الحدائق الناضرة - ج ٣

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٣

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٨

الاغتسال بالأخبار التي تقدمت الإشارة إليها ، فإن خالف واغتسل أولا ، فإن زالت النجاسة بماء الغسل ارتفعت النجاستان الحدثية والخبثية ، والا فالحدثية خاصة واحتاج في إزالة الخبثية إلى غسل آخر ، وهذا لا ينافي ما يستفاد من الاخبار المشار إليها ، فإن غايته القول بوجوب إزالة النجاسة ثم الغسل بعد ذلك ، ولا يلزم ان يكون منهيا عن تقديم الغسل أو المقارنة إلا على تقدير القول باقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن ضده الخاص ، وهو مما لم يقم عليه دليل ، ومع تسليمه فلا يلزم من النهي هنا ايضا بطلان الغسل ، لأن النهي لم يتوجه إلى العبادة ولا إلى جزئها ولا شرطها بل الى خارجها اللازم ، فلم يبق للبطلان وجه الا ما ادعوه مما عرفت بطلانه آنفا.

والى هذا القول مال جملة من متأخري المتأخرين : منهم ـ الفاضل الخوانساري في شرح الدروس حيث قال بعد نقل عبارة المبسوط ما ملخصه : وهذا يدل على ان طهارة المحل ليست شرطا في الغسل ، وعلى ان الغسل الواحد يجزئ عن رفع الحدث والخبث معا. وما ذكره هو الظاهر : (اما الأول) فلأن الأمر بالاغتسال مطلق والتقييد بطهارة المحل خلاف الظاهر. نعم لا بد من وصول الماء إلى البشرة فيجب ان لا يكون للنجاسة عين مانع عن الوصول ، اما إذا لم يكن لها عين أو كان ولم يكن مانعا فلا دليل على بطلانه ، وان لم يطهر بصب الماء للغسل كما إذا كان لها عين غير مانع ولم تزل أو لم يكن لها عين ولكن لا بد في تطهيرها من الصب مرتين. و (اما الثاني) فلمثل ذلك أيضا ، لأن الأمر بالاغتسال مطلق وكذا الأمر بالتطهير ، فإذا صب الماء على العضو فقد امتثل الأمرين ، فلو كانت النجاسة مما يكفيه صب واحد فقد ارتفع الحدث والخبث ، وان لم يكفها صب واحد بل لا بد فيها من مرتين كما إذا كانت بولا فيحسب هذا الصب بواحد ويجب صب آخر ، واما النجاسة الحكمية فقد ارتفعت بالصب الأول. انتهى.

أقول : والتحقيق عندي في هذا المقام ان يقال لا ريب ان ما ادعوه ـ من وجوب إزالة الخبثية ثم الغسل بعد ذلك وان ماء الغسل لا يجزئ لهما متى زال عين النجاسة الخبثية

١٠١

فلا دليل عليه ، وأضعف منه ما ادعوه من تعدد المسببات بتعدد الأسباب ، فيبقى ما ذكره الشيخ (رحمه‌الله) سالما مما ذكروه. نعم يبقى الاشكال فيما ذكره (قدس‌سره) من وجه آخر ، وهو انهم قد أجمعوا إلا من شذ على نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، والمشهور بينهم نجاسة الغسالة من الخبث ، وقد أجمعوا أيضا من غير خلاف يعرف على ان ما كان نجسا قبل التطهير لا يكون مطهرا ، فبناء على هذه المقدمات الثلاث متى اغتسل المكلف وعلى بدنه نجاسة لم تزل عنه بالغسل وان كانت لا تمنع من وصول الماء إلى البشرة أو زالت عينها من ذلك الموضع الى موضع آخر أو زالت عينها بالكلية ولكن تعدت غسالتها الى موضع آخر من البدن ، فالقول بصحة الغسل هنا بناء على هذه المقدمات الثلاث مشكل جدا ، لان الماء بملاقاة النجاسة لا ريب في تنجسته بناء على المقدمة الاولى وحينئذ فإن طهر ذلك الموضع الذي فيه النجاسة إذ لا منافاة عندنا بين نجاسته بالملاقاة وتطهيره كما تقدم تحقيقه في مسألة نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، الا انه بعد التعدي عن ذلك الموضع الى موضع آخر خال من النجاسة يكون منجسا له بمقتضى المقدمة الثانية ، والماء النجس لا يرفع حدثا ، ولو بنى الحكم على طهارة الغسالة أو عدم انفعال القليل بالملاقاة زال الاشكال ، والشيخ (رحمه‌الله) وان لم يقل بعدم نجاسة القليل بالملاقاة الا أنه قائل بطهارة الغسالة فيتجه كلامه هنا بناء على ذلك. واما ما ذكره الفاضل المتقدم ذكره في توجيه كلام الشيخ فهو جيد ان وافق على ما ذكرنا ، والا فالنظر متوجه اليه حسبما شرحناه.

وصرح العلامة في النهاية بالاكتفاء بغسلة واحدة لكل من إزالة النجاسة الحدثية والخبثية فيما إذا كان الغسل فيما لا ينفعل بالملاقاة كالكثير ، وفي القليل بشرط ان تكون النجاسة في آخر العضو فإن الغسلة تطهره. وهو جيد بناء على القول بنجاسة الغسالة كما هو مذهبه (رحمه‌الله).

واعترضه الشيخ علي في شرح القواعد فقال بعد نقل ذلك عنه : «والتحقيق ان محل الطهارة ان لم يشترط طهارته أجزأ الغسل مع وجود عين النجاسة وبقائها في جميع

١٠٢

الصور ، ولا حاجة الى التقييد بما ذكره ، خصوصا على ما اختاره من ان القليل الوارد انما ينجس بعد الانفصال ، وان اشترط طهارة المحل لم تجزئ غسلة واحدة لفقد الشرط ، والشائع على السنة الفقهاء هو الاشتراط فالمصير اليه هو الوجه» انتهى.

أقول : فيه ان ما ذكره على تقدير عدم الاشتراط من اجزاء الغسل مع وجود عين النجاسة على إطلاقه ممنوع بناء على ما ذكرنا من المقدمات المتقدمة ، فإنه متى حكم بنجاسة الماء القليل بالملاقاة ونجاسة الغسالة فكيف يجزئ الغسل مع تعدي الغسالة إلى سائر أجزاء البدن؟ والكلام ليس في خصوص موضع النجاسة كما يشير اليه قوله : «خصوصا على ما اختاره. إلخ» ومن أجل ما ذكرناه التجأ في النهاية إلى قصر التطهير وصحة الغسل بغسلة واحدة على الغسل في الماء الكثير الذي لا ينفعل بالملاقاة وفي القليل بالشرط الذي ذكره. نعم يأتي بناء على ما ادعوه من وجوب تعدد المسبب بتعدد السبب العدم ، ولهذا ان شيخنا في الذكرى بناء على القاعدة المذكورة صرح بعدم الاكتفاء بالمرة في الكثير لازالة حدث الجنابة والنجاسة الخبثية ، قال : لأنهما سببان فيتعدد حكمهما. وفيه ما عرفت. والله العالم.

المقصد الرابع

في الآداب. ومنها ما هو مقدم ومنها ما هو مقارن ، وهي أمور :

(الأول) ـ البول مع إمكانه على المشهور بين المتأخرين ، وبه صرح المرتضى وابن إدريس والعلامة ومن تأخر عنه ، وقيل بالوجوب ، ونقله في الذكرى عن جمع من متقدمي الأصحاب : منهم ـ الشيخ في المبسوط وابن حمزة وابن زهرة والكيدري وابن البراج في الكامل وأبو الصلاح وظاهر صاحب الجامع ، وفي من لا يحضره الفقيه : «من ترك البول على اثر الجنابة أو شك تردد بقية الماء في بدنه فيورثه الداء الذي لا دواء له» قال في الذكرى : «وهو مروي في الجعفريات عن النبي (صلى الله

١٠٣

عليه وآله)» (١) وفي عبائر جملة منهم كالشيخ المفيد والجعفي وابني بابويه وابن البراج في غير الكتاب المتقدم وابن الجنيد (رحمه‌الله) الأمر بذلك.

ونقل في المختلف عن الشيخ انه احتج بالأحاديث الدالة على وجوب الغسل مع وجود البلل (٢) ثم أجاب بأنها غير دالة على محل النزاع فانا نسلم انه يجب عليه مع وجود البلل اعادة الغسل. واحتج في المختلف للاستحباب بالأصل ، وبقوله عزوجل : «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...» (٣) ولم يوجب الاستبراء. وقال في الذكرى : «ولا بأس بالوجوب محافظة على الغسل من طريان مزيله ، ومصيرا الى قول معظم الأصحاب ، وأخذا بالاحتياط» انتهى وفي البيان حكم بأن الأصح الاستحباب.

أقول : اما ما ذكره الشيخ (رحمه‌الله) ـ من الاستدلال بالأخبار المشار إليها كما صرح به في الاستبصار ـ ففيه ما ذكره في المختلف ، فان وجوب الإعادة بدون الاستبراء لا دلالة له على أصل وجوب الاستبراء بوجه. واما ما ذكره في الذكرى من قوله : «ولا بأس بالوجوب. إلخ» فإن كان المراد منه اختيار القول بالوجوب كما هو ظاهر كلامه فهذه الوجوه التي ذكرها لا تصلح دليلا له كما لا يخفى ، وان أراد ان الاحتياط في ذلك فلا ريب فيه.

والأظهر الاستدلال على ذلك بما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح أو الحسن عن احمد بن محمد بن ابي نصر البزنطي (٤) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة. قال تغسل يدك اليمنى من المرفقين إلى أصابعك ، وتبول ان قدرت على البول ، ثم تدخل يدك في الإناء ثم اغسل ما أصابك منه. الحديث».

ومضمرة أحمد بن هلال المتقدمة في المقصد الثاني (٥) قال : «سألته عن رجل

__________________

(١) ص ٢١.

(٢ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب الجنابة.

(٣) سورة المائدة. الآية ٦.

(٤) رواه في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

١٠٤

اغتسل قبل ان يبول فكتب : ان الغسل بعد البول الا ان يكون ناسيا فلا يعيد منه الغسل».

وفي الفقه الرضوي (١) «فإذا أردت الغسل من الجنابة فاجتهد ان تبول حتى تخرج فضلة المني التي في إحليلك ، وان جهدت ولم تقدر على البول فلا شي‌ء عليك وتنظف موضع الأذى منك. إلخ». وبصدر هذه العبارة عبر ابنا بابويه على ما نقل عنهما

والظاهر انه على هذه الاخبار اعتمد المتقدمون فيما صرحوا به من الوجوب أو ذكر الأمر بذلك في كلامهم ، ولا سيما الشيخ علي بن بابويه في رسالته ، فإنها إلا الشاذ النادر منقولة من الفقه الرضوي كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى في المباحث الآتية من هذا الكتاب ، والصدوق في الفقيه كثيرا ما يعبر ايضا بعبارات الكتاب من غير استناد ولا نسبة الى الرواية ، وعبارة الكتاب المذكور هنا ظاهرة في الوجوب للأمر بذلك الذي هو حقيقة في الوجوب كما أوضحناه في مقدمات الكتاب ، ونحوها صحيحة البزنطي وان كان الأمر فيها بالجملة الفعلية ، لما حققنا ثم ايضا من انه لا اختصاص للوجوب بمفاد صيغة الأمر بل كل ما دل على الطلب ، كما هو مقتضى الآيات القرآنية والأحاديث المعصومية حسبما تقدم تحقيقه في الموضع المشار اليه ، وبذلك يندفع ما أورده بعضهم على الاستدلال بالرواية لذلك. وما ربما يورد عليها ايضا ـ من ان ورود الأمر بذلك في قرن هذه المستحبات يؤذن بالاستحباب ـ فهو مردود بان الأمر حقيقة في الوجوب ، وقيام الدليل على خلافه في بعض الأوامر لا يستلزم انسحابه الى ما لا معارض له ولا دليل على خلافه كما صرحوا به ، وهل هو الا من قبيل العام المخصوص فإنه يصير حجة في الباقي ، وبما ذكرناه يظهر قوة ما ذهب اليه المتقدمون (رضوان الله عنهم) ويظهر ضعف ما ذكره في المختلف من الاستناد في الاستحباب الى الأصل ، فإنه يجب الخروج عنه بالدليل ، والآية مطلقة يجب تقييدها ايضا به كما وقع لهم في غير مقام.

بقي الكلام هنا في موضعين (الموضع الأول) ـ انه هل ينسحب الحكم الى

__________________

(١) ص ٣.

١٠٥

المرأة فيجب أو يستحب لها البول أيضا أم لا؟ قولان ، ظاهر المقنعة والنهاية الأول ، حيث قال في المقنعة : «ينبغي للمرأة ان تستبرئ نفسها قبل الغسل بالبول ، فان لم يتيسر لها ذلك لم يكن عليها شي‌ء» وقال في النهاية بعد ذكر الرجل وانه يستبرئ نفسه بالبول : «وكذلك تفعل المرأة» وظاهر العلامة ومن تأخر عنه الثاني ، قال في المختلف ـ بعد ان نقل عن الشيخ في الجمل تخصيص الحكم بالرجل ـ ما صورته : «وهو الحق لأن المراد منه استخراج المتخلف من بقايا المني في الذكر ، وهذا المعنى غير متحقق في طرف المرأة ، لأن مخرج البول ليس هو مخرج المني فلا معنى لاستبرائها» انتهى.

والأجود الاستناد في ذلك الى عدم الدليل الذي هو دليل على العدم ، والإلحاق بالرجل قياس مع الفارق ، ولان الغرض من الاستبراء ـ كما يفهم من الاخبار ـ انما هو لعدم اعادة الغسل ومورد الأخبار المذكورة انما هو الرجل ، ويعضده ان يقين الطهارة لا يرتفع بالشك ، والرجل قد خرج بالنصوص الصحيحة الصريحة فتبقى المرأة لعدم الدليل وحينئذ فما تجده المرأة من البلل المشتبه لا يترتب عليه حكم.

وأورد على ما ذكره العلامة من عدم ترتب الفائدة عليه لتغاير المخرجين بأنه يمكن ان يعصر البول بعد خروجه مخرج المني فيخرجه ، مع ان الحال في الرجل ايضا كذلك لان مخرج منيه غير مخرج بوله إلا أنهما أشد تقاربا من مخرجي المرأة ، ومن أجل ذلك انا ضربنا صفحا عن الاعتماد عليه وان أمكن الجواب عنه بالفرق بين مخرجي الرجل والمرأة ، لاشتراك مخرجي الرجل في نفس الذكر ومخرج الجميع من مخرج واحد ، بخلاف مخرجي المرأة فإنهما مفترقان الى وقت الخروج ، فالحكم هنا ـ بعصر البول عند خروجه لمخرج المني كما ادعاه القائل المذكور ـ غير معلوم.

واما ما ذكره صاحب رياض المسائل ـ من التوقف في هذه المسألة لإطلاق قوله (عليه‌السلام) في مضمرة أحمد بن هلال (١) : «ان الغسل بعد البول». وان خصوص

__________________

(١) ص ١٠٤.

١٠٦

السؤال عن الرجل لا يخصص ومن حيث خصوص أكثر الروايات المشتملة على حكمه الأمر به وهو اعادة الغسل لو وقع قبله عند خروج بلل مشتبه بعده بالرجل ، مع التصريح في البعض بالفرق بينهما بالإعادة فيه دونها معللا بان ما يخرج من المرأة إنما هو من ماء الرجل ـ فلا يخفى ما فيه : (اما أولا) ـ فلان الاستناد الى هذا الإطلاق الذي ذكره وان خصوص السؤال عن الرجل لا يخصص انما يتم لو كان الجواب مقصورا على هذه العبارة التي ذكرها ، ولكن الضمائر الواقعة في الجواب بعدها لا مرجع لها الا الرجل المذكور في السؤال ، وحينئذ فما ادعاه من الإطلاق غير تام بل الجواب ظاهر في خصوص الرجل المسؤول عنه ، واحتمال عود الضمير الى المغتسل المفهوم من قوله : «ان الغسل» خلاف الظاهر.

و (اما ثانيا) ـ فلما في متن هذه الرواية من العلة زيادة على ضعف سندها بالراوي المذكور ، حيث ان ظاهرها يشعر بأنه لو تعمد الغسل قبل البول فإنه يعيد الغسل فان تقدير الكلام باعتبار إضمار المستثنى منه في قوة أن يقال : الغسل بعد البول فلا يصح قبله الا ان يكون ناسيا فإنه يصح ولا يعيد الغسل منه. وهو باطل إجماعا نصا وفتوى.

و (اما ثالثا) ـ فلان الأصل العدم ، ويعضده ما ذكره في الوجه الثاني من خصوص الروايات المشتملة على حكمه الأمر به المعتضدة بالتصريح بالفرق بين ما يخرج من الرجل وما يخرج من المرأة ، والرواية التي ذكرها لا تبلغ قوة المعارضة لشي‌ء من ذلك متنا وسندا بل هي ساقطة مرجوعة إلى قائلها ، وبذلك يظهر قوة القول المشهور.

هذا كله فيما إذا لم يعلم ان الخارج مني ، والا فلو علم فالذي دل عليه موثق سليمان بن خالد المتقدم (١) ان الذي يخرج منها انما هو مني الرجل ، وقطع ابن إدريس

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ١٣ من أبواب الجنابة.

١٠٧

بوجوب الغسل عليها في الصورة المذكورة ولم يعمل بالرواية لعموم «الماء من الماء» (١). ولا يخفى ضعفه. فان حديثه عام أو مطلق وهذا خاص أو مقيد ومقتضى القاعدة تقديم العمل به.

(الموضع الثاني) ـ لو أجنب ولم ينزل فهل يستحب ايضا له الاستبراء بالبول أم لا؟

ظاهر جملة من الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) الثاني ، قال في المنتهى : «لو جامع ولم ينزل لم يجب عليه الاستبراء ، ولو رأى بللا يعلم انه مني وجب عليه الإعادة ، اما المشتبه فلا لأنا إنما حكمنا هناك بكون البلل منيا بناء على الغالب من استخلاف الاجزاء بعد الانزال ، وهذا المعنى غير موجود مع الجماع الخلي من الانزال» وبذلك صرح الشهيدان والمحقق الشيخ علي (رحمهم‌الله) قال في الذكرى : «انما يجب الاستبراء أو يستحب ويتعلق به الأحكام للمنزل ، اما المولج بغير إنزال فلا لعدم سببه. هذا مع تيقن عدم الانزال ، ولو جوزه أمكن استحباب الاستبراء أخذا بالاحتياط ، اما وجوب الغسل بالبلل فلا. لان اليقين لا يرفع بالشك» انتهى.

واعترضهم في الذخيرة فقال : «ويرد عليهم عموم الروايات كما ستطلع عليه من غير تفصيل ، وانتفاء الفائدة ممنوع إذ عسى ان ينزل ولم يطلع عليه واحتبس شي‌ء في المجاري لكون الجماع مظنة نزول الماء» انتهى.

أقول : لا ريب في ان الروايات في هذه المسألة وان كانت مطلقة كما ذكره الا ان إطلاقها انما وقع من حيث معلومية الحكم وظهوره ، فإنه لا يخفى على ذي مسكة ان المستفاد من الاخبار المذكورة ان العلة في الأمر بالبول هو تنقية المخرج لئلا يخرج بعد ذلك شي‌ء يوجب اعادة الغسل ، ولا يعقل لاستحباب البول بمجرد الإيلاج سيما مع تيقن عدم الانزال وجه وان شمله إطلاق الاخبار المذكورة. واما قوله : «وعسى ان ينزل.»

__________________

(١) هذا مضمون الروايات الدالة على ان الغسل من الماء الأكبر المروية في الوسائل في الباب ٧ و ٩ من أبواب الجنابة ، وقد ورد هذا اللفظ في صحيحة زرارة المتقدمة ص ٦ حكاية عن الأنصار.

١٠٨

ففيه أن الإنزال مقرون بعلامات موجبة للعلم به مثل الشهوة وفتور الجسد والدفق ونحوها ، وفرض ما ذكره ـ مع كونه من النادر الذي لا تبنى عليه الأحكام الشرعية ـ لا يوجب قصر الحكم عليه ، فلا يكون ما ذكره من الحكم كليا وهو خلاف ظاهر كلامه. وبالجملة فإن خروج الاخبار في هذا المقام مطلقة انما هو من حيث معلومية ذلك

(الثاني) ـ غسل اليدين ان لم يصبهما قذر قبل إدخالهما الإناء إذا كان الغسل منه ، كما هو المعروف في الأزمنة السابقة وبه وردت الاخبار ، وان استحباب ذلك ثابت إجماعا فتوى ورواية.

ويجزئ غسل الكفين من الزندين كما اشتمل عليه أكثر الاخبار وهو المشهور ، ونقل في الذكرى عن الجعفي أنه يغسلهما الى المرفقين أو الى نصفهما لما فيه من المبالغة في التنظيف والأخذ بالاحتياط :

ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «سألته عن غسل الجنابة. فقال : تبدأ بكفيك فتغسلهما ثم تغسل فرجك. الحديث».

وفي موثقة أبي بصير (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة. فقال : تصب على يديك الماء فتغسل كفيك ثم تدخل يدك فتغسل فرجك. الحديث».

وفي صحيحة زرارة (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة فقال : تبدأ فتغسل كفيك.».

ويجزئ غسل الكف الأيمن كما تضمنته صحيحة حكم بن حكيم (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة. فقال : أفض على كفك اليمنى من الماء فاغسلها. الحديث».

والأفضل دون المرفق كما تضمنته موثقة سماعة (٥) عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «إذا أصاب الرجل جنابة فأراد الغسل فليفرغ على كفيه فليغسلهما دون المرفق.».

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

١٠٩

أو الى نصف الذراع كما تشعر به رواية يونس عنهم (عليهم‌السلام) (١) المتضمنة لغسل الميت وانه يغسل يده ثلاث مرات كما يغتسل الإنسان من الجنابة الى نصف الذراع.

والا كمل من المرفق لما تضمنته صحيحة يعقوب بن يقطين عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (٢) «يبدأ فغسل يديه الى المرفقين قبل ان يغمسهما في الماء.». وصحيحة أحمد ابن محمد بن ابي نصر (٣) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة فقال : تغسل يدك اليمنى من المرفقين إلى أصابعك وتبول. الحديث». وقد تقدم قريبا ، ورواية قرب الاسناد عن احمد بن محمد بن عيسى عن احمد بن محمد بن ابي نصر عن الرضا (عليه‌السلام) (٤) انه قال في غسل الجنابة : «تغسل يدك اليمنى من المرفق إلى أصابعك.». والظاهر ان تثنية المرفق وافراد اليد في الرواية الثانية من سهو قلم الشيخ (رحمه‌الله) ورواية الحميري تؤيد الأول ، قال في الوافي بعد نقل الخبر المذكور : «وفي بعض النسخ تغسل يديك الى المرفقين وهو الصواب».

وتكفي المرة والأفضل الثلاث لصحيحة الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (٥) قال : «سأل كم يفرغ الرجل على يده قبل ان يدخلها في الإناء؟ قال : واحدة من حدث البول وثنتين من الغائط وثلاثا من الجنابة». وروى في الفقيه مرسلا قال قال الصادق (عليه‌السلام) (٦) : «اغسل يدك من البول مرة ومن الغائط مرتين ومن الجنابة ثلاثا». ورواية حريز عن الباقر (عليه‌السلام) (٧) قال : «يغسل الرجل يده من النوم مرة ومن الغائط والبول مرتين ومن الجنابة ثلاثا». وفي الفقه الرضوي (٨) «وتغسل يديك الى المفصل ثلاثا قبل ان تدخلهما الإناء وتسمى بذكر الله تعالى قبل إدخال يدك

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٢ من أبواب غسل الميت.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٣٤ من أبواب الجنابة.

(٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

(٥ و ٦ و ٧) المروية في الوسائل في الباب ٢٧ من أبواب الوضوء.

(٨) ص ٣.

١١٠

الإناء». ومن المحتمل قريبا تعين الثلاث. فإنه لا دليل للمرة إلا إطلاق الاخبار المتقدمة ويمكن تقييده بهذه الروايات.

وهل الحكم مختص بالغسل من الإناء الواسع الرأس القليل الماء ، أو ينسحب الى الارتماس والغسل تحت المطر أو من إناء يصب عليه ونحو ذلك؟ ظاهر الاخبار الأول ، وصرح العلامة بالثاني محتجا بأنه من سنن الغسل ، قال في الذخيرة بعد نقل ذلك عنه : «وهو حسن لعموم صحيحة زرارة وصحيحة محمد بن مسلم وصحيحة حكم ابن حكيم ورواية أبي بكر الحضرمي» (١) وفيه ان سياق أكثر روايات الغسل بل روايات الوضوء ايضا ظاهر في كون الطهارة انما هي من الأواني الواسعة الرأس القليلة الماء كالطشوت ونحوها ، وما أطلق وأجمل منها وهو القليل يحمل على المقيد والمبين ، والقول بعموم الاستحباب ـ كما ذكر ـ يحتاج الى دليل واضح وليس فليس. والله العالم.

(الثالث) ـ المضمضة والاستنشاق ومحلهما بعد إزالة النجاسة كما يفهم من الاخبار

ففي صحيحة زرارة عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) «تبدأ فتغسل كفيك ثم تفرغ بيمينك على شمالك فتغسل فرجك ومرافقك ثم تمضمض واستنشق.».

وفي رواية أبي بصير عنه (عليه‌السلام) (٣) «تصب على يديك الماء فتغسل كفيك ثم تدخل يدك فتغسل فرجك ثم تتمضمض وتستنشق.».

وحملتا على الاستحباب جمعا بينهما وبين ما تقدم في المسألة الثامنة من المقصد المتقدم (٤) من الأخبار الدالة على نفيهما في الغسل بحملها على نفي الوجوب كما تقدمت الإشارة اليه.

والمشهور استحباب التثليث مقدما لثلاث الاولى على الثانية ، وجملة منهم ذكروا الحكم المذكور هنا وفي الوضوء ولم يوردوا له دليلا ، وبعضهم اعترف بعدم الوقوف على

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣٤ من أبواب الجنابة.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

(٤) ص ٩١.

١١١

الدليل في الموضعين ، والذي وقفت عليه من الدليل هنا ما ذكره في الفقه الرضوي (١) حيث قال (عليه‌السلام): «وقد نروى أن يتمضمض يستنشق ثلاثا ويروى مرة مرة تجزيه وقال الأفضل الثلاث وان لم يفعل فغسله تام». واما الوضوء فقد تقدم دليله (٢).

(الرابع) ـ التسمية على ما ذكره جملة من الأصحاب ، وأسندها في الذكرى الى الجعفي ، قال : «وقال الشيخ المفيد (رحمه‌الله) : يسمى الله عزوجل عند اغتساله ويمجده ويسبحه. ونحوه قال ابن البراج في المهذب ، والأكثر لم يذكروها في الغسل ، والظاهر انهم اكتفوا بذكرها في الوضوء تنبيها بالأدنى على الأعلى» انتهى. أقول : لا يخفى ما في هذا العذر من البعد ، بل الظاهر ان عدم ذكرهم لها انما هو لعدم وقوفهم على دليل لذلك ، ومن ذكرها فلعله وقف على الدليل.

واستدل في الذكرى على ذلك بإطلاق صحيحة زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (٣) قال : «إذا وضعت يدك في الماء فقل بسم الله وبالله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. فإذا فرغت فقل الحمد لله رب العالمين». وهذا الخبر انما أورده الأصحاب في الوضوء ولهذا ان صاحب رياض المسائل إنما استند في استحبابها الى الخبر العام ، والظاهر انه أشار به الى قوله (عليه‌السلام): «كل أمر لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» (٤). ثم قال : «ويتخير في جعلها عند غسل اليدين وعند المضمضة والاستنشاق وعند ابتداء غسل الرأس لصدق البدأة في الكل» أقول : ما ذكره من التخيير جيد بالنسبة

__________________

(١) ص ٣.

(٢) ج ٢ ص ١٦٢.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الوضوء.

(٤) في سفينة البحار ج ١ ص ٦٦٣ عن تفسير الإمام العسكري عن أمير المؤمنين (عليهما‌السلام) عن رسول الله (ص) في حديث «كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر». وفي عمدة القارئ ج ١ ص ٢٥ والجامع الصغير ج ١ ص ٩١ عن أبي هريرة عن رسول الله (ص) «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو اقطع».

١١٢

الى ما خرجه من الدليل ، والمستفاد من كلامه (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي ـ كما قدمنا ذكره قريبا ـ هو استحباب التسمية وان محلها قبل إدخال اليد في الإناء ، وهذا مما اختص ببيان دليله الكتاب المذكور. والله العالم.

(الخامس) ـ الدلك باليد ، ذكره الأصحاب (رض) وعللوه بما فيه من الاستظهار والمبالغة في إيصال ماء الغسل ، وقال في المعتبر انه اختيار علماء أهل البيت (عليهم‌السلام) وفي المنتهى انه مذهب أهل البيت ، وظاهر كلاميهما دعوى الإجماع عليه ، وظاهر كلام الجميع عدم الوقوف فيه على نص ، والحكم المذكور قد صرح به في الفقه الرضوي (١) فقال بعد ان ذكر صفة الغسل وانه يصب على رأسه ثلاث أكف وعلى جانبه الأيمن مثل ذلك وعلى جانبه الأيسر مثل ذلك الى ان قال : «ثم تمسح سائر بدنك بيديك وتذكر الله تعالى فإنه من ذكر الله تعالى على غسله وعند وضوئه طهر بدنه كله. الحديث».

أقول : لا ريب انه متى كان غسل الأعضاء الثلاثة انما هو بالأكف الثلاثة ونحوها كما تضمنه هذا الخبر وغيره ، فإنه لا يبعد وجوب الدلك ليحصل يقين إيصال الماء الى جميع البدن. وبالجملة فالحكم المذكور مما لا اشكال فيه ويشير إليه أيضا قوله في صحيحة زرارة عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) : «... ولو ان جنبا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك وان لم يدلك جسده».

(السادس) ـ تخليل ما يصل اليه الماء بدون التخليل استظهارا كالشعر الخفيف ومعاطف الأذنين والإبطين والسرة وعكن البطن في السمين وما تحت ثدي المرأة ونحو ذلك ، اما ما لا يصل اليه الماء بدون التخليل فإنه يجب تخليله كما تقدم ، ويشير الى الحكم المذكور ما تقدم في المسألة السادسة من سابق هذا المقصد (٣) من

__________________

(١) ص ٣.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

(٣) ص ٨٩.

١١٣

قوله (عليه‌السلام) في حسنة جميل : «ثم قال يبالغن في الغسل». وفي صحيحة محمد بن مسلم : «يبالغن في الماء». وفي الفقه الرضوي : «والاستظهار فيه إذا أمكن». ولا ينافي ذلك ما تقدم في المسألة السابعة من سابق هذا المقصد (١) في صحيحة إبراهيم بن ابي محمود ورواية إسماعيل بن ابي زياد ، فإن غاية ما تدلان عليه صحة الغسل مع عدم التخليل وهو لا ينافي استحبابه ، على انك قد عرفت ثمة ارتكاب التأويل فيهما. ونقل في الذكرى عن العلامة انه حكم باستحباب تخليل المعاطف والغضون ومنابت الشعر والخاتم والسير قبل إفاضة الماء للغسل ليكون أبعد عن الإسراف وأقرب الى ظن وصول الماء قال : وقد نبه عليه قدماء الأصحاب. انتهى. وفيه ما لا يخفى.

(السابع) ـ الدعاء لما رواه الشيخ (رحمه‌الله) عن عمار الساباطي (٢) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) إذا اغتسلت من جنابة فقل اللهم طهر قلبي وتقبل سعيي واجعل ما عندك خيرا لي اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ، وإذا اغتسلت للجمعة فقل اللهم طهر قلبي من كل آفة تمحق ديني وتبطل عملي اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين».

وما رواه عن محمد بن مروان عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «تقول في غسل الجمعة اللهم طهر قلبي من كل آفة تمحق ديني وتبطل عملي ، وتقول في غسل الجنابة اللهم طهر قلبي وزك عملي واجعل ما عندك خيرا لي». وفي كتاب المصباح (٤) تقول عند الغسل : «اللهم طهرني وطهر قلبي واشرح لي صدري وأجر على لساني مدحتك والثناء عليك اللهم اجعله لي طهورا وشفاء ونورا انك على كل شي‌ء قدير». وقال المفيد (رحمه‌الله) في المقنعة : «ويسمى الله تعالى عند اغتساله ويمجده ويسبحه ، فإذا فرغ من غسله فليقل اللهم طهر قلبي وزك عملي واجعل ما عندك خيرا لي اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» والظاهر حصول الامتثال بالدعاء حال الاغتسال

__________________

(١) ص ٩١.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٣٧ من أبواب الجنابة.

(٤) رواه في مستدرك الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

١١٤

وبعده والاخبار المذكورة لا تأباه ، وبذلك صرح شيخنا الشهيد في الذكرى فقال : «ولعل استحباب الدعاء للغسل شامل حال الاغتسال وبعده».

(الثامن) ـ الاستبراء بالاجتهاد على المشهور سيما بين المتأخرين ، وبه صرح المرتضى (رضي‌الله‌عنه) وابن إدريس ومن تأخر عنه ، ونقل عن الشيخ في المبسوط والجمل وجوبه وعبارته تدل على وجوب الاستبراء بالبول أو الاجتهاد على الرجل ، وظاهر هذا الكلام هو ان الواجب الاستبراء بالبول إن أمكن والا فبالاجتهاد ، وهو الظاهر من كلام الشيخ المفيد (رحمه‌الله) في المقنعة حيث قال : «وإذا عزم الجنب على التطهير بالغسل فليستبرئ بالبول ليخرج ما بقي من المني في مجاريه ، فان لم يتيسر له ذلك فليجتهد في الاستبراء بمسح ما تحت الأنثيين إلى أصل القضيب وعصره الى رأس الحشفة ليخرج ما لعله باق فيه من نجاسة» ونقل مثله ايضا عن ابن البراج. وعن ظاهر الجعفي وجوب البول والاجتهاد معا. وجملة من عبائر القائلين بالوجوب مجملة حيث صرحوا بوجوب الاستبراء ولم يفسروه بالبول أو الاجتهاد أو هما معا. وكيف كان فالظاهر هو القول المشهور وضعف القول المذكور ، لعدم الدليل عليه ، والدليل الذي أورده الشيخ على وجوب الاستبراء بالبول ـ وهو الروايات الدالة على وجوب اعادة الغسل بدونه (١) ـ لا يمكن الاستدلال به هنا سيما في صورة ما إذا بال. وبالجملة فإنا لم نقف في شي‌ء من اخبار الغسل على الأمر للمنزل بالاستبراء بالاجتهاد وانما ورد ذلك بعد البول.

وهل يستحب الاستبراء للمرأة أيضا؟ قولان.

واما كيفية الاستبراء بالاجتهاد فقد تقدم تحقيق القول فيه في بحث الوضوء (٢)

(التاسع) ـ الموالاة ذكرها جملة من متأخري الأصحاب ، وعللوه بما فيه من المبادرة إلى الواجب والتحفظ من طريان المفسد للغسل ، ولان المعلوم من صاحب الشرع وذريته المعصومين (صلوات الله عليهم) فعل ذلك ، وظاهر كلامهم الاتفاق

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب الجنابة.

(٢) ج ٢ ص ٥٦.

١١٥

على عدم وجوبها هنا بكل من المعنيين المذكورين في الوضوء ، وقد تقدم الكلام في ذلك في المسألة الثالثة من المسائل الملحقة بالمقصد المتقدم (١).

(العاشر) ـ الغسل بصاع ، وعليه إجماع علمائنا وأكثر العامة ، ونسب الى ابى حنيفة القول بوجوب الصاع (٢).

ويدل على الاستحباب ـ مضافا الى الإجماع ـ الروايات الدالة على الاكتفاء بمجرد الجريان ولو كالدهن ، ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٣) قال : «سألته عن غسل الجنابة. فقال تبدأ بكفيك فتغسلهما ، الى ان قال : ثم تصب على سائر جسدك مرتين فما جرى عليه الماء فقد طهر». وفي صحيحة زرارة أو حسنته (٤) قال : «قلت كيف يغتسل الجنب؟ فقال : ان لم يكن أصاب كفه شي‌ء ، الى ان قال : فما جرى عليه الماء فقد أجزأه». وفي صحيحته الأخرى (٥) «... وكل شي‌ء أمسسته الماء فقد أنقيته.». وفي موثقته ايضا (٦) «أفض على رأسك ثلاث أكف وعن يمينك وعن يسارك انما يكفيك مثل الدهن». وفي حسنة هارون بن حمزة الغنوي (٧) قال : «يجزيك من الغسل والاستنجاء ما بلت يدك». الى غير ذلك من الاخبار.

ومما يدل على استحباب الصاع هنا ما رواه في التهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار (٨) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : كان رسول الله (صلى الله

__________________

(١) ص ٨٣.

(٢) في المغني لابن قدامة الحنبلي ج ١ ص ٢٢٤ «حكى عن أبي حنيفة انه لا يجزئ دون الصاع في الغسل والمد في الوضوء» وفي بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ج ١ ص ٣٥ «ذكر في ظاهر الرواية أدنى ما يكفي في الغسل من الماء صاع وفي الوضوء مد ، وهذا التقدير غير لازم بحيث لا يجوز النقصان عنه والزيادة عليه بل هو لبيان ادنى الكفاية عادة حتى ان من أسبغ الوضوء والغسل بدون ذلك أجزأه».

(٣ و ٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ٢٦ من أبواب الجنابة.

(٦ و ٧) المروية في الوسائل في الباب ٣١ من أبواب الجنابة.

(٨) رواه في الوسائل في الباب ٣٢ من أبواب الجنابة.

١١٦

عليه وآله) يغتسل بصاع وإذا كان معه بعض نسائه يغتسل بصاع ومد». وعن زرارة في الصحيح عن الباقر (عليه‌السلام) (١) قال : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يتوضأ بمد ويغتسل بصاع ، والمدر طل ونصف والصاع ستة أرطال». قال الشيخ (رحمه‌الله) : «أراد به أرطال المدينة فيكون تسعة أرطال بالعراقي» وعن زرارة ومحمد بن مسلم وابي بصير في الصحيح عن الباقر والصادق (عليهما‌السلام) (٢) انهما قالا : «توضأ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بمد واغتسل بصاع ، ثم قال : اغتسل هو وزوجته بخمسة أمداد من إناء واحد. قال زرارة فقلت كيف صنع هو؟ فقال بدأ هو فضرب يده في الماء قبلها وأنقى فرجه ثم ضربت هي فأنقت فرجها ثم أفاض هو وأفاضت هي على نفسها حتى فرغا ، فكان الذي اغتسل به رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثلاثة أمداد والذي اغتسلت به مدين ، وانما أجزأ عنهما لأنهما اشتركا جميعا ومن انفرد بالغسل وحده فلا بد له من صاع».

أقول : قوله (عليه‌السلام) : «ومن انفرد بالغسل وحده فلا بد له من صاع» لا ينافي ما قدمنا من الاخبار ، لانه محمول على سنة الإسباغ جمعا بينه وبين الاخبار المتقدمة ، وبذلك صرح جملة من الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) قال شيخنا المفيد (رحمه‌الله) : «والغسل بصاع من الماء وقدره تسعة أرطال بالبغدادي ، وذلك إسباغ ودون ذلك مجزئ في الطهارة» وقال الشيخ في المبسوط : «والإسباغ بتسعة أرطال» وفي النهاية «والإسباغ يكون بتسعة أرطال من ماء» وفي الخلاف «الفرض في الغسل إيصال الماء الى جميع البدن وفي الوضوء إلى أعضاء الطهارة ، وليس له قدر لا يجوز أقل منه الا ان المستحب ان يكون الغسل بتسعة أرطال والوضوء بمد».

وهذه العبارات كلها ولا سيما عبارة الخلاف مطابقة للأخبار المتقدمة متوافقة في ان المجزئ هو ما صدق عليه الغسل وان نهاية ما يستحب من الزيادة لسنة الإسباغ هو

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٥٠ من أبواب الوضوء.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٣٢ من أبواب الجنابة.

١١٧

الصاع ، وبذلك يظهر لك ما في كلام العلامة في المنتهى وقبله المحقق في المعتبر من ان المستحب هو الصاع فما زاد ، قال في المعتبر في تعداد سنن الغسل : «والغسل بصاع فما زاد لا خلاف بين فقهائنا في استحبابه» وقال في المنتهى : «الغسل بصاع فما زاد مستحب عند علمائنا اجمع» وقال الشهيد في الذكرى : «والشيخ وجماعة ذكروا استحباب الغسل بصاع فما زاد ، والظاهر انه مقيد بعدم أدائه إلى السرف المنهي عنه» انتهى.

أقول : لا يبعد ان ما نسبه الشهيد الى الشيخ وجماعة انما نشأ من نظره الى عبارتي المعتبر والمنتهى ، حيث ادعوا ان الحكم بذلك إجماعي ، والا فعبارات الشيخ (رحمه‌الله) التي قدمناها خالية عما نقله عنه ، واحتمال كون ذلك في موضع آخر من كتبه الظاهر بعده ، فان هذه الكتب الثلاثة هي المعول عليها في نقل مذاهبه غالبا ، وايضا لو كان كذلك لم ينقل ذلك على الإطلاق. ومما يدفع ما ادعاه الفاضلان المذكوران من الإجماع (أولا) ـ تصريح الأصحاب المتقدم ذكرهم بعدم الزيادة بل ظاهر كلامهم ان هذا نهاية الاستحباب. و (ثانيا) ـ ما تقدم في بحث الوضوء من مرسلة الفقيه (١) عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «الوضوء مد والغسل صاع وسيأتي أقوام من بعدي يستقلون ذلك فأولئك على خلاف سنتي والثابت على سنتي معي في حظيرة القدس». وربما استفيد من اخبار كيفية الغسل دخول ماء الاستنجاء والغسل المستحب والمضمضة والاستنشاق في الصاع المذكور ، وصحيحة الفضلاء المتقدمة ظاهرة في دخول ماء الاستنجاء. واما تحقيق الصاع وقدره فسيأتي ان شاء الله تعالى في كتاب الزكاة.

المقصد الخامس

في الأحكام وفيه مسائل (الأولى) ـ المشهور بين الأصحاب وجوب الوضوء مع كل غسل إلا غسل الجنابة فإنه لا يجب معه إجماعا ، وهل يستحب معه أم لا؟ قولان

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٥٠ من أبواب الوضوء.

١١٨

المشهور العدم. فالكلام هنا يقع في مقامين :

(الأول) ـ في وجوب الوضوء مع كل غسل ، وعليه جل الأصحاب ، وذهب المرتضى (رضي‌الله‌عنه) إلى انه لا يجب الوضوء مع الغسل سواء كان فرضا أو نفلا ، ونقله في المختلف عن ابن الجنيد ايضا ، واليه مال جملة من أفاضل متأخري المتأخرين.

احتج الأولون بقوله عزوجل : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... الآية» (١) فإنه شامل لمن اغتسل وغيره ، خرج منه الجنب بالنص والإجماع وبقي ما عداه.

وما رواه في الكافي (٢) في الصحيح عن ابن أبي عمير عن رجل عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «كل غسل قبله وضوء الا غسل الجنابة». قال في الكافي (٣) : «وروي انه ليس شي‌ء من الغسل فيه وضوء الا غسل يوم الجمعة فان قبله وضوء» قال : «وروي اي وضوء اطهر من الغسل؟».

وما رواه في التهذيب (٤) في الصحيح عن ابن ابي عمير عن حماد بن عثمان أو غيره عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «في كل غسل وضوء إلا الجنابة». وهذه الرواية رواها في المختلف في الحسن عن حماد بن عثمان عن الصادق (عليه‌السلام). وفيه ان سندها في كتب الاخبار عن حماد بن عثمان أو غيره فهي لا تخرج عن الإرسال ، ولهذا ردها المتأخرون بالإرسال كسابقتها بل جعلها في المدارك رواية واحدة وردها بضعف السند وشنع على من جعلهما روايتين ، واما نقل العلامة لها عن حماد عنه (عليه‌السلام) فالظاهر انه من سهو القلم حيث ان الموجود في كتب الاخبار انما هو ما ذكرناه.

وعن علي بن يقطين في الصحيح عن ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) (٥)

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٩.

(٢ و ٣ و ٤) رواه في الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب الجنابة.

(٥) رواه في الوسائل في الباب ٣٣ من أبواب الجنابة.

١١٩

قال : «إذا أردت أن تغتسل للجمعة فتوضأ واغتسل».

أقول : ويدل عليه ما ذكره (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي (١) حيث قال (عليه‌السلام): «والوضوء في كل غسل ما خلا غسل الجنابة ، لأن غسل الجنابة فريضة تجزئه عن الفرض الثاني ولا يجزئه سائر الغسل عن الوضوء لان الغسل سنة والوضوء فريضة ولا تجزئ سنة عن فرض ، وغسل الجنابة والوضوء فريضتان فإذا اجتمعا فأكبرهما يجزئ عن أصغرهما ، وإذا اغتسلت لغير جنابة فابدأ بالوضوء ثم اغتسل ولا يجزيك الغسل عن الوضوء. فان اغتسلت ونسيت الوضوء فتوضأ وأعد الصلاة». انتهى. ولا يخفى ما فيه من الصراحة والمبالغة في وجوب الوضوء ، وبهذه العبارة بعينها عبر الصدوق في الفقيه من غير اسناد إلى الرواية ، وهو قرينة ظاهرة في الاعتماد على الكتاب المذكور والإفتاء بعبارته كما جرى عليه أبوه قبله في رسالته اليه ، وسيظهر لك ذلك ان شاء الله تعالى في الأبواب الآتية ظهورا لا يعتريه الشك والريب.

واما ما يدل على القول الثاني وهو المختار فجملة من الاخبار : منها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) (٢) قال : «الغسل يجزئ عن الوضوء واي وضوء اطهر من الغسل؟». وفي الصحيح عن حكم بن حكيم (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة. فقال : أفض على كفك اليمنى ، الى ان قال : قلت ان الناس يقولون يتوضأ وضوء الصلاة قبل الغسل ، فضحك (عليه‌السلام) وقال : واي وضوء أنقى من الغسل وأبلغ؟». وعن عبد الله بن سليمان (٤) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : الوضوء بعد الغسل بدعة». وعن سليمان بن خالد في الصحيح عن الباقر (عليه‌السلام) (٥) قال : «الوضوء بعد الغسل بدعة». وعن الحسن بن علي ابن إبراهيم بن محمد عن جده إبراهيم بن محمد ان محمد بن عبد الرحمن الهمداني (٦)

__________________

(١) ص ٣.

(٢ و ٤ و ٥ و ٦) رواه في الوسائل في الباب ٣٣ من أبواب الجنابة.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٣٤ من أبواب الجنابة.

١٢٠