الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

الشيخ جعفر السبحاني

الوسيط في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-014-2
الصفحات: ٢٥٦
الجزء ١ الجزء ٢

باطلة ، ولو كانت حائضاً فقد ارتكبت الحرام بناء على أنّ صورة العبادة محرمة عليها.

فالمرجع هو أصالة التخيير إمّا الإتيان بالصلاة مع قصد القربة أو تركها أصلاً ، والميزان في جريان أصالة التخيير هو امتناع الموافقة القطعية سواء أمكنت المخالفة القطعية كما في المقام أو لا كما في المقام السابق.

المقام الثالث : دوران الأمر بين المحذورين مع الشكّ في المكلّف به

أنّ أصالة التخيير بملاك عدم إمكان الموافقة القطعية كما تجري في الشك في التكليف كما في الصورتين السابقتين ، كذلك تجري في الشكّ في المكلّف به كما في المقام ومثلاً :

١. إذا علم أنّ أحد الفعلين واجب والآخر حرام في زمان معيّن واشتبه أحدهما بالآخر ، فهو مخيّر بين فعل أحدهما وترك الآخر ، لأنّ الموافقة القطعية غير ممكنة ، نعم ليس له ترك كليهما أو فعل كليهما ، إذ تلزم فيه المخالفة القطعية.

٢. إذا علم بتعلّق الحلف بإيجاد فعل في زمان ، وترك ذاك في زمان آخر ، واشتبه زمان كلّ منهما كما إذا حلف بالإفطار في يوم ، والصيام في يوم آخر ، فاشتبه اليومان فهو مخيّر بين الإفطار في يوم ، والصيام في يوم آخر ، لكن ليس له المخالفة القطعية كأن يصومهما أو يفطر فيهما.

نعم لا تجري أصالة التخيير فيما إذا دار أمر شيء بين كونه شرطاً للصحّة أو مانعاً كالجهر ، وذلك لأنّ الموافقة القطعية بإقامة صلاة واحدة وإن كانت غير ممكنة لكنّها ممكنة بإقامة صلاتين يجهر في إحداهما ويخافت في الأُخرى.

وقد عرفت أنّ الملاك لجريان أصالة التخيير امتناع الموافقة القطعية وهو ليس بموجود في هذا المورد.

١٢١

هذا كلّه في دوران الأمر بين المحذورين عند عدم النص ونظيره إجمال النصّ ، وتعارض النصّين أو الشبهة الموضوعية التحريمية ، فالحكم في الجميع واحد ، وقد استقصينا الكلام في هذه الصور في «الموجز».

فخرجنا بالنتائج التالية :

١. انّ الميزان في جريان أصل التخيير عدم إمكان الموافقة القطعية سواء أمكنت المخالفة القطعية أو لا.

٢. انّ المكلّف في المقام الأوّل مخيّر تكويناً ، والحكم الظاهري هو البراءة ، بخلاف المقامين الأخيرين فالحكم الظاهري فيهما هو التخيير.

١٢٢

الأصل الثالث

أصالة الاحتياط

قد تقدّم بيان مجرى الاحتياط (١) وهو ما إذا قام دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع ، وله صور أربع :

أ. الشبهة التكليفية قبل الفحص.

ب. الشبهة البدوية ولكن كان للمحتمل أهمية بالغة ، كما في الدماء والأعراض والأموال.

ج. إذا دار الأمر بين وجوب فعل وترك فعل آخر.

د. إذا علم نوع التكليف وتردّد الواجب بين أمرين ، كتردد الفريضة بين الظهر والجمعة ، والخمر بين الإناءين. والثلاثة الأُول من قبيل الشك في التكليف مع وجوب الاحتياط فيها ، والرابع من قبيل الشكّ في المكلّف به.

ومن هنا علم أنّ مجرى أصالة الاحتياط أعمّ من الشكّ في المكلّف به ، والميزان قيام الدليل العقلي أو النقلي على وجود العقاب عند المخالفة والجميع داخل تحت هذا العنوان ، وبما انّ حكم الصور الثلاث الأُول واضحة نكرس البحث في الصورة الرابعة أي الشكّ في المكلّف به ، والكلام فيه في مقامين :

١. اشتباه الحرام بغير الواجب بمسائله الأربع ، ويعبّر عنه بالشبهة التحريمية.

٢. اشتباه الواجب بغير الحرام بمسائله الأربع ، ويعبّر عنه بالشبهة الوجوبية.

وإليك الكلام في كلا المقامين :

__________________

(١). لاحظ صفحه ٩٥.

١٢٣

المقام الأوّل أصالة الاحتياط

الشبهة التحريمية

مقتضى ما ذكرناه في الشكّ في التكليف أن يكون في هذا المقام أيضاً مسائل أربع ، لأنّ منشأ الشكّ إمّا فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصين ، أو خلط الأُمور الخارجية ، وبما انّ المسائل الثلاث الأُول ، فاقدة للتطبيقات الفقهية ، خصصنا البحث في الشبهة التحريمية الموضوعية.

وهي على قسمين : لأنّ الحرام المشتبه بغيره إمّا مشتبه في أُمور محصورة أو غير محصورة ، فيقع الكلام في هذا المقام في موردين :

المورد الأوّل : حكم الشبهة المحصورة

إذا علم المكلّف بتكليف (الحرمة) على وجه لا يرضى المولى بمخالفته ، فلا محيص عن وجوب الموافقة القطعية ، فضلا عن حرمة المخالفة القطعية سواء أكان العلم إجمالياً أم تفصيلياً ، فالبحث عن إمكان جعل الترخيص لبعض الأطراف أو لجميعها مع العلم الوجداني بالتكليف الجدي تهافت ، لاستلزامه اجتماع الإرادتين المتضادتين ، وهذا كمثل قتل المؤمن إذا اشتبه بغيره ، وهذا النوع من العلم الإجمالي يناسب البحث عنه في باب القطع.

وأمّا المناسب للمقام ، كما هو الظاهر من كلام الشيخ (١) فهو ما إذا قامت الأمارة على حرمة شيء وشمل إطلاق الدليل مورد العلم الإجمالي ، كما إذا قال :

__________________

(١). لاحظ الفرائد : ٢٤٠ ، طبعة رحمة الله.

١٢٤

اجتنب عن النجس ، وكان مقتضى إطلاقه شموله للنجس المعلوم إجمالاً أيضاً ، وعندئذ فمقتضى القاعدة الأوّلية هو تحصيل البراءة القطعيّة بالاجتناب عن كلا الطرفين لأن المفروض شمول اطلاق الدليل ، المعلوم اجمالاً كشموله للمعلوم تفصيلاً.

انّما الكلام في مقتضيا لقاعدة الثانويّة أعني إمكان الترخيص اوّلاً ، ووقوعه ثانياً وإليك الكلام فيهما.

الأوّل : إمكان الترخيص

فالحقّ إمكانه لأنّك عرفت أنّ ما لا يقبل الترخيص هو العلم الوجداني بالتكليف وهو الذي لا يجتمع مع الترخيص لاستلزامه اجتماع الإرادتين المتناقضتين.

وأمّا لو كان سبب العلم بالتكليف هو إطلاق الدليل أعني :(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١)

الشامل للصور الثلاث.

أ. المعلوم تفصيلاً.

ب. المعلوم إجمالاً.

ج. المشكوك وجوداً مع وجوده واقعاً.

فكما يصحّ تقييد إطلاقه بإخراج المشكوك وجعل الترخيص فيه ، فهكذا يجوز تقييد إطلاقه بإخراج صورة المعلوم بالإجمال ، فتكون النتيجة اختصاص حرمة الخمر بصورة العلم به تفصيلاً ، فالشكّ في إمكان التقييد كأنّه شكّ في أمر بديهي ، إنّما الكلام في الأمر الثاني.

__________________

(١). المائدة : ٩٠.

١٢٥

الثاني : ورود الترخيص في لسان الشارع

وهذا هو الأمر المهم في هذا الباب ، والمتتبع للروايات وفتاوى العلماء يقف على عدم ورود الترخيص لبعض الأطراف ، فكيف بجميعها ، وقد ذكرنا بعض الروايات في الموجز (١)؟ فلا نعيد.

نعم ربما استدلّ ببعض الروايات على جعل الترخيص نذكر منها ما يلي :

الأوّل : قوله «كلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه» بناء على أنّ قوله «بعينه» تأكيد للضمير في قوله : «انّه» فيكون المعنى حتى تعلم أنّه بعينه حرام ، فيكون مفاده انّ محتمل الحرمة ما لم يتعين انّه بعينه حرام فهو حلال فيعم العلم الإجمالي والشبهة البدوية.

يلاحظ عليه : بأنّ الرواية جزء من رواية مسعدة بن صدقة ، والإمعان في الأمثلة الواردة فيها يورث اليقين بأنّ موردها هو الشبهة البدوية ولا صلة لها بأطراف العلم الإجمالي ، وقد أوضحنا حالها في الموجز فلاحظ. (٢)

الثاني : ما رواه عبد الله بن سنان ، عن عبد الله بن سليمان ، قال : سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الجبن ، فقال لي : «لقد سألتني عن طعام يُعجبني» ثمّ أعطى الغلام درهماً ، فقال : «يا غلام ابتع لنا جبناً» ، ثمّ دعا بالغداء ، فتغدّينا معه ، فأتى بالجبن فأكل وأكلنا ، فلمّا فرغنا من الغذاء ، قلت : ما تقول في الجبن ... إلى أن قال : «سأخبرك عن الجبن وغيره ، كلّما كان فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه». (٣)

وربّما يتوهم جواز الترخيص في أطراف العلم الإجمالي لكن الرواية ناظرة إلى الشبهة غير المحصورة ، إذ كان في المدينة المنورة أمكنة كثيرة تُجعل الميتة في الجبن ، وكان هذا سببَ السؤال ، فأجاب الإمام (عليه‌السلام) بما سمعت.

__________________

(١). الموجز : ١٩٩.

(٢). الموجز : ١٩٩.

(٣). الوسائل : ١٧ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ١.

١٢٦

ويشهد على ذلك ما رواه أبو الجارود ، قال : سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) في الجبن ، فقلت له : أخبرني مَنْ رأى أنّه يجعل فيه الميتة فقال : «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة ، حرّم في جميع الأرضين». (١)

فخرجنا بالنتيجة التالية : انّ الروايتين المرخِّصتين خارجتان عن محطّ البحث ، وانّ العلم الإجمالي بالتكليف منجّز مطلقاً سواء أكان علماً قطعياً ، أم حاصلاً من إطلاق الدليل ، فتحرم مخالفته القطعية كما تجب موافقته القطعية.

* * *

المورد الثاني : حكم الشبهة غير المحصورة

قد عرفت أنّ الشبهة التحريمية الموضوعية تنقسم إلى محصورة وغير محصورة ، وقد عرفت حكم الأُولى ، وإليك الكلام في الثانية ، فيقع الكلام تارة في معيار كون الشبهة غير محصورة ، وأُخرى في حكمها.

أمّا الأوّل : فقد عُرّفت الشبهة غير المحصورة بتعاريف أفضلها : بلوغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى درجة لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها ، ألا ترى أنّ المولى إذا نهى عبده عن المعاملة مع زيد ، فعامل مع واحد من أهل قرية كثيرة الأهل يعلم وجود زيد فيها لم يكن ملوماً وإن صادف الواقع ، وقد ذكر انّ المعلوم بالإجمال قد يؤثر مع قلّة الاحتمال ، ما لا يؤثّر مع الانتشار وكثرة الاحتمال ، كما إذا نهى المولى عن سبّ زيد وهو تارة مردّد بين اثنين وثلاثة ، وأُخرى بين أهل بلدة ونحوها. (٢)

وأمّا الثاني أي حكمها ، فانّ عنواني المحصورة وغير المحصورة لم يردا في

__________________

(١). الوسائل : ١٧ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٥.

(٢). الفرائد : ٢٦١.

١٢٧

النصوص لكن العنوان الأوّل مشير إلى تنجيز العلم الإجمالي لاعتناء العقلاء بالعلم فيها لقلة الأطراف ، والعنوان الثاني مشيراً إلى عدم تنجيزه لعدم اعتنائهم بالتكليف فيه لصيرورته موهوماً في كلّ طرف ، وهذا هو الدليل القاطع على عدم التنجيز.

هذا مضافاً إلى أنّ الاجتناب عن الأطراف في الثاني يوجب العسر ، والتبعيض في الارتكاب إلى حدّ العسر غير خال عن العسر أيضاً.

على أنّ هناك روايات في أبواب مختلفة تدلّ على إمضاء الشارع بناء العقلاء ، وهذه الروايات مبثوثة في أبواب أربعة.

١. ما ورد حول الجبن. (١)

٢. ما ورد حول شراء الطعام والأنعام من العامل الظالم. (٢)

٣. ما ورد حول قبول جائزة الظالم. (٣)

٤. ما ورد حول التصرف في المال الحلال المختلط بالربا. (٤)

ولعلّ هذه الروايات مع بناء العقلاء والسيرة الجارية بين المتشرعة كافية في رفع اليد عن إطلاق الدليل لو قلنا بأنّ له إطلاقاً لصورة اختلاط الحرام بين كثير من الحلال.

إذا عرفت حكم الشبهتين : المحصورة وغير المحصورة فاعلم انّ هنا تنبيهات مهمة حول المحصورة نذكرها واحداً بعد الآخر.

__________________

(١). انظر الوسائل : ٦١ / ٧ من أبواب الأطعمة المباحة.

(٢). الوسائل : ١٢ ، الباب ٥٢ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١ ، ٣ ، ٥.

(٣). الوسائل : ١٢ ، الباب ٥٢ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ ، والباب ٥٣ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٢ و ٣.

(٤). الوسائل : ١٢ ، الباب ٥ من أبواب الربا ، الحديث ٢ و ٣. وقد اقتصرنا بذكر مصادر الروايات خشية الإطالة فبإمكان الأُستاذ ، نقل الروايات عن الوسائل خلال إلقاء المحاضرة.

١٢٨

تنبيهات

التنبيه الأوّل : تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات

لا فرق في تنجيز العلم الإجمالي بين أن يكون أطرافه حاصلة بالفعل ، أو يكون بعضها حاصلة بالفعل دون بعض ، وهذا ما يسمّى بالعلم الإجمالي بالتدريجيات ، كما إذا علم بأنّ أحد البيعين : إمّا ما يبيعه اليوم أو ما يبيعه غداً ، ربوي ، فلا فرق عند العقل بينه وبين ما علم أنّ أحد البيعين الحاضرين ربوي ، فيجب ترك الجميع تحصيلاً للموافقة القطعية.

التنبيه الثاني : تنجيز العلم الإجمالي إذا تعلّق بحقيقتين

لا فرق في تنجيز العلم الإجمالي بين أن تكون المشتبهات من حقيقة واحدة ، كما إذا علم بنجاسة ماء أحد الإناءين ، أو من حقيقتين ، كما إذا علم إجمالاً إمّا نجاسة هذا الماء ، أو غصبية الماء الآخر ، والمناط في الجميع واحد ، وهو انّ الاشتغال اليقيني بالتكليف (وجوب الاجتناب) يستلزم البراءة اليقينية.

التنبيه الثالث : شرط التنجيز كونه محدثاً للتكليف على كلّ تقدير

يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدِثاً للتكليف على كلّ حال فلو وقعت النجاسة في أحد الإناءين الطاهرين ولم يعلم أنّها وقعت في أيّ واحد منهما ، فهو ينجّز ، لأنّها لو وقعت في أيّ منهما يحدث تكليفاً بإيجاب الاجتناب عنه. وأمّا إذا لم يحصل لنا علم بحدوث التكليف على كلّ تقدير فلا يكون منجزاً ، كما إذا علم بوقوع النجاسة إمّا في هذا الماء القليل ، أو في ذاك الماء الكر ، فلا ينجّز

١٢٩

حتى يجب الاجتناب عن الماء القليل فإنّه لو وقع في الماء القليل يكون محدثاً للتكليف دون ما إذا وقع في الكر ، فلا يكون محدثاً للتكليف على كلّ تقدير فلا يكون هناك علم بالتكليف على كلّ تقدير.

فالعلم الاجمالي بوقوع النجاسة في أحد الماءين وإن كان متحقّقاً ، لكنّ العلم بانعقاده مؤثّر على كلّ تقدير بمعنى احتمال احداث التكليف في كلّ من الطرفين على فرض وقوعها فيه غير متحقّق وذلك لأنّه لو وقعت النجاسة في الماء الكر لا تؤثر فيه أبداً فلا يُحتمل فيه التكليف ، فهو طاهر قطعاً على كلّ تقدير ، ولو وقعت في الإناء الآخر فهو وإن كان يحدث تكليفاً ، لكن وقوعه فيه محتمل فيكون محتمل النجاسة ويقع مجرىً لأصل البراءة وبالتالي : ينحلّ العلم الإجمالي بوقوع النجاسة في أحدهما ، إلى طاهر قطعي وهو الماء الكرّ ، ومشكوك النجاسة وهو الماء القليل فلا ينعقد العلم الإجمالي مؤثّراً.

ومثله ما إذا كان أحد الإناءين نجساً قطعاً والآخر طاهراً قطعاً ، فوقعت النجاسة في أحدهما ، فمثل هذا العلم بما أنّه لا يحدث تكليفاً على كلّ تقدير لا يكون منجزاً ، لأنّه لو وقعت في الإناء النجس لا تزيده النجاسة الجديدة حكماً جديداً ، ووقوعه في الإناء الآخر مشكوك ، فتجري فيه البراءة ، فلا ينعقد العلم الإجمالي مؤثّراً ، إذ لا يصحّ لنا أن نقول : إمّا هذا نجس ، أو ذاك نجس ، بل الأوّل نجس قطعاً ، والثاني مشكوك النجاسة.

والحاصل : أنّه لو لم يحدث تكليفاً في كلّ طرف على فرض وقوعها فيه لا ينعقد العلم الإجمالي مؤثراً ، لأنّ العلم بوقوع النجاسة في أحد الإناءين وإن كان حاصلاً ، لكن العلم الإجمالي بتنجيس أحدهما لا بعينه غير حاصل بل أحدهما نجس قطعاً والآخر مشكوك ، فتدبّر.

١٣٠

التنبيه الرابع : حكم خروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء قبل العلم

إذا تعلّق العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين اللّذين يتمكّن المكلّف عرفاً من ارتكاب أحدهما دون الإناء الآخر لأنّه في بيت شخص لا يتفق للمكلّف عادة دخوله واستعماله فلا يكون منجِّزاً ، لأنّه لا يحدث التكليف على كلّ تقدير ، إذ لو وقعت النجاسة في الإناء الذي ابتلى به يُحدث التكليف ويحسن الخطاب بالاجتناب دون ما إذا وقعت فيما لا يبتلى به لأنّه يقبح الخطاب ، فلا يصحّ خطابه ب «اجتنب إمّا عن هذا الإناء ، أو ذلك الإناء» ، فإذا كان الخطاب بالنسبة إلى الإناء الخارج عن ابتلائه قبيحاً لا ينعقد العلم الإجمالي منجّزاً ومؤثراً ، فيكون الشكّ في الإناء الأوّل أشبه بالشبهة البدوية.

ولأجل ذلك يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون كلا الطرفين مورداً للابتلاء قبل حدوث العلم الإجمالي حتى يصحّ خطابه بالنسبة إلى كلا الطرفين ، وأمّا لو كان أحدهما خارجاً عن محلّ الابتلاء قبل حدوث العلم الإجمالي ، ثمّ حدث فلا يكون منجزاً ، لأنّه ليس محدثاً للتكليف على كلّ تقدير.

نعم لو حدث العلم الإجمالي والطرفان في محل الابتلاء ، ثمّ خرج أحدهما عن محلّ الابتلاء ، فالاجتناب عن الإناء الآخر لازم ، وذلك لأنّ الخطاب بالاجتناب على وجه الترديد وإن كان قبيحاً بعد خروج أحد أطرافه عن محلّ الابتلاء ، ولكنّ العلم الإجمالي لما انعقد مؤثراً فالاجتناب عن الإناء الباقي ، من آثار العلم الإجمالي السابق ، فوجوده آناً ما ، يوجب الاجتناب عن الثاني ما دام موجوداً.

ويدلّ على ذلك أنّه لو كان الخروج عن محل الابتلاء بعد طروء العلم موجباً لجواز ارتكاب الإناء الآخر ، لما أمر الإمام بإهراقهما (١) ، بل أمر بإهراق

__________________

(١). الوسائل : الجزء ٢ ، الباب ٦٤ من أبواب النجاسات ، الحديث ٢.

١٣١

أحدهما والتوضّؤ بالآخر.

التنبيه الخامس : الاضطرار إلى بعض الأطراف

لو اضطرّ إلى ارتكاب بعض المحتملات ، فهو على قسمين :

الأوّل : إذا اضطر إلى ارتكاب واحد معيّن.

الثاني : إذا اضطر إلى ارتكاب واحد لا بعينه.

أمّا القسم الأوّل ، فله صورتان :

الأُولى : إذا اضطرّ إلى ارتكاب واحد معيّن قبلَ العلم أو معه ، فلا يجب الاجتناب عن الآخر.

الثانية : إذا اضطر إلى ارتكاب واحد معيّن بعد العلم ، فيجب الاجتناب عن الآخر.

أمّا الصورة الأُولى ، أي إذا كان الاضطرار إلى طرف معيّن قبل العلم ، أو معه ، فلما عرفت من أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير وأن يصحّ خطاب المكلّف بالاجتناب عن كلّ من الطرفين ، وهذا الشرط غير موجود في هذه الصورة ، لأنّ الحرام لو كان فيما اضطرّ إليه معيّناً فلا يكون العلم محدثاً للتكليف لفرض اضطراره إليه وهو رافع للتكليف فلا يصحّ خطابه بالاجتناب عنه ، ولو كان الحرام في غير ما اضطرّ إليه فهو ، وإن كان يحدث فيه التكليف ويصحّ خطابه بالاجتناب عنه ، لكن وجوده فيه عندئذ أمر محتمل فتجري فيه البراءة.

وإن شئت قلت : إنّ العلم الإجمالي بحرمة واحد من الأُمور إنّما ينجّز فيما لو عُلِم تفصيلاً لوجب الاجتناب عنه على كل حال ، وهذا الشرط غير متحقّق ، لأنّه لو عُلِم أنّ الحرام في غير الطرف المضطرّ إليه وإن وجب الاجتناب عنه ، لكن لو

١٣٢

كان في الجانب المضطرّ إليه لا يجب ويقبح الخطاب ، فاذاً العلم التفصيلي بالحرام ليس منجّزاً على كلّ حال بل منجّز على حال دون حال ، فيكون العلم الإجمالي مثله ، فلا يكون هناك قطع بالتكليف المنجَّز على كلّ التقادير حتى يجب امتثاله.

وأمّا الصورة الثانية ، أي إذا كان الاضطرار إلى واحد معيّن بعد انعقاد العلم الإجمالي ، فالحقّ وجوب الاجتناب عن الآخر ، لأنّ الخطاب بعد طروء الاضطرار بالاجتناب عن كلّ من الطرفين وإن لم يكن صحيحاً ، لكن وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر من آثار العلم الإجمالي السابق حيث نجّز التكليف وأوجب الاجتناب وحكم العقل بوجوبه ، فإذا طرأ الاضطرار فلا يتقدّر إلّا بقدر الضرورة ، فالحكم العقلي السابق من لزوم الخروج عن عهدة التكليف القطعي باق على حاله إلّا ما خرج بالدليل ، أي المضطرّ إليه.

هذا كلّه إذا كان الاضطرار إلى طرف معيّن.

وأمّا القسم الثاني ، أي إذا كان الاضطرار إلى ارتكاب واحد لا بعينه ، فيجب الاجتناب عن الطرف الآخر مطلقاً سواء أكان الاضطرار بعد العلم كما هو واضح لما عرفت في القسم الأوّل من أنّ وجوب الاجتناب في هذه الصورة من آثار العلم السابق المتقدّم على الاضطرار ، أم كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي ، أو معه فهو على خلاف ما إذا كان الاضطرار إلى معين.

والفرق بين القسمين ظاهر ممّا سبق ، وهو أنّ العلم الإجمالي في هذا القسم حاصل بحرمة واحد من أُمور على وجه لو علم بحرمته تفصيلاً ، وجب الاجتناب عنه على كل تقدير ، لإمكان رفع الاضطرار ، بغير الحرام ، فيكون العلم الإجمالي مثل التفصيلي ، غاية الأمر انّ ترخيص بعضها على البدل لرفع الاضطرار موجب لاكتفاء الآمر في مقام الامتثال ، بالاجتناب عن الباقي ، بخلاف القسم السابق فإنّ

١٣٣

العلم التفصيلي فيه لم يكن فيه منجزاً على كلّ تقدير ، لما قلنا من أنّ الحرام لو كان في غير الطرف المضطرّ إليه وإن وجب اجتنابه لكن لو كان في الجانب المضطر إليه لا يجب بل يقبح الخطاب ، فإذا كان هذا حال العلم التفصيلي فكيف بالعلم الإجماليّ؟

التنبيه السادس : حكم ملاقي أحد الأطراف

لا شكّ انّه يجب الاجتناب عن ملاقي النجس الواقعي. إنّما الكلام فيما إذا لاقى شيئاً لا نعلم بنجاسته ولكنّه محكوم عقلاً وشرعاً بوجوب الاجتناب ، كأحد طرفي العلم الإجمالي ، فهل يجب الاجتناب عن الملاقي أيضاً أو لا؟ وهذا كما إذا علم بنجاسة موضع من ثوبه وتردد بين أسفله وأعلاه ثمّ أصاب الملاقي الرطب ، أحد الموضعين ، فيقع الكلام في وجوب الاجتناب عن الملاقي وعدمه.

وبذلك اتضح خروج الموارد التالية عن محلّ النزاع.

أ. إذا لاقى الملاقي كلا الطرفين ، فهو معلوم النجاسة قطعاً لا مشكوكها فيجب الاجتناب عنه.

ب. إذا تعدّد الملاقي ، بأن يلاقي شيء أحدَ الطرفين وشيء آخر الطرف الآخر ، فيحدث علم إجمالي بنجاسة أحد الملاقيين ، كالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الأصلين.

ج. انّ البحث عن طهارة الملاقي ونجاسته إذا كان هناك مجرّد ملاقاة دون أن يحمل شيئاً من أجزاء الملاقى ، وعلى ذلك فلو غمس يده في أحد الإناءين ثمّ أخرجها تكون اليد طرفاً للعلم الإجمالي لا ملاقياً ، فينقلب العلم عن كونه ثنائي الأطراف إلى ثلاثيّها ، نظير ما إذا قسّم أحد المشتبهين ، قسمين وجعل كلّ قسم في إناء.

١٣٤

إذا علمت ذلك ، فالمشهور بين الأُصوليّين المتأخّرين عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي.

ادلّة الطرفين

استدل القائل بعدم وجوب الاجتناب بأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي من شئون ملاقاة النجس لا من شئون محتمل النجاسة وإن حكم على المحتمل بوجوب الاجتناب مقدمة.

وذلك لأنّ الشكّ في طهارة الملاقي ناشئ من طهارة الملاقى ونجاسته ، فليس الأصل (الطهارة) الجاري في الملاقي ، في رتبة الأصل الجاري في الملاقى في رتبة واحدة ، وبما أنّ أصالة الطهارة في الملاقى معارضة لأصالة الطهارة في الطرف الآخر فتتعارضان وتتساقطان ، فيجري الأصل في الملاقي بلا معارض.

والحاصل : أنّ الأصل يجري في الملاقى والطرف الآخر ثمّ يتساقطان ، ولا يجري في الملاقي حين جريانه في الملاقى لتأخّر رتبته عن الملاقى والمفروض انّ الأصلين فيهما تعارضا وتساقطا ، فيكون الأصل في جانب الملاقي بلا معارض.

استدل القائل بالاجتناب عن الملاقي بأنّه بعد العلم بالملاقاة يتبدّل العلم ، الثُنائي الأطراف ، إلى ثُلاثي الأطراف ، فيحصل العلم إمّا بنجاسة الملاقي والملاقى أو ذاك الطرف ، وذلك لاتحاد حكم الملاقى والملاقي ، فلو كان الأوّل طرفاً للعلم ، فالثاني أيضاً كذلك ، وعليه يجب الاجتناب عن الجميع لتحصيل العلم بالاجتناب عن النجس الموجود في البين.

يلاحظ عليه : بما مرّ في التنبيه الثالث من أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي أن يكون محدِثاً للتكليف على كلّ تقدير ، فلو أحدث على تقدير دون آخر فلا

١٣٥

أن يكون يكون محدثا للتكليف عن كل تقدير ، فلو أحدث على تقدير دون آخر فلا کون منجزاً.

وهذا الشرط موجود في العلم الأوّل لأنّه لمّا لم يكن واحد من المشتبهين محكوماً بوجوب الاجتناب ، حدث العلم الإجمالي مؤثراً ، وهذا بخلاف العلم الثاني ، لأنّه حدث عند ما كان الطرف الآخر محكوماً بوجوب الاجتناب بالعلم الإجمالي الأوّل ، ومعه لا يُحدث في الملاقي ولا يؤثر فيه حكماً لفقدان الشرط المؤثّر في تنجيز العلم الإجمالي ، أعني : كونه محدثاً للتكليف على كلّ تقدير ، فيكون الملاقي بحكم الشبهة البدويّة يجري فيه الأصل بلا معارض.

فإن قلت : انّ هنا علماً إجمالياً ثالثاً وهو العلم الإجمالي بنجاسة الطرف ، أو الملاقي والملاقى معاً فالطرفان بين أُحاديّ ، وثُنائيّ.

قلت : ليس هذا علماً ثالثاً وراء العلمين وإنّما هو تلفيق منهما وقد عرفت أنّ العلم الأوّل منجز دون الثاني ، فليس هنا علم ثالث نبحث في حكمه.

هذا خلاصة الكلام والتفصيل موكول إلى دراسات عليا.

١٣٦

المقام الثاني أصالة الاحتياط

الشبهة الوجوبية

قد عرفت أنّ الشكّ في المكلّف به ينقسم إلى شبهة تحريمية وإلى شبهة وجوبية ، وقد تمّ الكلام في الأُولى مع الإشارة إلى مسائلها الأربع ، ولكن ركزنا البحث على مسألة واحدة من المسائل الأربع وهي الشبهة الموضوعية لعدم وجود تطبيقات عملية لسائر مسائلها الثلاث.

بقي الكلام في الشبهة الوجوبية من المكلّف به فهي تنقسم إلى قسمين ، تارة يكون الشكّ مردداً بين المتباينين كتردد الأمر بين وجوب الظهر أو الجمعة.

وأُخرى بين الأقل والأكثر كتردد الواجب بين الصلاة مع السورة أو بدونها. وبذلك يقع الكلام في موضعين.

ولما كان حكم المتباينين واضحاً وهو وجوب الاحتياط فيهما مضافاً إلى أنّا تعرضنا له في الموجز (١) نقتصر في المقام من الشبهة الوجوبية على الأقل والأكثر.

ثمّ إنّ الأقل والأكثر ينقسمان إلى الاستقلاليين والارتباطيين ، والفرق بينهما بأنّ الأقل الاستقلالي يغاير الأكثر الاستقلالي على فرض وجوبه حكماً ووجوباً ، ملاكاً وغرضاً ، طاعة وامتثالاً ، كالفائتة المرددة بين الواحد والكثير ، والدّين المردّد بين الدرهم والدرهمين ، بخلاف الأقل الارتباطي فانّه على فرض وجوب الأكثر ، متحد معه حكماً ووجوباً ، ملاكاً وغرضاً ، طاعة وامتثالاً ، ولا استقلال له في

__________________

(١). الموجز : ٢٠٢.

١٣٧

ثمّ إنّ المشكوك في الشبهة الوجوبية يكون تارة الجزء الخارجي كالسورة والقنوت وجلسة الاستراحة بعد السجدتين ، وأُخرى الشرط أي الخصوصية المعتبرة في العبادة ، المنتزعة من الأمر الخارجي كالطهارة الحاصلة عن الغسلات والمسحات بنيّة التقرب ، وثالثة الخصوصية المتحدة مع المأمور به ، كما إذا دار أمر الواجب بين مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة ، أو دار أمر الواجب بين واحد معين من الخصال أو المردد بين الأُمور الثلاثة ، وحكم الجميع واحد.

والأقوال في المقام لا تتجاوز عن ثلاثة :

أ. جريان البراءة العقلية والشرعية.

ب. القول بالاحتياط وعدم جريانهما.

ج. التفصيل بين العقلية والشرعية تجري الأُولى دون الثانية.

ولكن الحقّ جريانهما معاً ، وقد استدل على البراءة العقليّة بوجوه مختلفة نذكر منها وجهاً واحداً وهو أوضح الوجوه.

وهو انّ الأمر وإن تعلق بعنوان الصلاة لكنّها ليست شيئاً مغايراً للأجزاء بل هو عبارة أُخرى عن نفس الأجزاء لكن بصورة الجمع والوحدة في التعبير. وذلك لانّ الاجزاء تارة تلاحظ بصورة الكثرة بملاحظة كلّ جزء مستقلاً مع جزء آخر ، وأُخرى تلاحظ بنعت الجمع وفي لباس الوحدة ، والعنوان المشير إلى ذات الأجزاء بهذا النعت هو عنوان الصلاة. وهي نفس الأجزاء في لحاظ الوحدة وعلى نحو الجمع في التعبير.

إذا علمت ذلك فنقول : إنّ الحجة قامت على وجوب العنوان نحو قوله : «أقم الصلاة» وقيام الحجّة عليه نفس قيامها على الأجزاء ، وقد عرفت أنّ نسبة الصلاة إليها نسبة المجمل إلى المفصّل لكن الاحتجاج بالعنوان على وجوب

١٣٨

الأجزاء إنّما يصحّ فيما إذا علم انحلاله إلى جزء وجزء حتى يكون داعياً إليه ، وأمّا إذا جُهلت جزئية الشيء فلا يكون الأمر به ، حجّة عليها وداعياً إليها ضرورة انّ قوام الاحتجاج بالعلم ، والعلم بتعلّق الأمر المركب ، إنّما يكون حجّة على الأجزاء التي علم تركب المركب منها دون ما لا يكون.

وإن شئت نزّل المقام على ما إذا تعلّق الأمر بالأجزاء بلا توسط عنوان ، فكما أنّه لا يحتج إلّا على الأجزاء المعلومة دون المشكوكة ، فهكذا المقام فانّ الأمر وإن تعلق بالعنوان مباشرة دونها ، لكنّك عرفت أنّ نسبة العنوان إليها نسبة المجمل إلى المفصل ، فالأجزاء في مرآة الإجمال ، عنوان ؛ وفي مرآة التفصيل ، أجزاء.

وعلى ضوء ذلك : إذا بذل العبد جهده للعثور على الأجزاء التي ينحلّ العنوان إليها ، فلم يقف إلّا على التسعة منها دون الجزء العاشر المحتمل ، يستقل العقل بانّه ممتثل حسب قيام الحجة ويعدّ العقاب على ترك الجزء المشكوك عقاباً بلا بيان.

وبعبارة موجزة : انّ العقل يستقل بقبح مؤاخذ مَنْ أُمر بمركب لم يُعلَم من أجزائه إلّا عدّة أجزاء ، ويشكّ في وجود جزء آخر ، ثمّ بذل جهده في طلب الدليل على جزئية ذلك الأمر ، فلم يعثر فأتى بما علم وترك المشكوك ، خصوصاً مع اعتراف المولى بعدم نصب قرينة عليه ، فكما تقبح المؤاخذة فيما إذا لم ينصب قرينة فهكذا تقبح فيما إذا نصب ولكن لم تصل إلى المكلّف بعد الفحص وهذا تقرير للبراءة العقلية. (١)

وبهذا يعلم جريان البراءة الشرعية حيث إنّ تعلّق الوجوب الشرعي بالنسبة إلى الجزء أو الشرط أو القيد مجهول فيشمله حديث الرفع وغيره من أدلّة البراءة

__________________

(١). ثمّ إنّ ما ذكرنا من الدليل ، غير ما هو المعروف من القوم في المقام من كون الأقلّ واجباً على كلّ تقدير والأكثر مشكوك الوجوب فانّ الاستدلال على البراءة بهذا الطريق ذو شجون.

١٣٩

إلى الجزء أو الشرط أو القيد مجهول فيشمله حديث الرفع وغيره من أدلّة البراءة الشرعية.

ومن هنا يعلم انّ المرجع في الأقل والأكثر هو البراءة من غير فرق بين أن يكون منشأ الشك فقدان النص كما علمت أو إجمال النص ، كما إذا دلّ الدليل على غسل ظاهر البدن ويشك في أنّ الجزء الفلاني داخل فيه أو لا ، أو تعارض النصين ، كما إذا دلّ دليل على جزئية السورة ، وأُخرى على عدم جزئيتها ، فالمرجع حسب القاعدة الأُولى هو البراءة ، غير انّ الأدلة الشرعية دلت على التخيير بين الدليلين عند عدم المرجح. (١)

أو كان منشأ الشك خلط الأُمور الخارجية ، كما إذا أمر بتكريم مجموع العلماء على نحو العام المجموعي بأن يكون هناك وجوب واحد وإطاعة واحدة فشكّ في كون زيد عالماً أو لا. فالمرجع هو البراءة ، لأنّ الشكّ في كون زيد عالماً يرجع إلى الشكّ في كون الموضوع ذا أجزاء كثيرة أو قليلة فيكون حكمه ، حكم الأقل والأكثر الارتباطيين. (٢)

وثمة سؤال وهو لما ذا خصصنا الأقل والأكثر بالشبهة الوجوبية ولم نتعرض له في الشبهة التحريمية؟

والجواب واضح لأنّ مرجع دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الشبهة التحريمية إلى الشكّ في أصل التكليف ، لأنّ الأقل معلوم الحرمة والشكّ في حرمة الأكثر ، نظير الشك في الأقل والأكثر الاستقلاليين في المقام.

__________________

(١). سيوافيك تفصيله في التعادل والترجيح ، ص ١٩٤.

(٢). فوائد الأُصول : ٢٠٢ / ٤.

١٤٠