الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-014-2
الصفحات: ٢٥٦
الجزء ١ الجزء ٢

٤. انّ هذا البيان يثبت انّ الخبر المشهور المفتى به داخل في «بيّن الرشد» في تثليث الإمام (عليه‌السلام) والخبر الشاذ داخل في «البيّن الغي» من تثليثه ، وذلك لما تبيّن انّ المشهور لا ريب في صحته والمخالف لا ريب في بطلانه.

ويظهر من ذلك ما ذكرنا من الإشكال ، وهو انّ الشهرة العملية إذا كانت سبباً لطرد الريب عن نفسها وإلصاقه بمخالفها تكون أمارة على تمييز الحجّة عن اللاحجة ، وبيّن الرشد عن بيّن الغي ، ومثل ذلك لا يعدّ مرجحاً أصلاً.

إلى هنا تبيّن انّ ذينك الأمرين ، الترجيح بصفات الراوي ، والترجيح بالشهرة العملية لا يمتّ إلى ترجيح أحد الخبرين على الآخر بصلة ، امّا لكونه راجعاً إلى ترجيح أحد الحكمين ، أو إلى تمييز الحجّة عن غيرها ، لا تقديم إحداهما على الأُخرى كما هو المقصود ، وإليك دراسة الباقي :

٣. الترجيح بالكتاب والسنّة

قد ورد الترجيح بالكتاب والسنّة في غير واحد من الروايات ، ونحن نذكر في هذا المقام بعضاً منها :

١. مقبولة عمر بن حنظلة

فقد جاء في المقطع الثالث منها :

قلت : فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم.

قال : «ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة (وخالف العامة) فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامة». (١)

٢. ما رواه الميثمي عن الرضا (عليه‌السلام) أنّه قال : «فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً ،

__________________

(١). الكافي : ٦٨ / ١ ، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم ، الحديث ١٠.

٢٠١

فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنّة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فما كان في السنّة موجوداً منهيّاً عنه نهي حرام ، ومأموراً به عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمر إلزام ، فاتّبعوا ما وافق نهي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأمره». (١)

٣. ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، عن الصادق (عليه‌السلام) أنّه قال : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه». (٢)

٤. ما رواه الحسن بن الجهم ، عن الرضا (عليه‌السلام) قال : قلت له : تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟

فقال : «ما جاءك عنّا فقس على كتاب الله عزوجل وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبهها فليس منّا». (٣)

٥. ما رواه الحسن بن الجهم ، عن العبد الصالح (عليه‌السلام) أنّه قال : «إذا جاءك الحديثان المختلفان ، فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا ، فإن أشبههما فهو حقّ ، وإن لم يشبههما فهو باطل». (٤)

والظاهر انّ موافقة الكتاب ليست من وجوه الترجيح ، بل المخالف ليس بحجّة ، وذلك لأجل أمرين :

إنّ الأخبار الواردة حول الخبر المخالف للكتاب على صنفين :

أ. ما يصف الخبر المخالف وإن لم يكن له معارض بكونه زخرفاً. (٥) وانّه ممّا لم «أقله» (٦) أو «لا يصدق علينا إلّا ما وافق كتاب الله». (٧)

ب. ما يصف الخبر المخالف للكتاب مع كونه معارضاً لما هو موافق له

__________________

(١، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٦ ، ٧). الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢١ ، ٢٩ ، ٤٠ ، ٤٨ ، ١٢ ، ١٥ ، ٤٧.

٢٠٢

فيصف المخالف بقوله «فردّوه» (١) ، أو «فليس منّا» (٢) ، أو «فهو باطل» (٣) ، فانّ هذه التعابير تناسب كون الخبر المخالف ممّا لم يصدر عن الأئمّة بتاتاً فيكون من قبيل تقديم الحجّة على اللاحجّة فيخرج عن محط البحث.

٤. الترجيح بمخالفة العامة

تضافرت الروايات على أنّه إذا اختلفت الأخبار ، يُقدّم ما خالف العامة ، وما ذلك إلّا لأنّ الظروف القاسية دفعت بالأئمة إلى الإفتاء وفق مذاهبهم صيانة لدمائهم وصيانة نفوس شيعتهم ، ولذلك جعل ما يشبه قولهم ممّا فيه التقية. (٤)

وإليك نقل ما ورد في هذا المجال :

١. ما رواه عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في مقبولته : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟

قال : «ما خالف العامة ففيه الرَّشاد».

فقلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً؟

قال : «ينظر إلى ما هم إليه أميل ، حكامهم وقضاتهم ، فيترك ويؤخذ بالآخر». (٥)

وقد مرّ آنفاً انّ صدر الحديث وإن كان راجعاً إلى ترجيح حكم أحد القاضيين على حكم الآخر ، لكن بعد ما فرض الراوي مساواة القاضيين من حيث الصفات ارجع الإمام السائل إلى ملاحظة مصدر فتواهما ، وانّه يقدم قضاء من حكم بخبر مجمع عليه بين الأصحاب على من قضى بمصدر شاذ ...

ومن هنا انحدر كلام الإمام من بيان مرجّحات الحكمين إلى مرجّحات

__________________

(١ ، ٢ ، ٣ ، ٤). قد مضت هذه العنوانات في الأحاديث الآنفة الذكر.

(٥). الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٦.

٢٠٣

الرواية في مقام الإفتاء ليكون حلاً في مقام القضاء أيضاً ، وكلّ ما جاء بعد الكلام في المجمع عليه يرجع إلى مرجحات الرواية.

وقد ورد الترجيح بمخالفة العامة في غير واحد من الروايات. (١) وظهر انحصار المرجّح فيها.

٥. الترجيح بالأحدثية

هناك روايات عديدة دلّت على لزوم الأخذ بالأحدث من الحكمين ، وإليك بعض ما يدلّ عليه.

١. روى المعلّى بن خنيس ، قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ فقال : «خذوا به حتى يبلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله». (٢)

ولكن هذا القسم لا صلة له بباب المرجحات ، لأنّ الأخذ بالأحدث ليس لأجل كونه بياناً للحكم الواقعي والآخر على خلافه بل يمكن أن يكون على العكس ، وإنّما وجب الأخذ بالأحدث ، لأجل انّ إمام كلّ عصر أعرف بمصالح شيعته ، مع أنّ كلاً من الخبرين بالنسبة إلى بيان الحكم الواقعي وعدمه سواء ، وعلى هذا يختص الترجيح بهذه المزيّة لعصرهم دون عصر الغيبة ، لأنّه بالنسبة إلى الخبرين متساو.

نعم الأخذ بالأحدث إذا كان في كلام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ربما يكون لأجل كونه ناسخاً للأوّل ، وأمّا في كلام الإمامين أو الإمام الواحد فلا يتصور فيه ذلك.

تمّ الكلام في الجهة الأُولى ، وإليك الكلام في الجهة الثانية.

__________________

(١). لاحظ الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩ ، ٣٠ ، ٣١ ، ٣٤.

(٢). الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٨ ؛ وانظر أيضاً الحديث ٩ و ١٧ من نفس الباب.

٢٠٤

الجهة الثانية

لزوم الأخذ بالمرجِّح

المشهور هو لزوم الأخذ بذات المزية من الخبرين ، وقد استدلّ على القول المشهور بوجوه نشير إلى بعضها بوجه موجز :

أ. دعوى الإجماع على الأخذ بأقوى الدليلين.

ب. لو لم يجب ترجيح ذي المزية لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو قبيح عقلاً بل ممتنع قطعاً.

إلى غيرها من الوجوه التي ربما ترتقي إلى خمسة ، والأولى أن يستدلّ على وجوب الأخذ بالوجه التالي :

إنّ لسان الروايات هو لزوم الأخذ لا استحبابه ، أمّا على القول بأنّ الجميع يرجع إلى تميز الحجة عن اللاحجة فواضح ، وأمّا على القول بأنّها من مقولة المرجحات بعد وصف الخبرين بالحجّية ، فلأنّ المتبادر من الجمل التالية هو اللزوم لا الفضل والاستحباب.

أ : انّ المجمع عليه لا ريب فيه.

ب : ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة فيؤخذ به ويترك ما خالف.

ج : ما خالف العامّة ففيه الرشاد.

د : ما وافق القوم فاجتنبه.

إلى غير ذلك من العنوانات الصريحة في لزوم الأخذ بالمرجح وترك الآخر.

٢٠٥

الجهة الثالثة

التعدّي من المنصوص إلى غيره

لو افترضنا انّ ما ذكر من المزايا مرجّحات للرواية ، فهل يقتصر عليها في مقام الترجيح أو يتعدّى عنه إلى غيره كموافقة الإجماع المنقول أو موافقة الأصل وغيرهما؟

إنّ التعدّي يحتاج إلى حجة قطعية يقيد بها إطلاقات التخيير ، وقد عرفت تضافر الروايات على التخيير. (١) فالترجيح بغير المنصوص نوع تقييد لها ولم يدلّ دليل على لزوم التعدي ، ويؤيد المختار أمران :

الأوّل : لو كان الملاك هو العمل بكلّ مزية في أحد الطرفين ، لكان الأنسب في الروايات الإشارة إلى الضابطة الكلية من دون حاجة إلى تفصيل المرجحات.

ولو قيل : إنّ الغاية من التفصيل هو إرشاد المخاطب إلى تلك المرجّحات ، ولو لا بيان الإمام لما كان المخاطب على علم بها.

قلت : نعم ولكن لا منافاة بين تفصيل المرجّحات وإعطاء الضابطة ليقف المخاطب على وظيفته العملية في باب التعارض.

الثاني : انّ الإمام في مقبولة عمر بن حنظلة بعد فرض تساوي الخبرين أمر بالتوقف وإرجاء حكم الواقعة حتى يلقى الإمام ، ولو كان العمل بكلّ ذي مزية واجباً لما وصلت النوبة إلى التوقّف إلّا نادراً.

__________________

(١). على القول بعدم اعراض الأصحاب عن روايات التخيير كما عليه الشيخ الأعظم قدَّس سرّه.

٢٠٦

الجهة الرابعة

في التعارض على نحو العموم والخصوص من وجه

قد عرفت أنّ الجمع المقبول بين الروايتين مقدّم على الأخبار العلاجية من التخيير والترجيح.

كما عرفت أنّه إذا كانت النسبة بين الخبرين هو التباين ، يجب العمل بالرواية ذات المزية وإلّا فالتخيير.

بقي الكلام فيما إذا كان التعارض بين الخبرين على نحو العموم من وجه ، كما إذا دلّ الدليل على نجاسة عذرة ما لا يؤكل لحمه ، ودلّ دليل آخر على طهارة عذرة كلّ طائر ، فيفترق الدليلان في موردين : أحدهما : عذرة الوحوش ، فانّها داخلة تحت إطلاق الدليل الأوّل ؛ وثانيهما : عذرة الطائر الذي يؤكل لحمه ، فانّها داخلة تحت إطلاق الدليل الثاني ؛ وإنّما يتعارضان في الطائر غير المأكول لحمه كما فيما إذا كانت له مخالب ، فهل المرجع هو التساقط والرجوع إلى دليل آخر من اجتهادي كالعموم والإطلاق ، وأصل عملي إذا لم يكن دليل اجتهادي ، أو المرجع هو الأخبار العلاجية من الترجيح أوّلاً والتخيير ثانياً؟

والظاهر هو القول الأوّل ، لأنّ المتبادر من الأخبار العلاجية هو دوران الأمر بين الأخذ بالشيء بتمامه وترك الآخر كذلك ، أو بالعكس كما هو الظاهر من قوله :

«أحدهما يأمر والآخر ينهى» والأمر في العامين من وجه ليس كذلك ، إذ لا يدور الأمر بين الأخذ بواحد منهما وترك الآخر أو بالعكس ، بل يؤخذ بكلّ في

٢٠٧

موردي الافتراق ، وإنّما الاختلاف في مورد الاجتماع ، فالعُقاب بما انّه حيوان غير مأكول يحكم على فضلته بالنجاسة ، وبما انّه طائر يحكم عليها بالطهارة.

ومنه يعلم حكم أخبار العرض على الكتاب والسنّة وفتاوى العامة ، فإنّ الظاهر هو الأخذ بتمام ما وافق كتاب الله وترك تمام ما خالفه ، ومثله ما وافق العامة أو خالفها ، فإنّ المتبادر هو أخذ تمام ما خالف العامة وترك كلّ ما وافقهم ، والأمر في العموم من وجه ليس كذلك ، لأنّه يؤخذ بكلا الدليلين ولا يترك الآخر بتاتاً.

سؤال وإجابة

ما الفرق بين «صل» و «لا تغصب» ، وقولنا : «أكرم العلماء» و «لا تكرم الفساق»؟

حيث يعد الأوّل من باب التزاحم بخلاف الآخر حيث يعد من باب التعارض ، ولم نجد أحداً يعالج المثال الأوّل من باب التعارض ، كما لم نجد من يعالج المثال الثاني من باب التزاحم مع أنّ المثالين من باب واحد.

والجواب : انّه إذا أحرز الملاك والمناط في متعلّق كلّ واحد من الإيجاب والتحريم مطلقاً حتى في مورد التصادق والاجتماع ، فهو من باب التزاحم ؛ وأمّا إذا لم يحرز مناط كلّ من الحكمين في مورد التصادق ، سواء أحرز مناط أحد الحكمين بلا تعيين ، كما إذا كان أحد الدليلين قطعياً أو لم يحرز المناط في كلّ من المتعلّقين كالخبرين الواحدين فهما من باب التعارض. وقد مرّ الايعاز إليه في الجز الأوّل عند البحث في اجتماع الأمر والنهي.

تمّ الكلام في المقصد الثامن

ويليه البحث في الاجتهاد والتقليد

٢٠٨

خاتمة

في الاجتهاد والتقليد

وفيها فصلان :

الفصل الأوّل : في الاجتهاد وأحكامه ، وفيه مسائل :

الأُولى : الاجتهاد لغة واصطلاحاً.

الثانية : جواز عمل المجتهد برأيه.

الثالثة : حرمة رجوع المجتهد إلى غيره.

الرابعة : جواز رجوع العامي إلى المجتهد.

الخامسة : نفوذ حكم المجتهد وقضائه.

السادسة : في الاجتهاد التجزئي.

السابعة : مقدمات الاجتهاد.

الثامنة : في التخطئة والتصويب.

التاسعة : في تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد.

الفصل الثاني : في التقليد وأحكامه ، وفيه مسائل :

الأُولى : التقليد لغة واصطلاحاً.

الثانية : في جواز التقليد.

الثالثة : في وجوب تقليد الأعلم.

الرابعة : في تقليد الميت ابتداء.

الخامسة : في البناء على تقليد الميت.

السادسة : في العدول من مجتهد إلى مجتهد آخر.

٢٠٩

ملاحظة مهمّة

إنّ البحث في الاجتهاد والتقليد وإن لم يكن من المسائل الأُصولية ، ولكنّه مشحون بمسائل هامة لا غنى للفقيه عنها ، فلأجل ذلك ذيّلنا المقصد الثامن بمباحث الاجتهاد والتقليد هذا من جانب.

ومن جانب آخر يمكن أن ينتهي العام الدراسي دون أن تسنح الفرصة للأُستاذ للتطرق إلى هذا المبحث. فعند ذاك فبإمكان الأُستاذ حثّ التلاميذ على مطالعته استيفاءً للغاية المتوخاة من وراء هذا البحث.

٢١٠

الفصل الأوّل

في الاجتهاد وأحكامه

ويقع الكلام في هذا الفصل في عدّة مسائل :

المسألة الأُولى : الاجتهاد لغة واصطلاحاً

الاجتهاد لغة مأخوذ من الجهد بضم الجيم بمعنى الطاقة والوسع ، وبفتحها بمعنى المشقة ؛ فهو إمّا بمعنى بذل الطاقة والوسع ، أو تحمّل الجهد والمشقّة. يقال : اجتهد في حمل الرحى ولا يقال : اجتهد في حمل الخردلة ، لوجود الملاك في الأوّل دون الثاني.

وأمّا اصطلاحاً ، فقد عرّفه بهاء الدين العاملي بأنّه عبارة عن ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من أدلّته فعلاً أو قوّة قريبة منه. (١)

قوله : «فعلاً أو قوة» قيدان للاستنباط لا للملكة للزوم فعليّتها ، وأمّا الاستنباط فينقسم إلى ما «بالفعل» كمن تهيّأت له أسبابه ولم يبق إلّا المراجعة ؛ وإلى ما «بالقوة» كمن لم تتهيّأ له أسبابه كفقد الكتب.

وكان عليه إضافة قيد آخر وهو استنباط الوظيفة الفعلية ، كأن يقول : ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي أو الوظيفة الفعلية ، وذلك كما في مجاري الأُصول ، فإنّ المستنبَط فيها هو الوظيفة في حال الشكّ لا الحكم الواقعي.

ثمّ إنّ الاجتهاد وقع موضوعاً لأحكام عديدة سنشير إلى بعضها :

__________________

(١). زبدة الأُصول : ١٤١.

٢١١

المسألة الثانية : جواز عمل المجتهد برأيه

إنّ عمل المجتهد برأيه من القضايا التي قياساتها معها ، لأنّه إمّا عالم بالحكم الواقعي وجداناً ، كما في صورة العلم القطعي ؛ أو عالم به تعبّداً ، كما في مورد الطرق والأُصول الشرعية ؛ وإمّا عالم بالوظيفة العملية ، كما في موارد الأُصول العقلية ، وللعالم ، العمل بعلمه.

المسألة الثالثة : حرمة رجوع المجتهد إلى الغير

إذا تمكّن المجتهد من الاستنباط فقط ، أو خاض فيه واستحصل الأحكام الشرعية بالطرق المألوفة ، فهل يجوز له ترك الاستنباط أو ترك رأيه والركون إلى رأي غيره أو لا؟ المشهور العدم ولم ينقل الجواز عن أحد.

وذلك لانصراف ما دلّ على جواز التقليد عمّن له ملكة الاجتهاد ، واختصاصه بمن لا يتمكّن من تحصيل العلم بها. أضف إليه انّه ربّما يخطِّئ الغيرَ باجتهاده ، إذا اجتهد فكيف يرجع إليه ويأخذ برأيه؟! خصوصاً إذا خاض وتبيّن خطأ الغير.

المسألة الرابعة : جواز رجوع العامي إلى المجتهد وتقليده

إنّ رجوع العامي إلى المجتهد أمر ثابت بالسيرة ، لأنّه من فروع رجوع الجاهل إلى العالم ، والعامي إلى المتخصّص ، وسيوافيك شرحه في فصل التقليد.

المسألة الخامسة : نفوذ حكم المجتهد وقضائه

لمّا كان القضاء بين الناس ملازماً للتصرّف في أموالهم وأنفسهم ، احتاج التلبّس به إلى ولاية حقيقية ، يمارس في ظلّها ذلك العمل ، وليست هي إلّا لله

٢١٢

سبحانه ، قال سبحانه :(إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (١).

وبما انّ من لوازم القضاء كون المتصدّي له ، مجانساً للمتحاكمين ، نصب سبحانه أنبياءه وأولياءه قضاة للناس ، يحكمون فيهم بما أنزل الله سبحانه ولا يحيدون عنه قيدَ شعرة ، قال سبحانه : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٢).

وقال سبحانه في حقّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٣).

وقال سبحانه في حقّ ولاة الأمر : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٤).

وقد عرّف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أُولي الأَمر الذين هم أوصياؤه بأسمائهم وخصوصياتهم واحداً تلو الآخر. (٥)

فهؤلاء هم القضاة المنصوبون من الله سبحانه بأسمائهم وخصوصياتهم ، وأمّا بعد ارتحال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعدم التمكّن من الوصيّ المنصوب سواء أكان في عصر الحضور أو عصر الغيبة ، عيّنت الشريعة رجالاً لتصدّي القضاء عرّفتهم بصفاتهم وسماتهم لا بأسمائهم ، وهم كما في مقبولة عمر بن حنظلة عند ما قال السائل : فكيف يصنعان؟

قال (عليه‌السلام) : «ينظران إلى من كان منكم ممّن روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فإنّه استخفَّ بحكم الله وعلينا ردَّ ، والرادّ علينا رادّ

__________________

(١). الأنعام : ٥٧.

(٢). ص : ٢٦.

(٣). النساء : ٦٥.

(٤). النساء : ٥٩.

(٥). البرهان في تفسير القرآن : ٣٨١ / ١ في تفسير الآية ٥٩ من سورة النساء.

٢١٣

على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله». (١) والإمعان في القيود الواردة في الرواية تُثبت بأنّ ولاية القضاء لا ينالها إلّا الموصوف بالصفات التالية :

١. أن يكون شيعياً إمامياً بقرينة قوله : «من كان منكم».

٢. أن يحكم بحكمهم ، فلو حكم بحكم غيرهم لا ينفذ حكمه لقوله : «فإذا حكم بحكمنا ...».

٣. أن يكون راوياً لحديثهم ، لقوله : «روى حديثنا ...».

٤. أن يكون صاحب نظر في الحلال والحرام لقوله : «ونظر في حلالنا وحرامنا ...».

٥. أن يكون خبيراً في الوقوف على أحكامهم (عليهم‌السلام) لقوله : «وعرف أحكامنا».

ومن الواضح انّ هذه التعابير لا تنطبق إلّا على المجتهد في عصرنا هذا.

وهناك روايات أُخر تدعم ولاية الفقيه للقضاء تركنا ذكرها للاختصار ، وأمّا تصدّي غير المجتهد سواء كان مقلّداً أو مجتهداً متجزّئاً ففيه تفصيل يطلب من كتاب القضاء. (٢)

المسألة السادسة : في الاجتهاد التجزّئي

الاجتهاد التجزّئي عبارة عن تمكّن الإنسان من استنباط بعض الأحكام دون بعض ، مثلاً انّ أبواب الفقه مختلفة مدركاً ، والمدارك مختلفة سهولة وصعوبة ، فربّ شخص ضالع في النقليات دون العقليات وكذلك العكس ، وهذا يمكِّنُ له الاستنباط في بعضها دون بعض ، على أنّ حصول الاجتهاد المطلق ليس أمراً دفعياً ،

__________________

(١). الكافي : ٧٦ / ١ ، كتاب فضل العلم ، باب اختلاف الحديث.

(٢). لاحظ كتابنا «القضاء في الشريعة الإسلامية الغرّاء».

٢١٤

بل يتوقف على التدرّج شيئاً فشيئاً ، فالمجتهد في بادئ ذي بدء لم يكن مجتهداً مطلقاً بل كان متجزئاً ثمّ صار مجتهداً مطلقاً ، وأمّا أحكامه فنقول :

يجوز له العمل بما استنبط ، وإلّا فأمامه طريقان :

أ. العمل بالاحتياط.

ب. الرجوع إلى الغير.

والأوّل غير واجب باتّفاق الكلّ ، وجواز الثاني موقوف على تحقّق موضوعه ، وهو كونه غير عالم أو جاهل ، فلا يعم العالم ، والمفروض أنّه عالم بالحكم ولو في موارد خاصّة.

وأمّا رجوع الغير إليه وتقليده له ، فإن كان هناك من هو أفقه منه وقلنا بوجوب الرجوع إلى الأفقه فلا يجوز الرجوع إلى المتجزّئ في المقام ، وإلّا فلا مانع من الرجوع إليه ويكون المتجزّئ والمطلق في جواز الرجوع سيّان ، غير أنّ الكلام في جواز الرجوع إلى غير الأفقه كما سيوافيك.

المسألة السابعة : مقدّمات الاجتهاد

الاجتهاد يتوقّف على مقدّمات نشير إليها بوجه موجز ، فنقول :

الأوّل : الوقوف على القواعد العربية على وجه يقف على ضوئها على مراد المتكلّم ، ولا يشترط أن يكون مجتهداً في العلوم العربية ، بل يكفيه الرجوع إلى أهل الخبرة.

الثاني : الوقوف على معاني المفردات حتى يُميّز المعنى الحقيقي عن المجازي ، ويعرف الكنايات والاستعارات الواردة في الكتاب والسنّة ، ولا يشترط أن يكون لغويّاً محقّقاً في اللغة ، ويكفيه في تفسير المفردات الرجوعُ إلى أُمّهات الكتب اللغويّة ومعاجم اللغة ، ك «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي ، و «لسان العرب»

٢١٥

لابن منظور الإفريقي ، و «النهاية في غريب الحديث» للجزري ، و «مجمع البحرين» للطريحي.

ولأجل الوقوف على أُصول المعاني والفروع التي اشتق منها لا بدّ من الرجوع إلى كتاب «مقاييس اللغة» لأحمد بن فارس و «أساس البلاغة» للزمخشري.

الثالث : معرفة الكتاب والسنّة اللّذين هما مصدران أساسيان للاستنباط ويعدّان حجر الأساس له ؛ فلا بدّ للفقيه أن يستنير بنورهما في كلّ مسألة ، فيرجع إلى الكتاب العزيز أوّلاً ويدرس الآيات التي لها مساس بالموضوع ، ثمّ يعرّج إلى السنّة.

وبذلك يظهر أنّ علمي التفسير والحديث من مقدمات الاجتهاد ولا غنى لمجتهد عن معرفتهما.

والمعروف أنّ عدد الآيات التي تستنبط منها أكثر الأحكام لا تتجاوز عن ثلاثمائة آية ، ولكن ثمّة آيات لا تعد من آيات الأحكام ولكن يمكن استنباط أحكام فرعية منها ، وعلى ذلك لو ضمت تلك إلى آيات الأحكام لجاوزت العدد المذكور ، وقد استنبط بعض الفقهاء من سورة «المسد» أحكاماً شرعية مختلفة ، وكذلك من قوله تعالى حاكياً كلام شعيب : (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ* قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ)(١) فقد استنبط بعض الفقهاء من الآيتين أحكاماً في النكاح والإجارة.

الرابع : الوقوف على المسائل الأُصولية التي تدور عليها رحى الاستنباط ، فلو

__________________

(١). القصص : ٢٨٢٧.

٢١٦

لم يثبت عنده مثلاً حجية الخبر الواحد لم يكن بإمكانه استنباط الأحكام الشرعية وتشخيص الوظائف العملية.

الخامس : علم الرجال ومعرفة الثقات من الضعاف ، فلو قلنا بأنّ الحجّة هي وثاقة الراوي ، فيتوقف إحرازها على ذلك العلم ؛ ولو قلنا بأنّ الحجّة هو الخبر الموثوق الصدور ، فالعلم بوثاقة الراوي يحصِّل الوثوق بصدوره. ويلحق به علم الدراية حتى يقف على أقسام الرواية من الصحيح والحسن والموثق والضعيف حسب صفات الراوي.

السادس : معرفة المذاهب الفقهية الرائجة في عصر الأئمّة (عليهم‌السلام) التي كان عمل القضاة عليها وكان الناس يرجعون إليهم ، فإنّ في معرفة تلك المذاهب تمييزَ ما صدر عنهم عن تقية عمّا صدر عن غيرها.

وأمّا المذاهب الأربعة المعروفة ، فإنّها صارت رائجة بعد أعصارهم (عليهم‌السلام) ؛ وأفضل كتاب في هذا الموضوع كتاب «الخلاف» للشيخ الطوسي.

وسبب التأكيد على معرفة المذاهب المعاصرة لأئمّة أهل البيت ، هو أنّ لأخبارهم وكلماتهم أسباب صدور وليست إلّا فتاوى فقهاء عصرهم ، فهذه الفتاوى كالقرينة المتصلة لفهم أخبارهم ، فلا يمكن غضّ النظر عنها.

السابع : معرفة الشهرة الفتوائية ، وقد وقفت على أهمّيتها عند البحث عن حجّية الشهرة ، وقلنا إنّ الشهرة على أقسام ثلاثة :

١. روائية. ٢. عملية. ٣. فتوائية. والأخيرة كاشفة عن وجود النص ، أو كون الحكم مشهوراً عند أصحاب الأئمّة ، والثانية أي عمل الأصحاب بالرواية والإعراض عن مخالفها يوجب خروج المعارض عن الحجية.

وفي الفقه الشيعي مسائل كثيرة ليس عليها دليل سوى الشهرة. حسب ما كان يراه سيّد مشايخنا العلّامة البروجردي (قدس‌سره).

٢١٧

الثامن : ممارسة الفروع الفقهية لتنمية قدرته على الاستنباط ، وقد كانت مجالس العلماء سابقاً حافلة بذكر الفروع الفقهية ، وكانت عملية التدريب دائرة فيها على قدم وساق.

التاسع : معرفة القواعد الفقهية التي هي خير وسيلة لاستخراج الأحكام الجزئية من الأحكام الكلية ، فلا محيص للطالب عن الرجوع إلى : كتاب «القواعد والفوائد» للشهيد الأوّل ، ثمّ «نضد القواعد» للفاضل المقداد السيوري ، و «تمهيد القواعد» للشهيد الثاني وغيرها.

العاشر : معرفة المسائل الرياضية والهندسية وعلم الهيئة التي تسهّل استنباط أحكام المواريث ، وتعيين القبلة ، والمقادير الواردة في الكر والزكاة ، وغيرها.

فمن توفرت فيه تلك المقدّمات ، يصبح مؤهلاً لاستنباط أحكام الموضوعات بعد الدقة والفحص والممارسة والتمرين والاستئناس بالمسائل والأقوال.

المسألة الثامنة : في التخطئة والتصويب

في التخطئة والتصويب اصطلاحان للفقهاء :

الأوّل : انّ لله سبحانه حكماً مشتركاً للعالم والجاهل ، فالمجتهد قد يصيبه وقد لا يصيبه ، فلو اختلفت آراء المجتهدين فالمصيب واحد وغيره مخطئ. وبذلك وُصفوا بالمخطِّئة ، لأنّهم لا يصفون كلّ اجتهاد بالصواب وتقابلها «المصوبة» التي تنكر حكم الله المشترك بين العالم والجاهل ، وتخص أحكامه سبحانه بالعالمين به. وهذا هو التصويب المستلزم للدور المعروف ، والتصويب بهذا المعنى خارج عن موضوع بحثنا ولعلّه صرف افتراض لا قائل به والمهم هو التصويب بالمعنى الآتي.

الثاني : تفويض التشريع إلى المجتهدين في خصوص ما لا نصّ فيه من

٢١٨

الشارع ، فيكون كلّ رأي صواباً لعدم وجود واقع محدَّد حتى يوصف المطابق بالصواب ، وغيره بالخطإ ، وبذلك وُصِفُوا بالمصوّبة ، لأنّهم يصفون كلّ اجتهاد بالصواب. وعلى هذا القول يكون الاجتهاد من منابع التشريع ومصادره ، بخلافه على القول الآخر فإنّ الاجتهاد عليه لا يعدو عن بذل جهد لإصابة الواقع المحدَّد ، فما ربما يُرى في بعض كلمات أهل السنّة من عدِّ الاجتهاد من منابع التشريع مبني على ذاك القول.

غير أنّ اللازم معرفة المواضع التي تضاربت فيها الآراء فصارت طائفة إلى التخطئة وأُخرى إلى التصويب (١) ، ويظهر ذلك بمعرفة المواضع التي اتّفقوا فيها على التخطئة ، ونذكر منها ما يلي :

١. لا تصويب في الأُصول والمعارف

اتّفق المسلمون على أنّ الحقّ في الأُصول والمعارف أمر واحد ، وما وافقه هو الحقّ والصواب ، وما خالفه هو الخطأ ، ولم يقل أحد من المسلمين إلّا من شذّ بتصويب جميع الآراء. (٢) قال المرتضى : إنّ الأُصول المبنيّة على العلم نحو التوحيد والعدل والنبوة لا يجوز أن يكون الحقّ فيها إلّا واحداً ، لأنّ الله تعالى لا يجوز أن يكون جسماً أو غير جسم ، يُرى ولا يُرى على وجهين مختلفين. (٣)

وقال الشيخ الطوسي : اعلم أنّ كلّ أمر لا يجوز تغييره عمّا هو عليه فلا

__________________

(١). أي التصويب والتخطئة بالمعنى الثاني فلا تغفل.

(٢). نقل الغزالي انّ عبد الله بن الحسن الغيري ذهب إلى أنّ كلّ مجتهد مصيب في العقليات كما في الفروع (لاحظ المستصفى : ٣٥٩ / ٢). ولعلّ مراده من التصويب في العقائد كونه مثاباً.

(٣). الذريعة : ٧٩٣ / ٢.

٢١٩

خلاف بين أهل العلم أنّ الاجتهاد في ذلك لا يختلف ، وأنّ الحقّ واحد ، وأنّ من خالفه ضال فاسق وربما كان كافراً ، وذلك نحو القول بأنّ العالم قديم أو حادث ، وإذا كان حادثاً هل له صانع أو لا؟ (١)

٢. لا تصويب في الموضوعات الخارجية

كما أنّ الحقّ في الأُصول والمعارف واحد ، فكذلك في الموضوعات ؛ كالقبلة ؛ فلو اختلفت الأمارة في تعيين القبلة ، فإحداهما مخطئة والأُخرى مصيبة ؛ وهكذا الحال في أرش الجنايات.

٣. لا تصويب في الأحكام العقليّة البديهية

إنّ كلّ موضوع ثبت حكمه ببداهة العقل فالحقّ فيه واحد لا غير ، وهذا كالظلم والعبث والكذب فإنّها قبيحة عند الكل ، كما أنّ شكر المنعم وردّ الوديعة والإنصاف حسن على كلّ حال. نعم حكي بأنّ كلّ مجتهد فيها مصيب ، لكنّه قول شاذ. (٢)

٤. لا تصويب في المسائل المنصوصة

إذا كان في المسألة نص قطعي السند والدلالة ، فلا موضوع للاجتهاد فيها ، وبالتالي لا موضوع للتصويب والتخطئة.

قال الشافعي : أجمع الناس على أنّ من استبانت له سنّة عن رسول الله ، لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.

وتواتر عن الشافعي أنّه قال : وإن صحّ الحديث ، فاضربوا بقولي الحائطَ.

__________________

(١). العدّة : ١١٣ / ٢.

(٢). العدّة : ١١٣ / ٢.

٢٢٠