منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عليه السلام - ج ٢

لطف الله الصافي الگلپايگاني

منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عليه السلام - ج ٢

المؤلف:

لطف الله الصافي الگلپايگاني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مكتب المؤلّف دام ظلّه
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

الفصل التاسع والعشرون

في علّة غيبته (١) ، وفيه ٩ أحاديث

__________________

(١) اعلم أنّ اختفاء سبب الغيبة عنّا ليس مستلزما لصحّة إنكار وقوعها ، أو عدم وجود مصلحة فيها ، فإنّ سبيل هذه وسبيل غيرها من الحوادث الجارية بحكمة الله تعالى سواء ، فكما أنّه لا سبيل إلى إنكار المصلحة في بعض أفعاله تعالى ممّا لم نعلم وجه حكمته ومصلحته لا طريق أيضا إلى إنكار المصلحة في غيبة وليّه وحجّته ، فإنّ مداركنا وعقولنا قاصرة عن إدراك فوائد كثير من الأشياء ، وسنن الله تعالى في عالم التكوين والتشريع ، بل لم نعط مدارك يدرك بها كثير من المجهولات ، فالاعتراف بقصور أفهامنا أولى ، ولنعم ما قاله الشاعر :

وانّ قميصا خيط من نسج تسعة

وعشرين حرفا عن معاليه قاصر

وقال بعضهم :

العلم للرحمن جلّ جلاله

وسواه في جهلاته يتغمغم

ما للتراب وللعلوم وإنّما

يسعى ليعلم أنّه لا يعلم

وما أحسن أدب من قال : علم الخلائق في جنب علم الله مثل لا شيء في جنب ما لا نهاية له.

وقال مولانا وسيّدنا أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام فيما روي عنه : «يا ابن آدم ، لو أكل قلبك طائر لم يشبعه ، وبصرك لو وضع عليه خرق إبرة لغطّاه ، تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والأرض!» ، والحاصل أنّه ليس علينا السؤال عن هذه بعد إخبار النبيّ والمعصومين من أهل بيته صلّى الله عليهم أجمعين عن وقوعها ، ودلالة الأحاديث القطعيّة عليها ، وبعد وقوعها في الامم السالفة ، كما ذكره الإمام في رواية سدير الطويلة ، قال المفيد ـ قدس‌سره ـ : وثمّ وليّ لله تعالى يقطع الأرض بعبادة ربّه تعالى ، والتفرّد من الظالمين بعمله ، ونأى بذلك عن دار المجرمين ، وتبعّد بدينه عن محلّ الفاسقين ، لا يعرف أحد من الخلق له مكانا ، ولا يدّعي إنسان

٢٦١

__________________

منهم له لقاء ولا معه اجتماعا ، وهو الخضر عليه‌السلام موجود قبل زمان موسى الى وقتنا هذا باجماع أهل النقل ، واتّفاق أصحاب السير والأخبار ، سائحا في الأرض لا يعرف له أحد مستقرّا ، ولا يدّعي له اصطحابا إلّا ما جاء في القرآن به من قصّته مع موسى عليه‌السلام ، وما يذكره بعض الناس من أنّه يظهر أحيانا ولا يعرف ، ويظنّ بعض الناس رآه ، أنّه بعض الزهّاد فإذا فارق مكانه توهمه المسمّى بالخضر وإن لم يكن يعرف بعينه في الحال ولا ظنّه ، بل اعتقد أنّه بعض أهل الزمان ، انتهى كلامه في «الفصول العشرة». ثمّ ذكر غيبة موسى ويوسف ويونس وغيرهم. هذا ، وقد صرّح أبو عبد الله عليه‌السلام بأنّ وجه الحكمة في غيبته لا ينكشف إلّا بعد ظهوره ، وأنّه من أسرار الله (في حديث عبد الله بن الفضل الهاشمي الحديث الأوّل من هذا الباب) ، فعليه يصحّ لنا أن نقول : بأنّ السبب الأصلي في حكمته خفي عنّا ، ولا ينكشف تمام الانكشاف إلّا بعد ظهوره.

نعم ، لها فوائد ومصالح معلومة غيره ، منها : امتحان العباد بغيبته ، واختبار مرتبة تسليمهم ومعرفتهم وإيمانهم بما اوحي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبشّر به عن الله تعالى ، وقد جرت سنّة الله تعالى بامتحان عباده ، بل ليس خلق الناس وبعث الرسل ، وانزال الكتب إلّا للامتحان ، قال الله تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) ، وقال عزّ شأنه : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، وقال سبحانه : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ، ويستفاد من الأخبار الّتي تقف عليها في هذا الكتاب أنّ الامتحان بغيبة المهدي عليه‌السلام من أشدّ الامتحانات ، وأنّ المتمسّك فيها بدينه كالخارط للقتاد.

هذا مضافا إلى أنّ في التصديق وعقد القلب والالتزام والإيمان بما أخبر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الامور الغيبيّة امتحانا وارتياضا خاصّا ، وثمرة لصفاء الباطن وقوّة التديّن بدين الله تعالى ، فامتحان الناس بغيبته عليه‌السلام يكون عملا وإيمانا وعلما ، أمّا عملا : فلما يحدث في زمان الغيبة من الفتن الشديدة الكثيرة ، ووقوع الناس في بليّات عظيمة بحيث يصير أصعب الامور المواظبة على الوظائف الدينيّة. وأمّا علما وإيمانا فلأنّه إيمان بالغيب ، فلا يؤمن به إلّا من كمل إيمانه ، وقويت معرفته ، وخلصت نيته.

والحاصل أنّ الناس ممتحنون في الإيمان بالله ، والتسليم والتصديق بما أخبر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ الامتحان بالإيمان بما كان من الامور الغيبيّة ربّما

٢٦٢

__________________

يكون أشدّ من غيره ، وقد جاء التصريح بوصف هؤلاء المؤمنين في قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) الآيات ، وذلك لأنّ الإيمان بكلّ ما هو غيب عنّا ممّا أخبر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يحصل إلّا لأهل اليقين والمتّقين الّذين نجوا عن ظلمة الوساوس والشبهات الشيطانيّة ، وأنار نفوسهم نور المعرفة واليقين والإيمان الكامل بالله ورسله وكتبه.

ومنها : انتظار كمال استعداد الناس لظهوره ، فإنّ ظهوره ليس كظهور غيره من الحجج والأنبياء ، وليس مبنيّا على الأسباب الظاهريّة والعاديّة ، وسيرته أيضا ـ كما ترى في الأبواب الآتية ـ مبنيّة على الحقائق ، والحكم بالواقعيّات ، ورفض التقيّة والتسامح في الامور الدينيّة ، فالمهدي عليه‌السلام شديد على العمّال ، شديد على أهل المعاصي ، وحصول هذه الامور محتاج الى حصول استعداد خاصّ للعالم ، ورقاء البشر في ناحية العلوم والمعارف ، وفي ناحية الفكر ، وفي ناحية الأخلاق ، حتّى يستعدّ لقبول تعليماته العالية وبرنامجه الاصلاحي.

ومنها : الخوف عن القتل ، يشهد التاريخ أنّ سبب حدوث الغيبة ظاهرا خوفه عن قتله ، فإنّ أعداءه ـ كما ستطّلع عليه في الأبواب الآتية ـ عزموا على قتله إطفاء لنوره ، واهتماما بقطع هذا النسل الطيّب المبارك ، ولكن يأبى الله إلّا أن يتمّ نوره.

ومنها : غيرها ممّا ذكر في الكتب المفصّلة.

فإن قلت : أيّ فائدة في وجود الإمام الغائب عن الأبصار ، فهل وجوده وعدمه إلّا سواء؟

قلت أوّلا : إنّ فائدة وجود الحجّة ليست منحصرة في التصرف في الامور ظاهرا ، بل أعظم فوائد وجوده ما يترتّب عليه من بقاء العالم بإذن الله تعالى وأمره كما ينادي بذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض» ، وقوله : «لا يزال هذا الدين قائما إلى اثني عشر أميرا من قريش ، فإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها» ، وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «اللهم بلى ، لا تخلو الأرض من قائم لله ... الخ» وسيجيء في الباب الآتي بعض الأحاديث في انتفاع الناس منه في غيبته.

وثانيا : إنّ عدم تصرّفه ليس من قبله ، والمسئوليّة في عدم تصرّفه متوجّهة إلى رعيّته ، وأشار إلى الوجهين المحقّق الطوسي في «التجريد» بقوله : «وجوده لطف ، وتصرّفه لطف آخر ، وعدمه منّا».

٢٦٣

٦٣٢ ـ (١) ـ كمال الدين : حدّثنا عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس العطّار ـ رضي‌الله‌عنه ـ قال : حدّثني علي بن محمّد بن قتيبة النيسابور يقال : حدّثنا حمدان بن سليمان النيسابوري ، قال : حدّثني أحمد بن عبد الله بن جعفر المدائني ، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي ، قال : سمعت الصادق جعفر بن محمّد عليه‌السلام يقول : إنّ لصاحب

__________________

وثالثا : نقول : إنّا لا نقطع على أنّه مستتر عن جميع أوليائه ـ كما في الشافي وتنزيه الأنبياء ـ فإذا لا مانع عن تصرّفه في بعض الامور المهمّة بواسطة بعض أوليائه وخواصّه وانتفاعهم منه.

ورابعا : ما هو المسلّم والمعلوم استتاره عن الناس ، وعدم إمكان الوصول إليه في الغيبة إلّا لبعض الخواصّ ـ وغيرهم أحيانا لبعض المصالح ـ ولكن لا يلازم هذا استتار الناس عنه صلوات الله عليه ، فإنّه كما يستفاد من الروايات يحضر الموسم أيّام الحجّ ، ويحجّ ، ويزور جدّه وآباءه المعصومين ، ويصاحب الناس ، ويحضر المجالس ، ويغيث المضطر ، ويعود بعض المرضى وغيرهم ، وربّما يتكفّل بنفسه الشريفة ـ جعلني الله فداه ـ قضاء حاجاتهم. والمراد من عدم إمكان الوصول إليه في زمان الغيبة عدم إمكان معرفته بعينه وشخصه.

وخامسا : لا يجب على الإمام أن يتولّى التصرّف في الامور الظاهريّة بنفسه ، بل له تولية غيره بالخصوص كما فعل في زمان غيبته الصغرى ، أو على نحو العموم كما فعل في الغيبة الكبرى ، فنصب الفقهاء والعلماء العدول العالمين بالأحكام للقضاء ، وإجراء السياسات ، وإقامة الحدود ، وجعلهم حجّة على الناس ، فهم يقومون في عصر الغيبة بحفظ الشرع ظاهرا ، وبيان الأحكام ، ونشر المعارف الإسلاميّة ، ودفع الشبهات ، وبكلّ ما يتوقّف عليه نظم امور الناس. وتفصيل ذلك يطلب من الكتب الفقهيّة ، وإن شئت زيادة التوضيح فيما ذكر فعليك بالرجوع إلى كتب أكابر أصحابنا كالمفيد ، والسيّد ، والشيخ ، والصدوق ، والعلامة ، وغيرهم جزاهم الله عن الدين أفضل الجزاء.

(١) ـ كمال الدين : ج ٢ ص ٤٨١ ـ ٤٨٢ ب ١١ ح ٤٤ ؛ علل الشرائع : ص ٢٤٥ ـ ٢٤٦ ح ٨ ؛ البحار : ج ٥٢ ص ٩١ ب ٢٠ ح ٤ ؛ إثبات الهداة : ج ٣ ص ٤٨٨ ب ٣٢ ف ٥ ح ٢١٧ مختصرا.

٢٦٤

هذا الأمر غيبة لا بدّ منها ، يرتاب فيها كلّ مبطل ، فقلت : ولم جعلت فداك؟ قال : لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم ، قلت : فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال : وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدّمه من حجج الله تعالى ذكره ، إنّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلّا بعد ظهوره ، كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر عليه‌السلام من خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإقامة الجدار لموسى عليه‌السلام إلّا وقت افتراقهما ، يا ابن الفضل! إنّ هذا الأمر أمر من [أمر] الله تعالى ، وسرّ من سرّ الله ، وغيب من غيب الله ، ومتى علمنا أنّه عزوجل حكيم صدّقنا بأنّ أفعاله كلّها حكمة ، وإن كان وجهها غير منكشف.

٦٣٣ ـ (٢) ـ كمال الدين : محمّد بن محمّد بن عصام الكليني ، عن محمّد بن يعقوب الكليني ، عن إسحاق بن يعقوب ، عن صاحب الزمان صلوات الله عليه في آخر التوقيع الوارد في جواب كتابه الّذي سأل محمّد بن عثمان العمري أن يوصل إليه عجّل الله فرجه : أمّا علّة ما وقع من الغيبة فإنّ الله عزوجل يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) ، إنّه لم يكن لأحد من آبائي عليهم‌السلام إلّا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه ، وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي ، وأمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب ، وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء ، فأغلقوا باب السؤال عمّا لا يعنيكم ، ولا تكلّفوا علم ما قد كفيتم ، وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج ،

__________________

(٢) ـ كمال الدين : ج ٢ ص ٤٨٣ ـ ٤٨٥ ح ٤ ؛ غيبة الشيخ : ص ٢٩٠ ـ ٢٩٣ ح ٢٤٧ ؛ إعلام الورى : ر ٤ ق ٢ ب ٣ ف ٣ ؛ كشف الغمّة : ج ٢ ص ٥٣٠ ـ ٥٣٢ ؛ الخرائج والجرائح : ج ٣ ص ١١١٣ ـ ١١١٧ ح ٣٠ ؛ الاحتجاج : ج ٢ ص ٢٨١ ـ ٢٨٤ ؛ البحار : ج ٥٣ ص ١٨٠ ـ ١٨٢ ب ٣١ ح ١٠ ، وج ٧٥ ص ٣٨٠ ب ٣٠ ح ١ عن الدرّة الباهرة.

٢٦٥

فإنّ ذلك فرجكم ، والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب ، وعلى من اتّبع الهدى.

٦٣٤ ـ (٣) ـ عيون أخبار الرضا : محمّد بن إبراهيم بن إسحاق ، عن أحمد بن محمّد الهمداني ، عن علي بن الحسن بن علي بن فضّال ، عن أبيه ، عن ابي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام ، قال : كأنّي بالشيعة عند فقدهم الثالث من ولدي كالنعم ، يطلبون المرعى فلا يجدونه ، قلت : ولم ذلك يا ابن رسول الله؟ قال : لأنّ إمامهم يغيب عنهم ، فقلت : ولم؟ قال : لئلا يكون في عنقه لأحد بيعة إذا قام بالسيف.

٦٣٥ ـ (٤) ـ غيبة الشيخ : الحسين بن عبيد الله ، عن أبي جعفر محمّد بن سفيان البزوفري ، عن أحمد بن إدريس ، عن علي بن محمّد بن قتيبة ، عن الفضل بن شاذان النيسابوري ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن زرارة ، قال : إنّ للقائم غيبة قبل ظهوره ، قلت : [و] لم؟ قال : يخاف القتل.

ويدلّ عليه أيضا الروايات : ٣٣٧ ، ٦٢٦ ، ٦٥٤ ، ٦٥٦ ، ٦٦٩.

__________________

(٣) ـ عيون أخبار الرضا : ج ١ ص ٢٧٣ ب ٢٨ ح ٦ ؛ كمال الدين : ج ٢ ص ٤٨٠ ب ٤٤ ح ٤ ؛ البحار : ج ٥١ ص ١٥٢ ب ٨ ح ١.

أقول : والمراد بالثالث الإمام أبو محمّد الحسن والد الحجّة ، وبالإمام الّذي يغيب ، ابنه الحجّة عليهما‌السلام.

(٤) ـ غيبة الشيخ : ص ٣٣٢ ح ٢٧٤ ؛ الكافي : ج ١ ص ٣٣٨ ب ١٣٨ ح ٩ نحوه عن ابن بكير عن زرارة ؛ غيبة النعماني : ص ١٧٦ و ١٧٧ نحوه بطرق متعدّدة وألفاظ متقاربة ح ١٩ و ٢٠ و ٢١ و ٢٢ عن ابن بكير ؛ علل الشرائع : ص ٢٤٦ ح ٩ ؛ كمال الدين : ج ٢ ص ٤٨١ ب ٤٤ ح ٩ وعن ابن بكير وعن خالد بن نجيح الجوّان وابن بكير عن زرارة نحوه ح ٧ و ٨ و ١٠ ؛ إثبات الهداة : ج ٦ ص ٣٥٩ ح ٢٣ نحوه مع اختلاف في الرواة واختلاف يسير في المعنى.

٢٦٦

الفصل الثلاثون

في بعض فوائد وجوده

وانتفاع الناس منه في غيبته وتصرّفه في الامور

وفيه ٧ أحاديث

٦٣٦ ـ (١) ـ نهج البلاغة : اللهمّ بلى ، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة ، إمّا ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا ، لئلا تبطل حجج الله وبيّناته ، وكم ذا وأين [اولئك]؟ اولئك والله الأقلّون عددا ، والأعظمون عند الله قدرا ، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته حتّى يودعوها نظراءهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى ، اولئك خلفاء الله في أرضه ، والدعاة إلى دينه ، آه آه شوقا

__________________

(١) ـ نهج البلاغة صبحي الصالح : ص ٤٩٧ قصار الحكم ١٤٧ ؛ تذكرة الحفّاظ : ج ١ ص ١١ نحوه ، دستور معالم الحكم : ب ٤ ص ٨٢ ـ ٨٥ مسندا عن كميل ؛ الغارات : ج ١ ص ١٥٣ ؛ تحف العقول : ص ١٧٠ من كلامه لكميل بن زياد ؛ الخصال : ص ١٨٧ ب الثلاثة ؛ الأمالي : ص ١٩ ـ ٢٠ ح ٢٣ ، البحار : ج ٢٣ ص ٤٤ ـ ٤٦ ح ٩١ ب ١ ، الأمالي للمفيد : ص ٢٥٠ المجلس ٢٩ ، كمال الدين : ج ١ ص ٢٨٩ ب ٢٦ ح ٢ ، وانظر البداية والنهاية ج ٩ ص ٤٦ وغيره من مصادره الكثيرة.

٢٦٧

إلى رؤيتهم.

٦٣٧ ـ (٢) ـ ينابيع المودّة : عن نهج البلاغة : منّا المهديّ ، يسري في الدنيا بسراج منير ، ويحذو فيها على مثال الصالحين ، ليحلّ ربقا ، ويعتق رقّا ، ويصدع شعبا ، ويشعب صدعا ، في سترة عن الناس ، لا يبصر القائف أثره ولو تابع نظره.

وفي نهج البلاغة (ج ٢ ص ٤٧ خ ١٤٦ ، ط مصر) : يا قوم ، هذا إبّان ورود كلّ موعد ، ودنوّ من طلعة ما لا تعرفون ، ألا ومن أدركها منّا يسري فيها بسراج منير ، ويحذو فيها على مثال الصالحين ، ليحلّ فيها ربقا ، ويعتق رقّا ، ويصدع شعبا ، ويشعب صدعا ، في سترة عن الناس ، لا يبصر القائف أثره ولو تابع نظره ، ثمّ ليشحذنّ فيها قوم شحذ القين النصل ، تجلى بالتنزيل أبصارهم ، [ويرمى بالتفسير في مسامعهم] ، ويغبقون كأس الحكمة بعد الصبوح.

٦٣٨ ـ (٣) ـ فرائد السمطين : أخبرنا أبو جعفر ، ابن بابويه ـ رحمه‌الله ـ قال : أنبأنا محمّد بن أحمد السمناني ، قال : أنبأنا أحمد بن يحيى بن زكريّا القطّان ، قال : أنبأنا بكر بن عبد الله بن حبيب ، قال : أنبأنا فضل بن الصقر العبدي ، قال : أنبأنا معاوية ، عن سليمان بن مهران الأعمش ، عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، عن أبيه محمّد بن عليّ عليهما‌السلام ، عن أبيه علي بن الحسين عليهما‌السلام قال : نحن أئمّة المسلمين ، وحجج الله على العالمين ، وسادة المؤمنين ، وقادة الغرّ المحجّلين ، وموالي المؤمنين ، ونحن أمان أهل الأرض ، كما أنّ النجوم

__________________

(٢) ـ ينابيع المودّة : ص ٤٣٧ ؛ نهج البلاغة صبحي الصالح : ص ٢٠٨ خ ١٥٠.

(٣) ـ فرائد السمطين : ج ١ ص ٤٥ و ٤٦ ب ٢ ح ١١ ؛ ينابيع المودّة : ص ٤٧٧.

٢٦٨

أمان لأهل السماء ، ونحن الذين بنا يمسك السماء أن تقع على الأرض إلّا باذنه ، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها ، وبنا ينزل الغيث ، وتنشر الرحمة ، وتخرج بركات الأرض ، ولو لا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها. ثمّ قال : ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجّة لله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور. ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجّة لله فيها ، ولو لا ذلك لم يعبد الله.

قال سليمان : فقلت للصادق عليه‌السلام : فكيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب المستور؟ قال : كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب (١).

__________________

(١) ذكر العلامة المجلسي ـ رحمه‌الله ـ في وجه تشبيهه بالشمس إذا سترها سحاب وجوها :

الأوّل : أنّ نور الوجود والعلم والهداية يصل الى الخلق بتوسّطه عليه‌السلام ، إذ ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم العلل الغائية لإيجاد الخلق ، فلولاهم لم يصل نور الوجود إلى غيرهم ، وببركتهم والاستشفاع بهم والتوسّل إليهم يظهر العلوم والمعارف على الخلق ويكشف البلايا عنهم ، فلولاهم لاستحقّ الخلق بقبائح أعمالهم أنواع العذاب ، كما قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ، ولقد جرّبنا مرارا لا نحصيها أنّ عند انغلاق الامور ، وإعضال المسائل ، والبعد عن جناب الحقّ تعالى ، وانسداد أبواب الفيض لما استشفعنا بهم وتوسّلنا بأنوارهم ، فبقدر ما يحصل الارتباط المعنويّ بهم في ذلك الوقت تنكشف تلك الامور الصعبة ، وهذا معاين لمن أكحل الله عين قلبه بنور الإيمان. وقد مضى توضيح ذلك في كتاب الإمامة.

الثاني : كما أنّ الشمس المحجوبة بالسحاب مع انتفاع الناس بها ينتظرون في كلّ آن انكشاف السحاب عنها وظهورها ليكون انتفاعهم بها أكثر ، فكذلك في أيّام غيبته عليه‌السلام ينتظر المخلصون من شيعته خروجه وظهوره في كلّ وقت وزمان ، ولا ييأسون منه.

الثالث : أنّ منكر وجوده عليه‌السلام مع وفور ظهور آثاره كمنكر وجود الشمس إذا غيّبها السحاب عن الأبصار.

٢٦٩

٦٣٩ ـ (٤) ـ كمال الدين : حدّثنا أبي ـ رضي‌الله‌عنه ـ قال : حدّثنا سعد بن عبد الله ، قال : حدّثنا هارون بن مسلم ، عن سعدان ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله ، عن آبائه ، عن علي عليهم‌السلام أنّه قال في خطبة له على منبر الكوفة : اللهم لا بدّ لأرضك من حجّة لك على خلقك ، يهديهم إلى دينك ، ويعلّمهم علمك ، لئلا تبطل حجّتك ، ولا يضلّ أتباع أوليائك بعد إذ هديتهم به ، إمّا ظاهر ليس بالمطاع ، أو

__________________

الرابع : أنّ الشمس قد تكون غيبتها في السحاب أصلح للعباد من ظهورها لهم بغير حجاب ، فكذلك غيبته عليه‌السلام أصلح لهم في تلك الأزمان ، فلذا غاب عنهم.

الخامس : أن الناظر إلى الشمس لا يمكنه النظر إليها بارزة عن السحاب ، وربّما عمي بالنظر إليها لضعف الباصرة عن الإحاطة بها ، فكذلك شمس ذاته المقدّسة ربّما يكون ظهوره أضرّ لبصائرهم ، ويكون سببا لعماهم عن الحقّ ، ويحتمل بصائرهم الإيمان به في غيبته كما ينظر الإنسان إلى الشمس من تحت السحاب ولا يتضرّر بذلك.

السادس : أنّ الشمس قد تخرج من السحاب وينظر إليها واحد دون واحد ، كذلك يمكن أن يظهر عليه‌السلام في أيّام غيبته لبعض الخلق دون بعض.

السابع : أنّهم كالشمس في عموم النفع ، وإنّما لا ينتفع بهم من كان أعمى كما فسّر به في الأخبار قوله تعالى : (مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً).

الثامن : أنّ الشمس كما أنّ شعاعها تدخل البيوت بقدر ما فيها من الروازن والشبابيك وبقدر ما يرتفع عنها من الموانع عنها ، فكذلك الخلق إنّما ينتفعون بأنوار هدايتهم بقدر ما يرفعون من الموانع عن حواسّهم ومشاعرهم الّتي هي روازن قلوبهم من الشهوات النفسانيّة والعلائق الجسمانيّة ، وبقدر ما يدفعون عن قلوبهم من الغواشي الكثيفة الهيولانيّة ، إلى أن ينتهي الأمر إلى حيث يكون بمنزلة من هو تحت السماء يحيط به شعاع الشمس من جميع جوانبه بغير حجاب. فقد فتحت لك من هذه الجنّة الروحانيّة ثمانية أبواب ، ولقد فتح الله علي بفضله ثمانية اخرى تضيق العبارة عن ذكرها ، عسى الله أن يفتح علينا وعليك في معرفتهم ألف باب ، يفتح من كلّ باب ألف باب ، انتهى كلامه قدّس الله سرّه.

(٤) ـ كمال الدين : ج ١ ص ٣٠٢ ب ٢٧ ح ١١ ؛ إثبات الوصيّة ص ٢٥١ ؛ إثبات الهداة : ج ٦ ص ٣٦٣ ح ١١٢ ب ٣٢ ف ٢.

٢٧٠

مكتتم مترقّب ، إن غاب عن الناس شخصه في حال هدايتهم ، فإنّ علمه وآدابه في قلوب المؤمنين مثبتة ، فهم بها عاملون.

٦٤٠ ـ (٥) ـ كتاب فضل بن شاذان : حدّثنا محمّد بن أبي عمير ، وصفوان بن يحيى ، قالا : حدّثنا جميل بن درّاج ، عن الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام أنّه قال : الإسلام والسلطان العادل أخوان توأمان ، لا يصلح واحد منهما إلّا بصاحبه ، الإسلام اسّ ، والسلطان العادل حارس ، ما لا اسّ له فمنهدم ، وما لا حارس له فضائع ، فلذلك إذا رحل قائمنا لم يبق أثر من الدنيا.

ويدلّ عليه أيضا الروايتان : ٢٤٥ ، ٦٠٩.

__________________

(٥) ـ كفاية المهتدي (الأربعين) : ص ٢٢٢ ـ ٢٢٣ ذيل ح ٣٩ ؛ كشف الحقّ (الأربعين) : ح ٣٥ ص ٢٠٣ ولفظه : «إذا رحل قائمنا لم يبق أثر من الإسلام ، وإذا لم يبق أثر من الإسلام لم يبق أثر من الدنيا».

٢٧١

الفصل الحادي والثلاثون

في أنّه عليه‌السلام طويل العمر جدّا

وفيه ٣٦٣ حديثا

٦٤١ ـ (١) ـ كمال الدين : حدّثنا محمّد بن علي بن بشّار القزويني ، قال : حدّثنا أبو الفرج المظفّر بن أحمد ، قال : حدّثنا محمّد بن جعفر الكوفي ، قال : حدّثنا محمّد بن إسماعيل البرمكي ، قال : حدّثنا الحسن بن محمّد بن صالح البزّاز ، قال : سمعت الحسن بن علي العسكري عليهما‌السلام يقول : إنّ ابني هو القائم من بعدي ، وهو الّذي تجري فيه سنن الأنبياء عليهم‌السلام بالتعمير والغيبة ، حتّى تقسو القلوب لطول الأمد ، فلا يثبت على القول به إلّا من كتب الله عزوجل في قلبه الإيمان ، وأيّده بروح منه (١).

__________________

(١) ـ كمال الدين : ج ٢ ص ٥٢٤ ب ٤٦ ح ٤ ، البحار : ج ٥١ ص ٢٢٤ ب ١٣ ح ١١.

(١) اعلم أنّه استبعد طول عمره بعض من العامّة حتّى عاب الشيعة على قولهم ببقائه عليه‌السلام ، وقال بعض منهم : إنّ الوصيّة لأجهل الناس تصرف إلى من ينتظر المهدي عليه‌السلام ، وأنت خبير بأن لا قيمة للاستبعاد في الامور العلميّة ، والمطالب الاعتقاديّة بعد ما قام عليها البرهان ، ودلّت عليها الأدلّة القطعيّة من العقل والنقل ، فهذا نوع من سوء الظنّ بقدرة الله تعالى ، وليس مبنى له إلّا عدم الأنس ، وقضاء العادة في الجملة على خلافه ، وإلّا فيتّفق في اليوم والليلة بل في كلّ ساعة وآن ألوف من الحوادث والوقائع العادية في عالم الكون ، حتّى في المخلوقات الصغيرة وما لا يرى إلّا

٢٧٢

__________________

باعانة المكبّرات ممّا أمره أعجب وأعظم من طول عمر إنسان سليم الأعضاء والقوى ، العارف بقواعد حفظ الصحّة ، العامل بها ، بل ليس مسألة طول عمره أغرب من خلقته وتكوينه وانتقاله من عالم الأصلاب الى عالم الأرحام ، ومنه إلى عالم الدنيا ، وبهذا دفع الله استبعاد المنكرين للمعاد في كتابه الكريم ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) الآية ، وقال : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) الى آخر السورة ، وقال عزّ من قائل : (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) الى آخر الآيات ، هذا مع وقوع طول العمر في بعض الأنبياء كالخضر ونوح وعيسى وغيرهم عليهم‌السلام ، وكيف يكون الإيمان بطول عمر المهديّ عليه‌السلام أمارة الجهل مع تصريح القرآن الكريم بإمكان مثله في قوله تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، ووقوعه بالنسبة إلى نوح عليه‌السلام في قوله تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) ، وبالنسبة إلى المسيح عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) ، وقد أخبر أيضا بحياة إبليس ، وأنّه من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ولم ينكر ذلك أحد من المسلمين ولم يستبعده ، وروى مسلم في صحيحه في القسم الثاني من الجزء الثاني في باب ذكر ابن صيّاد ، والترمذي في سننه في الجزء الثاني ، وأبو داود في صحيحه في باب خبر ابن صائد من كتاب الملاحم روايات متعدّدة في ابن صيّاد وابن صائد ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله احتمل أن يكون هو الدجّال الّذي يخرج في آخر الزمان ، وروى ابن ماجة في صحيحه في الجزء الثاني في أبواب الفتن في باب فتنة الدجّال وخروج عيسى ، وأبو داود في الجزء الثاني من سننه من كتاب الملاحم في باب خبر الجسّاسة ، ومسلم في صحيحه في باب خروج الدجّال ومكثه في الأرض حديث تميم الداري ، وهو صريح في أنّ الدجّال كان حيّا في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه يخرج في آخر الزمان ، فإن كان القول بطول عمر شخص من الجهل فلم لم ينسب هؤلاء أحد بالجهل مع إخراجهم هذه الأحاديث في كتبهم وصحاحهم؟ وكيف ينسب بالجهل من يعتقد طول عمر المهدي عليه‌السلام مع تجويز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مثله في عدوّ الله الدجّال؟!

والحاصل : أنّ بعد وقوع طول العمر لا موقع للتعجّب منه ، فضلا عن الاستبعاد والقول باستحالته. قال السيّد ابن طاوس ـ رحمه‌الله ـ في الفصل ٧٩ من كشف المحجّة في مناظرته مع بعض العامّة : «لو حضر رجل وقال : أنا أمشي على الماء ببغداد ، فإنّه ـ

٢٧٣

__________________

يجتمع لمشاهدته لعلّ من يقدر على ذلك منهم ، فإذا مشى على الماء وتعجّب الناس منه فجاء آخر قبل أن يتفرّقوا وقال أيضا : أنا أمشي على الماء ، فإنّ التعجّب منه يكون أقلّ من ذلك فمشى على الماء ، فإنّ بعض الحاضرين ربّما يتفرّقون ويقلّ تعجّبهم ، فإذا جاء ثالث وقال : أنا أيضا أمشي على الماء فربّما لا يقف للنظر إليه إلّا قليل ، فإذا مشى على الماء سقط التعجّب من ذلك ، فإن جاء رابع وذكر أنّه يمشي أيضا على الماء فربّما لا يبقى أحد ينظر إليه ولا يتعجّب منه ، وهذه حالة المهدي عليه‌السلام ، لأنّكم رويتم أنّ ادريس حيّ موجود في السماء منذ زمانه إلى الآن ، ورويتم أنّ الخضر حيّ موجود مذ زمان موسى عليه‌السلام أو قبله إلى الآن ، ورويتم أنّ عيسى حيّ موجود في السماء ، وأنّه يرجع إلى الأرض مع المهديّ عليه‌السلام ، فهذه ثلاثة نفر من البشر قد طالت أعمارهم ، وسقط التعجّب بهم من طول أعمارهم ، فهلّا كان لمحمّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وآله اسوة بواحد منهم أن يكون من عترته آية لله جلّ جلاله في امّته بطول عمر واحد من ذرّيّته ، فقد ذكرتم ورويتم أنّه يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا؟ ولو فكرتم لعرفتم أنّ تصديقكم وشهادتكم أنّه يملأ الأرض بالعدل شرقا وغربا وبعدا وقربا أعجب من طول بقائه ، وأقرب إلى أن يكون ملحوظا بكرامات الله جلّ جلاله لأوليائه ، وقد شهدتم أيضا له أنّ عيسى بن مريم النبيّ المعظّم عليهما‌السلام يصلّي خلفه ، مقتديا به في صلاته ، وتبعا له ومنصورا به في حروبه وغزواته ، وهذا أيضا أعظم مقاما ممّا استبعدتموه من طول حياته ، فوافقوا على ذلك ، انتهى».

وقال العلامة سبط ابن الجوزي في «تذكرة الخواص» ص ٣٧٧ : «وعامّة الإماميّة على أنّ الخلف الحجّة موجود ، وأنّه حيّ يرزق ، ويحتجّون على حياته بأدلّة ؛ منها : أنّ جماعة طالت أعمارهم : كالخضر ، وإلياس ، فإنّه لا يدرى كم لهما من السنين ، وأنّهما يجتمعان كلّ سنة فيأخذ هذا من شعر هذا ، وفي التوراة : أنّ ذا القرنين عاش ثلاثة آلاف سنة ، والمسلمون يقولون : ألفا وخمسمائة ، ونقل عن محمّد بن إسحاق أسماء جماعة كثيرة رزقوا طول العمر ، وقد أسرد الكلام في جواز بقائه عليه‌السلام مذ غيبته إلى الآن ، وأنّه لا امتناع في بقائه ، انتهى».

واستدلّ الحافظ الكنجي الشافعي في كتاب «البيان» : ب ٢٥ على ذلك ببقاء عيسى والخضر وإلياس ، وبقاء الدجّال وإبليس ، وذكر دليلا على بقاء الدجّال ما رواه مسلم في حديث طويل في الجساسة ، انتهى.

٢٧٤

__________________

وقد تضمّنت التوراة من المعمّرين أسماء جماعة كثيرة وذكر أحوالهم ، ففي سفر التكوين الإصحاح الخامس الآية ٥ على ما في ترجمتها من اللغة العبرانيّة والكلدانيّة واليونانيّة إلى اللغة العربية ط بيروت سنة (١٨٧٠ م) : «فكانت كلّ أيّام آدم الّتي عاشها تسعمائة وثلاثين سنة ومات» ، وفي الآية ٨ قال : «فكانت كلّ أيّام شيث تسعمائة واثنتي عشرة سنة ومات» ، وفي الآية ١١ : «فكانت كلّ أيّام أنوش تسعمائة وخمس سنين ومات» ، وفي الآية ١٤ : «فكانت كلّ أيّام قينان تسعمائة وعشر سنين ومات» ، وفي الآية ١٧ : «فكانت كلّ أيّام مهللئيل ثمانمائة وخمسا وتسعين سنة ومات» ، وفي الآية ٢٠ : «فكانت كلّ أيّام يارد تسعمائة واثنتين وستين سنة ومات» ، وفي الآية ٢٣ : «فكانت كلّ أيّام أخنوخ ثلاثمائة وخمسا وستين سنة» ، وفي الآية ٢٧ : «فكانت كلّ أيّام متوشالح تسعمائة وتسعا وستين سنة ومات» ، وفي الآية ٣١ : «فكانت كلّ أيّام لامك سبعمائة وسبعا وسبعين سنة ومات» ، وفي الإصحاح التاسع في الآية ٢٩ : «فكانت كلّ أيّام نوح تسعمائة وخمسين سنة ومات» ، وفي الإصحاح الحادي عشر في الآية ١٠ إلى ١٧ : «١٠ ـ هذه مواليد سام لما كان سام ابن مائة سنة ولد ارفكشاد بعد الطوفان بسنتين ، ١١ ـ وعاش سام بعد ما ولد ارفكشاد خمسمائة سنة وولد بنين وبنات ، ١٢ ـ وعاش ارفكشاد خمسا وثلاثين سنة وولد شالح ، ١٣ ـ وعاش ارفكشاد بعد ما ولد شالح اربعمائة وثلاث سنين وولد بنين وبنات ، ١٤ ـ وعاش شالح ثلاثين سنة وولد عابر ، ١٥ ـ وعاش شالح بعد ما ولد عابر أربعمائة وثلاث سنين وولد بنين وبنات ، ١٦ ـ وعاش عابر أربعا وثلاثين سنة وولد فالج ، ١٧ ـ وعاش عابر بعد ما ولد فالج اربعمائة وثلاثين سنة وولد بنين وبنات» ، وذكر في هذا الإصحاح جماعة غير هؤلاء من المعمّرين نقتصر بذكر اسمائهم ، وهم : فالح ، ورعو ، وسروج ، وناحور ، وتارح. وفي الإصحاح الخامس والعشرين في الآية ٧ ذكر أنّ إبراهيم عاش مائة وخمسا وسبعين سنة ، وفي الآية ١٧ ذكر أنّ إسماعيل عاش ١٣٧ سنة ، هذا بعض ما في التوراة من أسماء المعمّرين ، وهو حجّة على اليهود والنصارى.

وقال العلامة الكراجكي في «كنز الفوائد» في الكتاب الموسوم بالبرهان على صحّة طول عمر الإمام صاحب الزمان : إنّ أهل الملل كلّهم متّفقون على جواز امتداد الأعمار وطولها ، وقال بعد ذكر بعض ما في التوراة : وقد تضمّنت نظيره شريعة الإسلام ، ولم نجد أحدا من علماء المسلمين يخالفه أو يعتقد فيه البطلان ، بل أجمعوا من جواز طول الأعمار على ما ذكرناه ، انتهى.

٢٧٥

__________________

وقد نقل مثل ذلك عن المجوس والبراهمة والبودائيّة وغيرهم. ومن يريد الاطّلاع على أحوال المعمّرين فليطلبها من «البحار» ، وكتاب «المعمّرين» لأبي حاتم السجستاني ، وكتاب «كمال الدين» ، و «كنز الفوائد» في الرسالة الموسومة بالبرهان على صحّة طول عمر الإمام صاحب الزمان ، فقد ذكر في هذه الرسالة جماعة من المعمّرين ، وأشبع الكلام في بيان الأدلّة الدالّة على جواز طول الأعمار.

هذا كلّه مع ما ثبت في علم الحياة ، وعلم منافع الأعضاء ، وعلم الطبّ من إمكان طول عمر الإنسان إذا واظب على رعاية قواعد حفظ الصحّة ، وأنّ موت الإنسان ليس سببه أنّه عمّر تسعين أو ثمانين أو غيرهما ، بل لعوارض تمنع عن استمرار الحياة ، وقد تمكّن بعض العلماء كما ترى فيما نذكره عن «الهلال» من إطالة عمر بعض الحيوانات ٩٠٠ ضعف عمره الطبيعي ، فإذا اعتبرنا ذلك في الإنسان وقدّرنا عمره الطبيعي (٨٠ سنة) يمكن إطالة عمره (٧٢٠٠٠ سنة). وإليك مقطع من بعض المقالة الّتي نشرتها مجلّة «الهلال» في الجزء الخامس من السنة الثامنة والثلاثين ص ٦٠٧ مارس ١٩٣٠ :

كم يعيش الإنسان؟

من قلم : طبيب إنجليزي

يعتقد العامّة وبعض الخاصّة حتّى من الأطبّاء أنّ مدى عمر الإنسان سبعون سنة على المتوسّط كما جاء في التوراة ، وقلّ أن يجاوز ذلك ، وقد وقف رئيس مدرسة طبّيّة ذات يوم خطيبا في تلاميذه ، فقال : إنّ الأدلّة الباثولوجية تدلّ دلالة مقنعة على أنّ أنسجة الجسم تبلى بعد مرور زمان ما ، وأنّ هنالك حدّا محدودا لعمر الإنسان. فإذا صحّ قول هذا المدير فإنّ الأسباب الكثيرة الّتي تنشأ منها دورة العمر هي ثابتة غير متغيّرة دون متناول العلم. ولنفرض أنّ منطقة قنال بناما المشهورة بأمراضها الكثيرة قطعت عن سائر العالم. وكنّا نحن فيها نجهل أحوال الحياة والموت في العالم الّذي وراءها ، لو حدث ذلك لكنّا نقول : إنّ كثرة الوفيات في هذه المنطقة وقصر العمر امور معيّنة بحكم الطبيعة ، وأنّ التحكّم فيها دون متناول العلم. الفرق بين الأمرين هو في الدرجة لا في النوع ، فإنّ جهلنا لأسباب بعض الأمراض هو الّذي يحول دون تقليل الوفيات وإطالة الأعمار في العالم ، ودورة العمر كما نسمّيها متغيّرة ، قابلة لتأثير العلم فيها ، والّذي يعارضني في ذلك أسأله : أيّ دورة من أدوار العمر هي الثابتة؟ دورة العمر في الهند أم في نيوزيلند أم في أميركا أم في منطقة القنال؟ وأيّ الحرف الّتي نحترفها نقول عنها : إنّ

٢٧٦

__________________

دورة العمر فيها ثابتة وطبيعيّة ، أحرفة الفلكي الّتي الوفيات فيها ١٥ إلى ٢٠ في المائة تحت المتوسط ، أم المحاماة الّتي الوفيات فيها ٥ الى ١٥ فوق المتوسط ، أم تنظيف الشبابيك الّتي الوفيات فيها ٤٠ إلى ٦٠ في المائة فوق المتوسط؟ هذه أمثلة على عظم الفرق في متوسط الوفيات بين بعض الحرف على ما في إحصاءات بعض شركات التأمين.

وهناك أدلّة كثيرة على أنّ أدوار الحياة بين الأحياء ـ ومنها الإنسان ـ تغيّرت تغيّرا عظيما بالوسائل الصناعيّة ، وأنّ أدوار الحياة في بعض الأحياء تزيد كثيرا عمّا قدّر للإنسان ، فلما ذا تعيش السلحفاة ٢٠٠ سنة ، والإنسان ٧٠ سنة؟ ولم تعيش الخلايا الداخلية في بعض الأشجار ٤٠٠ سنة ، وفي الإنسان أقلّ من ١٠٠ سنة؟ وقد يقال جوابا عن هذا : إنّ الإنسان يدفع بذلك ثمن عيشته الحضريّة الراقية ، وتركيبه الراقي ، فالشجرة المشار إليها تمكث في بقعة واحدة فتظهر فيها جميلة ، ولكن أليس بين الرجال والنساء من لا يصنع أكثر ممّا تصنع الشجرة وينال أجرا على ذلك؟

وتجارب المختبرات البيولوجيّة ذات مغزى كبير ، فقد استطاع بعض العلماء استنبات أفخاذ الدعاميص (صغار الضفادع) من أجسادها قبل أوان خروجها بتغيير مقدار الأكسجين في الوسط الموجودة فيه ، وهذا بمثابة تغيير جوهري في دورة حياة الدعاميص. وكذلك تمكّن آخرون من إطالة عمر ذبابة الأثمار ٩٠٠ ضعف عمرها الطبيعي بحمايتها من السمّ والعدوى وتخفيض حرارة الوسط الّذي تعيش فيه. وتمكّن كارل بتجاربه من إبقاء الخلايا في قلب جنين دجاجة حيّا مدّة سبع عشرة سنة بصيانته من بعض العوامل في المحيط الذي وضع فيه.

وإذا نظرنا إلى العوامل المتسلّطة على دور حياة الإنسان وجدنا أنّه إذا أخذنا شيئا من المادّة المعروفة باسم «كراتن» والمستخرجة من غدّة درقيّة عليلة أمكننا إعادتها إلى حالتها الطبيعيّة بحقنها بخلاصة غدّة صحيحة ، وكثيرا ما انقذ الشخص المشرف على الموت بحقنه بخلاصة الكبد على أثر اشتداد إصابته بالإينميا الخبيثة ، وموته بها لا يختلف في مبدئه عن الموت على أثر الشيخوخة ، ويعاد المصاب بالسكّر الى حالته الطبيعيّة بحقنه بخلاصة البنكرياس.

وامتدّت أيدي العلماء إلى أصل الجرثومة وقد كان يظنّ أنّه لا يمكن العبث بها ، فتمكّنوا من تغيير جنس الضفادع والطيور من الذكور والإناث ، والعكس ، ولم يجرّب ذلك بعد في الإنسان ، ولكن ما دام هذا المبدأ قد تأيّد في الحيوان فلا يمنع تأييده في الإنسان إلّا

٢٧٧

__________________

جهلنا لأشياء لا بدّ أن تبدو لنا في المستقبل ، انتهى.

وذكر الشيخ طنطاوي جوهري في الجزء ١٧ من تفسيره الّذي سماه بالجواهر ص ٢٢٤ في تفسير قوله تعالى : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) مقالة نشرتها مجلّة «كلّ شيء» ، تحكي عن إمكان إطالة العمر ، وتجديد قوى الشيوخ ، وأنّ الأستاذ أو الدكتور فورونوف الّذي طار اسمه في كلّ ناحية لا كطبيب بل كمبشّر بإمكان إطالة الأعمار إلى ما فوق المائة ، وبإمكان عود الشباب ، تجارب ذلك في الحيوانات ، قال : قد عملت إلى الآن (٦٠٠) عملية ناجحة ، وأقول الآن عن اقتناع : إنّه لا ينصرم القرن العشرون حتّى يمكن تجديد قوى الشيوخ ، وإزالة غبار السنين عن وجوههم كثيرة الغضون والأسارير ، وأجسامهم المحدوبة الهزيلة ، ويمكن أيضا تأخير الشيخوخة ، ومضاعفة العمر الّذي هو الآن ٧٠ سنة على الغالب ، وسيبقى الدماغ والقلب صحيحين إلى الآخر ، وقد يمكن تغيير الصفات والشخصيّات والعادات بهذه الطريقة ، فتقلّ الجرائم ، وتخلق العبقريّات ، وتفرغ الشخصيّات في قوالب على حسب الطلب.

وذكر أيضا عن المجلّة المذكورة مقالة اخرى ص ٢٢٦ وهي هذه : «كم يجب أن نعيش؟

وفوائد اخرى» يقول هوفلند أحد العلماء الّذين صرفوا عنايتهم إلى درس الحياة في كتاب وضعه وجعل عنوانه (فنّ إطالة العمر) : إنّ المرء يولد مستعدّا للحياة قرنين من حيث تركيب بنيته ونظام قواه قياسا على ما نراه في الحيوانات ، أليس الإنسان حيوانا مثلها؟ على أنّ هوفلند لم ينفرد في هذا الرأي ، فكلّ الّذين يدرسون طبائع المخلوقات يرون رأيه ، ويرون طلائع النور من أبحاثهم بإمكان إطالة العمر ... الى أن قال : ويدعم هذا الرأي ما نراه من حياة بعض الناس الّذين عاشوا أعمارا طويلة : إنّ هنري جنسكس الانجليزي الّذي ولد في ولاية يورك بانكلترا عاش (١٦٩ سنة) ولمّا بلغ سن ١١٢ كان يحارب في معركة فلورفيلد ، وجون بافن البولندي عاش (١٧٥ سنة) ، ورأى بعينه ثلاثة من أولاده يتجاوزون المائة من أعمارهم ، ويوحنا سور تنغتون النرويجي الّذي توفّي سنة (١٧٩٧ م) عاش (١٦٠ سنة) ، وكان بين أولاده من هو في المائة وخمس سنوات ، وطوزمابار عاش (١٥٢ سنة) ، وكورتوال (١٤٤ سنة) ، على أنّ أكثر من عاش بين البشر حديثا على ما يعرف هو زنجي بلغ (٢٠٠ سنة) ، والإحصاءات تدلّ على أنّ أعمار الناس أطول في أسوج ، والنرويج ، وانكلترا ، منها في فرنسا ، وايطاليا ، وكلّ جنوب اوربا ، كما أنّ الّذين عاشوا هذه الأعمار الطويلة إنّما عاشوها ببساطة ، وكانت حياتهم حياة جدّ وعمل.

٢٧٨

__________________

لا مشاحة في أنّ العمل والعادات والاعتدال من العوامل الرئيسة لإطالة العمر ، فالإفراط في كلّ أمر مع الانحراف عن النظام الطبيعيّ هو سبب تقصير أعمارنا ... الخ.

والغرض من ذلك كلّه أنّ مسألة طول العمر ليست من المسائل التي وقعت موقع إنكار العلماء وأرباب المذاهب والأديان ، بل قرّره كلّ واحد منهم من طريق فنّه وعلمه ، أو من طريق دينه ومذهبه ، فكلّما كان الإنسان بقواعد حفظ صحّة البدن أعرف يكون عمره أطول ، وكلّما كان أسباب تقصير العمر أكثر يكون نصيبه من حياته أقل وعمره أقصر ، قال بعض الأطبّاء : «الموت ينشأ عن المرض لا عن الشيخوخة» ، والأمراض تنشأ من أسباب كثيرة ، ليس بعضها تحت اختيار الإنسان نفسه كجهل آبائه وامّهاته بقواعد حفظ الصحّة وعدم رعايتهم لها ، فإنّ لسلامة مزاج الوالدين دخلا عظيما في اعتدال مزاج طفلهما ، وهكذا رعايتهما لآداب النكاح وقواعده ، وهكذا حسن تربيتهما له ، وكسوء البيئة وفساد المحيط وغيرها ، وبعضها تحت اختياره ، فهو متمكّن عن إزالته ، وذلك مثل الإفراط في الأكل والشرب ، وعدم الترتيب والنظم الصحيح في الأفعال وأعمال الغرائز والقوى ممّا يوجب الاختلال في المزاج ، ومثل الأخلاق الرذيلة والصفات السيّئة والمعتقدات الباطلة ، فإنّها تورث الاضطرابات الروحيّة ، والابتلاء بالوساوس الخبيثة الّتي لا تدع نفس الانسان في طمأنينة وسكون ، فلو أنّ إنسانا سدّ هذه الأبواب ، وتسلّط على جميع ذلك ممّا يدخل النقص في بدنه وعمره ، واعتدل في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه وغيرها ، لما كان لعمره وحياته حدّ ، ولا يمتنع بحسب القواعد العلميّة بقاؤه أبدا. نعم ثبت بأخبار الأنبياء أن لا بدّ لكلّ نفس أن تذوق الموت ، وأنّ كلّ شيء فان ، وأينما تكونوا يدرككم الموت ، ولكن هذا لا ينفي تعمير الانسان ألوفا من السنين وأزيد.

ونختم الكلام في هذا الموضوع بذكر مقالة نقلت في (المهديّ) وغيره عن مجلّة «المقتطف» في الجزء الثالث من السنة التاسعة والخمسين في ذيل عنوان : (هل يخلد الإنسان في الدنيا؟).

وقالت : ما هي الحياة وما هو الموت ، وهل قدّر الموت على كلّ حيّ؟

كلّ حبّة حنطة جسم حيّ ، وقد كانت في سنبلة ، والسنبلة تنبت من حبّة اخرى ، وهذه من سنبلة ، وهلمّ جرّا بالتسلسل ، ويسهل استقصاء تاريخ ستّة آلاف سنة أو أكثر ، فقد وجدت حبوبه بين الآثار المصريّة والآشوريّة القديمة ، دلالة على أنّ المصريّين والآشوريّين والأقدمين كانوا يزرعونه ، ويستغلّونه ، ويصنعون خبزهم من دقيقه ،

٢٧٩

__________________

والقمح الموجود الآن لم يخلق من لا شيء ، بل هو متسلسل من ذلك القمح القديم فهو جزء حيّ من جزء حيّ ، وهلمّ جزّا إلى ستة آلاف سنة أو سبعة ، بل إلى مئات الألوف من السنين وحبوب القمح الّتي نراها ناشفة لا تتحرّك ولا تنمو ، هي في الحقيقة حيّة مثل كلّ حيّ ، ولا ينقصها لظهور دلائل الحياة إلّا قليل من الماء ، فحياة القمح متّصلة منذ ألوف من السنين إلى الآن ، وهذا الحكم يطلق على كلّ أنواع النبات ذوات البذور وذوات الأثمار ، وما الحيوان بخارج عن هذه القاعدة ، فإنّ كلّ واحد من الحشرات والأسماك والطيور والوحوش والدبابات حتّى الإنسان سيّد المخلوقات كان جزءا صغيرا من والديه فنما كما نميا وصار مثلهما ، وهما من والديهما وهلمّ جرا ، والإنسان الّذي يخلف نسلا يكون نسله جزءا حيّا منه كما أنّ البذرة جزء من الشجرة وهذا الجزء الحيّ تكوّن فيه جراثيم صغيرة جدّا مثل الجراثيم الّتي كوّنت أعضاء والديه ، فتكون أعضاؤه بالغذاء الّذي تتناوله وتمثّله فتصير نواة التمر نخلة ذات جذع وسعوف وعروق وثمر ، وبذرة الزيتون شجرة ذات ساق وأغصان وورق وثمر ، وقس على ذلك سائر أنواع النبات ، وكذا بيوض الحشرات والأسماك والطيور والوحوش والدبابات حتّى الإنسان.

وهذا كلّه من الامور المعروفة الّتي لا يختلف فيها اثنان ، ولكن الشجرة نفسها قد تعمّر ألف سنة أو ألفي سنة ، والإنسان لا يعمّر أكثر من سبعين أو ثمانين سنة ، وفي النادر يبلغ مائة سنة ، فالجراثيم المعدّة لإخلاف النسل تبقى حيّة وتنمو كما تقدّم ، ولكن سائر أجزاء الجسم تموت كأنّ الموت مقدور عليه ، وقد مرّت القرون والناس يحاولون التخلّص من الموت أو إطالة الأجل ، ولا سيما في هذا العصر ، عصر مقاومة الأمراض والآفات بالدواء والوقاية ، ولم يثبت على التحقيق أنّ أحدا عاش فيه (١٢٠ سنة).

لكنّ العلماء الموثوق بعلمهم يقولون : إنّ كلّ الأنسجة الرئيسيّة من جسم الحيوان «أقول» : الثابت على التحقيق خلاف ذلك ، فإنّ في عصرنا عاشوا جماعة أكثر من ١٢٠ سنة ، وكثيرا ما نقرأ في الصحف والمجلات أنّ فلانا عاش ١٧٠ سنة ، أو أكثر ، أو أقلّ ، منهم الشيخ محمّد سمحان على ما هو المذكور في مجلّة فارسيّة (صبا) العدد ٢٩ من السنة الثالثة سنة (١٣٢٤ ش ه) فقد عاش إلى السنة المذكورة (١٧٠ سنة) ، ونقل ذلك عن مجلّة الاثنين المطبوعة في القاهرة ، ومنهم السيّد ميرزا القاساني ساكن محلّة محتشم على ما في جريدة (برجم إسلام) العدد الثالث من السنة الثانية ، فإنّه قد بلغ عمره (١٥٤ سنة) ، والمعمّرون البالغون في العمر (١٢٠ سنة) كثيرون جدّا ، قد رأينا بعضهم ، ولا حاجة لإثبات ذلك إلى نقل ما في الجرائد والمجلات والإحصائيّات.

٢٨٠