الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-014-2
الصفحات: ٢٥٦
الجزء ١ الجزء ٢

الثاني : قد تضافر بل تواتر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وجوب التمسك بالثقلين وفسرهما بالكتاب والسنّة ، وقال : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي. ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا» فكلّ من الثقلين حجّة وانّ كلاً يؤيد الآخر.

الثالث : الروايات التعليمية التي علّم فيها الإمام تلاميذه كيفية استنباط الحكم من القرآن الكريم ، فلو لم تكن ظواهر الكتاب حجّة لما كان للتعليم قيمة ، فإنّ موقف الإمام في هذه المقامات موقف المعلّم لا موقف المتكلم عن الغيب.

والروايات في ذلك المجال كثيرة نذكر منها واحدة ، وهي رواية عبد الأعلى مولى آل سام وقد سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) بقوله : رجل عثر فوقع ظفره فجعل على إصبعه مرارة ، فقال : «إنّ هذا يعرف من كتاب الله :(وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١) ثمّ قال : «امسح على المرارة». (٢)

فأحال الإمام (عليه‌السلام) حكم المسح على اصبعه المغطّى بالمرارة إلى الكتاب.

الرابع : قد تضافر عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في مورد تعارض الروايات لزوم عرضه على القرآن وانّ ما وافق كتاب الله يؤخذ به وما خالف يضرب به عرض الجدار.

فقد روي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) أنّه قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «إنّ على كلّ حق حقيقة ، وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه». (٣)

الخامس : اتّفق الفقهاء على أنّ كلّ شرط خالف كتاب الله فهو مرفوض ،

__________________

(١). الحج : ٧٨.

(٢). الوسائل : ١ ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥.

(٣). الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠ ، ولاحظ الحديث ١١ ، ١٢ ، ١٤ إلى غير ذلك.

٤١

ففي صحيحة عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سمعته يقول : «من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله فلا يجوز له ، ولا يجوز على الذي اشترط عليه ، والمسلمون عند شروطهم ممّا وافق كتاب الله».

وفي رواية أُخرى : «المسلمون عند شروطهم ، إلّا كلّ شرط خالف كتاب الله عزوجل فلا يجوز». (١)

فلو لم يكن ظواهر الكتاب حجّة ، لما كان هناك معنى لعرض الشرط على الكتاب في هذه الروايات وغيرها ممّا يشرف الفقيه على القطع بحجّية ظواهر الكتاب ، وإنّما المهم دراسة أدلّة المخالف.

أدلّة الأخباري على عدم حجّية ظواهر الكتاب

استدلّ الأخباري على عدم حجّية ظواهر الكتاب بوجوه ، أهمها وجهان :

الأوّل : انّ حمل الكلام الظاهر في معنى على أنّ المتكلّم أراد هذا ، تفسير له بالرأي ، وقد قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار». (٢)

يلاحظ عليه : أنّ حمل الظاهر في معنى ، على أنّ المتكلّم أراده ليس تفسيراً فضلاً عن كونه تفسيراً بالرأي ، فانّ التفسير عبارة عن كشف القناع عن وجه المراد.

وأمّا الرأي فهو عبارة عن الميل إلى أحد الجانبين اعتماداً على الظن الذي لم يدلّ عليه دليل.

إذا عرفت معنى التفسير أوّلاً ثمّ الرأي ثانياً ، نقول :

إنّ حمل الظاهر في معنى ، على أنّه مراد المتكلّم ، ليس من مقولة التفسير ، إذ

__________________

(١). الوسائل : ١٢ ، الباب ٦ من أبواب الخيار ، الحديث ١ و ٢.

(٢). الوسائل : ١٨ ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٦.

٤٢

ليس هنا أمر مستور يُكشف عنه ، فالاستدلال بإطلاق الظاهر أو عمومه ، ليس تفسيراً ، ورافعاً لإبهامه بل هو من قبيل تطبيق الظاهر على مصاديقه ، والتفسير عبارة عن كشف القناع عن وجه الآية ، كالغطاء الموجود في الصلاة الوسطى في قوله سبحانه : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (١) فحملها على إحدى الصلوات ، يقال انّه تفسير وكشف للقناع.

فإذا لم يكن حمل الظاهر على معنى على أنّه المراد ، تفسيراً للآية يكون بالنسبة إلى الجزء الآخر «برأيه» أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع.

الثاني : اختصاص فهم القرآن بأهله. يظهر من مذاكرة الإمام أبا حنيفة وقتادة انّه لا يفهم القرآن إلّا من خوطب به ، وهم أئمّة أهل البيت ، وإليك نصّ ما دار بينهما من الحوار :

«يا أبا حنيفة! تعرف كتاب الله حق معرفته وتعرف الناسخ والمنسوخ؟» قال : نعم.

قال : «يا أبا حنيفة : لقد ادّعيت علماً ، ما جعل الله ذلك إلّا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم ، ولا هو إلّا عند الخاص من ذريّة نبيّنا محمّد ، وما ورثك الله عن كتابه حرفاً». (٢)

أقول : إنّ الرواية لا تنفي عن أبي حنيفة المعرفة الإجمالية ، وإنّما تنفي حقّ المعرفة ، وهو لا يتحقّق إلّا بمعرفة الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمطلق والمقيد إلى غير ذلك من القرائن المنفصلة التي تؤثِّر في الاحتجاج بالآية ، وكلّها مخزونة عند أئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) ، فمن عمل بظاهر الآية ، بعد الرجوع إليهم في

__________________

(١). البقرة : ٢٣٨.

(٢). وسائل الشيعة : الجزء ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

٤٣

معرفة تلك المواضع ، فهو غير مشمول للرواية بل هي تردُّ على المستبدين بالقرآن الذين يفسرونه ويفتون به من دون مراجعة إلى من نزل القرآن في بيوتهم حتى يعرفوا ناسخه ومنسوخه ، وعامّه وخاصّه ، ومطلقه ومقيده ، وأين هو من عمل أصحابنا؟! فانّهم يحتجون بالقرآن بعد الرجوع إلى حديث العترة الطاهرة ، في مجملاته ومبهماته ، ومخصصات عمومه ومقيدات مطلقاته ، ثمّ الأخذ بمجموع ما دلّ عليه الثقلان.

فالاستبداد بالقرآن شيء والاحتجاج بالقرآن بعد الرجوع إلى أحاديث العترة الطاهرة شيء آخر ، والأوّل ممنوع والثاني مجاز جرى عليه أصحابنا رضوان الله عليهم عبر القرون.

وبذلك يظهر مفاد سائر الروايات الواردة في هذا المضمار.

إلى هنا تمّ ما استدلّ به الأخباريون من منع التمسّك بظواهر القرآن وبقيت هناك أدلة أُخرى لهم تظهر حالها بالإمعان فيما ذكرنا.

الظواهر من القطعيات

ثمّ إنّ الأُصوليين ذكروا ظواهر القرآن تحت الظنون التي ثبتت حجّيتها بالدليل وأسموه بالظن الخاص مقابل الظن المطلق الذي ليس على حجّيته دليل سوى دليل الانسداد.

ولكن الحقّ انّ ظواهر كلام كلّ متكلم فضلاً عن ظواهر القرآن من الكواشف القطعية ، ويظهر حال هذا المدعى بالإمعان فيما ذكرناه في الموجز وما نوضحه في المقام.

إنّ الفرق بين الظاهر والنص هو انّ كلا الأمرين يحملان معنى واحداً ويتبادر منهما شيء فارد ، غير انّ الأوّل قابل للتأويل ، فلو أوّل كلامه لعدّ عمله

٤٤

خلافاً للظاهر ولا يعدّ مناقضاً في القول ، كما إذا قال : أكرم العلماء ، الظاهر في الوجوب ثمّ أشار بدليل خاص بأنّ المقصود هو الندب.

وأمّا النصّ فهو لا يحتمل إلّا معنى واحداً ، ولا يصحّ تأويله بل يعد أمراً متناقضاً ، وهذا مثل قوله سبحانه : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ). (١)

فإنّ كون حظّ الذكر مثلي حظ الأُنثى شيء ليس قابلاً للتأويل ولذلك يعدّ نصاً ، ومن حاول تأويله لا يقبل منه ، ومثله قوله سبحانه : ((قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ).

إذا علمت ذلك ، فنقول : إنّ القضاء بين الرأيين : كشف الظواهر عن مراد المتكلّم هل هو كشف قطعي أو ظني ، يتوقّف على بيان الوظيفة التي حملت على عاتق الظواهر؟ وتبيين رسالتها في إطار التفهيم والتفهّم؟ فلو تبيّن ذلك لسهل القضاء بأنّ الكشف قطعي أو ظني.

فنقول : إنّ للمتكلّم إرادتين :

١. إرادة استعمالية ، وهي استعمال اللفظ في معناه ، أو إحضار المعاني في ذهن المخاطب سواء أكان المتكلّم جادّاً أو هازلاً أو مورّياً أو غير ذلك ، سواء أكان المعنى حقيقياً أو مجازياً.

٢. إرادة جدية ، وهي انّ ما استعمل فيه اللفظ مراد له جداً ، وما هذا إلّا لأنّه ربما يفارق المرادُ الاستعمالي ، المرادَ الجدي ، كما في الهازل والمورّي والمقنّن الذي يُرتِّب الحكم على العام والمطلق مع أنّ المراد الجدي هو الخاص والمقيد ، ففي هذه الموارد تغاير الإرادةُ الجدية الإرادةَ الاستعمالية ، إمّا تغايراً تاماً كما في الهازل والمورّي واللاغي ، أو تغايراً جزئياً كما في العام الذي أُريد منه الخاص ، أو المطلق

__________________

(١). النساء : ١١.

٤٥

الذي أُريد منه المقيد بالإرادة الجدية.

وعلى ضوء ذلك فيجب علينا أن نركِّز على أمرين :

الأوّل : ما هي الرسالة الموضوعة على عاتق الظواهر؟

الثاني : ما هو السبب لتسميتها ظنوناً؟

أمّا الأوّل : فالوظيفة الملقاة على عاتق الظواهر عبارة عن إحضار المعاني في ذهن المخاطب سواء أكانت المعاني حقائق أم مجازات ، فلو قال : رأيت أسداً ، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأى الحيوان المفترس ، وإذا قال : رأيت أسداً في الحمام ، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأى رجلاً شجاعاً فيه ، فكشف الجملة في كلا الموردين عن المراد الاستعمالي كشف قطعي وليس كشفاً ظنياً ، وقد أدّى اللفظ رسالته بأحسن وجه. وعلى ذلك لا تصحّ تسميته كشفاً ظنياً ، اللهمّ إلّا إذا كان الكلام مجملاً أو متشابهاً ، فالكلام عندئذ قاصر عن إحضار المعنى الاستعمالي بوجه متعيّن ، لكنّهما خارجان عن محطّ البحث فإنّ الكلام في الظواهر لا في المجملات والمتشابهات.

وأمّا الثاني : أي السبب الذي يوجب تسمية ذلك الكشف ظنياً ، فانّه يتلخص في الأُمور التالية :

١. لعلّ المتكلّم لم يستعمل اللفظ في أيّ معنى.

٢. أو استعمل في المعنى المجازي ولم ينصب قرينة.

٣. أو كان هازلاً في كلامه.

٤. أو مورّياً في خطابه.

٥. أو لاغياً فيما يلقيه.

٦. أو أطلق العام وأراد الخاص.

٧. أو أطلق المطلق وأراد المقيّد.

٤٦

إلى غير ذلك من المحتملات التي توجب الاضطراب في كشف المراد الاستعمالي عن المراد الجدي على وجه القطع.

ولكن أُلفت نظر القارئ إلى أُمور ثلاثة لها دور في المقام :

١. انّ علاج هذه الاحتمالات ليس من وظائف الظواهر حتى يوصف كشف الظواهر عن المراد الجدي لأجلها بالظنّية ، وذلك لما عرفت من أنّ المطلوب من الظواهر ليس إلّا شيء واحد وهو إحضار المعاني في ذهن المخاطب ، وأمّا الاحتمالات المذكورة وكيفية دفعها فليس لها صلة بالظواهر حتى يوصف كشفها لأجلها بأنّه ظني.

٢. انّ بعض هذه الاحتمالات موجودة في النصوص فيحتمل فيه كون المتكلم لاغياً ، أو هازلاً ، أو مورّياً ، أو متّقياً ، أو غير ذلك من الاحتمالات ، مع أنّا نرى أنّهم يعدّونها من القطعيات.

٣. إنّ القوم عالجوا هذه الاحتمالات بادّعاء وجود أُصول عقلائية دافعة لها ، كأصالة كون المتكلّم في مقام الإفادة ، لا الهزل ولا التمرين ، بدافع نفسي ، لا بدافع خارجي كالخوف وغيره.

والظاهر انّه لا حاجة إلى هذه الأُصول فإنّ الحياة الاجتماعية مبنيّة على المفاهمة بالظواهر ، ففي مجال المفاهمة والتفاهم بين الأُستاذ والتلميذ والبائع والمشتري والسائس والمسوس ، يعتبر المخاطبُ دلالة كلام المتكلّم على المراد الاستعمالي والجدي دلالة قطعية لا ظنية ، إلّا إذا كان هناك إبهام أو إجمال ، أو جريان عادة على فصل الخاص والقيد عن الكلام.

وبذلك خرجنا بأن كشف الظواهر عن المراد الاستعمالي ، بل المراد الجدي ، على ما عرفت أخيراً في مجال المفاهمة الخصوصية (١) كشف قطعي ولا يُعرَّج إلى تلك الشكوك.

__________________

(١). أي لا في مجال التقنين فإن كشفها عن المراد الجدّي ليس بقطعي.

٤٧

الأدلّة الأربعة

٤

السنّة

قد تطلق السنّة ويراد منها قول المعصوم وفعله وتقريره ، فلا شك انّ السنّة بهذا المعنى من الأدلة القطعية ، إذ هي عدل القرآن الكريم فهي الحجّة الثانية بعد الذكر الحكيم ، ومن أعرض عن السنّة واستغنى بالقرآن الكريم فقد عدل عن المحجّة البيضاء.

وقد يطلق السنة ويراد منها الخبر الحاكي عن السنّة الواقعية وهو المراد في المقام سواء نقلت بصورة متواترة أو مستفيضة أو محفوفة بالقرائن أو مجرّدة عن الاستفاضة والقرائن ، والكلام هنا في حجّية الخبر الواحد المجرّد عن كلّ شيء ، فانّ المتواتر أو الخبر الواحد المحفوف بالقرينة يفيدان العلم ، وهكذا الخبر المستفيض يورث الاطمئنان المتاخم للعلم.

امّا كون السنّة الخبر الواحد المجرد عن القرائن» دليلاً ظنياً فإنّما هو لأجل سندها ، وأمّا من حيث الدلالة فقد عرفت أنّ الدلالة في الجميع دلالة قطعية بالنسبة إلى المراد الاستعمالي ، بل المراد الجدي في بعض المقامات.

ثمّ إنّ الإفتاء بمضمون الخبر الواحد يتوقف على ثبوت أمرين :

أ : إمكان التعبّد به إمكاناً ذاتيّاً.

ب : إمكان التعبّد به إمكاناً وقوعيّاً.

٤٨

أمّا الإمكان بالمعنى الأوّل الذي يعبّر عنه بالإمكان الماهوي فهو أمر لا سترة عليه ، ضرورة انّ التعبّد بالخبر ليس واجباً ولا ممتنعاً فيُصبح أمراً ممكناً بالذات ، فنسبة جواز التعبد إلى الخبر كنسبة الوجود والعدم بالنسبة إلى الإنسان ، فالبحث عن الإمكان بهذا المعنى ، أمر خارج عن محط البحث.

وأمّا الإمكان بالمعنى الثاني وهو الذي لا يمنع عن وقوعه مانع خارجي عن الذات بعد إمكانه الذاتي فهو داخل محطّ البحث.

وهذا نظير إدخال المطيع في النار ، فإنّه وإن كان ممكناً بالذات ، لأنّه سبحانه قادر على الحَسن والقبيح ، لكن غير ممكن وقوعاً لمخالفته لعدله وحكمته ، فهو ممكن بالذات غير ممكن وقوعاً.

فذهب بعضهم كابن قبة (١) إلى امتناع التعبّد بالظن وقوعاً واستدلّ له بوجهين :

الأوّل : لو جاز العمل بالخبر الواحد في الفروع ، لجاز العمل به في الأُصول ، فلو أخبر أحد من الله سبحانه لزم قبول قوله إذا كان عادلاً بلا حاجة إلى طلب البيّنة والمعجزة.

يلاحظ عليه : أنّ الأمر في الفروع أسهل ، فقبول الخبر فيها لا يلازم قبول خبره في ادّعاء النبوة التي هي أمر خطير.

الثاني : انّه يستلزم تحليل الحرام أو تحريم الحلال ، فإذا كان الحكم الواقعي هو الحلية وقام خبر الواحد على الحرمة أو بالعكس وقلنا بحجّيته ، يلزم أحد المحذورين.

__________________

(١). محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي المتكلّم المعاصر لأبي القاسم البلخي الذي توفّي عام ٣١٧ وقد توفى ابن قبة قبله بقليل. لاحظ رجال النجاشي برقم ١٠٢٤.

٤٩

ويعبّر عن حلّ هذا الاشكال في مصطلح الأُصوليّين «بالجمع بين الحكم الظاهري والواقعي».

وقد فصّل المتأخرون الكلام فيه وموجز الجواب في هذا المقام عن هذا الإشكال انّه إذا كان مفاد الخبر موافقاً للواقع يكون منجّزاً للحكم الواقعي ، وأمّا إذا كان مخالفاً للواقع فيكون الحكم الواقعي عند من قامت الأمارة على خلافه ، إنشائياً لا فعلياً ، وإنّما يتوجّه الإشكال إذا كان هناك حكمان فعليان متضادان في واقعة واحدة ، وأمّا إذا كان أحد الحكمين (الحكم الواقعي) إنشائياً والآخر فعلياً فلا إشكال فيه ، والتفصيل يطلب من دراسات علياء.

ما هو الأصل في العمل بالظنّ؟

وقبل التعرّف على أدلّة وقوع التعبّد بالظن في الشريعة الإسلامية يجب الوقوف على ما هي القاعدة الأوّلية في العمل بالظن ، فهل هي حرمة العمل بالظن إلّا ما خرج بالدليل؟ أو الأصل جواز العمل بالظن إلّا ما خرج بالدليل؟

فعلى الأوّل يكون الأخذ بواحد من أقسام الظنون كالخبر الواحد وقول اللغوي والشهرة الفتوائية وغيرها متوقفاً على وجود دليل ، وإلّا فالأصل هو الحرمة ؛ كما أنّه تنعكس القاعدة على القول الثاني ، فالأصل هو حجّية كلّ ظن إلّا ما قام الدليل على الحرمة كالقياس والاستحسان.

وبذلك يعلم أنّ المراد من الأصل في العنوان هو مقتضى الأدلة الاجتهادية ، ويعبّر عنها بمقتضى القاعدة الأوّلية وليس المراد منه هو الأصل العملي.

وعلى كلّ تقدير اتّفقت كلمة المحقّقين على أنّ الأصل هو حرمة العمل بالظن إلّا أن يقوم الدليل على الحجّية.

٥٠

والدليل عليه هو انّ البدعة أمر محرم إجماعاً من غير خلاف ؛ وهي عبارة عن ادخال ما يعلم انّه ليس من الدين أو يشكّ انّه منه ، في الدين ؛ والاعتماد على الظن الذي لم يقم دليل على جواز العمل والإفتاء على وفقه ، التزام بكون مؤدّاه حكم الله في حقّه وحقّ غيره ، وهذا هو نفس البدعة ، لأنّه يُدخل في الدين ما يشكّ انّه من الدين.

وبعبارة أُخرى : انّ العمل بالظن عبارة عن صحّة إسناد مؤدّاه إلى الشارع في مقام العمل ، ومن المعلوم أنّ إسناد المؤدّى إلى الشارع والعمل به إنّما يصحّ في حالة الإذعان بأنّه حكم الشارع وإلّا يكون الإسناد تشريعاً قولياً وعملياً دلّت على حرمته الأدلّة الأربعة ، وليس التشريع إلّا إسناد ما لم يعلم أنّه من الدين إلى الدين.

قال سبحانه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ). (١)

فالآية تدلّ على أنّ الإسناد إلى الله يجب أن يكون مقروناً بالإذن منه سبحانه ، وفي غير هذه الصورة يعدّ افتراءً سواء كان الإذن مشكوك الوجود كما في المقام أو مقطوع العدم ، والآية تعمّ كلا القسمين ، والمفروض انّ العامل بالظن شاك في إذنه سبحانه ومع ذلك ينسبه إليه.

وقال سبحانه :(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (٢)

تجد انّه سبحانه يذم التقوّل بما لا يُعلم حدودُه من الله سواء أكان مخالفاً للواقع أم لا ، والعامل بالظن يتقوّل بلا علم.

__________________

(١). يونس : ٥٩.

(٢). الأعراف : ٢٨.

٥١

فخرجنا بالنتيجة التالية :

إنّ الضابطة الكلية في العمل بالظن هي المنع ، لكونه تشريعاً قولياً وعملياً محرّماً وتقوّلاً على الله بغير علم ، فالأصل في جميع الظنون أي في باب الحجج هو عدم الحجّية ، إلّا إذا قام الدليل القطعي على حجّيته.

ثمّ إنّ الأُصوليّين ذكروا خروج بعض الظنون عن هذا الأصل بالدليل القطعي وبذلك خرج عن كونه تقولاً بلا علم ، وهي :

١. خبر الواحد.

٢. الإجماع المنقول بخبر الواحد.

٣. الشهرة الفتوائية.

٤. قول اللغوي.

وإليك دراسة الجميع واحداً تلو الآخر :

٥٢

١ ـ الأدلّة الظنّية

حجّية السنّة المحكية بخبر الواحد

السنّة بمعنى قول المعصوم أو فعله أو تقريره حجّة بلا كلام ، كما أنّه لا شكّ في حجّية الخبر الحاكي للسنّة إذا كان خبراً متواتراً أو محفوفاً بالقرينة لإفادتهما العلم ، إنّما الكلام في حجّية الحاكي إذا كان خبراً مجرّداً عن القرينة وكان الراوي ثقة ، فقد ذهب معظم الأُصوليين إلى حجّيته واستدلّوا عليه بالكتاب والسنّة والإجماع ، وقد ذكرنا دلائلهم في كتاب «الموجز» فلا حاجة إلى الإعادة.

لكن الأولى الاستدلال عليها بالسيرة العقلائية المنتشرة بينهم ، فقد جرت سيرتهم على العمل بخبر الثقة المفيد للاطمئنان الذي هو علم عرفي وإن لم يكن علماً عقلياً ، وما هذا إلّا لأجل انّ تحصيل العلم في أغلب الموارد موجب للعسر والحرج ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر انّ القلب يسكن إلى قول الثقة ، ويطمئن به ، ولأجل ذلك يعد عند العرف علماً لا ظنّاً ، لما له من ملكة رادعة عن الاقتحام في الكذب ، فبملاحظة هذين الأمرين جرت سيرتهم على الأخذ بقول الثقة.

ولو كانت السيرة أمراً غير مرضي للشارع ، كان عليه الردع عنها كما ردع عن العمل بقول الفاسق.

وبعبارة أُخرى : انّك إذا سبرت أحوال الأُمم في العصور الغابرة ، تقف على أنّ سيرتهم جرت على العمل بخبر الثقة ، وانّ عمل المسلمين به لم يكن إلّا

٥٣

استلهاماً من تلك السيرة العقلائية التي ارتكزت في نفوسهم.

ولو كان العمل بأخبار الآحاد الثقات أمراً مرفوضاً لكان للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والأئمّة المعصومين ، الردع القارع والطرد الصارم حتى يتنبه الغافل ويفهم الجاهل. كما تضافرت الروايات على ردّ القياس وسائر المقاييس الظنّية الدارجة بين أهل السنّة. فلو كان العمل بخبر الواحد على غرار العمل بالقياس لعمّه الردع من قبل أئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) ، ولوصلت إلينا رواياتهم الناهية عن العمل بخبر الواحد ، وحيث إنّه لم يرد شيء من هذا القبيل ، دلّ ذلك على إمضائهم العمل بخبر الواحد.

وثمة نكتة أُخرى وهي انّ ما استدلّ به الأُصوليّون من الكتاب والسنّة على حجّية قول الثقة ليس في مقام تأسيس القاعدة واضفاء الحجية على قول الثقة ، بل الكلّ عند الدقة والإمعان ناظر إلى هذه السيرة العقلائية ، فلاحظ قول الراوي (عبد العزيز بن المهتدي ، والحسن بن علي بن يقطين) للإمام الرضا (عليه‌السلام).

أفيونس بن عبد الرحمن ثقة ، آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال : «نعم». (١)

كما يشير إليه قول أبي الحسن الثالث لأحمد بن إسحاق عند ما سأله بقوله من أُعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال الإمام : «العمري ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي ، فعنّي يقول ، فاسمع له ، وأطع فإنّه الثقة المأمون». (٢)

فإنّ الحوار الدائر بين الراوي والإمام حاك عن أنّ الكبرى (حجّية قول الثقة) كان أمراً مسلّماً بينهما ، وإنّما الكلام في الموارد والمصاديق ، فقال الإمام انّ

__________________

(١). الوسائل : ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣ ، ٣٤.

(٢). الوسائل : ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

٥٤

العمري ثقة.

ولو قيل انّه ليس على حجية قول الثقة إلّا دليل واحد ، وهو السيرة العقلائية فقط وسائر الأدلّة إرشاد إليها أو بيان لصغريات القاعدة لم يقل قولاً مجازفاً.

ثمّ إنّ الشيخ الطوسي «جعل سيرة الأصحاب على العمل بخبر الواحد دليلاً على الحجّية ، وبما انّ سيرتهم كانت بمرأى ومسمع من الأئمّة ، تكشف عن إمضائهم لها» ، ولكن الحقّ انّ سيرة أصحابنا لم تكن سيرة منقطعة عن سيرة العقلاء بل كانت متفرعة عنها ، وبما انّ دليل الشيخ من أتقن الأدلة على حجّية قول الثقة نذكر عبارته في المقام ، حيث يقول :

إنّي وجدت الفرقة المحقّة مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في أُصولهم ، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه حتى أنّ واحداً منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه ، سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف أو أصل مشهور ، وكان راويه ثقة لا يُنكر حديثه ، سكتوا وسلّموا الأمر في الله وقبلوا قوله ، وهذه عادتهم وسجيّتهم من عهد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن بعده من الأئمّة (عليهم‌السلام) ، ومن زمن الصادق جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) الذي انتشر العلم عنه وكثرت الرواية من جهته ، فلولا أنّ العمل بهذه الأخبار كان جائزاً لما أجمعوا على ذلك ولأنكروه ، لأنّ إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو. (١)

ثمّ إنّ الشيخ وان عبر في المقام بلفظ الإجماع الموهِم انّه استدلّ بالإجماع ، ولكنّه في الحقيقة احتجاج بالسيرة العملية للأصحاب ، المستمدة من السيرة العقلائية.

__________________

(١). العدة في أُصول الفقه : ١٢٦ / ١ ، ط عام ١٣٧٦ ه‍.

٥٥

الحجّة هي الخبر الموثوق بصدوره

إذا كانت السيرة هي الدليل الوحيد على حجّية قول الثقة ، فاعلم أنّ عمل العقلاء بمفاده لأجل كون وثاقة الراوي مفيداً للاطمئنان بصدق الخبر ومطابقته للواقع ، وليست لوثاقته موضوعية في المقام حتى نتوقف عن العمل عند عدم إحراز وثاقة الراوي مع حصول الوثوق بصدور الرواية من قرائن أُخرى ، وعليه فمناط الحجّية عند العقلاء هو الخبر الموثوق بصحته وصدوره لا خصوص كون الراوي ثقة ، ولذلك لو كان المخبر ثقة لكن دلّت القرائن على عدم صدق الخبر لما عملوا به.

فاتّضح بما ذكرنا انّ موضوع الحجّية هو الخبر الموثوق بصدوره فيشمل الخبر الصحيح والموثق والحسن إذا كانت بمرحلة موروثة للاطمئنان ، بل يشمل الضعيف إذا دلّت القرائن على صدقه.

وإلى ما ذكرنا أشار الشيخ الأنصاري بعد بيان الأدلّة العقلية التي أُقيمت على حجّية الخبر الواحد بقوله : والإنصاف انّ الدال فيها لم يدلّ إلّا على وجوب العمل بما يفيد الوثوق والاطمئنان بمؤدّاه ، وهو الذي فسّر به الصحيح في مصطلح القدماء (١) والمعيار فيه أن يكون احتمال مخالفته للواقع بعيداً بحيث لا يعتني به العقلاء ، ولا يكون عندهم موجباً للتحيّر والتردّد. (٢)

__________________

(١). الصحيح عند القدماء ما يورث الوثوق بالمضمون ، والصحيح عند المتأخرين ما يكون آحاد رجال السند عدولاً.

(٢). الفرائد : ١٠٦ ، طبعة رحمة الله.

٥٦

٢ ـ الأدلّة الظنّية

الإجماع المنقول بخبر الواحد

ينقسم الإجماع إلى محصَّل ومنقول ، فلو قام المجتهد بنفسه بتتبّع آراء العلماء في حكم واقعة وحصّل اتّفاقهم عليه فهو إجماع محصَّل ، وأمّا إذا قام مجتهد آخر بهذا العمل ووقف على اتفاقهم على حكم في واقعة ثمّ نقله إلى غيره ، فيكون هذا بالنسبة إلى المنقول إليه إجماعاً منقولاً وإن كان بالنسبة إلى الناقل إجماعاً محصَّلاً.

وقد عرفت وجه حجّية الإجماع المحصَّل ، إنّما الكلام في حجّية الإجماع المحكي بخبر الثقة ، والبحث في المقام منصبٌّ على أمر واحد وهل يشتمل دليل حجّية قول الثقة هذا المورد (نقل الإجماع) وعدمه ، فلو قلنا بشموله له يكون الإجماع المنقول حجّة كالإجماع المحصّل بملاك واحد وإلّا فلا.

وبما انّ ملاك حجّية الإجماع المحصل هو كشفه عن قول المعصوم أو عن حجّة معتبرة فلا يكون الإجماع المنقول حجّة إلّا إذا بلغ بهذه المرتبة أي يكون كاشفاً عن قول المعصوم أو عن حجّة معتبرة.

ثمّ إنّ المشهور عدم حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد ، بمعنى انّ أدلّة حجّية خبر الواحد لا يعمُّ المورد ، وذلك لأنّ قول الثقة إنّما يكون حجّة إذا أخبر عن قول المعصوم أو الحجّة المعتبرة عن حس لا عن حدس ، كما إذا أخبر زرارة عن قول الإمام بالسماع عنه ، وأمّا المقام فإنّ ناقل الإجماع وإن كان ينقل الاتفاق

٥٧

عن حس لكنّه لا ينقل قول الإمام عن حس وإنّما ينقله عن حدس ، ودليل حجّية قول الثقة لا يشمل ما ينقله المخبر لا عن حس.

فإن قلت : إنّ الإخبار عن حدس إذا كان مستنداً إلى الحس ، الملازم للمخبر به عند الناقل والمنقول إليه ، فهو حجّة ، كما إذا أخبر عن الشجاعة والعدالة اللّتين هما من الأُمور النفسانية غير المحسوسة مستنداً إلى مشاهداته في ميدان القتال وتورّعه عن المحرّمات والمشتبهات ، فليكن الإجماع المنقول بخبر الواحد من هذا النوع من الخبر فانّ الناقل وإن لم يخبر عن قول الإمام عن حس وإنّما يخبر عنه عن حدس لكن حدسه مستند إلى اتّفاق العلماء الذي هو أمر محسوس ، وهو عند الناقل والمنقول إليه ملازم لوجود الدليل المعتبر للعلماء في إفتائهم.

قلت : ما ذكرته صحيح إذا بذل الناقل جهده لتحصيل مثل ذلك الاتّفاق الذي لا يفارق الحجّة وأنّى لأكثر الناقلين للإجماع هذا النوع من تحصيل الجهد ، فإنّ غالب نَقَلَة الإجماع يتساهلون في نقل الإجماع ، وربما يكتفون في ادّعاء الإجماع بالعثور على فتوى جماعة قليلة من دون أن يكون هناك ملازمة بين الاتّفاق والدليل المعتبر.

فإذا كان هذا هو الحال في أغلب الإجماعات الدارجة على ألسن الفقهاء المتقدّمين والمتأخّرين ، فلا يصحّ الاعتماد عليه إذ ليس هناك أيّة ملازمة بين السبب (الاتفاق الذي حصَّله الناقل) والمسبب (قول المعصوم أو الدليل المعتبر).

نعم لو كان الناقل ممّن لا يدّعي الإجماع إلّا بعد تتبع تام في المصادر ، وكانت المسألة من المسائل المعنونة في العصور السابقة يمكن الاعتماد على إخباره عن الإجماع الملازم لقول المعصوم أو الحجّة المعتبرة ، وهو بين نقلة الإجماع نادر جدّاً.

وأقصى ما يمكن أن يقال انّ الإجماعات المنقولة تصدّ الفقيه عن التسرّع بالفتوى إلّا بعد التتبع التام في كلمات العلماء لتُعرف مدى صحّة الإجماع.

٥٨

٣ ـ الأدلّة الظنّية

الشهرة الفتوائيّة

إنّ الشهرة على أقسام ثلاثة :

أ. الشهرة الروائيّة.

ب. الشهرة العمليّة.

ج. الشهرة الفتوائيّة.

أمّا الأُولى ، فهي الرواية التي اشتهر نقلها بين المحدِّثين وكثرت رواتها ، كالأحاديث الواردة في نفي التجسيم والتشبيه ونفي الجبر والتفويض عن أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) ويقابلها النادر.

ثمّ إنّ الخبر المشهور إنّما يكون معبِّراً عن الحكم الشرعي فيما إذا أفتى الفقهاء على وفقه ، وأمّا إذا رواه المحدّثون ولكن أعرض عنه الفقهاء ، فهذه الشهرة موهنة لا جابرة.

أمّا الثانية ، فهي الرواية التي عمل بها مشهور الفقهاء وأفتوا على ضوئها ، فهذه الشهرة تورث الاطمئنان ، وتسكن إليها النفس ، وهي التي يصفها الإمام في مقبولة عمر بن حنظلة الّتي وردت في علاج الخبرين المتعارضين اللّذين أخذ بكلّ واحد منهما أحد الحكَمين في مقام فصل الخصومات بقوله : «يُنظرُ إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمعَ عليه عند أصحابك فيُؤخذ به من

٥٩

حُكْمنا ، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك». (١)

وعلى ضوء ذلك فالشهرة العملية تكون سبباً لتقديم الخبر المعمول به على المتروك الشاذّ الذي لم يعمل به.

وهل يكون عمل الأصحاب المتقدّمين بالرواية جابراً لضعف سندها وإن لم يكن لها معارض؟

ذهب المشهور إلى أنّه جابر لها. نعم الجابر للضعف هو عمل المتقدّمين من الفقهاء الذين عاصروا الأئمة (عليهم‌السلام) ، أو كانوا في الغيبة الصغرى ، أو بعدها بقليل كوالد الصدوق وولده والمفيد وغيرهم ، وأمّا المتأخّرون فلا عبرة بعملهم ولا إعراضهم ، وقد أوضحنا ذلك في محاضراتنا. (٢)

وأمّا الثالثة ، فهي عبارة عن اشتهار الفتوى في مسألة لم ترد فيها رواية وهي التي عقدنا البحث لأجله ، مثلاً إذا اتّفق المتقدّمون على حكم في مورد ، ولم نجد فيه نصاً من أئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) يقع الكلام في حجّية تلك الشهرة الفتوائية وعدمها.

والظاهر حجّية مثل هذه الشهرة ، لأنّها تكشف عن وجود نص معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا حتى دعاهم إلى الإفتاء على ضوئه ، إذ من البعيد أن يُفتي أقطاب الفقه بشيء بلا مستند شرعي ودليل معتدّ به ، وقد حكى سيد مشايخنا المحقّق البروجردي في درسه الشريف أنّ في الفقه الإمامي مسائل كثيرة تلقّاها الأصحاب قديماً وحديثاً بالقبول ، وليس لها دليل إلّا الشهرة الفتوائية بين

__________________

(١). الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١. وقد رواها المشايخ الثلاثة في جوامعهم وتلقّاها الأصحاب بالقبول. ولذلك سمّيت بالمقبولة.

(٢). المحصول في علم الأُصول : ٢٠٧ / ٣ ٢٠٨.

٦٠