الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-014-2
الصفحات: ٢٥٦
الجزء ١ الجزء ٢

جارك» ، فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله لئن كان ابن عمتك .... (١) فإنّ خطاب الأنصاري للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كشف عن عدم تسليمه لقضائه وإن لم يخالف عملاً ، وبذلك يعلم أنّ المراد من الجحد في قوله سبحانه : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا). (٢) هو الجحد القلبي وعدم التسليم لمقتضى البرهان ، لا الجحد اللفظي ؛ فالفراعنة أمام البيّنات التي أتى بها موسى كانوا :

١. عالمين بنبوة موسى وهارون (عليهما السلام) (اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ).

٢. لكن غير مسلِّمين قلباً ، مستكبرين جناناً(وَجَحَدُوا بِها).

ثمرة البحث

تظهر الثمرة في موارد العلم الإجمالي ، فلو علم بنجاسة أحد الإناءين ، فهل يجري الأصل العملي ، كأصل الطهارة في كلّ منهما باعتبار كون كلّ واحد منهما مشكوك الطهارة والنجاسة أو لا؟

فثمة موانع عن جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي. منها : وجوب الموافقة الالتزامية ، فلو قلنا به ، لمنع عن جريان الأُصول ، فإنّ الالتزام بوجود نجس بين الإناءين ، لا يجتمع مع الحكم بطهارة كلّ واحد منهما ، فمن قال بوجوب الموافقة الالتزامية لا يصح له القول بجواز جريان الأصل في أطراف المعلوم إجمالاً ، وأمّا من نفاه فهو في فسحة عن خصوص هذا المانع ، وأمّا الموانع الأُخر فنبحث عنها في مبحث الاحتياط والاشتغال إن شاء الله.

__________________

(١). مجمع البيان : ٦٩ / ٢.

(٢). النمل : ١٤.

٢١

المقام الثاني

كشفه عن حكم الشرع

إنّ العقل كما مرّ أحد الحجج الأربع الّذي اتّفق أصحابنا إلّا قليلاً منهم على حجّيته في مجال استنباط الحكم الشرعي ، غير انّ اللازم هو تحرير محلّ النزاع وتبيين إطار البحث ، فإنّ عدم تحريره أوقع الكثير لا سيما الأخباريّين في الخلط والاشتباه ، فنقول :

إنّ عدّ العقل من مصادر التشريع وأحد الأدلّة الأربعة يتصوّر على أنحاء ثلاثة :

الأول إذا استقلّ العقل بحسن فعل بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار أو قبحه ، وتجرّد في قضائه عن كلّ شيء (حتى عن أمر الشارع ونهيه وعن آثار الت تترتب عل الشء ، كقوام النظام الإنساني بالعدل وانهياره بممارسة الظلم) إلّا النظر إلى نفس الفعل فهل يكون حكم العقل كاشفاً عن حكم الشرع ، وهذا نظير استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وحسنه معه ، فهل يستكشف منه انّ حكم الشرع كذلك؟

وهكذا إذا أمر المولى بشيء واستقل العقل بوجود الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته أو وجوب الشيء وحرمة ضدّه ، أو امتناع اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد بعنوانين ، أو جوازه إلى غير ذلك من أنواع الملازمات ، فهل يكشف حكم العقل عن حكم الشرع؟

وبذلك يظهر انّ الموضوع للحسن والقبح هو نفس الفعل بما انّه صادر عن فاعل مختار ، سواء أكان الفاعل واجباً أم ممكناً ، وسواء أترتب عليه المصالح أو

٢٢

المفاسد أو لا ، وسواء أكان مؤمِّناً للأغراض العقلائية وعدمها ، فالموضوع للحكم بالحسن أو القبح أو الملازمة أو ما أشبه ذلك هو ذات الفعل دون سائر الأُمور الجانبية.

الثاني : إذا أدرك الفقيه مصالح ومفاسد في الفعل ، فهل يمكن أن يتخذ وقوفَه على أحدهما ذريعة إلى استكشاف الحكم الشرعي في الوجوب أو الحرمة بحيث يكون علم الفقيه بالمصالح والمفاسد من مصادر التشريع الإسلامي؟

وبعبارة أُخرى : إذا كان الموضوع ممّا لا نصّ فيه ولكن أدرك الفقيه بعقله ، وجودَ مصلحة فيه ولم يَرد من الشارع أمر بالأخذ ولا بالرفض ، فهل يصحّ تشريع الحكم على وفقها؟ وهذا هو الذي يسمّى بالمصالح المرسلة أو الاستصلاح في فقه أهل السنّة لا سيما المالكية ، فكلّ مصلحة لم يرد فيها نصّ يدعو إلى اعتبارها أو عدم اعتبارها ولكن في اعتبارها نفع أو دفع ضرر فهل يتخذ دليلاً على الحكم الشرعي أو لا؟

الثالث : تنقيح مناطات الأحكام وملاكاتها بالسبر والتقسيم بأن يُحصر الأوصاف التي توجد في واقعة الحكم وتصلح لأن تكون العلّة ، واحدة منها ويختبرها وصفاً وصفاً على ضوء الشروط الواجب توفّرها في العلة ، وبواسطة هذا الاختبار تُستبعد الأوصاف التي لا يصحّ أن تكون علة ، ويستبقى ما يصحّ أن يكون علّة ، وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصل إلى الحكم بأنّ هذا الوصف هو العلّة ثمّ يتبعه التشريع ، وهذا ما يسمّى في الفقه الشيعي الإمامي بتنقيح المناط واستنباط العلّة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ محطّ النزاع بين الأُصوليّين والأخباريّين من أصحابنا هو المعنى الأوّل.

وسنرجع إليه بعد استيفاء البحث في الأخيرين فنقول :

٢٣

أمّا المعنى الثاني والثالث فلم يقل به أحد من أصحابنا إلّا الشاذّ النادر منهم ، وذلك لأنّ كون الفعل ذا مصلحة أو مفسدة عند الفقيه لا يكشف عن الحكم الشرعي لقصور العقل عن الإحاطة بالمصالح والمفاسد الواقعية ، فربما يُدرك المصلحة والمفسدة ويَغفل عن موانعهما ، فإدراك العقل المصالح والمفاسد لا يكون دليلاً على أنّها ملاكات تامة لتشريع الحكم على وفقها.

وهكذا المعنى الثالث ، فإنّ الخوض في تنقيح مناطات الأحكام عن طريق السبر والتقسيم من الخطر بمكان ، إذ انّى نعلم أنّ ما أدركه مناطاً للحكم هو المناط له ، فانّ العقل قاصر عن إدراك المناطات القطعية.

ثمّ لو افترضنا انّه أصاب في كشف المناط ، فمن أين علم أنّه تمام المناط ولعلها جزء العلّة وهناك جزء آخر منضم إليه في الواقع ولم يصل الفقيه إليه؟

ولأجل ذلك رفض أصحابنا قاعدة الاستصلاح والمصالح المرسلة وهكذا استنباط العلّة عن طريق القياس ، بمعنى السبر والتقسيم.

نعم يستثنى من المعنى الثاني ، المصالح والمفاسد العامة التي أطبق العقلاء عامة على صلاحها أو فسادها على نحو صار من الضروريات ، وهذا كتعاطي المخدّرات التي أطبق العقلاء على ضررها ؛ ومثله التلقيح الوقائي عند ظهور الأمراض السارية كالجُدري ، والحصبة وغيرهما ، فقد أصبح من الأُمور التي لا يتردّد في صلاحيتها ذوو الاختصاص.

ولشيخنا المظفر قدَّس سرّه كلام يشير إلى خروج المعنيين عن محط النزاع ، بنصّ واحد لا بأس بنقله :

«لا سبيل للعقل بما هو عقل إلى إدراك جميع ملاكات الأحكام الشرعية ، فإذا أدرك العقل المصلحة في شيء أو المفسدة في آخر ، ولم يكن إدراكه مستنداً إلى

٢٤

المصلحة أو المفسدة العامّتين اللّتين يتساوى في إدراكهما جميع العقلاء ، فانّه أعني : العقل لا سبيل له إلى الحكم بأنّ هذا المدرَك ، يجب أن يحكم به الشارع على طبق حكم العقل ، إذ يحتمل انّ ما هو مناط الحكم عند الشارع ، غير ما أدركه العقل مناطاً ، أو أنّ هناك مانعاً يمنع من حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل ، وإن كان ما أدرك مقتضياً لحكم الشارع». (١)

فخرجنا بالنتائج التالية :

أوّلاً : انّ حكم العقل بشيء يكشف عن كون الحكم عند الشرع كذلك شريطة أن يكون العقل قاطعاً ويكون المدرَك حكماً عاماً. وذلك لما عرفت من انّ المدرك حكم عام لا يختصّ بفرد دون فرد ، والشرع وغير الشرع فيه سيان ، كما هو الحال في الأمثلة المتقدمة.

ثانياً : إذا أدرك العقل وجود المصلحة أو المفسدة في الأفعال إدراكاً نوعياً يستوي فيه جميع العقلاء ، كوجود المفسدة في استعمال المخدرات ، ففي مثله يكون حكم العقل ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي. دون ما لا يكون كذلك كادراك فرد أو فردين وجود المصلحة الملزِمة.

ثالثاً : استكشاف ملاكات الأحكام واستنباطها بالسبر والتقسيم ، ثمّ استكشاف حكم الشرع على وفقه أمر محظور ، لعدم إحاطة العقل بمصالح الأحكام ومفاسدها ، وسوف يوافيك عند البحث عن سائر مصادر الفقه عدم العبرة بالاستصلاح الذي عكف عليه مذهب المالكية.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الكلام يقع في المعنى الأوّل في موردين :

الأوّل : إمكان استقلال العقل بدرك حسن الشيء أو قبحه أو دركه الملازمة

__________________

(١). أُصول الفقه : ٢٣٩ / ١ ٢٤٠.

٢٥

بين الوجوبين.

الثاني : إذا استقلّ العقل بما ذكر فهل يكشف عن كونه كذلك عند الشرع.

أمّا الأوّل ، فالعدلية متّفقة على إمكانه ، وهو من الأحكام البديهية للعقل ضرورة انّ كلّ إنسان يجد في نفسه حسن العدل وقبح الظلم ، وإذا عرض الأمرين على وجدانه يجد في نفسه نزوعاً إلى العدل وتنفّراً عن الظلم وهكذا سائر الأفعال التي تعد من مشتقات الأمرين.

يقول العلّامة الحلّي : «إنّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من دون نظر إلى شرع ، فإنّ كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه وبقبح الإساءة والظلم ويذم عليه ، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشكّ وليس مستفاداً من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة به من غير اعتراف منهم بالشرائع». (١)

إنّ حكم الإنسان بحسن العدل وقبح الظلم ليس بأدون من الجزم بحاجة الممكن إلى العلّة ، أو انّ الأشياء المساوية لشيء متساوية ، فإذا أمكن الجزم بالأمرين الأخيرين فليكن الأمر الأوّل كذلك.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني أعني : الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع فهو ثابت أيضاً ، لأنّ الموضوع للحسن والقبح هو نفس الفعل بغضِّ النظر عن فاعل خاص ، بل مع غض النظر عمّا يترتّب عليه من المصالح والمفاسد ، فإذا كان هذا هو الموضوع فما وقف عليها العقل بفطرته ووجدانه يعمّ فعل الواجب والممكن.

وبعبارة أُخرى : انّ ما يدركه العقل في الحكمة العملية مثل ما يدركه في الحكمة النظرية ، فكما انّ ما يدركه لا يختص بالمدرِك بل يعمه وغيره ، فهكذا الحال في الحكمة العملية ، مثلاً : إذا أدرك العقل بفضل البرهان الهندسي بانّ زوايا

__________________

(١). كشف المراد مع تعليقتنا : ٥٩ نشر المؤسسة الإمام الصادق (عليه‌السلام).

٢٦

المثلث تساوي قائمتين فقد أدرك أمراً واقعياً لا يختص بالمدرك لانّ التساوي من آثار طبيعة المثلث ، فهكذا إذا أدرك حسن شيء أو قبحه والفرق بين الحكمتين انّ المعلوم في النظرية من شأنه أن يعلم كما انّ المعلوم في العملية من شأنه أن يعمل به.

فإن قلت : كيف يمكن الاعتماد على حكم العقل وجعله دليلاً على الحكم الشرعي مع أنّه قامت الأدلّة على لزوم العمل بحكم تتوسط الحجّة في تبليغه وبيانه ولا عبرة بالحكم الواصل من غير تبليغ الحجّة؟ وتدلّ على ذلك الأحاديث التالية :

١. صحيح زرارة «فلو انّ رجلاً صام نهاره ، وقام ليله ، وتصدّق بجميع ماله ، وحجّ جميع دهره ، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله ثواب ولا كان من أهل الإيمان». (١)

٢. قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «من دان بغير سماع ألزمه الله التيه يوم القيامة». (٢) ٣. وقال أبو جعفر (عليه‌السلام) : «كلّما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل». (٣) إلى غير ذلك من الروايات. (٤)

قلت أوّلاً : انّ الروايات ناظرة إلى المُعْرضين عن أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) والمستهدين بغيرهم على وجه كان جميع أعمالهم بدلالة سواهم ، وأمّا من أناخ مطيّته على عتبة أبوابهم في كلّ أمر كبير وصغير ، ومع ذلك اعتمد على العقل في مجالات خاصة فالروايات منصرفة عنه جداً.

__________________

(١). الوسائل : الجزء ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٣.

(٢ و ٣). الوسائل : ١٨ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤ و ١٨.

(٤). الكافي : ١٣ / ١٦١ ، باب العقل والجهل.

٢٧

وبعبارة أُخرى : كما للآيات أسباب وشأن نزول ، فهكذا الروايات لها أسباب صدور فهي تعبِّر عن سيرة قضاة العامة وفقهائهم كأبي حنيفة وابن شبرمة وأضرابهم الذين أعرضوا عن أئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) ولم ينيخوا مطاياهم على أبواب أئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) فيخاطبهم الإمام بما في هذه الروايات.

وأمّا فقهاء الشيعة الذين رجعوا في كلّ واقعة إلى الكتاب والسنّة وتمسّكوا بالثقلين فلا تعمّهم ، والمورد (صدورها في مورد فقهاء العامة) وإن لم يكن مخصصاً لكن يمكن إلغاء الخصوصية بالنسبة إلى المماثل والمشابه لا المباين ، وتمسّك أصحابنا بالعقل في مجالات خاصة لا يعدُّ إعراضاً عنهم بخلاف غيرهم.

وثانياً : إذا كان العقل أحد الحجج كما في صحيح هشام فيكون الحكم المستكشف ممّا وصل إلى المكلّف بتبليغ الحجّة أيضاً.

روى هشام عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) : «يا هشام إنّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة ، وحجّة باطنة ؛ فالظاهرة الرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول». (١) وهناك كلام للمحقّق القمي نتبرّك بذكره ختاماً للبحث ، قال : «

إنّ انحصار الطاعة والمخالفة في موافقة الخطاب اللفظي ومخالفته ، دعوى بلا دليل ، بل هما موافقة طلب الشارع ومخالفته وإن كان الطلب بلسان العقل ، ونظير ذلك أنّ الله تعالى إذا كلّف نبيّه بواسطة إلهام من دون نزول وحي من جبرئيل (عليه‌السلام) وإتيان كلام ، وامتثله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيقال إنّه أطاع الله جزماً ، والعقل فينا نظير الإلهام فيه.

__________________

(١). لاحظ الكافي : ٦٠ / ١ ، باب الرد إلى الكتاب والسنة ، الحديث ٦ ؛ وأيضاً ص ٥٦ باب البدع والرأي والمقاييس ، الحديث ٧.

٢٨

ثمّ يقول : إنّ من يدّعي حكم العقل بوجوب ردّ الوديعة وحرمة الظلم يدّعي القطع بأنّ الله تعالى خاطبه بذلك بلسان العقل ، فكيف يجوز العمل بالظن بخطاب الله تعالى وتكليفه ، ولا يجوز العمل مع اليقين به؟ فإن كان ولا بدّ من المناقشة ، فليكتف في منع حصول هذا القطع من جهة العقل وانّه لا يمكن ذلك». (١)

ثمرات البحث إذا قلنا بالحسن والقبح العقليّين والملازمة بين الحكمين تترتب عليه ثمرات أُصولية نذكر منها ما يلي :

١. البراءة من التكليف لقبح العقاب بلا بيان.

٢. لزوم تحصيل البراءة اليقينيّة عند العلم الإجمالي وتردّد المكلّف به بين أمرين لأجل حكم العقل بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

٣. الإتيان بالمأمور به مجز عن الإعادة والقضاء لقبح بقاء الأمر بعد الامتثال.

٤. وجوب تقديم الأهم على المهم إذا دار الأمر بينهما لقبح العكس.

وأمّا الثمرات الفقهية المترتّبة على القول بالملازمة العقلية فيستنتج منها الأحكام التالية:

١. وجوب المقدّمة على القول بحكم العقل بالملازمة بين الوجوبين.

٢. حرمة ضد الواجب على القول بحكم العقل بالملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه.

__________________

(١). القوانين : ٢ / ٣٢.

٢٩

٣. بطلان العبادة على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم النهي عن الأمر.

٤. صحّة العبادة على القول بالامتناع وتقديم جانب الأمر.

٥. صحّة العبادة على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي.

٦. فساد العبادة إذا تعلّق النهي بنفس العبادة سواء كان المنهي نفسها أو جزئها أو شرطها أو أوصافها.

٧. فساد المعاملة إذا تعلّق النهي بالثمن أو المثمن للملازمة بين النهي وفسادها.

٨. انتفاء الحكم (الجزاء) مع انتفاء الشرط إذا كان علة منحصرة.

٣٠

٢ ـ الأدلّة الأربعة

الإجماع المحصّل

الإجماع المحصّل أحد مصادر التشريع عند أهل السنّة بما هو هو لا بما هو كاشف عن حجّة شرعية ، كما عليه الإمامية ، وقد اختلفت كلمة الأُصوليّين في تعريفه.

فعرّفه الغزالي بقوله : إنّه اتّفاق أُمّة محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي. (١)

وعلى هذا التعريف لا يكفي اتّفاق المجتهدين ، بل يجب اتّفاق جميع المسلمين في عصر من العصور ، وهو أمر نادر الوقوع.

وعرّفه الآخرون : باتّفاق أهل الحلّ والعقد على حكم من الأحكام ، أو اتّفاق المجتهدين من أُمّة محمّد في عصر على أمر.

المهم في المقام هو الوقوف على وجه حجّية الإجماع عند أهل السنّة أوّلاً ، وعند الشيعة ثانياً ، فانّ الإجماع عند الطائفة الأُولى بما هو هو دليل شرعي يُضفي على الحكم صبغة الشرعية فهو في عرض الكتاب والسنّة والعقل.

أمّا الإجماع عند الطائفة الثانية فهو عندهم حجّة لأجل كشفه عن قول المعصوم أو دليل معتبر ، ولأجل إيقاف القارئ على موقف الطائفتين من الإجماع ، نوضح الموضوع إجمالاً.

__________________

(١). المستصفى : ١١٠ / ١.

٣١

موقف أهل السنّة من الإجماع المحصَّل

إذا اتّفق المجتهدون من أُمّة محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في عصر من العصور على حكم شرعي ، يكون المجمع عليه حكماً شرعياً واقعياً عند أهل السنّة ولا تجوز مخالفته ، وليس معنى ذلك انّ إجماعهم على حكم من تلقاء أنفسهم يجعله حكماً شرعياً ، بل يجب أن يكون إجماعهم مستنداً إلى دليل شرعي قطعي أو ظنّي ، كالخبر الواحد والمصالح المرسلة والقياس والاستحسان.

فلو كان المستند دليلاً قطعياً من قرآن أو سنّة متواترة يكون الإجماع مؤيداً ومعاضداً له ؛ ولو كان دليلاً ظنياً كما مثلناه ، فيرتقي الحكم حينئذ بالإجماع من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع واليقين.

ومثله ما إذا كان المستند هو المصلحة أو دفع المفسدة ، فالاتّفاق على حكم شرعي استناداً إلى ذلك الدليل يجعله حكماً شرعياً قطعياً ، كزيادة أذان لصلاة الجمعة في عهد عثمان لإعلام الناس بالصلاة كي لا تفوتهم ، حتى صار الأذان الآخر عملاً شرعياً إلهياً وإن لم ينزل به الوحي. (١)

وعلى ذلك فقد أعطى سبحانه للإجماع واتّفاق الأُمّة منزلة كبيرة على وجه إذا اتّفقوا على أمر ، يُصبح المجمع عليه حكماً شرعياً قطعياً كالحكم الوارد في القرآن والسنّة النبويّة ، ولذلك قلنا بأنّ الإجماع عندهم من مصادر التشريع.

ثمّ إنّهم استدلّوا على ما راموه بوجوه :

منها : قوله سبحانه :(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً). (٢)

وجه الاستدلال انّه سبحانه ابتدأ كلامه بجملتين شرطيّتين :

__________________

(١). الوجيز في أُصول الفقه لابن وهبة : ٤٩.

(٢). النساء : ١١٥.

٣٢

أ. (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى).

ب. و (مَنْ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ).

ثمّ إنّه سبحانه جعل لهما جزاءً واحداً وهو قوله :(نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى ...) فإذا كانت مشاقّة الله ورسوله حراماً كان اتّباع غير سبيل المؤمنين حراماً مثله بشهادة وحدة الجزاء ، فإذا حرم اتّباع غير سبيلهم ، فاتّباع سبيلهم واجب إذ لا واسطة بينهما. ويلزم من وجوب اتّباع سبيلهم كون الإجماع حجّة ، لأنّ سبيل الشخص ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد.(١)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الوقوف على مفاد الآية يتوقّف على تبيين سبيل المؤمن والكافر أي سبيل لا من يشاقق ومن يشاقق في عصر الرسول الذي تحكي الآية عنه ، فسبيل المؤمن هو الإيمان بالله وإطاعة الرسول ومناصرته ، وسبيل الآخر هو الكفر بالله ومعاداة الرسول ومشاقّته ، فالله سبحانه يندّد بالكافر ويذكر جزاءه بقوله :(نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) ويكون جزاء المؤمن بطبع الحال خلافه.

وعلى ضوء ذلك يكون المراد من اتّباع سبيل المؤمنين هو إطاعة الرسول ومناصرته ، ومن سبيل غيرهم هو معاداة الرسول ومناقشته فأي صلة للآية بحجّية اتّفاق المؤمنين على حكم من الأحكام.

وبعبارة أُخرى : أنّ الموضوع للجزاء في الآية مركّب من أمرين :

أ. معاداة الرسول.

ب. سلوك غير سبيل المؤمنين.

فَعَطفَ أحدهما على الآخر بواو الجمع وجَعَلَ سبحانه لهما جزاءً واحداً وهو قوله : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ).

__________________

(١). الوجيز : ٤٩.

٣٣

وبما انّ معاداة الرسول وحدها كافية في الجزاء وهذا يكشف عن انّ المعطوف عبارة أُخرى عن المعطوف عليه ، والمراد من اتّباع غير سبيل المؤمنين هو شقاق الرسول ومعاداته وليس أمراً مغايراً معه كما حسبه المستدل.

وثانياً : أنّ سبيل المؤمنين في عصر الرسول هو نفس سبيل الرسول ، فحجّية السبيل الأوّل لأجل وجود المعصوم بينهم وموافقته معه فلا يدلّ على حجّية مطلق سبيل المؤمنين بعد مفارقته عنهم.

ومنها : قوله سبحانه :(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). (١)

وجه الاستدلال : انّ الوسط من كلّ شيء خياره ، فيكون تعالى قد أخبر عن خيرية هذه الأُمّة ، فإذا أقدموا على شيء من المحظورات لما وُصِفُوا بالخيرية فيكون قولهم حجة.

يلاحظ عليه : أنّ وصف جميع الأُمّة بالخير والعدل مجاز قطعاً ، فإنّ بين الأُمّة من بلغ في الصلاح والرشاد إلى درجة يُستدرُّ بهم الغمام ، وفي الوقت نفسه فيها من بلغ في الشقاء إلى درجة خضّب الأرض بدماء الصالحين والمؤمنين ، ومع ذلك كيف تكون الأُمّة بلا استثناء خياراً وعدلاً ، وتكون بعامة أفرادها شهداء على سائر الأُمم ، مع أنّ كثيراً منهم لا تقبل شهادتهم في الدنيا فكيف في الآخرة.

يقول الإمام الصادق (عليه‌السلام) في تفسير الآية : «فإن ظننت انّ الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين ، أفترى أنّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر ، تُطلب شهادته يوم القيامة وتقبل منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟!». (٢)

وهذا دليل على أنّ الوسطية وصف لعدة منهم ، ولمّا كان الموصوف بالوسطية

__________________

(١). البقرة : ١٤٣.

(٢). البرهان في تفسير القرآن : ١٦٠ / ١.

٣٤

جزءاً من الأُمّة الإسلامية صحّت نسبة وصفهم إلى الجميع ، نظير قوله سبحانه : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) (١) فقد وصف عامّة بني إسرائيل بكونهم ملوكاً ، مع أنّ البعض منهم كان ملكاً.

وإذا كانت الوسطية لعدّة منهم دون الجميع ، يكون قولهم هو الحجّة كما يكونوا هم الشهداء يوم القيامة لا جميع الأُمّة وإنّما نسب إلى الجميع مجازاً. وأمّا من هو هذه العدّة فبيانه على عاتق التفسير.

ومنها : ما روي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «انّ أُمّتي لا تجتمع على ضلالة». ورواه أصحاب السنن. (٢)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الحديث مع أنّه روي في غير واحد من السنن ضعيف السند.

قال الشيخ العراقي في تخريج أحاديث تفسير البيضاوي : «جاء الحديث بطرق في كلّها نظر». (٣)

وقد قمنا بدراسة هذا الحديث وتحليله في رسالة (٤) جمعنا فيها أسانيده وخرجنا بحصيلة انّ جميع تلك الأسانيد ضعيفة ، مضافاً إلى أنّ الحديث خبر واحد لا يحتجّ به في الأُصول.

ثانياً : أنّ الوارد في الحديث هو عدم الاجتماع على «الضلالة» لا عدم الاجتماع على «الخطأ» ، فيكون الحديث ناظراً إلى مسائل العقيدة التي هي مدار الهداية والضلالة لا إلى الفروع ، فلا يوصف المصيب فيها بالهداية والمخطئ بالضلالة.

__________________

(١). المائدة : ٢٠.

(٢). ابن ماجه : السنن : ٢ ، الحديث ٣٩٥٠ ؛ الترمذي : السنن : ٤ ، برقم ٢١٦٧ ؛ أبو داود : السنن : ٤ ، برقم ٤٢٥٣ ؛ مسند أحمد : ١٤٥ / ٥.

(٣). سنن ابن ماجه : ١٣٠٣ / ٢.

(٤). لاحظ كتاب «رسائل ومقالات» : ج ١٩٤ /. ٢ ٢٠٩

٣٥

ثالثاً : أنّ المصون من الضلالة هي الأُمّة بما هي أُمّة لا الفقهاء فقط ولا أهل العلم ولا أهل الحل والعقد ، وعلى ذلك ينحصر مفاد الحديث بما اتّفقت عليه جميع الأُمّة في مجال العقائد والأُصول والفروع.

إلى هنا تمّ ما استدلّ به أهل السنّة على حجّية الإجماع وكونه من مصادر التشريع بما هو هو ، وقد عرفت قصور أدلّتهم عن إثبات مرامهم فهلمّ معي ندرس مكانة الإجماع عند الشيعة.

مكانة الإجماع المحصّل عند الشيعة

إنّ الأُمّة مع قطع النظر عن الإمام المعصوم بينهم ، غير مصونة من الخطأ في الأحكام فليس للاتّفاق والإجماع رصيد علمي ، إلّا إذا كشف عن الحجّة بأحد الطريقين :

١. استكشاف قول المعصوم بالملازمة العقلية (قاعدة اللطف).

٢. استكشاف قوله (عليه‌السلام) بالملازمة العادية (قاعدة الحدس).

أمّا الأمر الأوّل فحاصل النظرية انّه يمكن أن يستكشف عقلاً رأي الإمام (عليه‌السلام) من اتّفاق من عداه من العلماء على حكم وعدم ردعهم عنه نظراً إلى قاعدة اللطف التي لأجلها وجب على الله نصب الحجّة الموصوف بالعلم والعصمة في كلّ الأزمنة. فإنّ من أعظم فوائدها ، حفظ الحقّ وتمييزه عن الباطل كي لا يضيع بخفائه ويرتفع عن أهله أو يشتبه بغيره ، وتلقينُهم طريقاً يتمكن العلماء وغيرهم من الوصول به إليه ومنعهم وتثبيطهم عن الباطل أوّلاً أو ردّهم عنه إذا أجمعوا عليه ثانياً. (١)

__________________

(١). كشف القناع : ١١٤.

٣٦

وحاصل هذا الوجه : انّ من فوائد نصب الإمام هو هداية الأُمّة وردّهم عن الإجماع على الباطل وإرشادهم إلى الحقّ ، فلو كان المجمع عليه باطلاً كان على الإمام ردّهم عن ذلك الاتّفاق بوجه من الوجوه. وهذا ما يسمّى بقاعدة اللطف.

وأمّا الثاني أي استكشاف قوله (عليه‌السلام) بالملازمة العادية فيمكن تقريره بالنحوين التاليين :

الف : تراكم الظنون مورث لليقين

إنّ فتوى كلّ فقيه وإن كان يفيد الظن ولو بأدنى مراتبه ، إلّا أنّها تعزَّز بفتوى فقيه ثان فثالث ، إلى أن يحصل للإنسان اليقين من إفتاء جماعة على حكم القطعُ بالصحة ، إذ من البعيد أن يتطرق البطلان إلى فتوى جماعة كثيرين.

نقل المحقّق النائيني عن بعضهم : إنّ حجّيته لمكان تراكم الظنون من الفتاوى إلى حدّ يوجب القطع بالحكم كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر. (١)

ب : الاتّفاق كاشف عن دليل معتبر

إنّ حجّية الاتّفاق ليس لأجل إفادتها القطع بالحكم ، بل لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا ، وهذا هو الذي اعتمد عليه صاحب الفصول وقال : يستكشف قول المعصوم عن دليل معتبر باتّفاق علمائنا الذين كان ديدنهم الانقطاع إلى الأئمّة في الأحكام وطريقتهم التحرّز عن القول بالرأي والاستحسان.

__________________

(١). فوائد الأُصول : ١٤٩ / ٣

٣٧

وهذان الوجهان هما السندان لحجية الإجماع المحصل ، وهناك بحوث أُخرى تطلب من دراسات عليا.

ثمّ إنّ الدارج في الكتب الأُصولية هو البحث عن حجّية الإجماع المحصّل المنقول إلينا بخبر الواحد ، وبما انّ حجّية مثل هذا النقل ، فرع حجّية خبر الواحد آثرنا تأخيره إلى الفراغ من حجّية خبر الواحد.

٣٨

٣ ـ الأدلّة الأربعة

الكتاب

إنّ الكتاب من أهم المصادر الشرعية للاستنباط ، فلا محيص للفقيه من مراجعة الكتاب واستنطاقه ، وقد نقل عن بعض أصحابنا الأخباريين عدم حجّية ظواهر الكتاب ، وهذا ما يندى له الجبين ، إذ كيف تكون المعجزة الكبرى للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مسلوبة الحجية. ولعل اقتصارهم على السنّة كان رد فعل لما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب انّه قال عند ما طلب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) القلم والدواة ليكتب كتاباً للأُمّة لئلّا يضلّوا بعده : حسبنا كتاب الله. (١)

وعلى كلّ تقدير فالاقتصار على الكتاب كالاقتصار على السنّة على طرفي الإفراط والتفريط.

والمراد من حجّية ظواهر القرآن في مجال الفقه مضافاً إلى موارده الخاصة هو التمسك بعموماته ومطلقاته بعد الفحص عن القرائن العقلية أو اللفظية المتصلة أو الحالية المنقولة بخبر الثقة خصوصاً بعد الفحص عن مقيداته ومخصصاته في أحاديث العترة الطاهرة ، فإذا تمت هذه الأُمور فهل يتمسك بظواهر القرآن في موردها؟

ذهب علماء الأُصول إلى وجوب الاستضاءة بنور القرآن فيما يدل عليه

__________________

(١). صحيح البخاري : ٣٠ / ١ ، كتاب العلم ، باب كتابة العلم.

٣٩

بظاهره والاخباريون إلى المنع وانّ الاستدلال بالقرآن يتوقف على تفسير المعصوم فيُصبح الاحتجاج بتفسيره (عليه‌السلام) لا بنصّ القرآن.

ثمّ إنّ الأدلّة على حجّية ظواهر القرآن كثيرة نذكر منها ما يلي :

الأوّل : دلّت غير واحدة من الآيات القرآنية على أنّ القرآن نور ، والنور بذاته ظاهر ومظهر لغيره ، قال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً). (١)

وفي آية أُخرى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ)(٢) فلو كان قوله (وَكِتابٌ مُبِينٌ)عطفَ تفسير لما قبله ، يكون المراد من النور هو القرآن.

إنّه سبحانه يصف القرآن بأنّه تبيان لكلّ شيء ، وحاشا أن يكون تبياناً له ولا يكون تبياناً لنفسه ، قال سبحانه(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ). (٣)

وقال سبحانه : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً). (٤)

أفيمكن أن يهدي من دون أن يكون المهتدي مستفيداً من هدايته؟!

فإن قلت : إنّ الاستدلال بظواهر القرآن على حجّيتها دور واضح ، فإنّ الأخباري لا يقول بحجّيتها.

قلت : إنّ الاحتجاج على حجّية القرآن إنّما هو بنصوصه لا بظواهره ، والأخباري إنّما يمنع حجّية ظواهره لا حجّية نصوصه.

__________________

(١). النساء : ١٧٤.

(٢). المائدة : ١٥.

(٣). النحل : ٨٩.

(٤). الإسراء : ٩.

٤٠