الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-014-2
الصفحات: ٢٥٦
الجزء ١ الجزء ٢

٣. الاستصلاح

أو

المصالح المرسلة

المصالح المرسلة : عبارة عن تشريع الحكم في واقعة لا نصّ فيها ، ولا إجماع ، وفقَ مصلحة مرسلة لم يدلّ دليل على اعتبارها ولا على عدم اعتبارها ، وفي الوقت نفسه في اعتبارها جلب نفع أو دفع ضرر.

فقد ذهب مالك وآخرون تبعاً له إلى أنّ الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الأحكام فيما لا نصّ فيه ولا إجماع ، ولكنّ الشافعي ومن تبعه ذهبوا إلى أنّه لا استنباط ولا استصلاح ، ومن استصلح فقد شرّع.

وقد استدل عليها بما يلي :

إنّ الحياة في تطوّر مستمر ومصالح الناس تتجدّد وتتغيّر في كل زمن. فلو لمتشرّع الأحكام المناسبة لتلك المصالح لوقع الناس في حرج ، وتعطّلت مصالحهم في مختلف الأزمنة والأمكنة ، ووقف التشريع عن مسايرة الزمن ومراعاة المصالح والتطورات ، وهذا مصادم لمقصد التشريع في مراعاة مصالح الناس وتحقيقها. (١) وقد اشترط الإمام مالك فيها شروطاً ثلاثة :

١. أن لا تنافي إطلاق أُصول الشرع ولا دليلاً من أدلّته.

٢. أن تكون ضرورية للناس مفيدة لهم ، أو دافعة ضرراً عنهم.

٣. أن لا تمسَّ العبادات ، لأنّ أغلبها لا يعقل لها معنى على هذا التفسير. (٢)

__________________

(١). الوجيز في أُصول الفقه : ٩٤ لابن وهبة.

(٢). الدكتور أحمد شلبي : تاريخ التشريع الإسلامي : ١٧٣١٧٢.

٨١

فلنذكر عدّة أمثلة :

١. ما روي انّ عمر منع إعطاء المؤلّفة قلوبهم ما كانوا يأخذونه في عهد الرسول بعد ما قوي الإسلام.

٢. تجديد عثمان أذاناً ثانياً لصلاة الجمعة لمّا كثر المسلمون ، ولم يكف الأذان بين يدي الخطيب وإعلامهم.

٣. اشتراط سن معيّنة للمباشرة عند الزواج.

٤. انشاء الدواوين وسَكِّ النقود.

أقول : إنّ الإمعان في الدليل يثبت بأنّ اللجوء إلى قاعدة الاستصلاح لأجل أمرين :

١. إعواز النصوص في المسائل الفرعية المستجدة ذات المصالح. فلم يجدوا بُدّاً من تشريع الحكم على وفقها.

ومعنى هذا أنّهم وجدوا التشريع الإسلامي الموروث من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) غير واف بحاجات الناس المستجدة ، لأنّ الحاجات كثيرة والمصادر قليلة ، ولا يفي القليل بالكثير.

٢. أنّهم أعطوا لأنفسهم حقّ التشريع في تلك المواضع.

وكلا الأمرين لا يوافقان روح الإسلام لتصريحه بكمال الدين ، وكماله رمز كمال تشريعه ، فكيف لا يكون التشريع الموروث عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وافياً بالمقصود مع أنّه سبحانه قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)؟! (١) كما أنّ حقّ التشريع مختص بالله سبحانه لم يفوِّضه لأحد ، وقد بيّنه بقوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ

__________________

(١). المائدة : ٣

٨٢

لا يَعْلَمُونَ). (١) والنظر الحاسم في المقام هو : إنّ استخدام المصالح المرسلة في مجال الإفتاء يتصوّر على وجوه :

الأوّل : الأخذ بالمصلحة وترك النصّ بالمصلحة المزعومة ، وهذا نظير إمضاء الطلاق ثلاثاً ، ثلاثاً.

روى مسلم عن ابن عباس كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناها عليهم ، فأمضاه عليهم. (٢)

لا شكّ أنّ الخليفة صدر في حكمه هذا عن مصلحة تخيّلها ، ولكنّ هذا النوع من الاستصلاح رفض للنصّ في موردها ، وهو تشريع محرّم.

وعلى هذا نهى الخليفة عن متعة الحج ومتعة النساء ، والحيعلة في الأذان.

الثاني : إذا كان الحكم على وفق الاستصلاح مخالفاً لإطلاق الدليل كما هو الحال في منع إعطاء المؤلّفة قلوبهم ، فإنّ مقتضى إطلاق الآية كونهم من مصارف الزكاة ، سواء أكان للإسلام قوّة أم لا ، فتخصيص الحكم بحالة ضعف الإسلام تقديم للرأي على إطلاق الكتاب ، وقد مرّ عن الإمام مالك أنّ من شرائط العمل بالاستصلاح عدم مخالفته لإطلاق أُصول الشرع.

الثالث : أن يكون الحكم على وفق المصلحة مستلزماً لإدخال ما ليس من الدين في الدين ، فيكون تشريعاً محرّماً بالأدلّة الأربعة ، وقد عرفت أنّ من الشرائط

__________________

(١). يوسف : ٤٠.

(٢). صحيح مسلم : ١٨٣ / ٤ ، باب الطلاق الثلاث ، الحديث ١.

٨٣

التي اعتبرها مالك بن أنس أن لا تمس المصالح المرسلة العبادات ، لأنّ أغلبها توقيفية ، وعلى هذا يكون الأذان الثاني أو الثالث بدعة محرّمة.

وأمّا المصلحة المزعومة من عدم كفاية الأذان بين يدي الخطيب لإعلامهم فلا يكون مسوّغاً لتشريع أذان آخر ، وإنّما يتوصل إليه بأمر آخر.

الرابع : أن يكون المورد ممّا ترك أمره إلى الحاكم الإسلامي ، ولم يكن للإسلام فيه حكم خاص ، وهذا كتجنيد الجنود وإعداد السلاح وحماية البلاد ، فإنّ القانون هو ما ورد من قوله سبحانه :(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ). (١)

وأمّا تطبيق هذا القانون الكلّي فهو رهن المصالح ، فللحاكم تطبيق القانون الكلّي على حسب المصالح ، وهذا كتدوين الدواوين ، وسك النقود ، فإنّ الحكم الشرعي فيها هو حفظ مصالح المسلمين وصيانة بلادهم من كيد الأعداء.

وعلى هذا فالاستصلاح أو المصالح المرسلة تتحدّد بهذا القسم دون سائر الأقسام.

الخامس : تشريع الحكم حسب المصالح والمفاسد العامّة ، فلو افترضنا أنّ موضوعاً مستجداً لم يكن له نظير في عصر النبي والأئمّة المعصومين ، وفيه مصلحة عامة للمجتمع ، كالتلقيح للوقاية من الجدريّ أو مفسدة لهم ، كالمخدّرات القتّالة فالعقل يحكم بارتكاب الأُولى والاجتناب عن الثانية فيمكن أن يكون الاستصلاح منشأ لكشف العقل عن حكم شرعي من دون أن يكون للمجتهد حقّ التشريع.

وبذلك يظهر أنّ الاستصلاح لا يكون سبباً للتشريع ، وإنّما العقل ببركة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد القطعيّة ، يكشف عن الحكم الشرعي.

__________________

(١). الأنفال : ٦٠.

٨٤

٤. سد الذرائع

الذرائع جمع ذريعة بمعنى الوسيلة ، فقد تطلق ويراد منها مقدّمة الشيء ، أعني ما يتوقف عليه وجوده ، من غير فرق بين أن يكون واجباً كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة أو حراماً كالمشي إلى النميمة أو استماع الغيبة.

وقد تطلق ويراد منها ما يفضي إلى الحرام ، وإن لم يكن وجود الشيء متوقفاً عليه كضرب المرأة برجلها ذات الخلاخيل فإنّه ذريعة للافتتان بها ، فإنّ الضرب بالأرجل في هذه الحالة يُفضي إلى الافتتان وإن كان الافتتان لا يتوقف على الضرب بالأرجل.

وعلى هذا ، فحكم الذرائع بالإطلاق الاوّل تابع لحكم ذي الذريعة ، فلو كانت ذريعة للواجب أو المستحب أو الحرام توصف بحكمه على القول بالملازمة بين وجوب الشيء أو حرمته وبين وجوب مقدمته أو حرمته. ويكون سدّ الذرائع عنواناً آخر لحكم المقدمة الذي يبحث عنه في الأُصول.

كما أنّ الذريعة بالاطلاق الثاني تدخل في الإعانة على الإثم وتكون محكومة بحكمها ، يقول سبحانه : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ). (١)

وبذلك تبيّن انّه ليس سدّ الذرائع مصدراً فقهيّاً مستقلاً بل هو داخل في أحد العنوانينحرمة مقدّمة الحرام ، أو حرمة الإعانة بالإثم).

وقد أكثرت المالكية والحنابلة من إعماله خلافاً للحنفية حيث حلّ فتح الذرائع مكانها كما سيوافيك.

__________________

(١). الأنعام : ١٠٨.

٨٥

٥. فتح الذرائع

(لحيل)

إنّ فتح الذرائع من أُصول الحنفية كما أنّ سد الذرائع من أُصول المالكية ، وقد صارت هذه القاعدة مثاراً للنزاع وسبباً في الطعن بالحنفية حيث إنّ نتيجة التحيّل ، إبطال مقاصد الشريعة.

ومن أكثر الناس ردّاً للحيل ، الحنابلة ثمّ المالكية ، لأنّهم يقولون بسدِّ الذرائع ، وهو أصل مناقض للحيل تمام المناقضة.

إنّ إعمال الحيل على أقسام :

الأوّل : أن يكون التوصل بها منصوصاً في الكتاب والسنّة فليس المكلّف هو الذي يتحيّلها ، بل الشارع رخّص في الخروج عن المضائق بطريق خاص ، كتجويز السفر في شهر رمضان لغاية الإفطار ، وقال :(وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). (١)

الثاني : إذا كان هناك أمر واحد له طريقان أحلّ الشارع أحدهما وحرّم الآخر ، فلو سلك الحلال لا يعد ذلك تمسّكاً بالحيلة ، لأنّه اتخذ سبيلاً حلالاً إلى أمر حلال ، وذلك كمبادلة المكيل والموزون من المثلين ، فلو بادل التمر الرديء بالجيد متفاضلاً عُدّ رباً محرماً ، دون ما يباع كل على حدة ، فالنتيجة واحدة ولكن السلوك مختلف.

الثالث : إذا كان السبب غير مؤثر في حصول النتيجة شرعاً ، فالتوصّل بمثله

__________________

(١). البقرة : ١٨٥.

٨٦

محرم غير ناتج ، وذلك كالمثال الذي نقله البخاري عن أبي حنيفة وقال : في مسألة «إذا غصب جارية فزعم انّها ماتت» فحكم القاضي في المفروض بقيمة الجارية الميّتة ، ثمّ وجدها صاحبها ، فالجارية لصاحبها وترد القيمة ولا تكون القيمة ثمناً.

ثمّ أضاف البخاري وقال : قال بعض الناس يريد أبا حنيفة «الجارية للغاصب لأخذه القيمة».

ثمّ إنّ البخاري ردّ عليه بقوله : «وفي هذا احتيال لمن اشتهى جارية رجل لا يبيعها فغصبها ، واعتلَّ بأنّها ماتت حتى يأخذ ربُّها قيمتها ، فيطيب للغاصب جارية غيره ، ثمّ رد على أبي حنيفة ، بقوله : قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «أموالكم عليكم حرام ولكل غادر لواء يوم القيامة». (١)

وهذا النوع من الاحتيال حرام ، لأنّ السبب الأصلي في كلام أبي حنيفة (زعم الغاصب موت الجارية) غير مؤثر في الانتقال فلا تقع ذريعة لتملّكها ، كما أنّ إخبار الغاصب بموت الجارية جازماً أو عالماً بالخلاف (السبب الفرعي في كلام البخاري) لا يكون سبباً لخروج الجارية عن ملك صاحبها وخروج قيمتها عن ملك الغاصب ، فعدم جواز التحيّل يرجع إلى أنّ السبب غير مؤثر.

الرابع : إذا كانت الوسيلة حلالاً ، ولكن الغاية هي الوصول إلى الحرام على نحو لا تتعلّق إرادته الجدية إلّا بالمحرّم ، ولو تعلّقت بالسبب فإنّما تعلّقت به صورياً لا جدياً ، كما إذا باع ما يساوي عشرة بثمانية نقداً ثمّ اشتراه بعشرة نسيئة إلى أربعة أشهر ، فمن المعلوم أنّ الإرادة الجدية تعلّقت باقتراض ثمانية ودفع عشرة وحيث إنّه رباً محرّم احتال ببيعين مختلفين مع عدم تعلّق الإرادة الجدية بهما ، فيكون فتح هذه الذريعة أمراً محرّماً ، وهذا ما يسمّى ببيوع الآجال ، وقد أشار سبحانه إلى

__________________

(١). البخاري : الصحيح : ٣٢ / ٩ ، كتاب الإكراه.

٨٧

هذا النوع من فتح الذرائع بقوله سبحانه : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١). (٢)

٦. قول الصحابي

تَعدّ المذاهب غير المذهب الحنفي قولَ الصحابي من مصادر التشريع إجمالاً ، والتحقيق انّ لقول الصحابي صوراً يختلف حكمها باختلاف الصور :

١. لو نقل قول الرسول وسنّته يؤخذ به إذا اجتمعت فيه شرائط الحجّية.

٢. لو نقل قولاً ولم يسنده إلى الرسول ودلّت القرائن على أنّه نقل قول لا نقل رأي ، فهو يعدّ في مصطلح أهل الحديث من الموقوف للوقف على الصحابي من دون إسناد إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فليس حجّة لعدم العلم بكونه قول الرسول.

٣. إذا كان للصحابي رأي في مسألة ولم يقع موقع الإجماع إمّا لقلّة الابتلاء ، أو لوجود المخالف ، فهو حجّة لنفس الصحابي المستنبِط ولمقلّديه إذا كان مفتياً وقلنا بجواز تقليد الميت ، وليس بحجّة للمجتهد الآخر.

نعم ذهب مالك وبعض الأحناف إلى حجّيته ، واختار الإمام الرازي والأشاعرة والمعتزلة عدم كونه حجّة ، وثمة كلمة قيمة للشوكاني (المتوفّى ١٢٥٥ ه‍) ننقلها بنصّها قال : والحقّ انّه رأي الصحابي ليس بحجّة ، فإنّ الله لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلّا نبينا محمّداً (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وليس لنا إلّا رسول واحد وكتاب واحد وجميع الأُمّة

__________________

(١). الأعراف : ١٦٣.

(٢). مجمع البيان : ٤٩٠ / ٢ ، ط صيدا. واقرأ سبب نزولها فيه.

٨٨

مأمورة باتّباع كتابه وسنّة نبيه ، ولا فرق بين الصحابة ومن بعدهم في ذلك ، فكلّهم مكلّفون بالتكاليف الشرعية وباتباع الكتاب والسنّة ، فمن قال : إنّها تقوم الحجّة في دين الله عزوجل بعد كتاب الله تعالى وسنّة رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وما يرجع إليها ، فقد قال في دين الله بما لا يثبت. (١)

وهناك حقيقة مرّة وهي أنّ حذف قول الصحابي من الفقه السنّي الذي يعد الحجر الأساس للبناء الفقهيّ على صعيد التشريع ، يوجب انهيار صَرْحِ البناء الذي أُشيد عليه وبالتالي انهيار القسم الأعظم من فتاواهم ، ولو حلَّ محلّها فتاوى أُخرى ربما استتبع فقهاً جديداً لا أنس لهم به.

٧. إجماع أهل المدينة

ذهب مالك إلى حجّية اتّفاق أهل المدينة قائلاً : بأنّ أهل المدينة أعرف الناس بالتنزيل ، فالحق لا يخرج عمّا يذهبون إليه ، فيكون عملهم حجّة يقدم على القياس وخبر الواحد ، وقد أفتى بمسائل نظراً لاتفاق أهل المدينة عليها. نظير الجمع بين الصلاتين ليلة المطر ، والقضاء بشهادة واحد ويمين صاحب الحق ، والاسهام في الجهاد لفرس أو لفرسين (٢) ؛ وقد ردّ عليه معاصره الليث بن سعد في رسالة مبسّطة.

لكن القول الحاسم : إنّ اتّفاق أهل المدينة لو كان ملازماً لقول المعصوم ملازمة عادية فيؤخذ به ، وإلّا فلا يكون حجّة ، ومثله اتّفاق المصرين الكوفة

__________________

(١). إرشاد الفحول : ٢١٤.

(٢). اعلام الموقعين : ٩٤ / ٣ ١٠٠ ، طبع دار الفكر.

٨٩

والبصرة وإلّا فلا قيمة لاتفاق فئة ليسوا بمعصومين.

وكان على الإمام مالك أن يعدَّ اتّفاق أئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) أحد الحجج ، مكان عدّ إجماع أهل المدينة منها ، لأنّهم معصومون بنصِّ الكتاب وتصريح صاحب الرسالة.

هذه هي الأمارات التي عدّها فقهاء أهل السنّة حججاً شرعيّة ، وقد تجلّت الحقيقة ، واتضح الحق وليس وراءه شيء.

٩٠

المقصد السابع

في الأُصول العملية

البراءة ، التخيير

الاشتغال ، والاستصحاب

٩١
٩٢

الأُصول العملية

إنّ المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعي تحصل له إحدى حالات ثلاث :

١. القطع ، ٢. الظن ، ٣. الشك.

فإن حصل له القطع فقد فرغنا عن حكمه في بابه ، وانّه حجّة عقلية لا مناص من العمل على وفقه ، وإن حصل له الظن فالأصل فيه عدم الحجّية إلّا إذا دلّ الدليل القطعي على صحّة العمل به.

وإن حصل له الشكّ يجب عليه العمل وفق القواعد التي قررها العقل والنقل للشاك. (١) ثمّ إنّ المستنبط إنّما ينتهي إلى تلك القواعد التي تسمى ب «الأُصول العملية» إذا لم يكن هناك دليل قطعي ، كالخبر المتواتر ، أو دليل علمي كالظنون المعتبرة التي دلّ على حجّيتها الدليل القطعي وتسمّى بالأمارات والأدلّة

__________________

(١). انّ تقسيم حال المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعيّ إلى حالات ثلاث ، تقسيم طبيعيّ ، ولا يختص التقسيم الثلاثي بمورد التكليف بل كلّ موضوع وقع في أُفق الالتفات ، فهو بين إحدى حالات ثلاث فمن قال بأنّ للمكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعي إحدى حالات ثلاث فقد انطلق من هذا المنطَلق ، واستلهم عن تلك القاعدة العامّة. فما أورده المحقّق الخراساني على التقسيم الثلاثي ، من «إرجاعه إلى الثنائي من انّ الظن بالحكم إن كان حجّة فهو ملحق بالقطع بالحكم (الظاهري) وإلّا كان في حكم الشكّ ، فليس هنا إلّا القطع بالحكم أو الشكّ فيه» غفلة عن ملاك التقسيم الثلاثي وإن كان للثنائي منه أيضاً ملاك.

٩٣

الاجتهادية ، كما تسمّى الأُصول العملية ، بالأدلة الفقاهية ، وإلّا فلا تصل النوبة إلى الأُصول مع وجود الدليل.

وبذلك تقف على ترتيب الأدلّة في مقام الاستنباط ، فالمفيد لليقين هو الدليل المقدّم على كلّ دليل ، ويعقبه الدليل الاجتهادي ثمّ الأصل العملي.

إنّ الأُصول العملية على قسمين :

القسم الأوّل : ما يختصّ بباب دون باب ، نظير :

أ : أصالة الطهارة المختصة بباب الطهارة والنجاسة.

ب : أصالة الحلّية المختصة بباب الشك في خصوص الحلال والحرام.

ج : أصالة الصحة المختصة بعمل صدر عن المكلّف وشُكّ في صحّته وفساده ، سواء أكان الشكّ في عمل نفس المكلّف فيسمّى بقاعدة التجاوز والفراغ ، أو في فعل الغير فيسمّى بأصالة الصحّة.

القسم الثاني : ما يجري في عامة الأبواب الفقهية كافة وهي حسب الاستقراء أربعة :

الأوّل : البراءة.

الثاني : التخيير.

الثالث : الاشتغال.

الرابع : الاستصحاب.

فهذه أُصول عامّة جارية في جميع أبواب الفقه ، إنّما الكلام في تعيين مجاريها وتحديد مجرى كلّ أصل متميّزاً عن مجرى أصل آخر ، وهذا هو المهم في المقام ، وقد اختلفت كلمتهم في تحديد مجاريها والصحيح ما يلي :

٩٤

تحديد مجاري الأُصول

إنّ الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه أو لا يكون. فالأوّل مورد الاستصحاب ؛ والثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً ، أو لا ؛ والثاني مورد التخيير ، والأوّل إمّا أن يدلّ دليل عقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول أو لا ؛ والأوّل مورد الاحتياط ، والثاني مورد البراءة. (١)

وعلى ذلك فقد عُيِّن مجرى كلّ أصل بالنحو التالي :

أ. مجرى الاستصحاب : أن تكون الحالة السابقة ملحوظة.

ب. مجرى التخيير : أن لا تكون الحالة السابقة ملحوظة وكان الاحتياط غير ممكن.

ج. مجرى الاشتغال : إذا أمكن الاحتياط ونهض دليل على العقاب لو خالف.

د. مجرى البراءة : إذا أمكن الاحتياط ولم ينهض دليل على العقاب بل على عدمه من العقل ، كقبح العقاب بلا بيان ، أو من الشرع كحديث الرفع.

ومما ذكرنا يُعلم أنّ ما هو المعروف من أنّ الشكّ في التكليف مجرى البراءة غير تام بل مجرى البراءة عمّا لم ينهض فيه دليل على العقاب في صورة وجود التكليف ، وإلّا يجب الاحتياط وإن كان الشكّ في التكليف كما في الشكّ فيه قبل الفحص فيجب الاحتياط مع كون الشكّ في التكليف.

كما أنّ ما هو المعروف من أنّ الشكّ في المكلّف به الذي هو عبارة عمّا إذا علم نوع التكليف مع تردد المكلّف به بين أمرين ، كالعلم بوجوب إحدى

__________________

(١). انّ للشيخ في أوّل رسالة القطع تقريرين مختلفين في تحديد مجارى الأُصول ، وقد عدل عنهما في أوّل رسالة البراءة إلى تقرير ثالث وهو الذي أوردناه في المقام لإتقانه.

٩٥

الصلاتين مجرى الاحتياط غير تام بل مجرى الاشتغال هو ما إذا أمكن الاحتياط ونهض دليل على العقاب لو خالف وإن كان نوع التكليف مجهولاً كما إذا علم بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر ، فالعلم بالالزام أي الجنس الجامع بين الوجوب والحرمة موجب للاحتياط لوجود الدليل على العقاب وإن كان نوع التكليف مجهولاً.

والحاصل انّ ما ذكرنا من الميزان لمجرى البراءة والاشتغال أولى من جعل الشكّ في التكليف مجرى البراءة والشكّ في المكلّف به مجرى الاشتغال.

هذه هي الأُصول العملية الأربعة وهذه مجاريها على النحو الدقيق ، وإليك البحث في كلّ من هذه الأُصول العملية الأربعة واحداً تلو الآخر.

٩٦

الأصل الأوّل

أصالة البراءة

عقد الشيخ الأعظم لمبحث البراءة فصولاً ثلاثة باعتبار انّ الشبهة تكون إمّا تحريمية أو وجوبية أو مشتبهة بينهما ، فهذه مطالب ثلاثة.

ثمّ عقد لكلّ فصل مسائل أربع وذلك ، لأنّ منشأ الشكّ في الجميع أحد الأُمور الأربعة.

فقدان النصّ ، أو إجماله ، أو تعارض النّصين ، أو خلط الأُمور الخارجية ، وعلى ضوء ذلك فباب البراءة مشتمل على مطالب ثلاثة في اثنتي عشرة مسألة ، وبذلك طال كلامه في المقام.

وأمّا ما هو السبب لعقد الفصول الثلاثة على حدة فهو يرجع إلى أمرين :

أ : اختصاص النزاع بين الأُصولي والأخباري بالشبهة الحكمية التحريمية دون الوجوبية ودون الموضوعية منها ، ودون دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.

ب : اختصاص بعض أدلّة البراءة بالشبهة التحريمية ولا تعم الوجوبية والموضوعية ، مثل قوله : «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهى».

لكنّ المحقّق الخراساني أدخل جميع المسائل تحت عنوان واحد وبحث عن الجميع بصفقة واحدة «وهو من لم يقم عنده حجّة على واحد من الوجوب والحرمة وكان عدم نهوض الحجّة لأجل فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه أو خلط الأُمور الخارجية» ولكلّ من السلوكين وجه.

وبما انّا اقتفينا أثر الشيخ الأعظم في الموجز ، نمسك عن الاطالة ونعقد

٩٧

للجميع عنواناً واحداً فنقول :

دلّت الأدلة على أنّ الوظيفة العملية فيما إذا أمكن الاحتياط ولكن لم ينهض دليل على العقاب حسب تعبيرنا أو إذا كان الشكّ في التكليف حسب تعبير المشهور هو البراءة وعدم وجوب الاحتياط ، فلنذكر ما هو المهم من الأدلة روماً للاختصار :

الاستدلال بالكتاب

١. التعذيب فرع البيان

دلّت آيات الذكر الحكيم على أنّه سبحانه لا يعذِّب قوماً على تكليف إلّا بعد بعث الرسول الذي هو كناية عن بيان التكليف ، وقد تواتر ذلك المضمون في الآيات الكريمة نذكر منها ما يلي :

١. قال سبحانه :(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). (١)

٢. وقال تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ). (٢)

والاستدلال بالآيتين مبني على أمرين :

الأوّل : انّ صيغة «وما كنّا» أو «ما كان» تستعمل في إحدى معنيين : إمّا نفي الشأن والصلاحية لقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٣) ، أو نفي الإمكان كقوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا

__________________

(١). الإسراء : ١٥.

(٢). القصص : ٥٩.

(٣). البقرة : ٨١٤٣

٩٨

بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً). (١)

الثاني : انّ بعث الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كناية عن إتمام الحجّة على الناس ، وبما انّ الرسول أفضل واسطة للبيان والإبلاغ أُنيط التعذيب بالرسول ، وإلّا يصحّ العقاب ببعث غيره أيضاً لوحدة المناط وحصول الغاية المنشودة.

وعلى ضوء ذلك فلو لم يبعث الرسول بتاتاً ، أو بعث ولم يتوفق لبيان الأحكام أبداً ، أو توفق لبيان البعض دون البعض الآخر ، أو توفق للجميع لكن حالت الحواجز بينه وبين بعض الناس ، لقبح العقاب إلّا في الواصل من التكليف ، وذلك لاشتراك جميع الصور في عدم تمامية الحجة.

والمكلف الشاك في الشبهات التحريمية من مصاديق القسم الأخير ، فإذا لم يصل إليه البيان لا بالعنوان الأوّلي ولا بالعنوان الثانوي كإيجاب الاحتياط ، ينطبق عليه قوله سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)أي نُبيّن الحكم والوظيفة.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يعلّق إهلاك القرية على وجود المنذر ويقول : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ). (٢) هذا كلّه حول الآيتين الأُوليين.

٣. وقال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى). (٣)

٤. وقال سبحانه : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). (٤)

والاستدلال بهما مبني على أنّه سبحانه استصوب منطق المجرمين ، وهو

__________________

(١). آل عمران : ١٤٥.

(٢). الشعراء : ٢٠٨.

(٣). طه : ١٣٤.

(٤). القصص : ٤٧.

٩٩

انّ التعذيب قبل البيان قبيح ، فأرسل الرسل لإفحام المشركين ودحض حجتهم يوم القيامة ، فلو كان منطقهم عند عدم البيان منطقاً ، زائفاً كان عليه سبحانه نقض منطقهم ببيان انّ التعذيب صحيح مطلقاً مع أنّا نرى أنّه سبحانه استصوبه وأرسل الرسل لإتمام الحجّة.

٢. الإضلال فرع البيان

قال سبحانه :(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (١)

وجه الاستدلال : انّ التعذيب من آثار الضلالة ، والضلالة معلَّقة على البيان في الآية ، فيكون التعذيب معلَّقاً عليه ، فينتج انّه سبحانه لا يعاقب إلّا بعد بيان ما يجب العمل أو الاعتقاد به.

فإن قلت : ما هو المراد من إضلاله سبحانه ، فانّ الإضلال أمر قبيح فكيف نسب إلى الله سبحانه؟

قلت : انّ الإضلال يقابل الهداية ، وهي على قسمين ، فيكون الإضلال أيضاً مثلها.

توضيحه : انّ لله سبحانه هدايتين : هداية عامّة تعم جميع الناس من غير فرق بين إنسان دون إنسان حتى الجبابرة والفراعنة ، وهي تتحقق ببعث الرسل وإنزال الكتب ودعوة العلماء إلى بيان الحقائق ، مضافاً إلى العقل الذي هو رسول باطني ، وإلى الفطرة التي تسوق الإنسان إلى فعل الخير.

هداية خاصّة وهي تختص بمن استفاد من الهداية الأُولى ، فعندئذ تشمله

__________________

(١). التوبة : ١١٥.

١٠٠