.

١٧٢

ايضا لك ما في كلام جملة من متأخري المتأخرين : منهم ـ صاحب المدارك من الطعن على المفيد ومن تبعهم بأنهم ذكروا النبطية معترفين بعدم النص عليها ، وعبارة المفيد ـ كما سمعت ـ ظاهرة في وصول النص اليه بذلك.

وأنت خبير بان من يرى العمل بهذا الاصطلاح المحدث يترجح عنده العمل بروايات الخمسين لصحة سند بعضها وتأيده بالباقي وضعف ما يعارضها ولذلك مال في المدارك الى هذا القول ، واما من يرى العمل بالاخبار مطلقا فيمكن القول بالتفصيل لما ذكرناه الا انه غير خال من شوب الاشكال. وبالجملة فالمعلوم من الأخبار المذكورة عدم اليأس قبل الخمسين وتحققه بعد الستين مطلقا وانما يبقى الشك فيما بين ذلك.

واما ما قيل ـ من انه لا تعارض بين روايات عبد الرحمن في المنطوق إذ التحديد بالخمسين يستدعي كون ذات الستين آيسة البتة ، نعم مفهوم موثقة الستين يعطى عدم اليأس بدون بلوغ الستين فيشمل الخمسين فيكون ذلك المفهوم بعمومه منافيا لتحديد الخمسين ، والمفهوم مع خصوصه لا يصلح لمعارضة المنطوق بل يجب إلغاؤه معه فكيف مع عمومه وخصوص المنطوق؟ بل يجب تخصيصه به كما هي القاعدة حتى في غيره فلا تعارض. انتهى ـ فظني بعده بل عدم استقامته ، وذلك لان ثبوت التعارض بين الروايتين أظهر من ان ينكر وانما هذه شبهة عرضت لهذا القائل ، وبيان ذلك انه قد علم من الشارع تكليف النساء بأحكام مخصوصة من الحيض وما يترتب عليه من الصوم والصلاة والعدد وما يترتب عليها ونحو ذلك ، وجعل لهذه الأحكام غاية وحدّا تنقطع وترتفع ببلوغه وهو سن اليأس ، وهاتان الروايتان قد تصادمتا وتخاصمتا في بيان هذا الحد الذي تسقط عنده هذه الأحكام ، فمقتضى رواية الخمسين سقوطها ببلوغ هذا الحد ومقتضى رواية الستين انها تستمر بعد الخمسين ولا تسقط إلا ببلوغ هذا الحد وبذلك حصل التعارض ، فيجب بناء على الرواية الأولى العمل بتلك الأحكام واستصحابها الى حد الخمسين خاصة ويجب على الثانية إلى حد الستين ، والروايتان لم تتعارضا في أصل ثبوت

١٧٣

التكاليف وعدمه حتى يقال ان رواية الستين تدل على عدمه بالمنطوق والمفهوم يضعف عن معارضة المنطوق ، فان تلك الأحكام ثابتة معلومة من الشارع واجب استصحابها والعمل بها الى وجود المانع والتعارض هنا وقع في بيان هذا الحد ، فان ثبت كونه الخمسين وجب استصحاب الأحكام إليها خاصة وان ثبت كونه الستين فكذلك ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا خفاء عليه ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه ، ونظير ذلك اخبار البلوغ المختلفة ببلوغ الأربعة عشرة والخمسة عشرة والثلاثة عشرة والعشر ، الا ان اخبار البلوغ اختلفت في الحد الموجب للاحكام وهذه اختلفت في الحد الذي به تسقط تلك الأحكام. على ان ما ذكره من ضعف المفهوم وعدم معارضة المنطوق ممنوع وان كان قد ذكره غيره من الأصوليين ، فإن المفهوم هنا مفهوم شرط وقد قدمنا لك في مقدمات الكتاب الآيات والأخبار الدالة على حجيته شرعا فهو لا يقصر في الحجية عن المنطوق ، وكلام الأصوليين مبني على ما استدلوا به على الحجية من الأدلة الاقناعية والوجوه التخريجية التي قد طال فيها التشاجر إبراما ونقضا ، واما ما دلت عليه الآيات والروايات ـ كما أوضحناه في المقدمات ـ فليس كذلك ، فإنه متى كان الدليل من الطرفين انما هو الاخبار والآيات فالطعن بالضعف غير متجه وانما الواجب الترجيح بالمرجحات الخارجة كما هو القاعدة المعروفة.

وبالجملة فالاحتياط في المسألة لما عرفت مما لا ينبغي تركه ، وهو من بعد كمال الخمسين الى كمال الستين بان تعمل ما تعمله الطاهر في وقت الدم وتقضي الصوم بعد ذلك ، هذا بالنسبة إلى العبادة ، واما بالنسبة إلى العدة فتعتد بالأشهر إن طابقت الاطهار المحتملة بأن تقع الأطهار الثلاثة في ثلاثة أشهر وإلا فأكثر الأمرين بمعنى انه إذا لم تحصل المطابقة المذكورة بأن تقع الأطهار الثلاثة في أربعة أشهر أو شهرين ففي الأول تعتد بالأطهار وفي الثاني بالأشهر الثلاثة لكونهما أكثر الأمرين ، ولا ينبغي لزوجها ان يراجعها في هذه العدة وان يجري عليها النفقة فيها ونحو ذلك. والله العالم.

١٧٤

فوائد

(الأولى) ـ اعلم ان المراد بالقرشية هي المنتسبة الى قريش وهو النضر بن كنانة جدهم ، وظاهر جملة من الأصحاب ان المراد الانتساب اليه ولو بالأم وبعضهم جعله احتمالا من حيث ان للام مدخلا في ذلك بسبب تقارب الأمزجة ، ومن ثم اعتبر نحو ذلك في المبتدأة كما سيأتي ان شاء الله تعالى من الرجوع الى الخالات وبناتها ، إلا انه لا يخفى انه لا يعلم في مثل هذه الأزمان من هؤلاء سوى الهاشميين فالأصل يقتضي عدم القرشية واستصحاب التكليف في غير الهاشمية بناء على القول المشهور.

(الثانية) ـ قد اختلف في معنى النبط ، قال في المصباح المنير : «النبط جيل من الناس كانوا ينزلون سواد العراق ثم استعمل في أخلاط الناس وعوامهم ، والجمع أنباط مثل سبب وأسباب ، الواحد نباطي بزيادة الألف والنون تضم وتفتح ، قال الليث ورجل نبطي ومنعه ابن الأعرابي» انتهى. وقيل انهم عرب استعجموا أو عجم استعربوا. وقيل انهم قوم من العرب دخلوا في العجم والروم واختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم ، وذلك لمعرفتهم بإنباط الماء أي استخراجه لكثرة فلاحتهم ، ونقل في الصحاح عن بعضهم ان أهل عمان عرب استنبطوا وأهل البحرين نبط استعربوا. وفي النهاية الأثيرية «أنهم جيل معروف كانوا ينزلون بالبطائح بين العراقين. قال وفي حديث ابن عباس نحن معاشر قريش من النبط من أهل كوثى ، قيل لأن إبراهيم الخليل (عليه‌السلام) ولد بها وكان النبط سكانها ، ومنه حديث عمرو بن معدي كرب سأله عمر عن سعد ابن ابي وقاص فقال أعرابي في حبوته نبطي في جبوته ، أراد انه في جباية الخراج وعمارة الأرضين كالنبط حذقا بها ومهارة فيها لأنهم كانوا سكان العراق وأربابها ، وفي حديث الشعبي ان رجلا قال لآخر يا نبطي فقال لا حد عليه كلنا نبط يريد الجوار والدار دون الولادة» انتهى. ومنه يستفاد سيما من هذه الاخبار التي نقلها ان النبط جيل من العرب يسكنون العراق ، وكيف كان فهم

١٧٥

لا وجود لهم في أمثال هذه الأيام وانما الغرض بيان الخلاف وتحقيق المقام.

(الثالثة) ـ قال المحقق الشيخ علي بعد اعترافه بان الحكم في النبطية خال عن مستند قوي سوى الشهرة : «ويمكن ان يستأنس له بأن الأصل عدم اليأس فيقتصر فيه على موضع الوفاق ، وفي بعض الأخبار الصحيحة عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «حد التي يئست من الحيض خمسون سنة». وفي بعضها استثناء القرشية ، والأخذ بالاحتياط ـ في بقاء الحكم بالعدة وتوابع الزوجية استصحابا لما كان لعدم القطع بالمنافي ـ أولى» وتنظر فيه في الذخيرة قال : «لان التمسك بأن الأصل العدم والاستصحاب ضعيف عندي لا يصلح لتأسيس الحكم الشرعي عليه وان اشتهر الاستناد اليه بين كثير من المتأخرين ، وتمام تحقيقه في الأصول ، والاحتياط الذي ذكره معارض بمثله» انتهى.

أقول : لا يخفى ان التمسك بأصالة العدم والاستصحاب هنا انما هو تمسك بعموم الدليل ، وهذا أحد معاني الأصل والاستصحاب كما تقدم في مقدمات الكتاب ، وذلك فإن الأخبار دلت على ان الدم الذي تراه المرأة بعد بلوغ التسع بالشروط المقررة ثمة حيض ودلت على أحكام تتعلق بكونه حيضا وعلى هذا اتفقت كلمة الأصحاب ، واختلفت الاخبار وكذا كلمة الأصحاب في الحد الذي يرتفع به الحيض وترتفع به تلك الأحكام ، فالمحقق المذكور ادعى العمل بعموم تلك الأدلة والاقتصار على موضع الوفاق في النبطية إلى بلوغ الستين إذ لا خلاف بعد بلوغ الستين في حصول اليأس وانقطاع تلك الأحكام ، هذا حاصل كلامه ، وليس الاستصحاب في كلامه عبارة عن الاستصحاب المختلف في حجيته كما يوهمه ظاهر كلامه ، بل هذا من قبيل استصحاب عموم الدليل أو إطلاقه الى ان يثبت الرافع ، وكذا الاستصحاب في قوله : «والأخذ بالاحتياط في بقاء الحكم بالعدة وتوابع الزوجية استصحابا لما كان» فإنه أيضا من قبيل الأول ، فإن الأدلة مطلقة أو عامة في وجوب العدة على المطلقة وأحكام الزوجية من النفقة والكسوة والسكنى في العدة ونحو ذلك فيجب استصحابها الى ان

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ٣١ من أبواب الحيض.

١٧٦

يثبت الرافع ، ومن هذا الباب في الأحكام الفقهية ما لا يحصى ، كما إذا وقع الخلاف في صحة الطلاق مثلا أو البيع أو نحو ذلك ، فإن للقائل أن يقول الأصل صحة النكاح الى ان يثبت المزيل والأصل بقاء الملك الى ان يثبت الناقل ونحو ذلك ، وبالجملة فالظاهر ان مناقشته غير واضحة. نعم يمكن المناقشة فيه بان هذا الأصل قد انتفى بما ورد من النصوص في هذه المسألة الدال بعضها على التفصيل القاطع للشركة وبعضها على الإطلاق فلا يمكن العمل عليه ولا استصحابه ، بل الواجب الرجوع الى الأخبار المذكورة والجمع بينها واستنباط الحكم منها ، والاحتياط المذكور معارض بمثله فان الحكم بصحة الرجعة ولحوق أحكام الزوجية مع وجود الدليل الدال على نفيها يوجب التهجم على الفروج والأموال بما لا يصلح سندا ، والاستصحاب المدعى قد انقطع بالدليل المذكور. والله العالم.

(المسألة السادسة) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الحبلى هل تحيض أم لا؟ قيل بالأول وعليه الأكثر ، ومنهم الصدوق والمرتضى ، وقال الشيخ في النهاية وكتابي الأخبار : «ما تجده المرأة الحامل في أيام عادتها يحكم بكونه حيضا وما تراه بعد عادتها بعشرين يوما فليس بحيض» وقال في الخلاف انه حيض قبل ان يستبين الحمل لا بعده ونقل فيه الإجماع ، وقال المفيد وابن الجنيد لا يجتمع حيض مع حمل ، وهو اختيار ابن إدريس ، وكلام الخلاف يرجع الى هذا القول.

والذي وقفت عليه من الاخبار في هذه المسألة ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «انه سئل عن الحلبي ترى الدم أتترك الصلاة؟

فقال : نعم ان الحبلى ربما قذفت بالدم».

وفي الصحيح عن صفوان (٢) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الحبلى ترى الدم ثلاثة أيام أو أربعة أيام تصلي؟ قال : تمسك عن الصلاة».

وفي الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٣) قال : «سألته عن الحبلى

__________________

(١ و ٢ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٣٠ من أبواب الحيض.

١٧٧

ترى الدم كما كانت ترى أيام حيضها مستقيما في كل شهر؟ قال : تمسك عن الصلاة كما كانت تصنع في حيضها فإذا طهرت صلت».

وعن حريز عمن أخبره عن الباقر والصادق (عليهما‌السلام) (١) «في الحبلى ترى الدم؟ قالا : تدع الصلاة فإنه ربما بقي في الرحم الدم ولم يخرج وتلك الهراقة».

وعن ابي بصير في الموثق عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الحبلى ترى الدم؟ قال : نعم انه ربما قذفت المرأة الدم وهي حبلى».

وعن سماعة (٣) قال : «سألته عن امرأة رأت الدم في الحبل؟ قال : تقعد أيامها التي كانت تحيض فإذا زاد الدم على الأيام التي كانت تقعد استظهرت بثلاثة أيام ثم هي مستحاضة».

وما رواه الكليني في الحسن عن سليمان بن خالد (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) جعلت فداك الحبلى ربما طمثت؟ فقال : نعم وذلك ان الولد في بطن امه غذاؤه الدم فربما كثر ففضل عنه فإذا فضل دفقته فإذا دفقته حرمت عليها الصلاة». قال وفي رواية أخرى «إذا كان كذلك تأخر الولادة».

وعن عبد الرحمن بن الحجاج في الصحيح (٥) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الحبلى ترى الدم وهي حامل كما كانت ترى قبل ذلك في كل شهر هل تترك الصلاة؟ قال تترك الصلاة إذا دام».

وهذه الاخبار هي مستند القول المشهور وهي ظاهرة فيه تمام الظهور.

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسين بن نعيم الصحاف (٦) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : ان أم ولدي ترى الدم وهي حامل كيف تصنع بالصلاة؟ قال فقال لي : إذا رأت الحامل الدم بعد ما يمضي عشرون يوما من الوقت الذي كانت ترى فيه الدم من الشهر الذي كانت تقعد فيه فان ذلك ليس من الرحم ولا من الطمث فلتتوضأ

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) رواه في الوسائل في الباب ٣٠ من أبواب الحيض.

١٧٨

ولتحتش بكرسف وتصل ، وإذا رأت الحامل الدم قبل الوقت الذي كانت ترى فيه الدم بقليل أو في الوقت من ذلك الشهر فإنه من الحيضة فلتمسك عن الصلاة عدد أيامها التي كانت تقعد في حيضها فان انقطع الدم عنها قبل ذلك فلتغتسل ولتصل. الحديث». وبهذه الرواية احتج الشيخ (رحمه‌الله) في كتابي الاخبار على ما قدمنا نقله عنه في النهاية وفي كتابي الاخبار.

ومنها ـ ما رواه الشيخ عن السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (١) قال : «قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ما كان الله تعالى ليجعل حيضا مع حبل يعني إذا رأت المرأة الدم وهي حامل لا تدع الصلاة الا ان ترى على رأس الولد إذا ضربها الطلق ورأت الدم تركت الصلاة».

وعن حميد بن المثنى في الصحيح (٢) قال : «سألت أبا الحسن الأول (عليه‌السلام) عن الحبلى ترى الدفقة والدفقتين من الدم في الأيام وفي الشهر والشهرين؟فقال تلك الهراهة ليس تمسك هذه عن الصلاة».

وبهاتين الروايتين استدل في المختلف لابن الجنيد ومن تبعه ثم زاد في الاحتجاج قال : «ولانه زمن لا يصادفها الحيض فيه غالبا فلا يكون ما رأته فيه حيضا كاليائسة ، ولانه يصح طلاقها مع رؤية الدم إجماعا ولا يصح طلاق الحائض إجماعا فلا يكون الدم حيضا».

أقول وبالله التوفيق : اما ما نقل دليلا لقول المفيد وابن الجنيد وابن إدريس من رواية السكوني فقد حملها أصحابنا على محامل أقربها عندي الحمل على التقية ، فإن هذا القول قد نقله في المنتهى عن أكثر العامة وهو المشهور بينهم (٣) واما رواية حميد بن

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٠ من أبواب الحيض.

(٣) في شرح الزرقانى على موطإ مالك ج ١ ص ١١٨ «ذهب ابن المسيب وابن شهاب ومالك في المشهور عنه والشافعي في الجديد وغيرهم الى ان الحامل تحيض ، الى أن قال :

١٧٩

المثنى فلا دلالة فيها وان ما ذكر فيها لم يستجمع شرائط الحيض. واما ما ذكره العلامة في المختلف من التعليلات فمع قطع النظر عن انها لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ، فإنه قد أجاب عن الأول بالفرق بأن اليائسة لا يصح منها الحيض لارتفاعه منها بالكلية بخلاف الحامل التي يكون لحرارة مزاجها وفور دم الحيض بحيث يفضل عن غذاء الصبي ما تقذفه المرأة من الرحم ، واما عن الثاني ـ وبه استدل ابن إدريس حيث قال : «أجمعنا على بطلان طلاق الحائض مع الدخول والحضور وعلى صحة طلاق الحامل مطلقا ولو كانت تحيض لحصل التناقض» ـ فأجاب بالمنع عن كون الحائض لا يصح طلاقها ولهذا جوزنا طلاق الغائب مع الحيض. انتهى. وبالجملة فهذا القول بمكان من الضعف لا يخفى لعدم الدليل الواضح. بقي الكلام فيما ذهب اليه الشيخ في النهاية وكتابي الأخبار فإن صحيحة الصحاف المذكورة ظاهرة فيه ، واما ما أجاب به عنها في المنتهى ـ من ان الغالب ان المرأة إذا تجاوزت عادتها وقتها لا يكون الدم حيضا ـ فالظاهر بعده والذي يقرب عندي هو حمل الأخبار المتقدمة على هذه الصحيحة بأن يقال ان ما تجده الحبلى في أيام العادة كما كانت تراه قبل فإنه يجب الحكم بكونه حيضا وما لم يكن كذلك فلا ، وفي بعض الاخبار المشار إليها إشارة الى ذلك مثل صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وصحيحة محمد ابن مسلم ، وبالجملة فأخبار المسألة ما بين مطلق في ذلك ومقيد وان كان التقييد في بعضها أظهر من بعض ، والواجب بمقتضى القاعدة المقررة حمل مطلقها على مقيدها ، وبه يظهر ان ما اشتهر بينهم من القول بحيضها مطلقا ليس كذلك ، قال في المدارك ـ بعد نقل جملة

__________________

وذهب أبو حنيفة وأصحابه واحمد والثوري إلى انها لا تحيض» وفي الميزان للشعرانى ج ١ ص ١١٨ «اتفق أبو حنيفة واحمد على ان الحامل لا تحيض ومالك والشافعي في أرجح قوليهما انها تحيض» وفي بدائع الصنائع في فقه الحنفية ج ١ ص ٤٢ «دم الحامل ليس بحيض وان كان ممتدا عندنا ، وقال الشافعي هو حيض في حق ترك الصوم والصلاة وحرمة القربان لا في حق أقراء العدة» وفي المغني لابن قدامة الحنبلي ج ١ ص ٣٠٦ نفى الحيض عن الحامل.

١٨٠