الحدائق الناضرة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

«كتب الى ابي الحسن الثالث (عليه‌السلام) يسأله عن الوضوء للصلاة في غسل الجمعة. فكتب : لا وضوء للصلاة في غسل الجمعة ولا غيره». وعن حماد بن عثمان عن رجل عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (١) : «في الرجل يغتسل للجمعة أو غير ذلك أيجزيه من الوضوء؟ فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : واي وضوء اطهر من الغسل؟». وعن عمار الساباطي في الموثق (٢) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل إذا اغتسل من جنابة أو يوم جمعة أو يوم عيد ، هل عليه الوضوء قبل ذلك أو بعده؟ فقال : لا ليس عليه قبل ولا بعد قد أجزأه الغسل ، والمرأة مثل ذلك إذا اغتسلت من حيض أو غير ذلك فليس عليها الوضوء لا قبل ولا بعد قد أجزأها الغسل». وعن محمد بن احمد بن يحيى مرسلا (٣) «ان الوضوء بعد الغسل بدعة». وبهذا الاسناد قال : «الوضوء قبل الغسل وبعده بدعة».

ومما يعضد هذه الاخبار ويعلى هذا المنار الأخبار الواردة في أحكام الحائض والمستحاضة والنفساء ، فإنها قد اشتملت على الغسل خاصة ولا سيما في مقام التقسيم الى الغسل في بعض والوضوء في بعض ، والمقام مقام البيان فلو كان الوضوء مع الغسل واجبا لذكروه (عليهم‌السلام) ففي صحيحة زرارة (٤) «... وان جاز الدم الكرسف تعصبت واغتسلت ثم صلت الغداة بغسل والظهر والعصر يغسل.». وفي صحيحة ابن سنان (٥) «المستحاضة تغتسل عند صلاة الظهر وتصلى الظهر والعصر ثم تغتسل عند المغرب وتصلي المغرب والعشاء ثم تغتسل عند الصبح وتصلي الفجر.». وفي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (٦) «ان كانت صفرة فلتغتسل ولتصل. الى ان قال : وان كان دما ليس بصفرة فلتمسك عن الصلاة أيام قرئها ثم لتغتسل ولتصل». وفي صحيحة الحسين بن نعيم الصحاف (٧)

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٣٣ من أبواب الجنابة.

(٤ و ٥ و ٧) المروية في الوسائل في الباب ١ من أبواب الاستحاضة.

(٦) المروية في الوسائل في الباب ٥ من أبواب النفاس.

١٢١

«... فان انقطع الدم عنها قبل ذلك فلتغتسل ولتصل.». وفي صحيحة معاوية بن عمار (١) «... فإذا جازت أيامها ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر والعصر ، الى قوله : وان كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلت كل صلاة بوضوء.». الى غير ذلك من الأخبار.

أقول : هذا ما وقفت عليه من اخبار المسألة ، والظاهر عندي هو القول الثاني لدلالة جملة هذه الأخبار عليه ، وجمهور أصحابنا (رضي‌الله‌عنهم) لم يوردوا في مقام الاستدلال للقول الثاني إلا اليسير منها ، وقد اختلف كلامهم في الجواب عنها :

فاما الشيخ (رحمه‌الله) في التهذيب فإنه بعد ان ذكر موثقة عمار ورواية حماد ابن عثمان ومحمد بن عبد الرحمن الهمداني حملها على ما إذا اجتمعت هذه الأغسال مع غسل الجنابة ، ولا يخفى بعده إذ لا قرينة ولا إشارة في شي‌ء من الاخبار المذكورة تدل على ذلك

واما الشهيد في الذكرى فإنه لم يورد إلا مكاتبة الهمداني ومرسلة حماد بن عثمان ثم قال : «وهي دليل المرتضى (رضي‌الله‌عنه) وابن الجنيد على اجزاء الغسل فرضه ونفله عن الوضوء ، الى ان قال بعد كلام في البين : والحق ان الترجيح بالشهرة بين الأصحاب وكاد يكون إجماعا. والروايات معارضة بمثلها وبما هو أصح إسنادا منها» ولا يخفى ما فيه فان الترجيح بالشهرة في الفتوى لم يدل عليه دليل وانما الشهرة الموجبة للترجيح بين الاخبار هي الشهرة في الرواية كما اشتملت عليه مقبولة عمر بن حنظلة (٢) وغيرها ، وهو ثابت في جانب روايات القول الثاني. وما ذكره من ان الروايات متعارضة فهو كذلك لكن الترجيح في جانب روايات القول الثاني لكثرتها واستفاضتها وضعف ما يقابلها سندا ودلالة كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، وليس الدليل منحصرا في هاتين الروايتين المذكورتين في كلامه كما يوهمه ظاهر كلامه.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١ من أبواب الاستحاضة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

١٢٢

واما المحقق في المعتبر فإنه بعد نقل القولين قال : «لنا ان كل واحد من الحدثين لو انفرد لا وجب حكمه ولا منافاة فيجب حكماهما لكن ترك العمل بذلك في غسل الجنابة فيبقى معمولا به هنا ، ويؤكد ذلك رواية ابن ابي عمير ، ثم أورد روايتيه المتقدمين ، ثم قال : فان احتج المرتضى (رضي‌الله‌عنه) بما رواه محمد بن مسلم ، ثم أورد الرواية الاولى ، ثم قال عاطفا عليها : وما روى من عدة طرق عن الصادق (عليه‌السلام) انه قال : «الوضوء بعد الغسل بدعة» (١). فجوابه ان خبرنا يتضمن التفصيل والعمل بالمفصل اولى» انتهى.

أقول : اما ما أورده أولا ـ من الدليل العقلي الذي هو بزعمهم أقوى من الدليل النقلي حتى انه انما جعل الدليل النقلي مؤيدا ـ ففيه (أولا) ـ ان الأحكام الشرعية توقيفية ليس للعقول فيها مسرح كما حققناه في مقدمات الكتاب ، بل المرجع فيها الى الكتاب العزيز والسنة المطهرة. و (ثانيا) ـ انه من الجائز الممكن انه وان كان كل من الحدثين لو انفرد لأوجب حكمه الا انه بالاجتماع يندرج الأصغر تحت الأكبر كما في الجنابة ، وكما خرجت الجنابة بالدليل ـ كما اعترف به ـ كذلك غيرها بالأدلة التي قدمناها غاية الأمر ان الجنابة قد أجمعوا عليها وهذه محل خلاف بينهم ، ولكن بالنظر الى الأدلة الشرعية والأخبار المعصومية التي هي المعتمد وعليها المدار فالاندراج حاصل والاكتفاء بالغسل ثابت.

واما ما أجاب به عن احتجاج المرتضى (رضي‌الله‌عنه) ففيه (أولا) ـ ان دليل المرتضى غير منحصر فيما نقله ، فلو تم له ما ذكره في هذين الخبرين فإنه لا يتم في غيرهما من الاخبار المتقدمة المشتملة على بعض من الأغسال المعينة ، مثل مكاتبة الهمداني ومرسلة حماد بن عثمان وموثقة عمار وروايات الحائض والمستحاضة. و (ثانيا) ـ ان الظاهر ـ كما حققه جملة من متأخري المتأخرين ـ ان المراد من المفرد

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٣٣ من أبواب الجنابة.

١٢٣

المعرف باللام في أمثال هذه المواضع العموم ، إذ لا يجوز ان يكون للعهد لعدم تقدم معهود ولا للعهد الذهني إذ لا فائدة فيه فتعين أن يكون للاستغراق ، ويؤيده التعليل المستفاد من قوله : «واي وضوء اطهر من الغسل؟» فإنه ظاهر في العموم ، إذ لا خصوصية لغسل الجنابة بذلك ، ولوروده في غسل الجمعة في مرسلة حماد بن عثمان المتقدمة ، وكذا في صحيحة حكم بن حكيم وان كان أصل السؤال فيها عن غسل الجنابة الا انه قد تقرر ان خصوص السؤال لا يخصص عموم الجواب. وما ربما يقال ـ ان غسل الجنابة هو الشائع المتكرر فيكون في قوة المعهود فينصرف الإطلاق إليه ـ ممنوع فان غسل الحيض والاستحاضة لا يقصران في التكرار والشيوع عنه فالحمل عليه بعد ما عرفت تحكم محض ، على ان الحق في ذلك ان يقال ان ما أوردناه من الروايات في الاستدلال للقول المذكور ما بين مفصل ومجمل فيحمل مجملها على مفصلها.

واما العلامة في المنتهى فإنه ذكر أكثر الروايات المتقدمة ثم أجاب عن صحيحة محمد بن مسلم بان اللام لا تدل على الاستغراق فلا احتجاج فيه فيصدق بصدق أحد اجزائه وقد ثبت هذا الحكم لبعض الأغسال فيبقى الباقي على الأصل ، وايضا تحمل الالف واللام على العهد جمعا بين الأدلة ، ثم أجاب عن الروايات الباقية بضعف السند ، ثم احتمل ما أجاب به الشيخ (رحمه‌الله) مما قدمنا ذكره ، ثم قال : «ويمكن ان يقال في الجواب عن الأحاديث كلها انها تدل على كمالية الأغسال والاكتفاء بها فيما شرعت له ونحن نقول به ، والوضوء لا نوجبه في غسل الحيض والجمعة مثلا ليكمل الغسل عنهما وانما نوجب الوضوء للصلاة ، فعند غسل الحيض يرتفع حدث الحيض وتبقى المرأة كغيرها من المكلفين إذا أرادت الصلاة يجب عليها الوضوء ، وكذا باقي الأغسال» انتهى.

أقول : اما ما أجاب به عن صحيحة محمد بن مسلم فقد تقدم الكلام فيه. واما طعنه في الأخبار الباقية بضعف السند فهو ضعيف عندنا غير معمول عليه ولا معتمد ، على انه متى ألجأته الحاجة الى الاستدلال بأمثالها من الاخبار الضعيفة باصطلاحه استدل

١٢٤

بها وأغمض عن هذا الطعن كما لا يخفى على من راجع كتبه وكتب غيره من أرباب هذا الاصطلاح ، ولو انهم يقفون على هذا الاصطلاح حق الوقوف ولا يخرجون عنه لما استطاعوا تصنيف هذه الكتب ولا تفريع هذه الفروع ، إذ الصحيح من الأخبار باصطلاحهم لا يفي لهم بعشر معشار الأحكام التي ذكروها كما لا يخفى على من تأمل بعين الإنصاف. واما ما ذكره من جواب الشيخ فقد تقدم ما فيه. واما ما ذكره أخيرا في الجواب عن الاخبار كلها ـ من ان مشروعية الوضوء هنا ليس لتكميل الأغسال وانما هو لرفع موجبه وهو الحدث الأصغر فإذا أراد الصلاة وجب عليه الوضوء لذلك ـ ففيه أن مكاتبة الهمداني التي هي إحدى الروايات التي نقلها قد تضمنت انه لا وضوء للصلاة في غسل الجمعة ولا غيره. واما ما أجاب به في المختلف من التقييد بما إذا لم يكن وقت صلاة فمع ظهور انه تعسف محض يرده قوله في موثقة عمار : «ليس عليه قبل الغسل ولا بعد قد أجزأه الغسل». وكذا الأخبار الدالة على انه بعد الغسل بدعة ، وبذلك اعترف في الذكرى ايضا.

وبالجملة فإن الروايات المذكورة ظاهرة الدلالة على القول المذكور غاية الظهور لا يعتريها فتور ولا قصور.

نعم يبقى الكلام في الجواب عن أدلة القول المشهور ، اما الآية فالجواب عنها ان إطلاقها مقيد بالأخبار المذكورة ، كما هو معلوم في جملة من الأحكام من تقييد إطلاقات الكتاب العزيز وتخصيص عموماته بالسنة المطهرة ، على انه قد ورد تفسير الآية في موثق ابن بكير (١) بالقيام من حدث النوم ، وادعى عليه العلامة في المنتهى وقبله الشيخ في التبيان الإجماع كما تقدم في بحث الوضوء ، وحينئذ فيجب تخصيص المأمور بالوضوء بالمحدث حدثا أصغر ان ضم إليها الإجماع المركب أو المحدث بالنوم ، ولا تدل على ان من كان محدثا حدثا أكبر بل غير النوم مأمور بالوضوء لا منفردا ولا مع ضميمة

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ٣ من أبواب نواقض الوضوء.

١٢٥

الغسل ، وبالجملة فالتحقيق ان سياق الآية الشريفة ظاهر في ان الجنب مأمور بالغسل وغيره مأمور بالوضوء ، وامتثال كل منهما ما أمر به يقتضي الاجزاء ، الا انه لما ورد عنهم (عليهم‌السلام) تفسير القيام إلى الصلاة بالقيام من حدث النوم وتأكد ذلك بدعوى الإجماع وجب تخصيص المأمور بالوضوء بالمحدث حدثا أصغر أو النوم كما قدمنا. واما روايتا ابن ابى عمير وصحيحة علي بن يقطين فقد أجاب عنها جملة من متأخري المتأخرين بالحمل على الاستحباب جمعا بين الاخبار ، وأيدوا ذلك بما ذكره المحقق (رحمه‌الله) في مسألة وضوء الميت ، حيث قال بعد إيراد روايتي ابن ابى عمير : «لا يلزم من كون الوضوء في الغسل ان يكون واجبا بل من الجائز ان يكون غسل الجنابة لا يجوز فعل الوضوء فيه وغيره يجوز ، ولا يلزم من الجواز الوجوب» وتبعه في هذه المقالة جمع ممن تأخر عنه كالعلامة في المختلف والشهيد الثاني في الروض. وهو مما يقضى منه العجب فإنهم مع اعترافهم بذلك في مسألة وضوء الميت يستدلون بالخبرين المذكورين هنا على وجوب الوضوء في غير غسل الجنابة. والأظهر عندي حمل الأخبار المذكورة وكذا كلامه (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي على التقية التي هي في اختلاف الأحكام الشرعية أصل كل بلية ، وعليه تجتمع أخبار المسألة ، وذلك فإن العامة بالنسبة إلى الوضوء مع غسل الجنابة على قولين ، فالمشهور بينهم استحباب الوضوء معه بان يكون قبله كما نقله في المنتهى حيث قال : لا يستحب الوضوء عندنا خلافا للشيخ في التهذيب ، وأطبق الجمهور على استحبابه قبله (١). ونقل في صدر المسألة عن الشافعي في أحد قوليه وهو رواية عن احمد ومثل ذلك عن داود وابي ثور الوجوب لو جامعه حدث أصغر (٢) واما سائر الأغسال

__________________

(١) كما في المغني لابن قدامة ج ١ ص ٢١٧ وص ٢١٩ وجامع الترمذي على شرحه لابن العربي ج ١ ص ١٥٥ ونيل الأوطار للشوكانى ج ١ ص ٢١٣ وشرح المنهاج لابن حجر ج ١ ص ١١٨.

(٢) كما في فتح الباري لابن حجر ج ١ ص ٢٥٠ وعمدة القارئ للعيني ج ٢ ص ٣.

١٢٦

واجبة أو مستحبة فالظاهر انه لا خلاف بينهم في الوجوب (١) كما عليه جمهور أصحابنا (رضي‌الله‌عنهم) وحينئذ فمعنى خبري ابن ابي عمير ان كل غسل معه وضوء واجب إلا غسل الجنابة فإنه لا يجب الوضوء معه وانما يستحب.

ثم انه على القول بوجوب الوضوء مع الغسل كما هو المشهور فهل يجب تقديمه على الغسل أم يتخير وان كان التقديم أفضل؟ المشهور الثاني ، وعن الشيخ في بعض كتبه الأول ، وبه صرح أبو الصلاح وهو ظاهر كلام المفيد وابني بابويه على ما نقله في المختلف ويدل عليه مرسلة ابن ابي عمير المتقدمة ، وأجاب عنها في المختلف بالحمل على الاستحباب وربما أيد هذا القول ايضا بقولهم (عليهم‌السلام) (٢) فيما قدمناه : «الوضوء بعد الغسل بدعة». وظاهر ابن إدريس دعوى الإجماع على عدم وجوب التقديم حيث قال : «وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا في كيفية غسل الحائض مثل كيفية غسل الجنابة ويزيد بوجوب تقديم الوضوء على الغسل ، وهذا غير واضح من قائله بل الزيادة على غسل الجنابة ان لا تستبيح الحائض إذا طهرت بغسل حيضها وبمجرده الصلاة كما يستبيح الجنب سواء قدمت الوضوء أو أخرت ، وان أراد انه يجب تقديم الوضوء على الغسل فغير صحيح بلا خلاف» انتهى. وكلامه وان كان في غسل الحائض الا انه خرج مخرج التمثيل ، إذ لا فرق في هذا المعنى بين غسل الحائض والأغسال المندوبة التي أوجبوا فيها الوضوء. وكيف كان فالبحث في ذلك عندنا مفروغ عنه وان كان على تقدير القول المذكور فالأقرب وجوب

__________________

(١) في شرح الزرقانى المالكي على مختصر ابى الضياء في فقه مالك ج ١ ص ١٠٥ «ويجزئ الغسل من جنابة أو حيض أو نفاس عن الوضوء وان تبين عدم جنابته أو حيضها أو نفاسها وان كان خلاف الاولى» وفي حاشية ابن قاسم العبادي على شرح المنهاج ج ١ ص ١١٨ قال : «في شرح العباب ان الوضوء انما يكون سنة في الغسل الواجب وبه صرح أبو زرعة وغيره تبعا للمحاملى ، ولو قيل بندبه كغيره من سائر السنن التي ذكروها في الغسل المسنون لم يبعد».

(٢) المروي في الوسائل في الباب ٣٣ من أبواب الجنابة.

١٢٧

التقديم ، لدلالة مرسلة ابن ابي عمير المشار إليها على ذلك ، ومثلها الخبر المرسل من الكافي وان كان مورده غسل الجمعة ، وأصرح من ذلك عبارة الفقه الرضوي (١) حيث قال : «فابدأ بالوضوء ثم اغتسل». ورواية أبي بكر الحضرمي الآتية ، وما في صحيح حكم ابن حكيم (٢) من قوله : «... ان الناس يقولون يتوضأ وضوء الصلاة قبل الغسل.». وهذه الروايات لا معارض لها إلا إطلاق بعض الاخبار فيحمل عليها. وكيف كان فالاحتياط ـ بالوضوء مع هذه الأغسال وتقديمه عليها ـ مما لا ينبغي تركه.

(المقام الثاني) ـ هل يستحب الوضوء مع غسل الجنابة أم لا؟ المشهور الثاني ، وذهب الشيخ في التهذيب إلى الأول استنادا الى ما رواه عن ابي بكر الحضرمي عن الباقر (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته كيف أصنع إذا أجنبت؟ قال : اغسل كفك وفرجك وتوضأ وضوء الصلاة ثم اغتسل». بحملها على الاستحباب جمعا بينها وبين ما دل من الاخبار على عدم الوضوء مع غسل الجنابة كصحيحة حكم بن حكيم ونحوها ، ويدل عليه ايضا ما رواه الكليني (٤) في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم عن عبد الله بن مسكان وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه عن محمد بن ميسر وهو غير موثق في كتب الرجال قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد ان يغتسل وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان؟ قال : يضع يده ويتوضأ ويغتسل ، هذا مما قال الله عزوجل : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (٥). والجواب عن الخبر الأول ان الأظهر في مدلوله هو الحمل على التقية ، لما قدمناه من ان العامة في ذلك على قولين في الوضوء مع غسل الجنابة ، فالمشهور الاستحباب والقول الآخر الوجوب ويشير الى ذلك قوله (عليه‌السلام) في صحيحة حكم بن حكيم (٦)

__________________

(١) ص ٤.

(٢ و ٣ و ٦) المروية في الوسائل في الباب ٣٤ من أبواب الجنابة.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ٨ من أبواب الماء المطلق.

(٥) سورة الحج. الآية ٧٨.

١٢٨

«ان الناس يقولون يتوضأ وضوء الصلاة قبل الغسل». فان المراد بالناس هم المخالفون وأظهر من ذلك ما رواه في التهذيب عن محمد بن مسلم (١) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) ان أهل الكوفة يروون عن علي (عليه‌السلام) انه كان يأمر بالوضوء قبل الغسل من الجنابة؟ قال كذبوا على علي ما وجدوا ذلك في كتاب علي ، قال الله تعالى : «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» (٢). ويعضده ايضا ما تقدم من مرسلة محمد بن احمد بن يحيى (٣) وقوله : «الوضوء قبل الغسل وبعده بدعة». وكذا غيرها مما دل على كونه مع الغسل بدعة. ورد الشيخ (رحمه‌الله) الخبر الأول بالإرسال واحتمل في الخبرين الآخرين التخصيص بما عدا غسل الجنابة ، قال : «لان المسنون في هذه الأغسال ان يكون الوضوء فيها قبلها» ولا يخفى ما فيه بعد ما عرفت من التحقيق. واما الخبر الثاني فالظاهر ان الوضوء فيه ليس بالمعنى المعروف وانما هو بمعنى الغسل كما يدل عليه سياق الكلام ، وكيف كان فإنه مع هذا الاحتمال لا يصلح للاستدلال. وبالجملة فالاستحباب كالوجوب ونحوه أحكام شرعية لا تثبت إلا بالدليل الواضح.

(المسألة الثانية) ـ اختلف الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) فيما إذا اغتسل مرتبا وأحدث في أثناء الغسل على أقوال : فقيل بوجوب الإعادة من رأس ، وهو مذهب الشيخ (رحمه‌الله) في النهاية والمبسوط وابن بابويه ، واختاره العلامة في جملة من كتبه والشهيد في الدروس والذكرى. وقال ابن البراج يتم الغسل ولا شي‌ء عليه ، وهو اختيار ابن إدريس واختاره من أفاضل متأخري المتأخرين مير محمد باقر الداماد والخراساني في الذخيرة وشيخنا الشيخ سليمان البحراني. وقال المرتضى (رضي‌الله‌عنه) انه يتم الغسل ويتوضأ إذا أراد الدخول في الصلاة ، واختاره المحقق والفاضل الأردبيلي وتلميذه السيد في المدارك وجده الشهيد الثاني وتلميذه الشيخ عز الدين الحسين بن عبد الصمد

__________________

(١ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٣٤ من أبواب الجنابة.

(٢) سورة المائدة. الآية ٩.

١٢٩

الحارثي وابنه الشيخ بهاء الملة والدين.

احتج في الذكرى للقول الأول حيث اختاره فقال بعد نقل الأقوال الثلاثة : «والأقرب الأول لامتناع الوضوء في غسل الجنابة عملا بالأخبار المطلقة ، وامتناع خلو الحدث عن أثره مع تأثيره بعد الكمال» واحتج في المختلف لهذا القول ايضا ـ حيث اختاره ـ بان الحدث الأصغر ناقض للطهارة بكمالها فلابعاضها اولى ، وإذا انتقض ما فعله وجب عليه اعادة الغسل ، لانه جنب لم يرتفع حكم جنابته بغسل بعض أعضائه ، ولا اثر للحدث الأصغر مع الأكبر. ومرجع الكلامين الى دليل واحد ، وينحل إلى أمرين : (أحدهما) ـ الاستدلال بالأخبار الدالة على انه لا وضوء مع غسل الجنابة ، وهذا جنب في هذه الحال. و (ثانيهما) ـ ان الحدث الأصغر مؤثر في نقض الطهارة بعد كمال الغسل بلا خلاف فلان يؤثر في نقض بعضها اولى ، وحينئذ فإذا كان الوضوء لا يجامع الجنابة ولا يؤثر في الصورة المذكورة ـ وفيه رد على القول بإيجاب الوضوء ـ والحدث الأصغر مؤثر في نقض ما اتى به من الطهارة ـ وفيه رد على من ذهب الى الاكتفاء بإتمام الغسل ـ وجب اعادة الغسل من رأس.

وأورد على هذا الدليل منع الأولوية المذكورة بل نقول القدر المسلم ان الحدث الأصغر إذا لم يجامع الأكبر فهو سبب لوجوب الوضوء وإذا جامع الأكبر فلا تأثير له أصلا ، فلا بد لما ذكروه من دليل ، ألا ترى انه بعد الغسل يقتضي الوضوء وفي الأثناء لا يقتضيه عندكم ، فلم لا يجوز ان لا يؤثر في الأثناء أصلا أو يؤثر تأثيرا يرتفع ببعض الغسل؟

وقريب مما ذكرناه ما أورده في المدارك ايضا ، حيث قال : «والقول بالإعادة للشيخ (رحمه‌الله) في النهاية والمبسوط وابن بابويه وجماعة ، ولا وجه له من حيث الاعتبار ، وما استدل به عليه ـ من ان الحدث الأصغر ناقض للطهارة بتمامها فلأبعاضها اولى ، وان الحدث المتخلل قد أبطل تأثير ذلك البعض في الرفع والباقي من الغسل غير صالح

١٣٠

للتأثير ـ ففساده ظاهر ، لمنع كونه ناقضا ومبطلا وانما المتحقق وجوب الوضوء به خاصة ثم قال (رحمه‌الله) ولعل مستندهم ما رواه الصدوق (رحمه‌الله) في كتاب عرض المجالس عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «لا بأس بتبعيض الغسل : تغسل يدك وفرجك ورأسك وتؤخر غسل جسدك الى وقت الصلاة ثم تغسل جسدك إذا أردت ذلك ، فإن أحدثت حدثا من بول أو غائط أو ريح أو مني بعد ما غسلت رأسك من قبل ان تغسل جسدك فأعد الغسل من اوله». ولو صحت هذه الرواية لما كان لنا عنها عدول لصراحتها في المطلوب الا اني لم أقف عليها مسندة ، والواجب المصير إلى الأول الى ان يتضح السند» انتهى.

أقول : اما ما ذكره ـ من منع كون الحدث الأصغر ناقضا ومبطلا وانما المتحقق وجوب الوضوء خاصة ـ فلا يخلو من اشكال ، فإنه ان أراد بخصوص هذا الموضع من حيث انه لا تأثير له مع الجنابة واندراجه تحتها فجيد لكن ينافيه قوله : «وانما المتحقق وجوب الوضوء خاصة» وان أراد مطلقا فهو خلاف الإجماع بين الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) من عد هذه الأحداث نواقض ومبطلات للطهارة المتقدمة ، وبه سميت نواقض وأسبابا وموجبات باعتبار إيجابها الوضوء. واما ما ذكره من الخبر ـ وقبله جده ـ فقد اعترضه جملة من الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) بأنهم لم يقفوا عليه في الكتاب المذكور ، إذ الظاهر ان مراده بالكتاب المذكور هو كتاب الأمالي المشهور ايضا بمجالس الصدوق وقد صرح في الذكرى بذلك ايضا فقال بعد نقل القول المذكور : «وقد قيل انه مروي عن الصادق (عليه‌السلام) في كتاب عرض المجالس للصدوق» ولعل السيد وجده اعتمدا على هذا النقل من غير مراجعة الكتاب المشار اليه. نعم هذه الرواية مذكورة في الفقه الرضوي (٢) حيث قال (عليه‌السلام): «ولا بأس بتبعيض الغسل : تغسل يديك وفرجك ورأسك وتؤخر غسل جسدك الى وقت الصلاة ثم تغسل إن أردت ذلك

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٢٩ من أبواب الجنابة.

(٢) ص ٤.

١٣١

فإن أحدثت حدثا من بول أو غائط أو ريح بعد ما غسلت رأسك من قبل ان تغسل جسدك فأعد الغسل من اوله ، وإذا بدأت بغسل جسدك قبل الرأس فأعد الغسل على جسدك بعد غسل الرأس». انتهى. وهذه العبارة بعينها نقلها الصدوق في الفقيه عن أبيه في رسالته اليه فقال : وقال ابي (رحمه‌الله) في رسالته الي : ولا بأس بتبعيض الغسل ثم ساق الكلام الى آخر ما نقلناه ، وفيه دلالة على ما قدمناه من اعتماده على الكتاب المذكور.

واما القول الثاني فاستدل عليه الشيخ سليمان البحراني المتقدم ذكره في بعض فوائده ـ واليه يرجع في التحقيق ما ذكره في الذخيرة ـ بأنه ينبغي ان يعلم ان الوضوء هو الرافع للحدث الأصغر لكن في غير صورة مجامعته للجنابة ، لأنه لا يكون للأصغر مع الجنابة أثر أصلا لانقهاره معها فلا يتمكن من التأثير ، فيسقط حكم الوضوء ما دامت الجنابة باقية بالفعل البتة. فلا يكون للأصغر أثر في إيجاب الوضوء أصلا بالتقريب المتقدم ومن الظاهر البين انه لا تأثير له في إيجاب الغسل بوجه من الوجوه ، وعلى هذا فمتى أكمل الغسل تم السبب التام لرفع الجنابة. وبالجملة فإنه بالنظر الى ما دامت الجنابة باقية فإنه مقهور بها ومندرج تحتها ، ومن المعلوم انه ما لم يتم الغسل فالجنابة باقية ، فلا وجه للقول بما ذهب اليه المرتضى (رضي‌الله‌عنه) ومن تبعه ، ويؤيده عموم الأخبار الدالة على نفي الوضوء والمنع منه مع غسل الجنابة وتحريمه وعدم مشروعيته (١).

أقول : وبهذا التقرير يظهر ضعف ما ذكره في المعتبر في رد هذا القول ـ كما سيأتي نقله من انه يلزم ان لو بقي من الغسل مقدار درهم من الجانب الأيسر ثم تغوط ان يكتفي عن الوضوء بغسل موضع الدرهم ، وهو باطل ، فإنه ـ مع كونه مجرد استبعاد لا يجدي في دفع الأحكام الشرعية ـ مردود بأنه إذا كان حدث الجنابة باقيا مع بقاء هذا المقدار وكذا ما يترتب على الجنابة من الأحكام ولا يرتفع ذلك الحدث ولا يستبيح ما يحرم على الجنب إلا بغسل هذا المقدار فأي استبعاد في ارتفاع الحدث الأصغر به

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣٣ و ٣٤ من أبواب الجنابة.

١٣٢

أيضا؟ بقي الكلام في انه بناء على هذا التقرير وان كان هذا الدليل بحسب الظاهر لا يخلو من متانة وقرب ، إلا ان لقائل أن يقول ان ما ذكروه من انقهار الحدث الأصغر تحت الجنابة وانه لا تأثير له معها انما استنبطوه من الأخبار الدالة على تحريم الوضوء مع غسل الجنابة وانه معه بدعة ، إذ ليس ثمة دليل غير ذلك ، ومن المحتمل قريبا حمل الأخبار المذكورة على ما هو الشائع المتكرر المتكثر من وقوع الحدث قبل الغسل دون هذا الفرد النادر الذي لا يتبادر اليه الذهن عند الإطلاق ، لما قرروه في غير مقام من ان الأحكام المودعة في الاخبار انما تحمل على ما هو المعهود المتكرر الشائع الذي ينساق اليه الذهن عند الإطلاق دون الفروض النادرة القليلة الدوران ، وبهذا يضعف القول المذكور.

واما القول الثالث فاحتج عليه المحقق في المعتبر بان الحدث الأصغر يوجب الوضوء وليس موجبا للغسل ولا لبعضه ، فيسقط وجوب الإعادة ولا يسقط حكم الحدث بما بقي من الغسل ، ثم ألزم القائلين بسقوط الوضوء انه يلزم لو بقي من الغسل قدر الدرهم من جانبه الأيسر ثم تغوط ان يكتفي عن وضوئه بغسل موضع الدرهم ، وهو باطل أقول :

فيه (أولا) ـ منع ما ذكره من ان الحدث الأصغر يوجب الوضوء ، فإنه على إطلاقه ممنوع بل القدر المعلوم هو إيجابه ما لم يجامع الجنابة واما مع مجامعتها فإنه يندرج تحتها كما تقدم ذكره. و (ثانيا) ـ منع قوله : ولا يسقط حكم الحدث بما بقي من الغسل للإلزام الذي ذكره ، بل هو ساقط بما بقي لانقهار الحدث الأصغر تحت الأكبر ما دام باقيا. واما الإلزام الذي ذكره فقد عرفت ما فيه.

واستدل في المدارك لهذا القول حيث اختاره فقال : «اما وجوب الإتمام فلان الحدث الأصغر ليس موجبا للغسل ولا لبعضه قطعا فيسقط وجوب الإعادة ، واما وجوب الوضوء فلان الحدث المتخلل لا بد له من رافع وهو اما الغسل بتمامه أو الوضوء والأول منتف لتقدم بعضه فتعين الثاني» وفيه ما عرفت من تقرير دليل القول الثاني من ان الحدث الأصغر لا اثر له مع الجنابة. وبالجملة فإن هذا القول بالنظر الى تقرير الدليل

١٣٣

المشار اليه ـ كما قدمناه ـ يظهر ضعفه ، وبالنظر الى ما أوردناه من الاشكال على الدليل المذكور يظهر قوته.

وكيف كان فالمسألة لما عرفت لا تخلو من شوب الاشكال وان كان القول الأول ـ بالنظر الى رواية الفقه الرضوي المعتضدة برواية المجالس وفتوى الشيخ علي ابن الحسين بن بابويه بها ، وهم ممن يعدون فتاويه في عداد النصوص إذا اعوزتهم ، مع أوفقيته للاحتياط ـ لا يخلو من قوة وان كان الاحتياط في الإتمام ثم الوضوء ثم الإعادة. والله العالم.

وينبغي التنبيه على فوائد (الأولى) ـ قال في الذكرى : «لو كان الحدث من المرتمس فان قلنا بسقوط الترتيب حكما فان وقع بعد ملاقاة الماء جميع البدن يوجب الوضوء لا غير والا فليس له اثر ، وان قلنا بوجوب الترتيب الحكمي القصدي فهو كالمرتب ، وان قلنا بحصوله في نفسه وفسرناه بتفسير الاستبصار أمكن انسحاب البحث فيه» انتهى. وظاهره انه مع عدم القول بالترتيب الحكمي في الغسل الارتماسي فإنه لا يتفق فيه تخلل الحدث في أثناء الغسل فيختص البحث بالغسل الترتيبي. وقال في المدارك : «الظاهر عدم الفرق في غسل الجنابة بين كونه غسل ترتيب أو ارتماس ، ويتصور ذلك في غسل الارتماس بوقوع الحدث بعد النية وقبل إتمام الغسل ، ثم نقل صدر كلام الذكرى وقال : وهو مشكل لإمكان وقوعه في الأثناء» وجرى على منواله في الذخيرة.

أقول : الظاهر ان مبنى كلام السيد (رحمه‌الله) على ان الدفعة المشترطة في الارتماس انما هي الدفعة العرفية ، وحينئذ فيمكن حصول الحدث بعد النية وقبل استيلاء الماء على جميع البدن. الا ان فيه ان الظاهر ان مبنى كلام الشهيد (رحمه‌الله) انما هو على ان الارتماس لا يحصل الا بعد الدخول تحت الماء واستيلاء الماء على جميع اجزاء البدن ، واما الدخول شيئا فشيئا فإنما هو من مقدماته ، وعلى هذا فلا يمكن تخلل الحدث للغسل

١٣٤

لان وصول الماء الى الجميع بعد الولوج دفعي ، وعلى هذا المعنى الذي ذكرناه يدل ظاهر كلام أهل اللغة أيضا قال في المصباح المنير : «رمست الميت رمسا من باب قتل : دفنته الى ان قال : ورمست الخبر : كتمته ، وارتمس في الماء : انغمس» وفي القاموس «الارتماس الانغماس» وفي مجمع البحرين «وأصل الرمس الستر ، ورمست الميت رمسا من باب قتل : دفنته ، وارتمس في الماء مثل انغمس» انتهى. وهذه العبارات كلها ظاهرة ـ كما ترى ـ في عدم صدق الارتماس إلا بعد الدخول تحت الماء ، وحينئذ فلا يظهر فرض هذا الحكم فيه. واما ما ذكره في الذكرى ـ من بناء ذلك على الترتيب الحكمي ففيه ما تقدم بيانه من انه لم يقم دليل على الترتيب الحكمي بشي‌ء من معنييه المذكورين فلا ضرورة إلى تكلف التفريع عليه في البين.

(الثانية) ـ قال في الذكرى ايضا : «لو تخلل الحدث الغسل المكمل بالوضوء أمكن المساواة في طرد الخلاف وأولوية الاجتزاء بالوضوء هنا لان له مدخلا في إكمال الرفع والاستباحة ، وبه قطع الفاضل في النهاية مع حكمه بالإعادة في غسل الجنابة» انتهى.

أقول : لا ريب ان الظاهر انه متى قلنا بعدم وجوب الوضوء في سائر الأغسال ـ كما هو الحق في المسألة ـ فإنه يطرد الخلاف فيها كما في غسل الجنابة ، وانما يبقى الكلام بناء على القول المشهور من وجوب الوضوء معها ، فظاهر كلامه في الذكرى احتمال طرد الخلاف ايضا وان كان الاولى هنا الاجتزاء بالوضوء ، والظاهر بعد ما احتمله من طرد الخلاف مع إيجاب الوضوء ، بل الظاهر وجوب الإتمام والوضوء كما اختاره في المدارك. ولعل الوجه في إيجاب العلامة الوضوء هنا مع إيجابه الإعادة في غسل الجنابة هو سقوط الوضوء مع غسل الجنابة لعدم تأثير الحدث الأصغر ثمة بخلاف ما نحن فيه فإنه ثابت بثبوت موجبه. وربما احتمل اعادة الغسل هنا بناء على ان كل واحد من الوضوء والغسل مؤثر ناقص في رفع الحدث المطلق ، فحصول تأثيرهما موقوف على حصولهما تامين ، فإذا حصل الحدث في الأثناء لم يكف الإتمام والوضوء ويحتاج إلى إعادة الغسل. والتحقيق

١٣٥

انا متى وقفنا على مورد الاخبار فإنه لا اشكال لا في غسل الجنابة ولا غيره إذ الواجب العمل بما دلت عليه ، واما مع عدم ذلك فالمسألة لا تخلو من الإشكال في الموضعين ، فان مجال التخريجات العقلية والاعتبارات الفكرية في هذه المسألة وغيرها واسع لا ينتهي إلى ساحل ، ولذا ترى المتقدم يعلل بتعليل حسبما وصل اليه فهمه ويجعلها أدلة ويأتي من بعده وينقضها ويأتي بأدلة اخرى حسبما ادى اليه فكره وهكذا ، فالحق هو الوقوف على الاخبار ان وجدت في هذه المسألة وغيرها والا فالوقوف على جادة الاحتياط كما أمرت به اخبارهم (عليهم‌السلام).

(الثالثة) ـ نقل في المدارك عن بعض المتأخرين القائلين بوجوب الإتمام والوضوء الاكتفاء باستئناف الغسل إذا نوى قطعه ، لبطلانه بذلك فيصير الحدث متقدما على الغسل ، ثم تنظر فيه بأن نية القطع انما تقتضي بطلان ما يقع بعدها من الأفعال لا ما سبق كما صرح به المصنف وغيره.

أقول : ما ذكره (رحمه‌الله) على إطلاقه لا يخلو من اشكال ، لأنه لا يخلو اما ان تكون نية القطع بمجردها موجبة للبطلان أو ان البطلان انما يحصل مع الإتيان بشي‌ء من أفعال العبادة بعد هذه النية ، ونظره انما يتمشى على الثاني ، ولعل مراد هذا القائل انما هو الأول. وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في بعض مقامات النية في الوضوء.

(المسألة الثالثة) ـ هل يجب ماء الغسل عينا أو ثمنا على الزوج أم لا؟ قال في المنتهى : «فيه تفصيل : قال بعضهم لا يجب مع غنائها ومع الفقر يجب على الزوج تخليتها لتنتقل الى الماء أو ينقل الماء إليها ، وقال آخرون يجب عليه كما يجب عليه ماء الشرب والجامع ان كل واحد منهما مما لا بد منه. والأول عندي أقرب» انتهى. والمفهوم من كلام الذكرى الثاني وهو الوجوب على الزوج مطلقا ، قال (رحمه‌الله) : «ماء الغسل على الزوج في الأقرب لأنه من جمله النفقة فعليه نقله إليها ولو بالثمن أو تمكينها من الانتقال اليه ، ولو احتاج

١٣٦

الى عوض كالحمام فالأقرب وجوبه عليه ايضا مع تعذر غيره دفعا للضرر ، ووجه العدم ان ذلك مؤنة التمكين الواجب عليها. وربما فرق بين غسل الجنابة وغيره إذا كان سبب الجنابة من الزوج. واما الأمة فالأقرب أنها كالزوجة لانه مؤنة محضة ، وانتقالها الى التيمم مع وجود الماء بعيد. وحمله على دم التمتع قياس من غير جامع ، ويعارض بوجوب فطرتها فكذا ماء طهارتها» انتهى. والمسألة عندي محل توقف ، لعدم النص الذي هو المعتمد في الأحكام وتدافع التعليلات المذكورة ، مع عدم صلاحيتها لو سلمت من ذلك لتأسيس الأحكام الشرعية.

(المسألة الرابعة) يكره للجنب أمور (الأول) ـ الأكل والشرب ما لم يتمضمض ويستنشق على المشهور بل قال في التذكرة انه مذهب علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، ونقل عن ابن زهرة دعوى الإجماع على ذلك ، وفي المعتبر انه مذهب الخمسة واتباعهم ، وقال الصدوق في الفقيه : «والجنب إذا أراد ان يأكل أو يشرب قبل الغسل لم يجز له الا ان يغسل يديه ويتمضمض ويستنشق ، فإنه ان أكل أو شرب قبل ان يفعل ذلك خيف عليه من البرص» وظاهره التحريم ثم قال : «وروى ان الأكل على الجنابة يورث الفقر» (١).

والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله (٢) قال : «قلت للصادق (عليه‌السلام) أيأكل الجنب قبل ان يتوضأ؟ قال : انا لنكسل ولكن ليغسل يده والوضوء أفضل». قال في الوافي بعد ذكر هذا الخبر : «هكذا يوجد في النسخ ويشبه ان يكون مما صحف وكان «انا لنغتسل» لأنهم (عليه‌السلام) أجل من ان يكسلوا في شي‌ء من عبادات ربهم عزوجل» انتهى. أقول : لا يخفى ان الخبر المذكور على ما رواه المحدثون ونقله الأصحاب في كتب الفروع انما هو بلفظ «نكسل» والظاهر ان المراد به انما هو مطلق

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٠ من أبواب الجنابة.

١٣٧

الناس بمعنى ان الناس ليكسلون وان عبر عن ذلك بصيغة تشمله (عليه‌السلام) وغيره ، ونظيره ما روى عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) (١) من قوله : «اني اكره السلام على المرأة الشابة مخافة ان يعجبني صوتها». فان الظاهر ان مراده انما هو منع الناس عن ذلك خوفا مما ذكره ، لان عصمته تمنع من حمل هذا اللفظ على ظاهره فكذا ما نحن فيه. واما ما احتمله بعض المحققين من متأخري المتأخرين من ان قوله : «لنكسل» يعني عن الأكل ولم نتسارع اليه قبل الغسل فالظاهر بعده سيما بالنظر الى الاستدراك ب «لكن» بعد هذا الكلام.

وما رواه الشيخ في الصحيح أو الحسن عن زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (٢) قال : «الجنب إذا أراد ان يأكل ويشرب غسل يده وتمضمض وغسل وجهه وأكل وشرب».

وما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح عن عبيد الله بن علي الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «إذا كان الرجل جنبا لم يأكل ولم يشرب حتى يتوضأ».

وبإسناده عن الحسين بن زيد عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم‌السلام) (٤) في حديث المناهي المذكور في آخر كتاب الفقيه قال : «نهى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الأكل على الجنابة وقال انه يورث الفقر».

وما رواه في الكافي عن السكوني عن الصادق (عليه‌السلام) في حديث (٥) قال : «لا يذوق الجنب شيئا حتى يغسل يديه ويتمضمض فإنه يخاف منه الوضح». أقول : الوضح البرص.

وفي الفقه الرضوي (٦) قال (عليه‌السلام): «وإذا أردت أن تأكل على جنابتك فاغسل يديك وتمضمض واستنشق ثم كل واشرب الى ان تغتسل ، فإن أكلت أو شربت قبل ذلك أخاف عليك البرص ولا تعود الى ذلك». انتهى

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٤٨ من أبواب العشرة.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) رواه في الوسائل في الباب ٣٠ من أبواب الجنابة.

(٦) ص ٤.

١٣٨

ومما يدل على ان المراد بهذه الأخبار الكراهة ما رواه في الكافي في الموثق عن ابن بكير (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الجنب يأكل ويشرب ويقرأ القرآن؟ قال : نعم يأكل ويشرب ويقرأ ويذكر الله عزوجل ما شاء».

والمفهوم من هذه الاخبار بضم بعضها الى بعض هو ما ذكره الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) من كراهية الأكل والشرب وانها تزول بما ذكر فيها ، وقال في المدارك ـ بعد ان نقل صحيحة عبد الرحمن بن ابى عبد الله أولا ثم صحيحة زرارة ـ ما لفظه : «ومقتضى الرواية الأولى استحباب الوضوء لمريد الأكل والشرب أو غسل اليد خاصة ، ومقتضى الرواية الثانية الأمر بغسل اليد والوجه والمضمضة ، وليس فيهما دلالة على كراهة الأكل والشرب بدون ذلك ، ولا على توقف زوال الكراهة على المضمضة والاستنشاق أو خفتها بذلك» وجرى على منواله في الذخيرة كما هي قاعدته غالبا.

أقول : لما كان نظر السيد المذكور مقصورا على صحاح الاخبار اقتصر على هاتين الصحيحتين وهما وان أوهما ما ذكره الا ان جملة ما عداهما مما قدمناه ولا سيما عبارة كتاب الفقه الرضوي ظاهر فيما ذكره الأصحاب ، فيجب تقييد هاتين الصحيحتين بها ، والعجب منه انه خفي عليه الوقوف على صحيحة الحلبي المروية في الفقيه وهي صحيحة صريحة في كراهة الأكل والشرب بدون ذلك.

بقي الكلام في ان صحيحة زرارة قد دلت على غسل اليد والمضمضة وغسل الوجه وصحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله دلت على الوضوء أو غسل اليد وان الأول أفضل وصحيحة الحلبي دلت على الوضوء خاصة ، ورواية السكوني دلت على غسل اليد والمضمضة وكتاب الفقه على غسل اليد والمضمضة ، والاستنشاق غير موجود إلا في عبارة هذا الكتاب ، والظاهر ان الصدوق في عبارته المتقدمة إنما أخذه منه وتبعه الأصحاب في عبائرهم ، والظاهر ترتب هذه الأمور في الفضل وزوال الكراهة بها بان يكون أكمل

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٩ من أبواب الجنابة.

١٣٩

الجميع الوضوء ثم غسل اليد والمضمضة والاستنشاق وغسل الوجه ثم الثلاثة الأول ثم الأولين خاصة وهو ادنى المراتب ، والمفهوم من كلام الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) انه بهذه الأمور ترتفع الكراهة ويزول المحذور المذكور في النصوص ، وظاهر عبارة الشرائع بقاء الكراهة وان كانت تخف بهذه الأشياء ، ويمكن ان يستدل له بما تقدم من الروايتين على ان الأكل على الجنابة يورث الفقر ، فإنه بالوضوء ونحوه من تلك الأمور لا يخرج عن كونه جنبا ، الا انه يمكن تقييد إطلاقهما بالأخبار الأخر بمعنى انه يورث الفقر ما لم يأت بالوضوء ونحوه من تلك الأشياء المذكورة في الاخبار.

وهل يكفي الإتيان بالأمور المذكورة مرة واحدة ، أو لا بد ان يكون عند كل أكل مع الفصل بالمعتاد بين الاكلين ، أو مع تخلل الحدث ، أو مع التعدد عرفا؟ احتمالات وإطلاق الاخبار يؤيد الأول وان كان الأخير أحوط. والله العالم.

(الثاني) ـ النوم حتى يغتسل أو يتوضأ ، فأما ما يدل على جواز النوم وهو جنب بدون الوضوء والغسل فهو ما رواه الشيخ (رحمه‌الله) في الصحيح عن سعيد الأعرج (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : ينام الرجل وهو جنب وتنام المرأة وهي جنب». واما ما يدل على الكراهة فصحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يواقع أهله أينام على ذلك؟ قال ان الله تعالى يتوفى الأنفس عند منامها ولا يدري ما يطرقه من البلية ، إذا فرغ فليغتسل.». واما ما يدل على انتفاء الكراهة مع الوضوء فهو ما رواه الصدوق في الصحيح عن عبيد الله الحلبي (٣) قال «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل أينبغى له ان ينام وهو جنب؟ قال : يكره ذلك حتى يتوضأ». قال وفي حديث آخر «انا أنام على ذلك حتى أصبح وذلك اني أريد أن أعود». ومما يدل على الثلاثة ما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة (٤) قال : «سألته عن الجنب يجنب ثم يريد النوم. قال : ان أحب ان يتوضأ فليفعل

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ٢٥ من أبواب الجنابة.

١٤٠