الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-014-2
الصفحات: ٢٥٦
الجزء ١ الجزء ٢

وقال أيضاً : إذا رَوَيتُ عن رسول الله حديثاً ولم آخذ به ، فاعلموا أنّ عقلي قد ذهب.

وقال : لا قول لأحد مع سنّة رسول الله. (١) فتعيّن من خلال ذلك انّ المواضع الأربعة السابقة لا مجال فيها للقول بالتصويب ، والرأي الصائب فيها واحد وغيره خاطئ.

إذا عرفت خروج المواضع السالفة الذكر عن محط النزاع ، وانّ جمهور الفقهاء إلّا من شذّ قائلون فيها بالتخطئة ، يُعلم منه أنّ النزاع يختص بالمسائل التي لم يرد حكمها في الكتاب والسنّة ، فمن قال بأنّ لله سبحانه في نفس تلك المسائل التي لم يرد فيها نص ، حكم مشترك بين الناس ، فالآراء عند قياسها به يوصف الموافق منها بالصواب والمخالف بالخطإ ، ومن أنكر وجود ذلك الحكمَ المشترك ، في نفس المورد يرى الجميع صواباً ، وكانَ الحكم الشرعي مفوّضاً إلى تشخيص المجتهد ورؤيته ، فيصح الجميع على حد سواء.

وممن صرّح بتخصيص محل النزاع بما لا نص فيه هو الغزالي ، قال : قد ذهب قوم إلى أنّ كلّ مجتهد في الظنّيات مصيب ، وقال قوم : المصيب واحد ، واختلف الفريقان جميعاً في أنّه هل في الواقعة التي لا نصّ فيها ، حكم معين لله تعالى هو مطلوب المجتهد ، فالذي ذهب إليه محقّقو المصوّبة انّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معين يطلب بالظن ، بل الحكم يتبع الظن ، وحكم الله تعالى على كلّ مجتهد ، ما غلب على ظنّه وهو المختار ، وإليه ذهب القاضي. (٢)

إذا عرفت ذلك فنقول :

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت انّ لله سبحانه حكماً مشتركاً في

__________________

(١). أعلام الموقعين : ٩٢٢ / ٢.

(٢). المستصفى : ٣٦٣ / ٢.

٢٢١

كلّ واقعة وانّه سبحانه لم يترك الحوادث سدى ، بل شرّع لها أحكاماً خاصة ، ولم يُفوِّض أمر التشريع بيد أحد ، ونكتفي بالقليل من تلك الروايات :

١. قال أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام) : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وجعل لكلّ شيء حدّاً ، وجعل عليه دليلاً يدل عليه ، وجعل لمن تعدّى ذلك الحدّ حدّاً». (١)

٢. روى حمّاد ، عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سمعته يقول : «ما من شيء إلّا وفيه كتاب أو سنّة». (٢)

٣. روى سماعة ، عن أبي الحسن موسى (عليه‌السلام) ، قال : قلت له : أكل شيء في كتاب الله وسنّة نبيه أو تقولون فيه؟ قال : «بل كل شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه». (٣)

٤. وقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في خطبة حجّة الوداع : «يا أيّها الناس والله ما من شيء يقرّبكم من الجنة ويبعّدكم عن النار إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم من النار ويبعّدكم عن الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه».

٥. روى (٤) الترمذي عن أبي هريرة ، عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فأخطأ فله أجر واحد». (٥)

٦. سئل أبو بكر عن حكم الكلالة ، فقال : إنّي سأقول فيها برأيي ، فإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له ، وإن كان خطأ فمنّي ومن الشيطان والله منه بريء. (٦)

__________________

(١، ٢ ، ٣). الكافي : ١ ، باب الرد إلى الكتاب والسّنة وانّه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج إليه إلّا وقد جاء فيه كتاب أو سنّة ، الحديث ٢ ، ٤ ، ١٠.

(٤). الكافي : ٧٤ / ٢ ، الحديث ٢.

(٥). الترمذي : السنن : ٣٩١ / ٢ برقم ١٣٤١.

(٦). الدر المنثور : ٢٥٠ / ٢.

٢٢٢

تكشف هذه الروايات والكلم بوضوح عن وجود الحكم المشترك ، وانّ لله سبحانه حكماً للجميع من غير فرق بين ما إذا ورد فيه النص وما لا نص فيه ، غاية الأمر يكون المجتهد فيما لا نصّ فيه معذوراً إذا أخطأ.

وقد ذهب أصحابنا تبعاً للروايات انّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً معيناً يتّجه إليه المجتهد ، فيصيبه تارة ويخطئه أُخرى.

قال الشيخ الطوسي : ذهب أكثر المتكلّمين والفقهاء إلى أنّ كلّ مجتهد مصيب في اجتهاده وفي الحكم.

وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم وأبي الحسن الأشعري وأكثر المتكلّمين ، وذهب الأصم (١) وبشر المريسي (٢) إلى أنّ الحقّ واحد وانّ ما عداه خطأ.

ثمّ قال : والذي أذهب إليه وهو مذهب جميع شيوخنا المتكلّمين من المتقدّمين والمتأخّرين ، وهو الذي اختاره سيدنا المرتضى ، وإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله (المفيد) ، انّ الحقّ واحد.

تنبيه

ثمّ إنّ السبب الذي دعا أهل السنّة إلى القول بالتصويب هو قلّة الروايات النبوية في الأحكام الشرعية ، فأصبح قسم هائل من الموضوعات عندهم ممّا لا نصّ فيه ، فظنّوا انّ عدم ورود النص من الشرع قرينة على تفويض حكمها إلى المجتهدين ، فما استخرجه المجتهد على ضوء المعايير والمقاييس يُصبح حكماً شرعياً لله تبارك وتعالى ، سواء أوجِد المخالف أم لا ، فالجميع على صواب.

__________________

(١). هو عبد الرحمن بن كيسان المعتزلي الأُصولي المتوفّى عام ٢٢٥ ه‍.

(٢). هو بشر بن غياث المريسي ، فقيه معتزلي ، وهو رأس الطائفة المريسية ، وأُوذي في دولة هارون الرشيد ، توفّي عام ٢١٨ ه‍.

٢٢٣

المسألة التاسعة : تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد

قد يُطرح الزمان والمكان بما انّهما ظرفان للحوادث والطوارئ الحادثة فيهما ، وقد يطرحان ويراد منهما المظروف ، أساليب الحياة والظروف الاجتماعية حسب تقدّم الحضارة ، والثاني هو المراد من المقام.

ثمّ إنّه يجب أن يفسر تأثير الزمان والمكان بالمعنى المذكور في الاجتهاد ، على وجه لا يعارض الأُصول المسلّمة في التشريع الإسلامي ، ونشير إلى أصلين منها.

الأوّل : انّ من مراتب التوحيد هو التوحيد في التقنين والتشريع ، فلا مشرّع ولا مقنّن سواه ، قال تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١) والمراد من الحكم هو الحكم التشريعي بقرينة قوله :(أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).

وقال سبحانه :(قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٢).

الثاني : انّ الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خاتم الأنبياء ، وكتابه خاتم الكتب ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

روى زرارة ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الحلال والحرام ، قال : «حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة لا يكون غيرُه ولا يجيء غيرُه ، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة لا يكون غيره ولا يجيء غيره» وقال : قال علي (عليه‌السلام) : «ما أحد ابتدع بدعة إلّا ترك بها سنّة». (٣)

__________________

(١). يوسف : ٤٠.

(٢). يونس : ١٥.

(٣). الكافي : ٥٨ / ١ ، الحديث ١٩ ؛ وبهذا المضمون أحاديث كثيرة.

٢٢٤

وعلى ضوء هذين الأصلين يجب أن يفسر تأثير الزمان والمكان في استنباط الأحكام.

وممن أشار إلى هذه المسألة من علمائنا ، المحقّق الأردبيلي ، حيث قال : ولا يمكن القول بكلية شيء ، بل تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيات والأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص وهو ظاهر ، وباستخراج هذه الاختلافات والانطباق على الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف ، امتياز أهل العلم والفقهاء ، شكر الله سعيهم ورفع درجاتهم. (١)

وهناك كلمة مأثورة عن الإمام السيد الخميني (قدس‌سره) حيث قال : إنّي على اعتقاد بالفقه الدارج بين فقهائنا وبالاجتهاد على النهج الجواهري ، وهذا أمر لا بدّ منه ، ولا يعني ذلك انّ الفقه الإسلامي لا يواكب حاجات العصر ، بل انّ لعنصري الزمان والمكان تأثيراً في الاجتهاد ، فقد يكون لواقعة حكم لكنّها تتخذ حكماً آخر على ضوء الأُصول الحاكمة على المجتمع وسياسته واقتصاده. (٢)

إنّ القول بأنّ عنصري الزمان والمكان لا تمسّان كرامة الأحكام المنصوصة في الشريعة ، مما اتّفقت عليه أيضاً كلمة أهل السنّة حيث إنّهم صرّحوا بأنّ العاملين المذكورين يؤثران في الأحكام المستنبطة عن طريق القياس والمصالح المرسلة والاستحسان وغيرها ، فتغيير المصالح ألجأهم إلى الحكم بتغيير الأحكام الاجتهادية لا المنصوصة. يقول الأُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء :

وقد اتّفقت كلمة فقهاء المذاهب على أنّ الأحكام التي تتبدّل بتبدّل الزمان وأخلاق الناس ، هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية أي التي قررها

__________________

(١). مجمع الفائدة والبرهان : ٤٣٦ / ٣ ، وقد سبقه غيره ، وقد أوردنا كلماتهم في رسالة مبسطة طبعت في كتاب «رسائل ومقالات» ، ج ٢ ، فلاحظ.

(٢). صحيفة النور : ٩٨ / ٢١.

٢٢٥

الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة وهي المقصودة من القاعدة المقررة «تغيير الأحكام بتغيّر الزمان».

أمّا الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة ، الناهية كحرمة المحرّمات المطلقة ، وكوجوب التراضي في العقود ، والتزام الإنسان بعقده ، وضمان الضرر الذي يُلحقه بغيره ، وسريان إقراره على نفسه دون غيره ، ووجوب منع الأذى وقمع الإجرام ، وسد الذرائع إلى الفساد وحماية الحقوق المكتسبة ، ومسئولية كل مكلف عن عمله وتقصيره ، وعدم مؤاخذة بريء بذنب غيره ، إلى غير ذلك من الأحكام والمبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها ، فهذه لا تتبدّل بتبدل الأزمان ، بل هي الأُصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال ، ولكن وسائل تحقيقها وأساليب تطبيقها قد تتبدّل باختلاف الأزمنة المحدثة. (١)

وعلى هذا فيجب أن يفسر تأثير العاملين بشكل لا يمسُّ الأصلين المتقدمين.

واعلم أنّ تأثير العنصرين على أقسام ، وإليك البيان :

الأوّل : تأثير الزمان والمكان في صدق الموضوعات

إنّ تبدّل الموضوع يراد منه تارة انقلابه إلى موضوع آخر كصيرورة الخمر خلاً والنجس تراباً ، وهذا غير مراد في المقام قطعاً.

وأُخرى صدق الموضوع على مورد في زمان ومكان وعدم صدقه على ذلك المورد في زمان ومكان آخر ، وما هذا إلّا لمدخلية الظروف والملابسات فيها.

__________________

(١). المدخل الفقهي العام : ٩٢٤ / ٩٢٥٢.

٢٢٦

ويظهر ذلك بالتأمّل في الموضوعات التالية :

١. الاستطاعة. ٢. الفقر. ٣. الغنى. ٤. بذل النفقة للزوجة. ٥. وإمساكها بالمعروف حسب قوله سبحانه :(فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (١).

فإن هذه العنوانات موضوعات لأحكام شرعية ، واضحة ولكن محقّقاتها تختلف حسب اختلاف الزمان والمكان ، فمثلاً :

١. التمكّن من الزاد والراحلة التي هي عبارة أُخرى عن الاستطاعة ، له محقّقات مختلفة عبْر الزمان ، فربما تصدق على مورد في ظرف ولا تصدق عليه في ظرف آخر ، كما هو الحال في إمساك الزوجة بالمعروف فإنّها تختلف حسب الظروف الاجتماعية ، وتبدّل أساليب الحياة ، ولا بعد إذا قلنا انّ فقير اليوم غنيّ الأمس.

٢. في صدق المثلي والقيميّ ، وقد جعل الفقهاء ضابطة للمثلي والقيمي وفي ظلّها ، عدّوا الحبوب من قبيل المثليات ، والأواني والألبسة من قبيل القيميات ، وذلك لكثرة وجود المماثل في الأُولى وندرته في الثانية ، وكان ذلك الحكم سائداً حتى تطورت الصناعة تطوراً ملحوظاً فأصبحت تُنتج كميات هائلة من الأواني والمنسوجات لا تختلف واحدة عن الأُخرى قيد شعرة ، فأصبحت القيميات بفضل الازدهار الصناعي ، مثليات.

٣. في صدق المكيل والموزون حيث إنّ الحكم الشرعي هو بيع المكيل بالكيل ، والموزون بالوزن ، ولا يجوز بيعهما بالعدّ ، ولكن هذا يختلف حسب اختلاف البيئات والمجتمعات ، ويلحق لكلّ ، حكمه.

ومن أحكامهما انّه لا تجوز معاوضة المتجانسين متفاضلاً إلّا مثلاً بمثل ، إذا

__________________

(١). البقرة : ٢٣١.

٢٢٧

كانا من المكيل والموزون ، دون المعدود والمزروع ، وهذا يختلف حسب اختلاف الزمان والمكان فربما جنس يباع بالكيل والوزن في بلد وبالعدّ في بلد آخر ، وهكذا يلحق لكلّ ، حكمه.

هذا كلّه حول تأثير عنصري الزمان والمكان في صدق الموضوع.

الثاني : تأثيرهما في ملاكات الأحكام

لا شكّ انّ الأحكام الشرعية تابعة للملاكات والمصالح والمفاسد ، فربما يكون مناط الحكم مجهولاً ومبهماً وأُخرى يكون معلوماً بتصريح من الشارع ، والقسم الأوّل خارج عن محلّ البحث ، وأمّا القسم الثاني فالحكم دائر مدار مناطه وملاكه.

فلو كان المناط باقياً فالحكم ثابت ، وأمّا إذا تغيّر المناط حسب الظروف والملابسات يتغير الحكم قطعاً ، مثلاً :

١. لا خلاف في حرمة بيع الدم بملاك عدم وجود منفعة محلّلة فيه ، ولم يزل حكم الدم كذلك حتى اكتشف العلم له منفعة محلّلة تقوم عليها رحى الحياة ، وأصبح التبرع بالدم إلى المرضى كإهداء الحياة لهم ، وبذلك حاز الدم على ملاك آخر فحلّ بيعه وشراؤه. (١)

٢. انّ قطع أعضاء الميت أمر محرّم في الإسلام ، قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور» (٢) ومن الواضح انّ ملاك التحريم هو قطع الأعضاء لغاية الانتقام والتشفّي ، ولم يكن يومذاك أيُّ فائدة تترتّب على قطع أعضاء الميت

__________________

(١). قال السيد الإمام الخميني قدَّس سرّه : لم تكن في تلك الأعصار للدم منفعة غير الأكل ، فالتحريم منصرف إليه.

(٢). لاحظ نهج البلاغة ، قسم الرسائل ، برقم ٤٧.

٢٢٨

سوى تلبية للرغبة النفسية الانتقام ولكن اليوم ظهرت فوائد جمّة من وراء قطع أعضاء الميت ، حيث صارت عملية زرع الأعضاء أمراً ضرورياً يستفاد منها لنجاة حياة المشرفين على الموت.

٣. دلّت الروايات على أنّ دية النفس تؤدّى بالأنعام الثلاثة ، والحلّة اليمانية ، والدرهم والدينار ، ومقتضى الجمود على النص عدم التجاوز عن النقدين إلى الأوراق النقدية ، غير أنّ الوقوف على دور النقود في النظام الاقتصادي ، وانتشار أنواع كثيرة منها في دنيا اليوم ، والنظر في الظروف المحيطة بصدور تلك الروايات ، يشرف الفقيه على أنّ ذكر النقدين بعنوان أنّه أحد النقود الرائجة آنذاك ، ولذلك يجوز لأولياء الدم ، المطالبة بالأوراق النقدية المعادلة للنقدين الرائجة في زمانهم ، أو اعدالهما من الأنعام والحُلّة ، وقد وقف الفقهاء على ملاك الحكم عبر تقدّم عنصر الزمان.

الثالث : تأثيرهما في كيفية تنفيذ الحكم

١. تضافرت النصوص على حلّية الفيء والأنفال للشيعة في عصر الغيبة ، ومن الأنفال المعادن والآجام وأراضي الموات ، وقد كان الانتفاع بها في الأزمنة الماضية محدوداً ، ما كان يُثير مشكلة ، وأمّا اليوم ومع تطور الأساليب الصناعية وانتشارها بين الناس أصبح الانتفاع بها غير محدود ، فلو لم يتخذ أُسلوباً خاصاً في تنفيذ الحكم لأدّى إلى انقراضها أوّلاً ، وخلق طبقة اجتماعية مرفّهة ، وأُخرى بائسة فقيرة ثانياً.

فالظروف الزمانية والمكانية تفرض قيوداً على إجراء ذلك الحكم بشكل جامع يتكفّل إجراء أصل الحكم ، أي حلّية الأنفال للشيعة أوّلاً ، وحفظ النظام وبسط العدل والقسط بين الناس ثانياً ، بتقسيم الثروات العامة عن طريق الحاكم

٢٢٩

الإسلامي الذي يُشرف على جميع الشئون لينتفع الجميع على حد سواء.

٢. اتّفق الفقهاء على أنّ الغنائم الحربية تقسّم بين المقاتلين على نسق خاص بعد إخراج خمسها لأصحابه ، لكن الغنائم الحربية في عصر صدور الروايات كانت تدور بين السيف والرمح والسهم والفرس وغير ذلك ، ومن المعلوم انّ تقسيمها بين المقاتلين كان أمراً ميسراً آنذاك ، أمّا اليوم وفي ظل التقدّم العلمي الهائل ، فقد أصبحت الغنائم الحربية تدور حول الدبابات والمدرّعات والحافلات والطائرات المقاتلة والبوارج الحربية ، ومن الواضح عدم إمكان تقسيمها بين المقاتلين بل هو أمر متعسر ، فعلى الفقيه أن يتّخذ أُسلوباً في كيفية تطبيق الحكم على صعيد العمل ليجمع فيه بين العمل وأصل الحكم والابتعاد عن المضاعفات.

٣. انّ الناظر في فتاوى الفقهاء السابقين فيما يرجع إلى الحج من الطواف حول البيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار والذبح في منى يواجه ضغطاً شديداً في تطبيق عمل الحجّ على هذه الفتاوى ، ولكن تزايد وفود حجاج بيت الله عبر الزمان ويوماً بعد يوم أعطى للفقهاء رؤى وسيعة في تنفيذ أحكام الحجّ ، فأفتوا بجواز التوسع في الموضوع لا من باب الضرورة والحرج ، بل من باب التوسع في تنفيذ الحكم وانّ المطاف عند الزحام أوسع.

الرابع : تأثيرهما في مَنْح نظرة جديدة نحو المسائل

إنّ تغيير الأوضاع والأحوال الزمنية يؤثر في كيفية نظر المجتهد ويمنح له نظرة جديدة نحو المسائل المطروحة في الفقه قديماً وحديثاً. ولنذكر بعض الأمثلة :

١. كان القدماء ينظرون إلى البيع بمنظار ضيّق ويفسرونه بنقل الأعيان

٢٣٠

وانتقالها ، ولا يجيزون على ضوئها بيع المنافع والحقوق ، غير انّ تطور الحياة وظهور حقوق جديدة في المجتمع الإنساني ورواج بيعها وشرائها ، حدا بالفقهاء إلى إعادة النظر في حقيقة البيع ، فجوّزوا بيع الامتيازات والحقوق عامة.

٢. أفتى القدماء بأنّ الإنسان يملك المعدن المركوز في أرضه تبعاً لها دون أيّ قيد أو شرط ، وكان الداعي من وراء تلك الفتوى هو بساطة الوسائل المستخدمة لذلك ، ولم يكن بمقدور الإنسان الانتفاع إلّا بمقدار ما يعدّ تبعاً لأرضه ، ولكن مع تقدم الوسائل المستخدمة للاستخراج ، استطاع أن يتسلط على أوسع مما يُعد تبعاً لأرضه ، فعلى ضوئه لا مجال للإفتاء بأنّ صاحب الأرض يملك المعدن المركوز تبعاً لأرضه بلا قيد أو شرط ، بل يحدد بما يعد تبعاً لها ، وأمّا الخارج عنها فهو إمّا من الأنفال أو من المباحات العامّة التي يتوقف تملّكها على إجازة الإمام. وليست هذه النظرة الجديدة مختصة بالفقه بل تعم أكثر العلوم.

الخامس : تأثيرهما في تعيين الأساليب

إنّ هناك أحكاماً شرعية لم يحدّد الشارع أساليبها بل تركها مطلقة كي يختار منها في كلّ زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجاً وأنجع في التقويم علاجاً ، وإليك بعض الأمثلة على ذلك :

١. الدفاع عن بيضة الإسلام قانون ثابت لا يتغير ولكن الأساليب المتخذة لتنفيذ هذا القانون موكولة إلى مقتضيات الزمان التي تتغيّر بتغيّره ، ولكن في إطار القوانين العامة فليس هناك في الإسلام أصل ثابت إلّا أمر واحد ، وهو قوله سبحانه : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (١).

وأمّا غيرها فكلّها أساليب لهذا القانون تتغيّر حسب تغيّر الزمان.

__________________

(١). الأنفال : ٦٠.

٢٣١

٢. نشر العلم والثقافة أصل ثابت في الإسلام ، وأمّا تحقيق ذلك وتعيين كيفيته فهو موكول إلى الزمان ، فعنصر الزمان دخيل في تطبيق الأصل الكلي حسب مقتضيات الزمان.

٣. التشبّه بالكفار أمر مرغوب عنه حتى أنّ الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمر بخضب الشيب وقال : «غيِّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود» ، والأصل الثابت هو صيانة المسلمين عن التشبّه بأهل الكتاب ، ولما اتسعت دائرة الإسلام واعتنقته شعوب مختلفة وكثر فيهم الشيب تغير الأُسلوب ولما سُئل علي (عليه‌السلام) عن ذلك ، قال : «إنّما قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذلك والدين قُلّ ، فأمّا الآن فقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار». (١)

٤. انّ روح القضاء الإسلامي هو حماية الحقوق وصيانتها ، وكان الأُسلوب المتبع في العصور السابقة هو أُسلوب القاضي الفرد ، وقضاؤه على درجة واحدة قطعية ، وكان هذا النوع من القضاء مؤمِّناً لهدف القضاء ، ولكن اليوم لما دبّ الفساد إلى المحاكم وقلَّ الورع ألزم الزمان أن يتبدل أُسلوب القضاء إلى أُسلوب محكمة القضاة الجمع ، وتعدّد درجات المحاكم حسب المصلحة الزمنية التي أصبحت تقتضي زيادة الاحتياط ، وقد ذكرنا كيفية ذلك في بحوثنا الفقهية. (٢)

ثمّ إنّ ما ذكرنا يرجع إلى دور الزمان والمكان في عملية الاجتهاد والإفتاء ، وأمّا دورهما في الأحكام الحكومية التي تدور مدار المصالح والمفاسد وليست من قبيل الأحكام الواقعية ولا الظاهرية فلها باب واسع ، وقد استوفينا الكلام في ذلك في رسالة مخصوصة. (٣)

__________________

(١). نهج البلاغة ، قسم الحكم ، رقم ١٦.

(٢). انظر «نظام القضاء في الشريعة الإسلامية الغرّاء» للمؤلف حيث ذكرنا انّ تعدد درجات المحاكم لا ينافي كون القضاء الأوّل لازم الإجراء.

(٣). رسالة تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد المطبوعة مع رسالة البلوغ.

٢٣٢

فقد خرجنا بالنتائج التالية :

١. انّ عنصري الزمان والمكان لا تمسّ كرامة الكبريات ولا الأُصول الشرعية.

٢. تأثير عنصري الزمان والمكان في صدق الموضوع.

٣. تأثير عنصري الزمان والمكان في الوقوف على ملاكات الأحكام.

٤. تأثير عنصري الزمان والمكان في كيفيّة إجراء الحكم.

٥. تأثيرهما في منح النظرة الجديدة نحو الأحكام.

٦. تأثيرهما في تعيين الأساليب.

المسألة العاشرة : في التفسير الخاطئ أو تغيير الأحكام حسب المصالح

قد ظهر ممّا ذكرنا انّ القول بتأثير عنصري الزمان والمكان يجب أن يحدّد بما لا يمسُّ كرامة الأصلين السابقين : تأبيد الأحكام الشرعية ، وحصر التقنين بالله سبحانه وتعالى ، غير انّه ربّما يفسر التأثير بنحو خاطئ أي بمعنى تغيير الأحكام الشرعية حسب المصالح الزمنية تبريراً لمخالفة بعض الخلفاء للكتاب والسنّة قائلاً بأنّ للحاكم الأخذ بالمصالح وتفسير الأحكام على ضوئها ، ولنقدّم نموذجاً :

دلّ الكتاب والسنّة على بطلان الطلاق ثلاثاً ، وانّه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأُخرى ، يتخلّل بينهما رجوع أو نكاح ، فلو طلّق ثلاثاً مرّة واحدة أو كرّر الصيغة فلا يحتسب إلّا طلاقاً واحداً ؛ وقد جرى عليه رسول الله والخليفة الأوّل وكان (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يمضي من الطلاق الثلاث إلّا واحدة منها ، وكان الأمر على هذا إلى سنتين من خلافة عمر ، فقال عمر بن الخطاب : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم. (١)

__________________

(١). مسلم : الصحيح : ١٨٣ / ١٨٤٤ ، باب طلاق الثلاث ، الحديث ١.

٢٣٣

يلاحظ عليه بأنّ استخدام الرأي فيما فيه نص ، أمر خاطئ ، ولو صحّ استخدامه فإنّما هو فيما لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة ، ولمّا كان ذلك يمسّ كرامة الخليفة جاء الآخرون يبرّرون عمله بتغيّر الأحكام ، بالمصالح والمفاسد ، ومن المتحمّسين لهذا الموضوع هو ابن القيم فقال : لمّا رأى عمر بن الخطاب انّ مفسدة تتابع النص في إيقاع الطلاق لا تندفع إلّا بإمضائها على الناس ، ورأى مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الإيقاع ، أمضى عمل الناس وجعل الطلاق ثلاثاً ثلاثاً. (١)

يلاحظ عليه : أنّ إبطال الشريعة أمر محرّم لا يستباح بأي عنوان ، فلا يصحّ لنا تغيير الشريعة بالمعايير الاجتماعية من الصلاح والفساد ، وأمّا مفسدة تتابع النص في إيقاع الطلاق الثلاث فيجب أن تدفع عن طريق آخر لا عن طريق إمضاء ما ليس بمشروع مشروعاً.

والعجب انّ ابن القيم التفت إلى ذلك وقال : كان أسهل من ذلك (تصويب الطلقات ثلاثاً) أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث ، ويحرّمه عليهم ، ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله لئلّا يقع المحذور الذي يترتّب عليه ، ثمّ نقل عن عمر بن الخطاب ندامته على التصويب ، قال : قال عمر بن الخطاب : ما ندمت على شيء مثل ندامتي على ثلاث. (٢)

__________________

(١). أعلام الموقعين : ٤٨ / ٣.

(٢). أعلام الموقعين : ٣٦ / ٣ ، وأشار إليه في كتابه الآخر إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان : ٣٣٦ / ١.

٢٣٤

الفصل الثاني

في التقليد وأحكامه

ويقع الكلام في هذا الفصل في عدّة مسائل :

المسألة الأُولى : التقليد لغة واصطلاحاً

التقليد لغة من القلادة ، ومعناه جعلها في عنق الغير.

وأمّا اصطلاحاً ، فقد عرّف بوجوه :

أ. التقليد : هو الأخذ بفتوى الغير وتعلّمها للعمل بها.

ب. التقليد : هو الالتزام بالعمل بفتوى الغير وإن لم يتعلّم فضلاً عن أن يعمل.

ج. التقليد : هو الاستناد إلى فتوى الغير في مقام العمل.

والتعريف الثالث هو المناسب للفظ التقليد ، لأنّ المقلّد من يجعل القلادة في عنق الغير. (١) فالشيء الذي هو يشبه القلادة الّتي يجعلها في عنق الغير هو عمله ، فكأنَّ العامي يجعله في عنق المجتهد بمعنى جعله مسئولاً عن صحّة عمله وفساده وبراءة ذمّته واشتغالها ، وهذا لا يتحقّق إلّا بنفس العمل لا بالأخذ ولا بالالتزام.

ويؤيده ما رواه الكليني بسند صحيح عن أبي عبيدة الحذاء ، قال : قال أبو جعفر (عليه‌السلام) : «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة

__________________

(١). والمتقلّد من يجعل القلادة في عنق نفسه. وليس العامي متقلّداً بل مقلِّد.

٢٣٥

وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه». (١)

فإن قلت : إذا كان التقليد هو العمل استناداً إلى قول المجتهد ، يلزم أن يكون التقليد متأخراً عن العمل ومحقّقاً به ، مع أنّه متقدم على العمل حيث لا بدّ أن يكون العمل عن تقليد ؛ فيكون التقليد في رتبة سابقة.

قلت : هذا إنّما يتم لو دلّ دليل على لزوم كون العمل ناشئاً عن تقليد كي يكون سابقاً على العمل وليس كذلك إذ الواجب أن يكون العامي في عمله معتمداً على الحجة. وهو متحقّق حتى ولو كان التقليد نفس العمل.

لكن لا فائدة مهمة في تحقيق مفهوم التقليد ، لأنّه لم يقع موضوعاً لحكم شرعيّ في دليل صالح للاستناد ، فصحّة عمل العامي تابع لدلالة الدليل الشرعي ، لا لصدق التقليد وعدمه ، وتصوّر انّه وقع موضوعاً في المسألتين التاليتين :

١. البقاء على تقليد الميت.

٢. العدول من تقليد حي إلى حيّ.

مدفوع بأنّ الحكم بالجواز أو المنع ليس دائراً مدار صدق التقليد وعدمه ، بل دائر مدار وجود الدليل على البقاء أو العدول وعدمه ، ولعلّ كلمة «التقليد» عنوان مشير إلى واقع المسألة لا انّه دخيل في الموضوع.

المسألة الثانية : في جواز التقليد

البحث في جواز التقليد يتصوّر على وجهين :

الأوّل : فيما يصحّ للعاميّ أن يعتمد عليه في أمر التقليد وجواز الرجوع إلى الغير.

الثاني : ما يمكن أن يعتمد عليه المجتهد في الإفتاء بجواز التقليد.

أمّا الأوّل ، فللعامّي أن يستند في جواز الرجوع إلى العلماء إلى السيرة

__________________

(١). الوسائل : ١٨ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

٢٣٦

العقلائية في جميع الأمصار ، وهي لزوم رجوع الجاهل إلى العالم ، وهذا أصل قام عليه صَرْح الحياة ، إذ من المستحيل أن يستقل كل فرد متحضّر بإنجاز جميع حاجاته من جميع النواحي ، فلا محيص من تقسيم الحاجات الأوّلية والثانوية كي يتحمّل كلّ شخص أو طائفة ، ناحية من نواحيها ، ولأجل ذلك نرى أنّ أصحاب التخصّصات في العلوم والفنون ، يرجعون في غير اختصاصاتهم إلى أهل الخبرة.

والرجوع إلى علماء الدين الذين حازوا على مكانة خاصة في قلوب الناس ممّا أطبق عليه كافة العقلاء.

وأمّا الثاني ، فيكفي في الإفتاء على جواز التقليد أمران :

١. آية النفر ، فانّ التفقّه آية أنّ المنذر ، فقيه فهم الدين عن نظر وبصيرة ، وعاد ينذر قومه ببيان أحكامه سبحانه وغيرها.

٢. الروايات الإرجاعية ، فإنّ أئمّة أهل البيت أرجعوا شيعتهم إلى فقهاء أصحابهم ، كأبان بن تغلب ، ومحمد بن مسلم الثقفي ، وزرارة ، ويونس بن عبد الرحمن ، وزكريا بن آدم القمي ، ومعاذ بن مسلم النحوي ، وأضرابهم ممّن كانوا على درجة كبيرة من العلم وفهم الحكم من الكتاب والسنّة ، ونشير إلى بعض هذه الروايات :

١. سأل عبد العزيز المهتدي ، الرضا (عليه‌السلام) فقال له : إنّي لا ألقاك في كلّ وقت فممّن آخذ معالم ديني؟ فقال (عليه‌السلام) : «خذ عن يونس بن عبد الرحمن». (١)

٢. قال علي بن المسيّب الهمداني للرضا (عليه‌السلام) : شقّتي بعيدة ولست أصِلُ إليك في كل وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال (عليه‌السلام) : «من زكريا بن آدم القمي ، المأمون على الدين والدنيا». (٢)

__________________

(١ و ٢). الوسائل : ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٤ و ٢٧. ولاحظ الأحاديث ٣٦ و ٢٣ إلى غير ذلك.

٢٣٧

وهؤلاء الذين أرجع إليهم الإمام (عليه‌السلام) كانوا في الطبقة الأُولى من الفقهاء ، ولم يكونوا من الرواة الّذين لا شغل لهم إلّا نقل النصوص ، غاية الأمر كانوا يفتون بلفظ النص بعد الإحاطة بجميع النصوص ، وتطبيق الأُصول على الفروع.

وأمّا الآيات الذامّة للتقليد (١) فهي بصدد ذم رجوع الجاهل إلى الجاهل بداعي العصبية لا بما أنّه من أصحاب البصيرة والتدبّر ، فأين هذا من رجوع العاميّ إلى العالم بداعي أنّه من أهل الخبرة في مجال الدين؟!

المسألة الثالثة : في وجوب تقليد الأعلم

إذا اختلف الأحياء في العلم والفضيلة ، فمع علم المقلّد باختلافهم على وجه التفصيل أو الإجمال أو شكّه ، فهل يجب الأخذ بفتوى الفاضل ، أو يجوز العمل بفتوى المفضول أيضاً؟ قولان ، ولنذكر صور المسألة :

الصورة الأُولى : إذا علم العامّي موافقة الأعلم لغيره في الفتوى بتفاصيلها.

الصورة الثانية : إذا علم مخالفتهما في الفتوى تفصيلاً.

الصورة الثالثة : إذا علم مخالفتهما إجمالاً.

الصورة الرابعة : إذا شكّ في مخالفتهما فيها.

أمّا الصورة الأُولى ، فهي خارجة عن محل النزاع.

وأمّا الصورة الثانية : فحكمها تعيّن الرجوع إلى الأعلم لسيرة العقلاء ، ومن البعيد شمول كلمات القائلين بالجواز لهذه الصورة.

وأمّا الصورة الثالثة : فهي محل الكلام ، فذهب القاضي والحاجبي والعضدي إلى جواز تقليد المفضول ، مستدلّين بأنّ المفضولين باتفاق في زمان الصحابة

__________________

(١). كقوله سبحانه : (بَلْ قالُوا إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمّة وَإنّا على آثارِهِمْ مُهْتَدُون) (الزخرف / ٢٢).

٢٣٨

وغيرهم كانوا يفتون ويستفتون ولم ينكره أحد ودلّ على جوازه. (١)

واختار الغزالي تعيّن تقليد الفاضل ، وقال : الأولى عندي أنّه يلزم اتّباع الأفضل ، فمن اعتقد أنّ الشافعي أعلم ، والصواب على مذهبه أغلب ، فليس له أن يأخذ بمثل مخالفه بالتشهّي. (٢)

وأمّا أصحابنا فقد استقصى الشيخ الأنصاري أقوالهم في رسالة خاصّة له في تقليد الأعلم ، وقال : إنّ تقديم الفاضل هو خِيَرة أكابر العلماء ، كالسيد المرتضى ، والمحقّق ، والعلّامة ، وعميد الدين ، والشهيد ، والمحقّق الثاني ، والشهيد الثاني ، وصاحب المعالم ، وبهاء الدين العاملي ، والشيخ صالح المازندراني ، والسيد علي صاحب الرياض. (٣)

ولنذكر بعض كلمات الأصحاب :

١. قال السيد المرتضى : وإن كان بعضهم عنده أعلم من بعض ، أو أورع ، أو أدين ، فقد اختلفوا فمنهم من جعله مخيّراً ، ومنهم من أوجب أن يستفتي المقدَّم في العلم والدين ، وهو أولى ، لأنّ الثقة هاهنا أقرب وأوكد ، والأُصول كلّها بذلك شاهدة. (٤)

٢. وقال المحقّق الحلي : ويجب عليه الاجتهاد في معرفة الأعلم والأورع ، فإن تساويا تخيّر في استفتاء أيّهما شاء ، وإن ترجّح أحدهما من كلِّ وجه ، تعيّن العمل بالراجح ، وإن ترجّح كلُّ واحد منهما على صاحبه بصفة فالأقوى الأخذ بقول الأعلم.

__________________

(١). منتهى الوصول والأمل في علمي الأُصول والجدل : ٢٢١.

(٢). المستصفى : ٣٩١ / ٢.

(٣). رسالة تقليد الأعلم المطبوعة في ذيل مطارح الأنظار : ٢٧٦.

(٤). الذريعة : ٨٠١ / ٢.

٢٣٩

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامين :

المقام الأوّل : ما هي وظيفة العامي في تلك المسألة ، وهل يستقل عقله بالرجوع إلى الفاضل ، أو بالتخيير بينه وبين المفضول؟

المقام الثاني : ما هو مقتضى الأدلّة عند المجتهد ، فهل يستفاد منها لزوم الرجوع إلى الفاضل ، أو يستفاد التخيير؟

أمّا الأوّل : فلا شكّ أنّه لو تدبّر ، يستقل عقله بعدم جواز تقليد المفضول ، لأنّ قول الفاضل متيقن الحجّية دون المفضول ، فهو مشكوك الحجّية ، والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، ولا يحصل إلّا بالعمل على رأي الفاضل.

نعم لو قلّد في تلك المسألة المجتهد الفاضل وأجاز تقليد المفضول ، جاز له تقليدُه ، لكنّه ليس تقليداً له ابتداء ، بل هو في الحقيقة تقليد للفاضل ، وبتقليده تُصْبِحُ فتاوى المفضول حجّة.

أمّا المقام الثاني : أعني ما هو مقتضى الأدلّة عند المجتهد ، فقد ذهب المشهور إلى أنّ مقتضى الأدلّة هو لزوم تقديم الفاضل ، وإليك أدلّتهم.

أدلّة القائلين بلزوم تقديم الفاضل

استدلّ القائلون بوجوه :

١. إنّ مقتضى الأصل الأوّلي هو عدم حجّية رأي أحد على آخر ، خرج منه متابعة الفاضل بالاتفاق ، وبقيت متابعة المفضول تحت عموم حرمة العمل بلا علم ، فالعمل بغيره يتوقف على دليل خاص.

فإن قلت : مقتضى الأصل الأوّلي هو التخيير لأنّ الأمر في المقام دائر بين التعيين والتخيير ، وبما أنّ في الأوّل مئونة زائدة ، تجري البراءة في تعيّن الفاضل.

قلت : إنّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير على قسمين :

٢٤٠