الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-014-2
الصفحات: ٢٥٦
الجزء ١ الجزء ٢

أضف إلى ذلك : أنّ الأصحاب عملوا بالقرعة في الموارد التالية وجميعها إلّا مورد الشاة من هذا الباب :

١. باب قسمة الأعيان المشتركة.

٢. باب تزاحم المدعيين عند القاضي.

٣. باب قسمة الليالي بين الزوجات.

٤. باب تداعي الرجلين أو أكثر ولداً.

٥. باب تعارض البيّنتين.

٦. توريث الخنثى المشكل.

٧. توريث المشتبهين في تقدّم موت أحدهما على الآخر.

٨. باب الوصايا المتعددة إذا لم يف الثلث بها.

٩. باب إذا أوصى بعتق عبيده ولم يف الثلث بها.

١٠. باب اشتباه الشاة الموطوءة بغيرها.

تنبيه : أدلّة القرعة غير مخصصة

قد اشتهر بين الأصحاب أنّ عمومات القرعة لا يعمل بها إلّا أن يُجبر عمومها بعمل الأصحاب ، وذلك لأجل كثرة ورود التخصيص عليها.

ولكن الصواب غير ذلك ، فإنّ من وصف أدلّة القرعة بكثرة التخصيص تصوّر أنّ موضوعها هو مطلق المجهول أو مطلق المشكل وإن لم يكن مورداً للتشاجر. ولما رأى أنّه لا يُعْمل بالقرعة في كلّ مجهول أو مشكل زعم ورود كثرة التخصيص عليها وصيرورة عمومها موهوناً لا يتمسك بها إلّا عند عمل

١٨١

الأصحاب بها.

وأمّا على ما اخترناه من أنّ موضوعها هو خصوص التنازع أو التزاحم في الحقوق ، مع انغلاق الأبواب لسائر الحلول ، فأدلّة القرعة غير مخصصة ، والعمل بها ليس رهن عمل الأصحاب.

تمّ الكلام في الأُصول العملية ،

ويليه البحث في تعارض الأدلّة الشرعية إن شاء الله

والحمد لله ربّ العالمين

١٨٢

المقصد الثامن

في تعارض الأدلّة الشرعية )

وفيه أُمور وفصلان :

الأمر الأوّل : تعريف التعارض.

الأمر الثاني : في الفرق بين التعارض والتزاحم.

الأمر الثالث : أسباب التزاحم.

الأمر الرابع : مرجحات باب التزاحم.

الفصل الأوّل : في التعارض غير المستقر.

الفصل الثاني : في التعارض المستقر.

خاتمة المطاف : في التعارض على نحو العموم والخصوص من وجه.

__________________

(١). انّ طبيعة البحث تقتضي أن يبحث عن تعارض الأدلّة قبل الأُصول العملية ، لانّ موضوعها عدم الحجّة والمفروض في هذا المقصد وجودها وعدم تعينها ، لكن اقتفينا أثر القوم ، لئلّا يحصل تشويش في النظام الدراسي.

١٨٣
١٨٤

في تعارض الأدلّة الشرعية

قبل الخوض في الموضوع نقدّم أُموراً :

الأوّل : البحث عن تعارض الأدلّة الشرعيّة وكيفية علاجها من أهمّ المسائل الأُصولية. إذ قلّ باب في الفقه لا توجد فيه حجّتان متعارضتان ومختلفتان ، فلا مناص للمستنبط من علاجهما. ولأجل تلك الأهميّة الملموسة جعله المحقق الخراساني أحد المقاصد الثمانية في مقابل عمل الشيخ حيث جعله خاتمة لكتابه. والخاتمة والمقدّمة خارجتان عن مقاصد الكتاب مع أنّه من صميم مقاصد العلم ومسائله. وقد عرفت في صدر الكتاب أنّ روح المسائل الأُصولية هو البحث عن تعيين ما هو الحجّة في الفقه ، والهدف في هذا المقصد هو تعيين ما هو الحجّة من المتعارضين من الترجيح والتخيير عند عدم المرجّح أو سقوطهما والرجوع إلى دليل آخر ، فإذا كان هذا مكانة هذا المقصد ، فلا وجه لجعله خاتمة للكتاب.

الثاني : إنّ قولنا : «في تعارض الأدلّة الشرعيّة» وإن كان يعمّ تعارض الخبرين أو الأخبار وتعارض سائر الأدلّة الشرعيّة كتعارض قول اللغويين ، أو المدّعيين للإجماع وغيرهما ، لكن القوم لم يطرحوا في المقام إلّا تعارض الأخبار دون سائر الأدلّة ، واقتصروا فيما يرجع إلى تعارض قول اللغويين أو المدّعيين للإجماع ، بما ذكروه في بابيهما.

١٨٥

الثالث : عرّف الشيخ التعارض بأنّه : «تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضاد». (١)

وعرّفه المحقّق الخراساني بأنّه : تنافي الدليلين أو الأدلّة حسب الدلالة ومقام الإثبات على وجه التناقض أو التضاد. (٢)

وإنّما عدل عن التعريف الأوّل ، لأجل إخراج ما يمكن فيه الجمع بين الروايتين عرفاً ، من التعريف ، كموارد «الورود والحكومة والتخصيص» فانّ التنافي بين المدلولين وإن كان موجوداً في مواردها ، لكنّه ليس موجوداً حسب الدلالة مع وجود الجمع العرفي.

والحاصل : أنّ المحقّق الخراساني يفرّق بين التنافي في المدلول والتنافي في الدلالة ، لاختصاص الثاني بغير موارد وجود الجمع العرفي ، دون الأوّل فانّه يعمّ جميع الموارد سواء كان هناك جمع عرفي أو لا.

الرابع : إنّ الظاهر من التعريفين أنّ التنافي على نحو التضاد ، غير التنافي على نحو التناقض. ولكن الحقّ رجوع التنافي على وجه التضاد إلى التنافي على وجه التناقض ، فإذا ورد دليلان على الوجوب ، والحرمة فما يدلّ بالدلالة المطابقية على الوجوب فهو بمدلوله الالتزامي يدلّ على عدم الحرمة ، فينافي ما يدلّ على الحرمة ، وعلى ضوء ذلك ، التنافي بالمدلول المطابقي وإن كان بصورة التضاد ، لكنّه بالمدلول الالتزامي ، بنحو التناقض على ما عرفت.

ومع ذلك كلّه ، الإرجاع المذكور أمر دقيق لا يلتفت إليه الإنسان إلّا بعد التأمّل حتى يستغني بقيد «على وجه التناقض» عن القيد الآخر ، ومقام التعريف

__________________

(١). الشيخ الأنصاري : فرائد الأصول : ٤٣١.

(٢). المحقّق الخراساني : كفاية الأصول : ٣٧٦ / ٢.

١٨٦

يطالب لنفسه مقاماً واضحاً فلا إشكال في الإتيان بكلا القيدين حتّى يشمل التعريف لكلتا الصورتين بوضوح.

الخامس : في الفرق بين التعارض والتزاحم

إنّ اختلاف الدليلين تارة يكون على وجه التعارض ، وأُخرى على نحو التزاحم ، فلو رجع التنافي إلى مقام الجعل والمدلول ، وأصل الإنشاء على وجه لا يصحّ للمشرِّع أن يحكم على شيء واحد بحكمين متناقضين ، أو متضادين ، مع قطع النظر عن قدرة المكلَّف على امتثالهما ، فالتنافي من قبيل التعارض كالحكم بوجوب شيء وحرمته أو عدم وجوبه.

وأمّا إذا رجع التنافي إلى مقام الامتثال ، بأن لا يكون هناك تناف في مقام الملاك والمناط ، ولا في مقام الجعل والإنشاء ، بل رجع التنافي إلى مرتبة متأخرة أعني مرتبة الامتثال ، فالتنافي من قبيل التزاحم.

مثلاً إنّ تشريع وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ، لا ينافي تشريع وجوب الصلاة في المسجد ، وليس بينهما أيُّ تزاحم في مقام الملاك ولا الإنشاء ولا الفعلية ، وانّما التنافي بينهما في مقام الامتثال ، حيث إنّه يرجع إلى عجز المكلَّف عن امتثالهما إذا ابتلى بهما في وقت واحد ، وهذا نظير قولك : «انقذ هذا الغريق» وقولك : «انقذ ذاك الغريق» إذ ليس بينهما أيّ منافرة ، وانّما حصلت المنافرة في ظرف الامتثال ، حيث إنّه ليس بمقدوره أن ينقذ كلا الغريقين في زمان واحد ، وهذا ما يسمّى بالتزاحم.

وإن شئت قلت : إنّ المتعارضين متكاذبان في مقام التشريع والجعل ، والمتزاحمين متنافران في مقام الامتثال ، دون أن يكون بينهما أيُّ تكاذب وتعاند في مقام الجعل والإنشاء.

١٨٧

السادس : أسباب التزاحم وأقسامه

إذا وقفت على الفرق بين التعارض والتزاحم ، وأنّ مرجع التعارض إلى تكذيب كلّ من الدليلين الدليلَ الآخر في مقام الجعل والتشريع ، وأنّ مرجع التزاحم إلى تنافي كلّ منهما مع الآخر في مقام الامتثال بلا تكاذب وتدافع في مقام التشريع.

فاعلم أنّ التزاحم ينقسم إلى الأقسام التالية :

١. ما يكون التزاحم لأجل كون مخالفة أحد الحكمين مقدّمة لامتثال الآخر ، كما إذا توقف إنقاذ الغريق على التصرّف في أرض الغير.

٢. ما يكون منشأ التزاحم وقوع التضاد بين متعلّقين من باب التصادف لا دائماً ، كما إذا زاحمت إزالة النجاسة عن المسجد ، إقامةَ الصلاة فيه.

٣. ما يكون أحد المتعلّقين مترتّباً في الوجوب على الآخر ، كالقيام في الركعة الأُولى والثانية مع عدم قدرته عليه إلّا في ركعة واحدة ، أو كالقيام في الصلاتين : الظهر والعصر ، مع عدم استطاعته إلّا على القيام في واحدة منهما.

ومثله إذا دار أمره بين الصلاة قائماً في مخبأ بلا ركوع وسجود ، أو الصلاةَ معهما من دون قيام في مخبأ آخر.

السابع : مرجّحات باب التزاحم

إذا كان التزاحم راجعاً إلى مقام الامتثال مع كمال الملاءمة في مقام التشريع فيتمسك بالمرجحات التي هي عبارة عن الأُمور التالية :

١. تقديم ما لا بدل له على ما له بدل

إذا كان هناك واجبان لأحدهما بدل شرعاً ، دون الآخر ، فالعقل يحكم بتقديم

١٨٨

الثاني على الأوّل ، جمعاً بين الامتثالين ، كالتزاحم الموجود بين رعاية الوقت وتحصيل الطهارة الحدثية بالماء ، فبما أنّ الوقت فاقد للبدل ، بخلاف الطهارة الحدثية ، فتُقدّم مصلحة الوقت على مصلحة الطهارة الحدثية بالماء ، فيتيمم بدلاً عن الطهارة المائية ويصلّي في الوقت.

٢. تقديم المضيّق على الموسّع

إذا كان هناك تزاحم بين المضيّق الذي لا يرضى المولى بتأخيره ، والموسّع الذي لا يفوت بالاشتغال بالواجب المضيّق ، إلّا فضيلة الوقت ، فالعقل يحكم بتقديم الأوّل على الثاني ، ولذلك يجب امتثال إزالة النجاسة أوّلاً ثمّ القيام بالصلاة.

٣. تقديم أحد المتزاحمين على الآخر لأهميته

إذا دار الأمر بين ترك الأهم والمهم ، كإنقاذ الغريق والتصرّف في مال الغير ، فالعقل يحكم بتقديم الأهم على المهم ، وهذه من القضايا التي قياساتها معها.

٤. سبق امتثال أحد الحكمين زماناً

إذا كان أحد الواجبين متقدّماً في مقام الامتثال على الآخر زماناً ، كما إذا وجب صوم يوم الخميس والجمعة ، ولا يقدر إلّا على صيام يوم واحد ، أو إذا وجبت عليه صلاتان ولا يتمكن إلّا من الإتيان بواحدة منهما قائماً ، أو وجبت صلاة واحدة ولا يتمكن إلّا من القيام بركعة واحدة ، ففي جميع هذه الصور يستقلُّ العقل بتقديم ما يجب امتثاله متقدّماً على الآخر ، حتى يكون في ترك الواجب في الزمان الثاني معذوراً ، إلّا إذا كان الواجب المتأخر أهمّ في نظر المولى فيجب صرف القدرة

١٨٩

في الثاني ، وهو خارج عن الفرض.

وبعبارة أُخرى : لو صام يوم الخميس ، أو صلّى الظهر قائماً ، فقد ترك صوم يوم الجمعة والقيام في صلاة العصر عن عذر وحجّة بخلاف ما لو أفطر يوم الخميس وصلّى الظهر جالساً فقد ترك الواجب بلا عذر.

٥. تقديم الواجب المطلق على المشروط

إذا نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور مرقد الإمام الحسين (عليه‌السلام) في كلّ عرفة ، ثمّ حصلت له الاستطاعة فيقدّم الحج على زيارة الحسين (عليه‌السلام) ، لأنّه إذا قال القائل : لله عليَّ أن أزور الإمام الحسين (عليه‌السلام) في كلّ عرفة ، إمّا أن لا يكون له إطلاق بالنسبة إلى عام حصول الاستطاعة للحج ، أو يكون.

فعلى الأوّل عدم الإطلاق لدليل النذر يكون الحجّ مقدّماً ، إذ لا يكون عندئذ إلّا واجب واحد.

وعلى الثاني ، بما أنّ الإطلاق مستلزم لترك الواجب أعني الحجّ يكون إطلاق النذر لا نفسه باطلاً ، نظير ما إذا نذر شخص أن يقرأ القرآن من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، فانّه في حدّ نفسه راجح ، لكنّه بما أنّه مستلزم لتفويت الواجب وهي صلاة الصبح فلا ينعقد ، وهذا هو المراد من قولنا تقديم الواجب المطلق (الحج) على الواجب المشروط (زيارة الحسين) المشروطة بعدم كونها مفوّتة للواجب.

الثامن : أنّ الخبرين المتعارضين على قسمين :

أ : ما يكون التنافي بينهما تنافياً غير مستقر على نحو يزول بالتأمّل والإمعان ، ويعلم من خلاله أنّ المتكلم لم يخبر بأمرين متنافيين في الظرف الذي ألقى فيه الكلام.

١٩٠

ب : ما يكون التنافي بينهما تنافياً مستقراً لا يزول بالتأمّل والإمعان ويُعدّ الخبران أمرين متنافيين حتى في نفس الظرف الذي أُلقي فيه الكلام. ولأجل ذلك لا يمكن التصديق بهما ، بل لا بدّ من ردّهما أو الأخذ بأحدهما دون الآخر.

أمّا القسم الأوّل فقد بذل الأُصوليون جهودهم في إعطاء ضوابط لتشخيص التعارض غير المستقر عن المستقر ، أو لتشخيص الجمع المقبول عن غيره وحصروها في العنوانات التالية:

١. أن يكون أحد الدليلين وارداً على الدليل الآخر.

٢. أن يكون أحد الدليلين حاكماً على الدليل الآخر.

٣. أن يكون أحد الدليلين مخصصاً للدليل الآخر.

٤. أن يكون أحد الدليلين ، أظهر من الدليل الآخر.

وللأظهرية ملاكات خاصة مبينة في محلها.

وبما انّا استوفينا الكلام في القسم الأوّل بعنواناتها الأربعة من الموجز ، نركز في القسم الثاني أي التعارض المستقر الذي يُعالج التعارض بغير هذا النحو.

١٩١

في التعارض المستقر

قد عرفت أنّ التعارض على قسمين : بدويّ غير مستقر ، وتعارض مستقر ، ويقع الكلام في القسم الثاني ، في ضمن مباحث :

المبحث الأوّل : ما هو مقتضى القاعدة الأوّلية؟

إذا قلنا بأنّ الخبر حجّة لكونه طريقاً إلى كشف الواقع من دون أن يكون في العمل بالخبر هناك أيُّ مصلحة سوى مصلحة درك الواقع (١) ، فما هو مقتضى حكم العقل؟

أقول : إنّ هنا صورتين :

الأُولى : فيما إذا لم يكن لدليل حجّية خبر الواحد إطلاق شامل لصورة التعارض ، كما إذا كان دليل الحجّية أمراً لبيّاً كالسيرة العقلائية أو الإجماع ، فعندئذ يكون دليل الحجية قاصراً عن الشمول للمتعارضين ، لأنّ الدليل اللبيّ لا يتصوّر فيه الإطلاق ، فيؤخذ بالقدر المتيقن وهو اختصاص الحجّية بما إذا كان الخبر غير معارض ، فتكون النتيجة عدم الدليل على حجّية الخبرين المتعارضين وهو مساو لسقوطهما.

الثانية : إذا كان هناك إطلاق شامل لصورة التعارض ، كما إذا كان دليل الحجّية أمراً لفظياً كآية النبأ والنفر ، وقلنا بوجود الإطلاق فيهما الشامل لصورة

__________________

(١). في مقابل احتمال حجّية الخبر الواحد من باب السببية ، وبما انّ الاحتمال باطل عند أصحابنا تركنا البحث فيها وبيان أحكامها. ومن أراد التفصيل فلنرجع إلى المحصول : ج ١١٠ / ٣ ١٢٦.

١٩٢

المتعارضين ، فيقع الكلام في مقتضى القاعدة الأوّلية.

إنّ مقتضى القاعدة الأوّلية هو التساقط ، وإلّا فالأمر دائر بين الأُمور الثلاثة :

١. الأخذ بكليهما ، وهو يستلزم الجمع بين المتناقضين.

٢. الأخذ بأحدهما المعين ، وهو ترجيح بلا مرجح.

٣. الأخذ بأحدهما المخير ، وهو لا دليل عليه.

لأنّ الأدلة دلت على حجّية كلّ واحد معيّناً لا مخيّراً ، فإذا بطلت الاحتمالات الثلاثة تعين التساقط.

المبحث الثاني : في حجّية المتعارضين في نفي الثالث

قد عرفت أنّ الأصل في المتعارضين على القول بحجّيتهما من باب الطريقية هو التساقط ، لكن يقع الكلام في اختصاص التساقط بالمدلول المطابقي أو يعمّ المدلول الالتزامي أيضاً.

فعلى الوجه الأوّل يُحتج بهما في نفي الثالث دون الوجه الثاني ، فلو كان هناك خبران متعارضين أحدهما يدل على أنّ نصاب الغوص دينار ، والآخر على أنّ نصابه عشرون ديناراً ، فعلى الاختصاص يحتج بهما في نفي الثالث ، أي نفي عدم اعتبار النصاب في الغوص أو كون نصابه عشرة دنانير دون القول الآخر.

فيه وجهان :

والظاهر عدم صحة الاحتجاج ، لأنّ الأخذ بالمدلول الالتزامي فرع الأخذ بالمدلول المطابقي ، فإذا امتنع الأخذ بالمدلول المطابقي فكيف يمكن الأخذ بمدلوله الالتزامي؟! وبعبارة أُخرى : الأخذ بالمدلول الالتزامي لأجل كونه من لوازم المعنى

١٩٣

المطابقي ، فإذا لم يثبت الملزوم تعبّداً فكيف يثبت اللازم؟! إلّا أن يدل دليل على التحفظ باللازم تعبداً.

المبحث الثالث : مقتضى القاعدة الثانوية في المتعارضين

قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية في المتعارضين هو التساقط ، إنّما الكلام في ورود دليل خارجي على خلاف القاعدة وعدمه ، فعلى الثاني (عدم ورود الدليل) يؤخذ بمفاد القاعدة الأُولى ويحكم بتساقط الخبرين في جميع الحالات ، وعلى الأوّل يجب أن يؤخذ بمدلول القاعدة الثانوية.

ثمّ إنّ الروايات الواردة في الخبرين المتعارضين تشعّبت إلى طوائف ثلاث :

الطائفة الأُولى : ما يدلّ على التخيير.

الطائفة الثانية : ما يدلّ على التوقّف.

الطائفة الثالثة : ما يدلّ على الأخذ بذي الترجيح.

ونذكر من القسم الأوّل ما رواه الحسن بن جهم عن الرضا (عليه‌السلام) في حديث:

قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحق؟ قال : «فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت». (١)

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري ادّعى تواتر الأخبار الدالّة على التخيير في المتعارضين ، وكان سيدنا الأُستاذ قدَّس سرّه ينكر التواتر ، ولكن يعترف بالتضافر ، وقد عثرنا على ما يدل على التخيير بما يناهز ثماني روايات. (٢)

__________________

(١). الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

(٢). الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦ ، ٢١ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٤١ ، ٤٤ ؛ المستدرك : ١٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢ ، ١٢.

١٩٤

لكنّ المشكلة تكمن في إعراض الأصحاب عن روايات التخيير ، فانّه لا يوجد مورد أفتى المشهور في الكتب الفقهية بالتخيير بين الخبرين.

وأمّا الطائفة الثانية ، أعني : ما يدلّ على التوقف ، فيناهز عدد رواياتها ما يناهز الخمس ، نذكر منها ما يلي :

١. روى سماعة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟

قال : «يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه». (١)

٢. روى سماعة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) ، قلت : يرد علينا حديثان ، واحد يأمرنا بالأخذ به ، والآخر ينهانا عنه؟ قال : «لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله» ، قلت : لا بدّ أن نعمل بواحد منهما.

قال : «خذ بما فيه خلاف العامة». (٢)

ويحتمل وحدة الحديثين لوحدة الراوي عن الإمام وإن اشتمل الحديث الثاني على زيادة ، ولاحظ ما يدل على التوقف أيضاً. (٣)

وعلى فرض حجّية أخبار التخيير فقد قام غير واحد من المحقّقين بالجمع بين الطائفتين (التخيير والتوقف) بوجوه ، أوضحها ما أفاده الشيخ الأعظم من حمل روايات التوقف على صورة التمكّن من لقاء الإمام ، ويشهد على ذلك ما في حديث سماعة : «يرجئه حتى يلقى من يخبره».

وفي حديث آخر عنه : «لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله».

__________________

(١ و ٢). الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥ و ٤٢.

(٣). الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١ ، ٣٦ ؛ المستدرك : ١٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠ ، ٢.

١٩٥

إذا كانت الطائفة الأُولى دالة على التخيير والثانية على التوقف (وقد عرفت الجمع بينهما) فهناك طائفة ثالثة تدل على الأخذ بذي الترجيح ، ويقع الكلام في هذه الطائفة في جهات :

١. التعرف على أقسام المرجحات.

٢. كون الأخذ بذات المزية لازم أو لا.

٣. لزوم الاقتصار على المنصوص منها أو جواز التعدّي عنه إلى غيره؟

وإليك دراسة هذه الجهات واحدة تلو الأُخرى.

١٩٦

الجهة الأُولى

في أقسام المرجحات

إنّ المرجحات الواردة في الروايات على أقسام ، وبما انّ مقبولة عمر بن حنظلة هي بيت القصيد في هذا الباب نذكر المرجحات وفق الترتيب الوارد في الرواية المذكورة والمرجحات الواردة فيها خمسة (١) :

١. الترجيح بصفات الراوي.

٢. الترجيح بالشهرة العملية.

٣. الترجيح بالكتاب والسنّة.

٤. الترجيح بمخالفة العامة.

٥. الترجيح بالأحدثية.

هذه هي المرجحات الواردة في المقام ، وإليك البحث فيها على وجه التفصيل :

١. الترجيح بصفات الراوي

قد ورد الترجيح بصفات الراوي في روايات ثلاث :

أ. رواية عمر بن حنظلة.

ب. رواية داود بن الحصين.

ج. رواية موسى بن أكيل.

ولكن الجميع يرجع إلى ترجيح حكم أحد القاضيين على الآخر بهذه

__________________

(١). ولم نأخذ بمرفوعة العلّامة عن زرارة ، لارسالها ، لاحظ المستدرك : ١٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢ ، نقلاً عن عوالي اللآلي ، عن العلّامة مرفوعاً عن زرارة.

١٩٧

الصفات ولا تمت بترجيح أحد الخبرين على الآخر بصفات الرواة.

أمّا رواية عمر بن حنظلة ، فحاصل الرواية انّه فرض حكمين من أصحابنا حكما في موضوع بحكمين وكلاهما صدرا عن الحديث المروي عن الأئمّة (عليهم‌السلام) ، فقال الإمام (عليه‌السلام) : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر». (١)

يلاحظ عليه : بما عرفت من أنّ مورد الرواية هو ترجيح حكم أحد القاضيين بصفاتهما ، وأين هو من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى بصفات الراوي؟

أمّا رواية داود بن الحصين ، فهي ما رواه الصدوق بسند كالصحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف ، فرضيا بالعدلين ، فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال : «ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر». (٢) وهذه الرواية كسابقتها ناظرة إلى ترجيح أحد الحكمين على الآخر.

وأمّا رواية موسى بن أكيل ، ما رواه الشيخ الطوسي بسند صحيح ، عن ذُبيان بن حُكيم ، عن موسى بن أكيل ، عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ له منازعة في حقّ ، فيتفقان على رجلين ، يكونان بينهما ، فحكما ، فاختلفا فيما حكما ، قال : «وكيف يختلفان»؟

قال : حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان ، فقال : «ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله ، فيمضي حكمه». (٣)

__________________

(١). الكافي : ٦٧ / ١ ، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم ، الحديث ١٠. وسيوافيك بقية الحديث ضمن المرجحات.

(٢ و ٣). الوسائل : ١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠ و ٤٥.

١٩٨

وهذا الحديث أيضاً أجنبي عن المقام ، لأنّ الضمائر ترجع إلى الحكمين اللّذين اختارهما كلّ واحد من المتحاكمين ، وبما انّ القضاء أمر لا يخلو تأخيره من مضارّ ناسب أن تكون صفات القاضي من المزايا ، بخلاف الإفتاء.

نعم اختلاف الحكمين في القضاء ، وإن نشأ عن الاختلاف في الحديث المروي عنهما (عليهما‌السلام) لكنّ الاختلاف الحديث سبب الاختلاف في القضاء وليس الإمام بصدد ترجيح رواية على رواية أُخرى ، بل بترجيح قضاء ، على قضاء آخر.

إلى هنا تمّ الكلام في المرجح الأوّل ، وثبت انّه لا يمتُّ إلى ترجيح الرواية بصلة.

٢. الترجيح بالشهرة العملية

قد ورد الترجيح بالشهرة العملية في رواية واحدة وهي مقبولة عمر بن حنظلة ، فقد فرض عمر بن حنظلة مساواة الحكمين في الصفات ، قائلاً :

قلت : فانّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضّل واحد منهما على الآخر.

قال : فقال : «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمعَ عليه من أصحابنا فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فانّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الأُمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيُتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله ، قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم». (١)

فإن قلت : إنّ صدر الحديث راجع إلى ترجيح أحد الحكمين على الآخر ، فليكن الترجيح بالشهرة العملية راجعاً إليهما لا إلى الخبرين.

قلت : إنّ صدر الحديث وإن كان راجعاً إلى ترجيح حكم أحد القاضيين

__________________

(١). الكافي : ١ ، باب اختلاف الحديث من كتاب فضل العلم ، الحديث ١٠.

١٩٩

على حكم الآخر ، لكن بعد ما فرض الراوي مساواة القاضيين من حيث الصفات أرجع الإمام السائل إلى ملاحظة مصدر فتاواهما ، وانّه يقدم قضاء من حكم بخبر مجمع عليه بين الأصحاب ، على من قضى بمصدر شاذ.

ومن هنا توجه كلام الإمام إلى بيان مرجحات الرواية في مقام الإفتاء ليكون حلاً في مقام القضاء أيضاً ، فكلامه في المجمع عليه وما بعده كموافقة الكتاب ومخالفته راجع إلى ترجيح أحد الخبرين على الآخر في مقام الإفتاء.

هذا كلّه لا غبار عليه لكن هنا إشكالاً آخر ، وهو انّ المراد من المرجّح ، هو تقديم إحدى الحجتين على الأُخرى ، لا تقديم الحجّة على اللاحجّة ، والتقديم بالشهرة العملية من قبيل القسم الثاني ، ويعلم ذلك من تحليل مقاطع الرواية في ضمن أُمور :

١. المراد من «المجمع عليه» ليس ما اتّفق الكل على روايته ، بل المراد ما هو المشهور بين الأصحاب في مقابل ما ليس بمشهور ، والدليل على ذلك قول الإمام (عليه‌السلام) : «ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك».

٢. المراد من اشتهار الرواية بين الأصحاب هو اشتهارها مع الإفتاء بمضمونها ، إذ هو الذي يمكن أن يكون مصداقاً لما لا ريب فيه ، وإلّا فلو نقلوا الرواية بلا إفتاء وفق مضمونها ففيه كلّ الريب والشكّ.

٣. المراد من قوله : «لا ريب فيه» هو نفي الريب على وجه الإطلاق ، لأنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم ، فالرواية المشهورة نقلاً وعملاً ليس فيها أي ريب وشك.

وأمّا ما يقابلها ، أعني : الشاذ ممّا لا ريب في بطلانه ، وذلك لأنّه إذا كانت النسبة في إحدى القضيتين صحيحة قطعاً تكون النسبة في القضية المناقضة لها باطلة قطعاً ، وهذا هو المهم فيما نرتئيه.

٢٠٠