الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-014-2
الصفحات: ٢٥٦
الجزء ١ الجزء ٢

تنبيهات

التنبيه الأوّل : حكم النقيصة السهوية

إذا ترك جزء المركب أو شرطه سهواً فهل تبطل عبادته أو لا؟ والكلام في المقام في تبيين حكم القاعدة الأُولى دون النظر إلى الأدلة الخارجية. (القاعدة الثانويّة)

أقول : إنّ للمسألة صوراً :

الأُولى : إذا كان لدليل المركب إطلاق يدلّ على مطلوبية الباقي مطلقاً سواء كان معه الجزء المنسيّ أو لا ، مثل قوله (عليه‌السلام) : «لا تترك الصلاة بحال» إذا كان لفظ الصلاة صادقاً على غير المنسي.

الثانية : إذا كان لدليل الجزء إطلاق يدل على مدخليته في المركب مطلقاً في حالتي الذكر والنسيان ، كقوله (عليه‌السلام) : «لا صلاة إلّا بطهور».

الثالثة : أن يكون لكلّ من دليلي المركب والجزء إطلاق ، فمقتضى إطلاق دليل المركب وجود الأمر بالباقي ، ومقتضى إطلاق دليل الجزء عدم الأمر بالباقي.

الرابعة : أن لا يكون لواحد منهما إطلاق.

أمّا الصورة الأُولى : أي وجود الإطلاق لدليل المركب دون دليل الجزء ، فيؤخذ بمقتضى إطلاق دليل المركب ، ويحكم بصحّة المأتي به عدا المنسيّ ، ولو شكّ في جزئية الجزء أو شرطية الشرط في حال النسيان تجري أصالة البراءة فيها.

أمّا الصورة الثانية : أي إذا كان لدليل الجزء والشرط إطلاق دون دليل المركب ، فيدلّ على فعلية أحكامهما في حالتي الذكر والنسيان ، ومقتضى الإطلاق

١٤١

عدم الاكتفاء بالمأتي به ، ولو ارتفع النسيان كان عليه الإعادة أو القضاء.

وأمّا الصورة الثالثة : أي إذا كان لكلّ من الدليلين إطلاق فيقدم إطلاق دليل الجزء على إطلاق المركب تقدمَ المقيد على المطلق ، فإنّ دليل المركّب وإن كان يدلّ على مطلوبية كلّ واحد من الأجزاء غير المنسيّة حالتي الذكر والنسيان وبالتالي يدل وجود الأمر بما عدا المنسي سواء أنسي الجزء الآخر أم لا ، لكن دليل الجزء أخص منه حيث يدلّ على دخله في صحّة المركب وعدم إيفاء الباقي بغرض المولى مطلقاً ذاكراً كان أو ناسياً ، فيقدم على إطلاق المركب ، وعلى ذلك فلا يجوز الاكتفاء بما عدا المنسي ، فإذا قال المولى : «لا صلاة إلّا بطهور» (١) أو قال : «لا صلاة لمن لا يقيم صلبه». (٢) كان ظاهرهما مدخليتهما في ماهية الصلاة وحقيقتها ، فيعمّان حالتي الذكر والنسيان ، فتكون النتيجة بطلانَ الصلاة المنسيّ جزؤها حسب إطلاق دليل الجزء والشرط ، وليس المقام مجرى للبراءة العقلية أو الشرعية من شرطية الشرط أو جزئية الجزء لفرض وجود الدليل الاجتهادي ، أعني : الإطلاق فيهما.

وأمّا الصورة الرابعة : أعني : إذا لم يكن لدليل المركب ولا لدليل الجزء إطلاق فأتى بما عدا المنسي ثمّ ذكر بعد الفراغ عن العمل ، فهذا هو المناسب للمقام والمحكّم فيه هو البراءة ، لأنّ الواقع لا يخلو من أحد أمرين ، إمّا أن تكون الجزئية مطلقة تلزم إعادتها ، أو مختصة بحال الذكر فيكفي ما أتى به ، فيكون مرجع الشك في وجوب الإعادة ، إلى الشك في ثبوت جزئية الجزء أو شرطية الشرط في حال النسيان والأصل البراءة من الجزئية أو الشرطية في هذه الحالة ، فيحكم عليها بالصحّة.

__________________

(١). الوسائل : ١ ، الباب ٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٢). الوسائل : ١ ، الباب ١٦ من أبواب الركوع ، الحديث ١ و ٢.

١٤٢

التنبيه الثاني : تعذّر الإتيان ببعض الأجزاء )

إذا عُلِمت جزئية شيء أو شرطيته ودار الأمر بين كونه جزءاً أو شرطاً مطلقاً ولو في حال العجز حتى يسقط الأمر بالباقي لعدم تمكنه من الإتيان بالمأمور به ، أو كونه جزءاً أو شرطاً في حال التمكّن فيبقى الأمر بالباقي على حاله ، فللمسألة صور أربع :

الأُولى : أن يكون لدليل المركّب وحده إطلاق بالنسبة إلى سائر الأجزاء يعم الحكم حالتي التمكّن والتعذّر.

الثانية : أن يكون لدليل الجزء وحده إطلاق يعم الحكم كلتا الحالتين.

الثالثة : أن يكون لكلا الدليلين إطلاق.

الرابعة : أن لا يكون لواحد منهما إطلاق.

فالمحكّم هو الدليل الاجتهادي ، أعني : الإطلاق في الأوّلين ، فتكون النتيجة لزوم الإتيان بغير المتعذّر في الأُولى وعدمه في الثانية ، وتقديم إطلاق الجزء على إطلاق المركّب في الصورة الثالثة ، فتكون النتيجة عدم جواز الإتيان بغير المتعذر ، لتقدّم إطلاق دليل الجزء على دليل المركّب ، تقدمَ المقيد على المطلق. كما مرّ في النقيصة السهويّة.

إنّما الكلام في الصورة الرابعة ، أي ما لا يكون هناك إطلاق في كلا الموضعين ، فهل يجب الإتيان بالباقي إذا كان عنوان المركّب صادقاً على الباقي ، كالأمر بالصلاة في ثوب طاهر مع تعذر إقامتها في الطاهر ، أو لا؟

__________________

(١). كان البحث في التنبيه السابق في جريان البراءة بعد العمل أي الإتيان بما عدا المنسيّ ، بخلاف المقام فالبحث في جريانها قبل الإتيان بما عدا المتعذر. وكلا الأمرين يرجعان إلى أمر واحد : وهو انّ الأصل في الجزئية والشرطية ، الركنيّة أو لا ، فلاحظ.

١٤٣

الظاهر هو الثاني ، لأنّ التكليف المتيقّن إنّما كان بمجموع الأجزاء والشرائط ، فإذا لم يتمكّن من بعضها فكأنّه لم يتمكّن من الكل بما هو كل ، فالتكليف الجديد بالنسبة إلى الباقي يحتاج إلى الدليل والأصل البراءة منه.

قاعدة الميسور

وربما يقال بوجوب الإتيان بالباقي تمسّكاً بقاعدة الميسور التي دلّ عليها الحديث النبويّ والولويّ.

١. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنّه قال : خطبنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال : «أيّها الناس قد فرض عليكم الحجّ فحجّوا» فقال رجل : أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم» ثمّ قال : «ذروني ما تركتكم ، فإنّما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه». (١)

والرواية غير صالحة سنداً ومتناً.

أمّا الأوّل : فيكفي في ضعفه كون الناقل ممّن لا يصحّ الاحتجاج برواياته.

وأمّا الثاني : فإنّ الرواية ناظرة إلى واجب ذي افراد لا ذي أجزاء بقرينة موردها ، وهو الحج ، وبقرينة قول الرجل : أكلّ عام يا رسول الله؟ ولكنّ الكلام في المقام انّما هو في واجب ذي أَجزاء لا في واجب ذي افراد.

٢. ما رواه صاحب «غوالي اللآلي» قال الإمام عليّ (عليه‌السلام) : «لا يُترك الميسور بالمعسور». (٢) وقال (عليه‌السلام) : «ما لا يُدْرَك كُلُّه لا يُترَكُ كُلّه». (٣)

__________________

(١). التاج الجامع للأُصول : ١٠٠ / ٢ ، كتاب الحج.

(٢ و ٣). غوالي اللآلي : ٥٨ / ٤ برقم ٢٠٥ و ٢٠٧.

١٤٤

يلاحظ عليهما : عدم ثبوت سند الحديثين.

وأمّا الدلالة ، فالظاهر أنّه لا غبار في دلالتهما شريطة أن يكون الباقي ميسوراً للمعسور ، كالثمانية بالنسبة إلى العشرة ، لا الخمسة بالنسبة إليها.

ومثله قوله : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» المنصرف إلى ما إذا كان المُدرَك مرتبة ناقصة ممّا لا يُدرك.

التنبيه الثالث : حكم الزيادة السهوية

انّ لزيادة الجزء صوراً ثلاثاً :

أ. إذا أُخذ شيء جزء للمركب وأُخذَ عدم زيادته قيداً للمركب لا لجزئيّة الجزء ، بأن يقول : يجب عليك الصلاة بشرط عدم زيادة جزء من أجزائها.

ب. إذا أخذ شيء جزء للمركّب لكن أُخذ عدم زيادته قيداً لجزئيّة الجزء فصار الجزء بقيد الوحدة جزء ، كأن يقول : اركع بشرط عدم الزيادة.

ج. إذا أخذ شيء جزءاً وكان بالنسبة إلى الزيادة لا بشرط ، بأن تكون الزيادة وعدمها غير مؤثرين في صحّة الواجب ولا في بطلانه.

فلا شكّ انّ الصلاة في الصورتين الأُوليين باطلة لعدم كون المأتي به موافقاً للمأمور به كما لا شكّ في صحّة الصلاة في الصورة الثالثة.

إنّما الكلام فيما إذا لم تحرز كيفية اعتبار الجزء ودار الأمر بين كونه من ذينك القسمين أو القسم الثالث. فيقع الكلام في مقتضى القاعدة الأوّلية ، والمرجع هو البراءة ، لأنّ مرجع الشك إلى أخذ العدم قيداً للمركب أو لجزئية الجزء أو أخذ الزائد مانعاً ، وقاطعاً والأصل في الجميع هو العدم. هذا حكم الزيادة حسب القواعد الأوّلية ، وأمّا حكمها حسب القواعد الثانوية فهو موكول إلى الفقه. ولكن نقول على وجه الإجمال انّ مقتضى القاعدة الثانوية هو البطلان في موارد خمسة

١٤٥

اعتماداً على قاعدة «لا تعاد».

روى زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة : الطهور ، والوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود» ثمّ قال : «القراءة سنّة ، والتشهد سنّة فلا تنقض السنة الفريضة» (١) ، هذا بناء على أنّ شمول الحديث النقيصة والزيادة.

التنبيه الرابع : دوران الأمر بين شرطية شيء ومانعيته أو قاطعيته (٢)

إذا علمنا اعتبار شيء في المأمور به ولكن دار الأمر بين كون وجوده مؤثراً في الصحّة أو وجوده مانعاً عنها. (٣) وهذا كالجهر بالقراءة في ظهر يوم الجمعة حيث قيل بوجوبه ، وقيل بوجوب الإخفات ، وكتدارك الحمد بعد الدخول في السورة وغيرهما من الشبهات الحكمية.

الظاهر وجوب الاحتياط إذا أمكن ، كما إذا كان للواجب أفراد طولية ، كصلاة الظهر في يوم الجمعة فدار الأمر بين كون الجهر شرطاً أو مانعاً فيجب التكرار ، ونظير ذلك دوران الأمر بين التمام والقصر للشك في كون الركعتين الأخيرتين جزءاً أو مانعاً.

نعم إذا لم يتمكّن إلّا من فرد واحد كصلاة الجمعة في الشبهة الحكمية ، فالمرجع هو التخيير.

خاتمة : في شرائط العمل بالاحتياط والبراءة

والمراد من الشرائط ما هو شرط لجريانهما دون جواز العمل بهما ، والفرق

__________________

(١). الوسائل : ٣ ، الباب ١ من أبواب القبلة ، الحديث ١.

(٢). ومثله ما إذا دار الأمر بين جزئية شيء ومانعيته أو قاطعيته والحكم في الجميع واحد.

(٣). قد تقدّم انّ معنى المانعية هو وجود الشيء مزاحماً للصحّة لا اعتبار عدمه في المأمور به إذ العدم ليس شيئاً قابلاً للاعتبار.

١٤٦

بينهما واضح ، لأنّ الشرائط على قسمين :

الأوّل : ما يكون وجوده محقِّقاً لموضوع الأصل بحيث لولاه لما كان هناك محلّ للأصل.

الثاني : ما يكون وجوده شرطاً للعمل بالأصل على وجه يكون الأصل جارياً ، ولكن لا يعمل به إلّا مع هذا الشرط ، وإليك الكلام في كلا الشرطين على وجه الإيجاز.

أصل الاحتياط وشروط جريانه

لا شكّ في حسن الاحتياط لكونه طريقاً لتحصيل الحقّ والعمل به والعقل حاكم بحسنه ، ولا يشترط فيه سوى أمرين :

١. عدم استلزامه لاختلال النظام.

٢. عدم مخالفته لاحتياط آخر.

وأمّا موارده فتنحصر في المواضع التالية :

١. الاحتياط المطلق فيما إذا لم يكن هنا علم إجمالي ولا حجّة شرعية ، كالشبهة البدويّة.

٢. الاحتياط فيما إذا كان هناك علم وجداني إجمالي.

٣. الاحتياط إذا كانت هناك حجّة شرعية لها إطلاق بالنسبة إلى المعلوم بالتفصيل والمعلوم بالإجمال.

أصل البراءة وشرط جريانه

لا يشترط في جريان البراءة في الشبهات الحكمية إلّا الفحص عن الدليل الاجتهادي ، لأنّ البيان الرافع لقبح العقاب هو البيان الواصل هذا من جانب.

١٤٧

ومن جانب آخر ليس المراد من الواصل هو إيصاله إلى كلّ واحد بدقّ باب بيته وإعطائه البيان ، بل المراد وجود البيان في مظانّه على وجه لو أراد لوقف عليه ، وعلى هذا فوجود البيان عند الرواة أو حملة العلم أو في الجوامع الحديثية كاف في رفع القبح ومع احتماله فيها لا يستقل العقل بالقبح ما لم يتفحّص.

وأمّا الشبهات الموضوعية ، فالظاهر تسالم الأُصوليين على عدم وجوب الفحص ، ولكنّه على إطلاقه غير صحيح ، وإنّما لا يحتاج إلى الفحص إذا كان تحصيل العلم منوطاً بمقدّمات بعيدة.

وأمّا إذا كان العلم بالواقع ممكناً بأدنى نظر ، كالنظر إلى الأُفق فيمن شكّ في دخول الفجر فيجب عليه الفحص ، ومثله إذا شكّ في بلوغ الأموال الزكوية حدّ النصاب ، أو الشكّ في زيادة الربح على المئونة ، أو الشكّ في حصول الاستطاعة المالية للحج ، أو الشكّ في مقدار الدين مع العلم بضبطه في السجلّات ، إلى غير ذلك من الشبهات الموضوعية التي يحصل العلم بها بأدنى تأمل.

وأمّا شرائط العمل بالبراءة فيمكن أن يعدّ منها ، عدم معارضته مع أصل آخر ، كما في موارد العلم الإجمالي ، أو أن لا يكون على خلاف المنّة. ولا يختص هذا الشرط بالبراءة ، بل يعم الاضطرار الوارد في حديث الرفع أيضاً ، كعدم الضمان في عام المجاعة إذا توقفت حياة المضطر على أكل طعام الغير ، فالمرفوع هو حرمة التصرف لأجل الاضطرار لا الضمان ، فالتصرف جائز لكن مع ضمان قيمته ، لأنّ عدمه على خلاف المنَّة.

صحّة عمل تارك الفحص وعدمها

إذا ترك المجتهد الفحص عن الدليل الاجتهادي ، أو ترك العامي طريقي

١٤٨

الاجتهاد والتقليد ، فهل يحكم بصحّة العمل أو لا؟

لا شكّ في عدم الصحّة إذا خالف الواقع توصليّاً كان أو تعبديّاً ، وكما لا شكّ في الصحة إذا صادف الواقع في التوصليات كالمعاملات ، لأنّ الصحّة ليست رهن قصد القربة ، وأمّا العبادات إذا صادفت الواقع ، فإن تمكن من الإتيان بها بقصد القربة كما إذا كان غافلاً حين العمل صحّت عبادته ظاهراً لحصول شرطها وهي القربة ومطابقتها للواقع ، وإلّا فهي باطلة لخلوّها من التقرّب.

نعم اتّفق الأصحاب على بطلان عمل الجاهل المقصّر في التعبديات إذا خالف الواقع إلّا في موضعين ، فأفتوا بالصحّة وعدم لزوم الإعادة والقضاء ، وذلك :

أ. إذا أتمّ في موضع القصر (دون العكس).

ب. إذا جهر في موضع الإخفات أو بالعكس ، لتضافر الروايات على ذلك. (١)

تمّ الكلام في الاحتياط ،

ويليه البحث في الأصل الرابع ، وهو الاستصحاب.

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١). الوسائل : ٥ ، الباب ٢٢ من أبواب صلاة المسافر ، الحديث ٣ و ٤ و ٨ و ١١.

١٤٩

الأصل الرابع

الاستصحاب

الاستصحاب أحد الأُصول الأربعة العامة الذي له دور كبير في استنباط الوظيفة العملية ، ولم يزل يُتمسك به بين الفقهاء من عصر أئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) إلى يومنا هذا ، ويتميز عن سائر الأُصول الثلاثة بوجود الحالة السابقة وملاحظتها.

أمّا وجود الحالة السابقة فهو أساس الاستصحاب ، وأمّا اشتراط كونها ملحوظة ، فلأجل انّه ربّما لا تكون الحالة السابقة معتبرة عند الشارع بأن تكون حجة في استنباط الوظيفة العملية كما سيوافيك موارده. (١)

وقبل الخوض في المقصود نقدّم أُموراً :

الأوّل : الاستصحاب في اللغة أخذ الشيء مصاحَباً أو طلب صحبته ، وفي الاصطلاح «إبقاء ما كان على ما كان» والمعروف بين المتأخرين أنّ الاستصحاب أصل كسائر الأُصول وإن كانت مرتبته متقدّمة على سائر الأُصول العملية لكن الظاهر من قدماء الأُصوليين أنّه أمارة ظنية ، فكأنّ اليقين السابق بالحدوث أمارة ظنية لبقاء الشيء في ظرف الشك ، إذ ليس المراد من الشك هو الشكّ المنطقي أعني به تساوي الطرفين حتى ينافي الظن بالبقاء ، بل المراد احتمال الخلاف الجامع مع الظن بالبقاء.

وأمّا المتأخرون فلم يعتبروه أمارة ظنية بل تلقّوه أصلاً عملياً وحجّة في ظرف

__________________

(١). كما في الشكّ في المقتضي عند الشيخ الأنصاري ، أو في الشبهات الحكمية التي أنكر المحقّق النراقي وتبعه المحقق الخوئي ، حجّية الاستصحاب فيها وخصّا الحجّية بالشك في الشبهات الموضوعية.

١٥٠

الشك ، واستدلّوا عليه بروايات ستوافيك.

الثاني : الاستصحاب مسألة أُصولية لا قاعدة فقهية ، وذلك لأنّ المعيار في تمييز المسائل الأُصولية عن القواعد الفقهية هو محمولاتها.

توضيحه : انّ المحمول في القواعد الفقهية لا يخلو إمّا أن يكون حكماً فرعيّاً تكليفيّاً كالوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة. أو حكماً فرعيّاً وضعيّاً كالضمان والصحّة والبطلان. مثلاً قوله : «كل شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام» قاعدة فقهية بحكم أنّ المحمول هو الحليّة ، التي هي من الأحكام الفرعية التكليفية ، كما أنّ قوله : «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» قاعدة فقهية ، لأنّ المحمول فيها هو الضمان وهو حكم وضعي ، ومثله قوله : «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود» (١) فانّ المحمول هو البطلان في الخمسة والصحّة في غيرها. هذا هو ميزان القاعدة الفقهية.

وأمّا القاعدة الأُصولية فتختلف محمولاً عن القاعدة الفقهية ، فالمحمول فيها ليس حكماً شرعياً تكليفياً أو وضعياً ، بل يدور حول الحجّية وعدمها ، فنقول : الظواهر حجّة ، الشهرة العملية حجّة ، خبر الواحد حجّة ، أصل البراءة والاحتياط والاستصحاب ، كلٌّ حجّة في ظرف الشك.

وربما يخطر بالبال بأنّ المحمول في المسائل الأُصولية ربما يكون غير الحجّة ، كقولك : الأمر ظاهر في الوجوب والنهي ظاهر في الحرمة ، ولكنّه عند التدقيق يرجع إلى البحث عن الحجّة على الوجوب والحرمة ، فالغاية من إثبات ظهورهما هي إقامة الحجّة على الوجوب والتحريم.

وإن شئت قلت : الغاية من إثبات الصغرى (كونه ظاهراً في الوجوب) هي

__________________

(١). الوسائل : ٤ ، الباب ١ من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث ٤.

١٥١

احتجاج المولى به على العبد. وروح المسألة عبارة عن كون الأمر حجّة في الوجوب أو لا ، وهكذا كلّ ما مرّ في باب الأوامر والنواهي.

الثالث : قد تضافرت الأخبار عن أئمّة أهل البيت (عليهم‌السلام) فى مضمون «أنّ اليقين لا يُنقض بالشك» ، وظاهره اجتماعهما في زمان واحد وعدم نقض أحدهما الآخر ، وهو في بادئ النظر أمر غريب ، لأنّهما لا يجتمعان حتى لا ينقض أحدُهما الآخر ، لأنّ اليقين هو الجزم بشيء ، والشكّ هو التردّد وانفصام الجزم ، فكيف يجتمعان؟! والجواب أنّ اليقين والشكّ لا يجتمعان إذا كان المتعلّق واحداً ذاتاً وزماناً ، كما إذا فرضنا انّه تيقّن بعدالة زيد يوم الجمعة ثمّ شكّ في نفس ذلك اليوم في عدالته ، ففي مثله لا يمكن اجتماع اليقين والشكّ ، فعند ما يكون متيقناً لا يمكن أن يكون شاكاً وبالعكس.

وأمّا إذا كان متعلقاهما متحدين جوهراً ، ومتغايرين زماناً ، فاليقين والشكّ يجتمعان قطعاً ، مثلاً لو تيقن بعدالة زيد يوم الجمعة لكن صدر منه يوم السبت فعلٌ شكَ معه في بقاء عدالته في ذلك اليوم ، ففي هذا الظرف يجتمع اليقين والشكّ فهو في آن واحد متيقن بعدالة زيد يوم الجمعة لا يشك فيه أبداً ، وهو في الوقت نفسه شاك في عدالته يوم السبت ، وبذلك صحّ اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد لتغاير المتعلّقين زماناً ، وإلى ذلك يؤول قولهم في باب الاستصحاب «اليقين يتعلّق بالحدوث والشكّ بالبقاء» فمقتضى الاستصحاب إبقاء عدالة زيد يوم الجمعة إلى يوم السبت وترتيب أثر العدالة في زمان الشك.

وبذلك علم أنّ الاستصحاب يتقوّم بأمرين :

أ. فعليّة اليقين في ظرف الشكّ ، ووجودهما في آن واحد في وجدان المستصحِب.

١٥٢

ب. وحدة متعلّقهما جوهراً وذاتاً ، وتعدده زماناً بسبق زمان المتيقن على المشكوك.

الرابع : الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين

إنّ في مصطلح الأُصوليين قاعدة موسومة بقاعدة اليقين والشك الساري لسريان الشكّ إلى نفس اليقين كما إذا تيقّن بعدالة زيد يوم الجمعة ثم طرأ عليه الشكّ يوم السبت في عدالة زيد في نفس يوم الجمعة (لا السبت) وقد تبين بذلك أركان قاعدة اليقين :

أ. عدم فعلية اليقين في ظرف الشك.

ب. وحدة متعلقهما جوهراً وزماناً ، حيث تعلّق الشكّ بنفس ما تعلّق به اليقين وهو عدالة يوم الجمعة.

والمعروف بين الأصحاب انّ الاستصحاب حجّة دون قاعدة اليقين. وانّ روايات الباب منطبقة على الأوّل دون الثانية كما سيوافيك.

* * *

الخامس : انّ هنا قاعدة ثالثة وهي قاعدة المقتضي والمانع التي تغاير القاعدتين الماضيتين وتختلف عنهما باختلاف متعلّق اليقين والشك جوهراً وذاتاً فضلاً عن الاختلاف في الزمان.

مثلاً إذا تيقن بصبِّ الماء على اليد للوضوء ، وشك في تحقّق الغَسْل للشك في المانع. أو تيقن برمي السهم وشكّ في القتل للشك في وجود المانع ، فمتعلّق اليقين غير متعلّق الشكّ بالذات ، حيث تعلّق اليقين بصبّ الماء والرمي ، وتعلّق الشكّ بوجود الحاجب والمانع.

نعم يتولد من هذا اليقين والشكّ ، شك آخر ، وهو الشكّ في حصول

١٥٣

المقتضى أعني : الغَسْل والقَتل ، والقائل بحجّية تلك القاعدة يتمسك بأصالة عدم المانع والحاجب ويثبت بذلك الغَسل أو القتل. بحجّة انّ المقتضي موجود ، والمانع مرفوع بالأصل فيكون «المقتضى» محقّقاً. وربما حاول تطبيق روايات الباب على تلك القاعدة. (١) والمشهور أعرضوا عن تلك القاعدة بحجّة عدم الدليل عليها.

السادس : تقسيمات الاستصحاب

إنّ للاستصحاب تقسيمات ، تارة باعتبار المستصحَب ، وأُخرى باعتبار الشكّ المأخوذ فيه ، وإليك البيان :

١. تقسيمه باعتبار المستصحَب

ينقسم الاستصحاب باعتبار المستصحَب إلى الأقسام التالية :

ألف. أن يكون المستصحَب أمراً وجوديّاً أو عدميّاً ، كاستصحاب الكرّية إذا كان الماء مسبوقاً بها ، أو عدم الكرّية إذا كان مسبوقاً به.

ب. أن يكون المستصحَب حكماً شرعيّاً تكليفيّاً سواء أكان كليّاً كاستصحاب حليّة المتعة ، أم جزئياً كاستصحاب وجوب الإنفاق على الزوجة المعيّنة إذا شكّ في كونها ناشزة.

ج. أن يكون المستصحَب حكماً شرعيّاً وضعياً لا تكليفياً كاستصحاب الزوجية ، والجزئية ، والمانعية والشرطية ، والسببية عند طروء الشك في بقائها.

د. أن يكون المستصحب موضوعاً لحكم شرعي سواء كان موضوعاً لحكم

__________________

(١). لاحظ تعليقة المحقّق الخراساني على الفرائد ، ص ١٩٥ عند البحث عن مفاد «لا تنقض» فقد ردّ على القائل بالقاعدة ردّاً عنيفاً.

١٥٤

شرعي تكليفي ، أو موضوعاً لحكم وضعي ، وهذا كاستصحاب حياة زيد ، فتترتب عليه حرمة قسمة أمواله ، وبقاء علقة الزوجية بينه وبين زوجته.

٢. تقسيمه باعتبار الشك

ينقسم الاستصحاب باعتبار الشكّ المأخوذ فيه إلى الأقسام التالية :

أ. أن يتعلّق الشكّ باستعداد المستصحَب للبقاء في الحالة الثانية ، كالشكّ في بقاء نجاسة الماء ، المتغيّرِ أحدُ أوصافه الثلاثة ، بالنجس ، إذا زال تغيره بنفسه ، حيث إنّه يتعلّق الشكّ بمقدار استعداد النجاسة للبقاء ، بعد زوال تغيّره بنفسه ، ومثله الشكّ في بقاء الليل أو النهار ، حيث إنّه يتعلّق بمقدار استعدادهما للبقاء من حيث الطول والقِصَر ، وهذا ما يسمّى بالشكّ في المقتضي.

ب. وأُخرى يتعلّق بطروء الرافع مع إحراز قابلية بقاء المستصحب ودوامه لولاه ، وهو على أقسام :

١. أن يتعلّق الشكّ بوجود الرافع ، مع إحراز قابلية بقائه ودوامه لو لا الرافع ، كما إذا شكّ في وجود الحدث بعد الوضوء.

٢. أن يتعلّق الشكّ برافعية الأمر الموجود للجهل بحكمه ، كالمذي الخارج من الإنسان ، فيشك في أنّه رافع للطهارة مثل البول أو لا؟ فيرجع الشكّ إلى رافعية الأمر الموجود للجهل بحكمه.

٣. أن يتعلّق الشكّ برافعية الأمر الموجود للجهل بوصفه وحاله ، كالبلل المردّد بين البول والوذي مع العلم بحكمهما.

هذه هي التقسيمات الرئيسيّة ، وهناك تقسيمات أُخرى تركنا ذكرها للاختصار.

١٥٥

إذا عرفت ذلك ، فاعلم انّه استدلّ على حجّية الاستصحاب بوجوه مختلفة أصحها هو الأخبار المتضافرة في المقام وقد أوردنا في الموجز ثلاث روايات ، فلنذكر سائرها.

١. صحيحة زرارة الثالثة

روى الكليني ، عن زرارة ، عن أحدهما (عليهما‌السلام) قال : «إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع ، وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها أُخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشك». (١)

وجه الاستدلال : الظاهر انّ قوله : «ولا ينقض اليقين بالشك» علّة للأمر بإضافة ركعة أُخرى ، فكأنّه يقول : يأتي بركعة أُخرى ولا شيء عليه ، لأنّه كان على يقين بعدم الإتيان بها فليمض على يقينه.

نعم ظاهر قوله : «فأضاف» انّه يأتي بالركعة الاحتياطيّة متصلة ، مع أنّ الفتوى على الانفصال ، فتُرفع اليد عن هذا الظاهر بقرينة إجماع الطائفة على الانفصال.

٢. موثقة إسحاق بن عمّار

روى الصدوق باسناده ، عن إسحاق بن عمار ، قال : قال لي أبو الحسن الأوّل : «إذا شككت فابن على اليقين» ، قال : قلت : هذا أصل؟ قال : «نعم». (٢)

وجه الاستدلال : أنّ ظاهر الكلام فعليّة اليقين والشكّ ، فهو في آن واحد ذو

__________________

(١). الوسائل : ٥ ، الباب ١٠ من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث ٣ ، رواه عن علي بن إبراهيم الثقة عن أبيه ، الذي هو فوق الثقة ، عن حماد بن عيسى عن حريز عن زرارة وكلّهم ثقات.

(٢). الوسائل : ٥ ، الباب ٨ من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث ٢ وسند الصدوق إلى إسحاق بن عمار صحيح في المشيخة.

١٥٦

يقين وشك ، فينطبق على الاستصحاب.

وأمّا قاعدة اليقين ، فالشكّ فيها فعلي دون اليقين بل هو زائل كما مرّ في توضيح القاعدة.

أضف إلى ذلك انّ الرواية ظاهرة في الاستصحاب بقرينة وحدة لسانها مع سائر الروايات.

٣. مكاتبة القاساني

كتب علي بن محمد القاساني إلى أبي محمد (عليه‌السلام) ، قال : كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان ، هل يصام أم لا؟ فكتب : «اليقين لا يدخل فيه الشك ، صم للرؤية وأفطر للرؤية». (١)

وجه الاستدلال : أنّ المراد من اليقين ، إمّا هو اليقين بأنّ الزمان الماضي كان من شعبان فشكّ في خروجه بحلول اليوم التالي ، أو اليقين بعدم دخول رمضان وقد شكّ في دخوله. وعلى كلا التقديرين لا يكون اليقين السابق منقوضاً بالشك. وهذا هو المراد من قوله : «اليقين لا يدخل فيه الشك».

٤. صحيحة عبد الله بن سنان

روى الشيخ بسند صحيح عن عبد الله بن سنان قال : سأل أبي أبا عبد الله (عليه‌السلام) وأنا حاضر : إنّي أُعير الذمِّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمرَ ، ويأكل لحم الخنزير ، فيردّها عليّ أفأغسِلُه قبل أن أُصلّي فيه؟ فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : «صلّ فيه ولا تَغْسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنّه نجّسه ،

__________________

(١). الوسائل : الجزء ٧ ، الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ١٣.

١٥٧

فلا بأس أن تصلّي فيه حتى تستيقن أنّه نجّسه». (١)

وجه الاستدلال : انّ الإمام لم يعلِّل طهارة الثوب بعدم العلم بالنجاسة حتى ينطبق على قاعدة الطهارة ، بل علّله بأنّك كنتَ على يقين من طهارة ثوبك وشككتَ في تنجيسه فما لم تستيقن انّه نجّسه فلا يصحّ لك الحكم على خلاف اليقين السابق ، والمورد وإن كان خاصّاً بطهارة الثوب لكنه غير مخصِّص وذلك لوجهين :

الأوّل : ظهور الرواية في صدد إعطاء الضابطة الكلّية.

والثاني : التعليل بأمر ارتكازيّ يورث إسراء الحكم إلى غير مورد السؤال.

٥. خبر بكير بن أعين

روى بكير بن أعين قال : قال لي أبو عبد الله (عليه‌السلام) : «إذا استيقنت أنّك توضّأت ، فإيّاك أن تحدث وضوءاً حتى تستيقن أنّك أحدثت». (٢)

هذه هي المهمّات من روايات الباب ، وفيما ذكرنا غنىً وكفاية.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الروايات ، وكون التعليل (لا تنقض اليقين بالشك) أمراً ارتكازياً ، حجّية الاستصحاب في جميع الأبواب والموارد ، سواء أكان المستصحب أمراً وجودياً أم عدميّاً ، وعلى فرض كونه وجوديّاً لا فرق بين كونه حكماً شرعيّاً تكليفياً أو وضعياً أو موضوعاً خارجياً له آثاره الشرعيّة كالكرّية ، وحياة زيد ، وغير ذلك.

__________________

(١). الوسائل : ٢ ، الباب ٧٤ من أبواب النجاسات ، الحديث ١. رواه الشيخ باسناده عن سعد بن عبد الله القمي ، عن أحمد بن محمد بن عيسى المتوفّى نحو ٢٨٠ ه‍ ، عن الحسن بن محبوب المتوفّى عام ٢٢٤ ه‍ ، عن عبد الله بن سنان ، وسند الشيخ إلى سعد بن عبد الله صحيح في التهذيبين ، لاحظ آخر الكتاب الذي ذكر فيه أسانيده إلى أصحاب الكتب التي أخذ الأحاديث منها.

(٢). الوسائل ١ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٧. والسند صحيح إلى «بكير» غير أنّ بكيراً لم يوثّق لكن القرائن تشهد على وثاقته.

١٥٨

حجّية الاستصحاب في الشكّ في المقتضي

ذهب بعضهم إلى عدم حجّيته في خصوص الشكّ في المقتضي دون الرافع ، ولإيضاح الفرق بين الشكّين نقول :

كلُّ حكم أو موضوع لو ترك لبقي على حاله إلى أن يرفعه الرافع فالشكّ فيه شكّ في الرافع ، وأمّا كلّ حكم أو موضوع لو ترك لزال بنفسه وإن لم يرفعه الرافع فالشك فيه من قبيل الشكّ في المقتضي ، فمثلاً وجوب الصلاة والصوم والحجّ من التكاليف التي لا ترفع إلّا برافع ، وذلك لأنّ الوجوب الجزئي منه لا يُرفع إلّا بالامتثال ، وأمّا الوجوب الكلي فبالنسخ ، فالشكّ في الامتثال في مورد الحكم الجزئي ، أو الشكّ في النسخ في مورد الحكم الكلي ، شك في الرافع ، لإحراز المقتضي لبقائه.

وهذا بخلاف ما لو شكّ في بقاء الخيار في الآونة المتأخرة ، كالخيار المجعول للمغبون بعد علمه بالغبن وتمكّنه من إعمال الخيار ، إذا لم يفسخ ، فيشكّ في بقاء الخيار ، لأجل الشكّ في اقتضائه للبقاء بعد العلم والمساهلة في إعماله ، ومثله الشكّ في بقاء النهار إذا كانت في السماء غيوم ، فالشكّ في تحقّق الغروب يرجع إلى طول النهار وقصره ، فالشكّ فيه شكّ في المقتضي.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه استدل القائل بعدم حجّية الاستصحاب في الشكّ في المقتضي بدليل مبني على أمرين :

الأوّل : أنّ حقيقة النقض هي رفع الهيئة الاتصالية ، كما في قوله نقضت الحبل ، قال سبحانه : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) (١).

الثاني : أنّ إرادة المعنى الحقيقي ممتنعة في المقام لعدم اشتمال اليقين على

__________________

(١). النحل : ٩٢.

١٥٩

الهيئة الاتصالية ، فلا بدّ من حمله على المعنى المجازي ، وأقرب المجازات هو ما إذا تعلّق اليقين بما أحرز فيه المقتضي للبقاء وشك في رافعه ، لا ما شكّ في أصل اقتضائه للبقاء مع صرف النظر عن الرافع ، وقد قُرر في محلّه أنّه إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى.

يلاحظ عليه : أنّه لم يثبت في اللغة كون النقض حقيقة في رفع الهيئة الاتصالية حتى لا تصح نسبته إلى نفس «اليقين» لعدم اشتماله عليها ، بل هو عبارة عن نقض الأمر المبرم والمستحكم سواء أكان أمراً حسيّاً أم قلبيّاً والشاهد على ذلك صحّة نسبة النقض إلى اليمين والميثاق والعهد في الذكر الحكيم ، قال سبحانه : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) (١) وقال سبحانه : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) (٢) وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) (٣) واليقين كالميثاق واليمين والعهد من الأُمور النفسانية المبرمة المستحكمة فتصح نسبة النقض إليه ، سواء تعلق بما أحرز فيه المقتضي للبقاء أو لا ، والمصحح للنسبة هو كون نفس اليقين أمراً مبرماً مستحكماً ، سواء أكان المتعلّق كذلك ، كما في الشكّ في الرافع ، أم لم يكن كذلك كما في الشكّ في المقتضي.

هذا تمام الكلام في أدلّة الاستصحاب.

__________________

(١). النحل : ٩١.

(٢). النساء : ١٥٥.

(٣). الرعد : ٢٥.

١٦٠