منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عليه السلام - ج ١

لطف الله الصافي الگلپايگاني

منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر عليه السلام - ج ١

المؤلف:

لطف الله الصافي الگلپايگاني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مكتب المؤلّف دام ظلّه
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٧

ثانيها : أنّه بعد وفاة المهدي عليه‌السلام يملك اثنا عشر ستة منهم من ولد الحسن عليه‌السلام ، وخمسة من ولد الحسين ، وآخر من غيره.

أقول : هذا أيضا مخالف لنصوص هذه الأحاديث مثل قوله : «بعدي اثنا عشر خليفة» ، وقوله : «لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا» ، وقوله : «لا يزال أمر الناس ماضيا» ، ممّا يدل على اتصال زمانهم بزمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستمرار وجودهم الى آخر الدهر ، وانحصار الخلفاء فيهم كما صرح به في رواية ابن مسعود : أنّه سئل كم يملك هذه الأمّة من خليفة ، قال : سألنا عنها ... الحديث.

هذا مضافا إلى أنّه بعد انطباق هذه الأحاديث على الأئمّة الاثني عشر المشهورين بين فرق المسلمين وظهور صدق كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بمصداقه الظاهر الواضح ، ما الوجه في حمل تلك الأخبار على غيرهم ممّن لا تنطبق عليه!!.

إن قلت : إنّ تلك الخصوصيات وإن لم توجد بعد في غير الأئمّة الاثني عشر عليهم‌السلام ، لكن يجوز أن توجد في غيرهم في المستقبل؟.

قلت : هذا من عجيب الكلام ، فكيف يوجد في المستقبل الذين أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوجودهم بعده مباشرة واتصال زمانهم بزمانه! وهل هذا الاحتمال إلّا خلف ظاهر؟ ثم إنّا نفرض عدم التصريح باتصال زمانهم وإهمال الأحاديث ذلك ، لكن بعد أن وجد المصداق فهي تنطبق عليه لا محالة ولا يجوز انكار ذلك بدعوى جواز وجود مصداق آخر لها في المستقبل!.

ألّا ترى أنّ الله تعالى حيث أنزل وصف نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التوراة والإنجيل فلما ظهر وأنكر اليهود والنصارى نبوّته ، وبّخهم في القرآن المجيد ولم يقبل قولهم بأنه سيظهر فيما بعد.

٢٨١

وأمّا الاستناد لصحّة حمل هذه الأحاديث على هذا القول بخبر : يلي الأمر بعد المهدي اثنا عشر رجلا ستة من ولد الحسن ... الحديث.

ففيه مضافا إلى مخالفتها للأحاديث الكثيرة الواردة من طرق الفريقين ، أنّه مخالف لخصوص هذه الأحاديث وما فيها من انحصار الخلفاء في الاثني عشر واستمرار وجودهم ، واتصال زمانهم بزمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والفرق ظاهر بين قوله : «يلي الأمر بعدي» أو «بعد المهدي».

هذا مع ما في سند هذه الرواية من الوهن والضعف ، فقد صرح في الصواعق بأنّها واهية جدّا لا يعوّل عليها ، ونقل ذلك أيضا عن ابن حجر صاحب كتاب فتح الباري.

هذا كله مضافا إلى أننا لا نستبعد كون مثل هذا الاحتمال مأخوذا من الاسرائيليات ، وإنّما لجئوا إلى مثل ذلك سعيا منهم لصرف هذه الأخبار عن مصاديقها الصريحة فيها.

وهذا ابن المنادي يقول : إنّا تنبهنا لذلك ـ يعني أنّ مصداقه يكون بعد موت المهدي ـ لما ألفيناه في كتاب دانيال وإن شئت أن تعرف قصة هذا الكتاب وما ذكروا في شأنه فراجع أوائل كتاب الملاحم لابن المنادي حتى تعرف ما ابتلي به القوم من الأخذ بالخرافات والاسرائيليات لتركهم أخذ العلم الصحيح عن أهله وهم أئمّة أهل بيت الرسول عليهم‌السلام ، الذين أمر الله الأمّة بالتمسّك بهم عليهم‌السلام والتمسّك بالكتاب.

ثالثها : ما حكي عن القاضي عياض ، وهو أنّ المراد أنّهم يكونون في مدّة عزّة الخلافة وقوّة الإسلام واستقامة اموره. وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس ، إلى أن اضطرب أمر بني اميّة ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد ، وقد رجّح ابن حجر في فتح الباري هذا الوجه وزعم

٢٨٢

تأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة : «كلهم يجتمع عليه الناس». ثمّ ذكر أسماء من وقع الاجتماع على خلافتهم وهم : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد وعبد الملك وأولاده الأربعة ، الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام.

قال : وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز ، قال : فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين ، وحيث لم يعد عمر بن عبد العزيز منهم ، قال : والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك.

أقول : هذا الوجه أردأ الوجوه في تفسير الحديث وأهونها ، وإن قال ابن حجر إنّه أرجحها ، ونحن نترك الكلام في نسب بني أميّة وعدم صحّة انتسابهم إلى قريش ، مع أنّ هذه الأحاديث مصرّحة بكون الأئمّة الاثني عشر من قريش.

ولكن نقول : كيف يصحّ حمل هذه البشائر التي صدرت على سبيل المدح وإطلاق الخليفة على معاوية الذي حارب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، الذي قال فيه سيد النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حربك حربي» وأعلن بسبّه على المنابر ، ودسّ السم إلى الحسن عليه‌السلام سيد شباب أهل الجنّة.

وعلى مثل يزيد بن معاوية قاتل الحسين عليه‌السلام ، والفاسق المعلن بالمنكرات والكفر والمتمثّل بأشعار ابن الزبعرى المعروفة فرحا بحمل رأس ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه ، وهو الذي أمر مسلم بن عقبة أن يبيح أهل المدينة ثلاثا ، فقتل خلقا من الصحابة ونهبت بأمره المدينة وافتضّت في هذه الواقعة ألف عذراء حتّى قيل إنّ الرجل من أهل المدينة بعد ذلك إذا زوّج ابنته كان لا يضمن بكارتها ، ويقول : لعلّها قد افتضّت في واقعة الحرّة ، وقيل تولّد من النساء أربعة آلاف ولد من تلك الواقعة.

٢٨٣

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيما رواه مسلم : من أخاف أهل المدينة أخافه الله وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (١).

وحكي عن الواقدي أنّ عبد الله بن حنظلة الغسيل قال : والله ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء ، إنّه رجل ينكح امّهات الأولاد والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة (٢) وهو الذي أمر بغزو الكعبة.

وذكر السيوطي وغيره أنّ نوفل بن أبي الفرات قال : كنت عند عمر بن عبد العزيز فذكر رجل يزيد ، فقال : قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية ، فقال : تقول أمير المؤمنين وأمر به فضرب عشرين سوطا (٣).

وذكر في الصواعق أنّه قيل لسعد بن حسّان : إنّ بني أميّة يزعمون أنّ الخلافة فيهم ، فقال : كذب بنو الزرقاء ، بل هم ملوك من شرّ الملوك.

وكيف يصحّ حمل هذه الأحاديث وإطلاق الخليفة على عبد الملك الغادر الناهي عن الأمر بالمعروف.

قال السيوطي في تاريخ الخلفاء : لو لم يكن من مساوئ عبد الملك إلّا الحجّاج وتوليته إيّاه على المسلمين وعلى الصحابة رضي‌الله‌عنهم يهينهم ويذلّهم قتلا وضربا وشتما وحبسا وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يحصى ، فضلا عن غيرهم ، وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختما يريد بذلك ذلّهم فلا رحمه‌الله ولا عفا عنه (٤).

أم كيف يطلق الخليفة على الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق الشريب للخمر الهاتك لحرمات الله تعالى ، وهو الذي أراد الحج ليشرب

__________________

(١) ـ مروج الذهب : ج ٣ ص ٦٩.

(٢) ـ تاريخ الخلفاء : ص ٢٠٩.

(٣) ـ الصواعق المحرقة : ص ٢١٩ ط القاهرة ؛ تاريخ الخلفاء : ص ٢٠٩ ط مصر.

(٤) ـ تاريخ الخلفاء : ص ٢٢٠.

٢٨٤

الخمر فوق ظهر الكعبة فمقته الناس لفسقه (١). وهو الذي فتح المصحف فخرج «واستفتحوا وخاب كلّ جبّار عنيد» (٢) فألقاه ورماه بالسهم وقال :

تهددني بجبّار عنيد

فها أنا ذاك جبّار عنيد

إذا ما جئت ربّك يوم حشر

فقل يا ربّ مزّقني الوليد (٣)

فلم يلبث بعد ذلك إلّا يسيرا حتى قتل.

أهذا معنى عزّة الإسلام ، وخلافة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

ونقل أنّه لمّا ولي الحج حمل معه كلابا في صناديق وعمل قبّة على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة وحمل معه الخمر وأراد أن ينصب القبّة على الكعبة ويشرب فيها الخمر ، فخوّفه أصحابه من الناس فلم يفعل (٤).

وذكر المسعودي عن المبرّد : أنّ الوليد ألحد في شعر له ذكر فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمنه :

تلعّب بالخلافة هاشمي

بلا وحي أتاه ولا كتاب

وقل لله يمنعني طعامي

وقل لله يمنعني شرابي (٥)

وفي العقد الفريد : قال إسحاق بن محمّد الأزرق : دخلت على منصور بن جهور الأزدي بعد قتل الوليد وعنده جاريتان من جواري الوليد ـ إلى أن قال ـ : قالت إحداهما : كنّا أعزّ جواريه عنده فنكح هذه وجاء المؤذّنون يؤذّنونه بالصلاة فأخرجها وهي سكرى جنبة متلثّمة فصلّت بالناس (٦).

__________________

(١) ـ تاريخ الخلفاء : ص ٢٥٠ ، تاريخ الطبري : ج ٧ ص ٢٠٩.

(٢) ـ إبراهيم : ١٥.

(٣) ـ مروج الذهب : ج ٣ ص ٢١٦.

(٤) ـ الكامل في التاريخ : ج ٣ ص ٣٩٤.

(٥) ـ مروج الذهب : ج ٣ ص ٢١٦.

(٦) ـ العقد الفريد : ج ٢ ص ٢٩٠.

٢٨٥

وأخرج السيوطي في تاريخ الخلفاء عن مسند أحمد حديث : «ليكوننّ في هذه الأمّة رجل يقال له الوليد ، لهو أشدّ على هذه الأمّة من فرعون لقومه» (١) فالصواب تسمية هؤلاء بالفراعنة لا الخلفاء وتشبيههم بالملاحدة والكفرة لا بحواري عيسى ونقباء بني إسرائيل.

وإن شئنا لأشبعنا الكلام في مساوئ بني اميّة ، ولكن نقتصر على ذلك مخافة الإطالة ، ونقول : كيف رضي القاضي أن يجعل هؤلاء الجبابرة من خلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذين بشّر بهم وأخبر بأنهم يعملون بالهدى وإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها ، وأنّ الأمّة لا تهلك ما لم يمضوا ، وأنّهم بمنزلة نقباء بني إسرائيل.

وأعجب من ذلك إخراجه الحسن عليه‌السلام من الحديث مع أنّه خليفة بنصّ جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإدخاله يزيد ومعاوية وبني العاص الذين لعنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الأحاديث.

ثمّ لما ذا لم يعدّ منهم عمر بن عبد العزيز؟.

وأمّا ما في كلامه من التشبّث بقوله في صحيح أبي داود : كلهم يجتمع عليه الأمّة! (٢). فضعيف لوجوه :

أحدها : أنّ الظاهر من نسبة فعل إلى أحد ، صدوره منه بالاختيار دون الجبر والاكراه ، فالمراد بقوله : «يجتمع» لو سلمنا صدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هو اجتماعهم بالقصد والاختيار. ألا ترى أنّه لا يصحّ لأحد أن يخبر عن وقوع اجتماع أهل مكّة والمدينة وعظماء الفقهاء ووجوه المحدّثين وبقية الصحابة وكبار التابعين على خلافة يزيد ، ويقول :

__________________

(١) ـ تاريخ الخلفاء : ص ٢٥١.

(٢) ـ تاريخ الخلفاء : ص ١٠.

٢٨٦

إنّهم اجتمعوا عليه واختاروه للخلافة ، أو يدّعي اجتماع المسلمين على خلافة الوليد بن يزيد.

ثانيها : أنّه لو بنينا على ذلك ، يلزم خروج أمير المؤمنين والحسن عليهما‌السلام ، من الخلفاء لعدم اجتماع أهل الشام عليهما مع قيام الإجماع والاتفاق على خلافتهما.

ثالثها : أنّ هذه الزيادة غير مذكورة في غير هذا الطريق من طرق الحديث الكثيرة التي بعضها في غاية المتانة والصحة ، فيحتمل قويا أن يكون قوله : كلّهم يجتمع عليه الأمّة ، زيادة من الراوي تفسيرا للحديث ، وحتّى لو سلمنا أن المرجع إذا دار الأمر بين الزيادة والنقيصة أصالة عدم الزيادة ، فليس المقام منه ، لكثرة الروايات الخالية عن هذه الزيادة وتفرّد أبي داود في نقلها.

والحاصل أنّه لا يصلح لأن نقيّد به هذه الأخبار الكثيرة المتواترة المطلقة التي رواها جماعة من الصحابة كعبد الله بن مسعود وجابر بن سمرة وأكابر التابعين وغيرهم.

وعلى أىّ فإنّ هذه الجملة لا تؤيّد هذا الاحتمال.

رابعها : أنّه على فرض صدور هذه الجملة يجب تقييدها بغيرها مما ذكر في هذه الأحاديث كقوله : كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ، وأنّهم إذا مضوا ساخت الأرض بأهلها وأنّهم بمنزلة حواري عيسى ونقباء بني إسرائيل وأنّ الخلفاء منحصرة فيهم.

فيعلم من ذلك كلّه أنّ الوجه الصحيح في هذه الزيادة على تقدير صدورها ، هو كون المراد من اجتماع الأمّة اجتماعهم بالإقرار بامامة الأئمة الاثني عشر وقت ظهور المهدي عليه‌السلام.

الرابع : من الوجوه التي قيل في الحديث كما ذكره ابن حجر في فتح

٢٨٧

الباري ونقل عنه السيوطي في تاريخ الخلفاء هو : أنّ المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدّة الإسلام إلى يوم القيامة يعملون بالحقّ وإن لم تتوال أيّامهم. وأيّدوا هذا بما أخرجه مسدد في مسنده الكبير عن أبي الجلد أنّه قال : لا تهلك هذه الأمّة حتى يكون اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل بيت محمد ... الخ.

وقال السيوطي في ذيل كلام ابن حجر : وعلى هذا فقد وجد من الاثني عشر الخلفاء الأربعة والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز وهؤلاء ثمانية ، ويحتمل أن يضمّ إليهم المهتدي من العباسيين لأنّه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني اميّة ، وكذلك «الظاهر» لما اوتيه من العدل وبقى الاثنان المنتظران ، أحدهما المهدي لأنّه من آل بيت محمد صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، انتهى.

قلت : هذا القول أو الاحتمال فاسد أيضا ، لدلالة كثير من هذه الروايات على انحصار الخلفاء في الاثني عشر ، بل بعضها نصّ في ذلك لا يقبل التأويل والتوجيه كرواية ابن مسعود ولدلالتها أيضا على اتصال زمانهم واستمرار وجودهم.

وأما الاستشهاد لتأييد هذا القول بما أخرجه مسدد في مسنده عن أبي الجلد فموهون لوقوفه على أبي الجلد ، فهو أعم من أن يكون صادرا بعنوان الرواية والحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو الإخبار عن رأيه واعتقاده واجتهاد نفسه ، وعلى فرض عدم وقوفه فلا شك في أنّ قوله : «منهم رجلان من أهل بيت محمد» كما يشهد به سياق الكلام زيادة واجتهاد في الحديث من أبي الجلد أو غيره ممن روى عنه ، وإلّا لقال : «من أهل بيتي» بدل من «أهل بيت محمّد».

ويؤيّد ذلك كله ما في كتاب الخصال بسنده عن أبي نجران أنّ أبا الجلد

٢٨٨

حدّثه وحلف له عليه ألّا تهلك هذه الأمّة حتى يكون فيها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحقّ ولم يذكر هذه الزيادة.

هذا مضافا إلى أنّه على القول به يكون ثلاثة منهم من أهل بيت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم علي والحسن والمهدي عليهم‌السلام ، مع أنّ أبا الجلد قال : منهم رجلان من أهل بيت محمد.

هذا والذي ظهر لي بعد ملاحظة كلمات القوم أنّ ما قاله أبو الجلد (جيلان بن فروة الأسدي) ويقال (ابن أبي فروة) قوله المختصّ به ولذا كان يحلف عليه ، فهو إمّا اجتهاد منه أو أخذه من الكتب المتقدّمة ، فإنّه على ما في كتاب شمائل الرسول : ص ٤٨٤ ، كان ينظر في شيء من الكتب المتقدّمة.

وفي الجرح والتعديل : ج ٢ ص ٥٤٧ ح ٢٢٧٥ قال : أبو الجلد الأسدي البصري صاحب كتب التوراة ونحوها.

وعلى كل حال لا اعتناء بقوله قبال هذه الروايات السنيدة الثابتة المعتبرة الدالة على اتصال زمانهم وانحصارهم في الاثني عشر ، المؤيّدة بغيرها من أخبار متواترة اخرى ، ولو بنينا على صحته فمقتضى الصناعة الجمع بينه وبين تلك الأخبار وتقييد إطلاقه بها ، فإنّه يشمل بالاطلاق الاثني عشر ، سواء كان زمانهم متّصلا بزمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولاء أو لم يكن كذلك ، وهذه الأحاديث قد دلت على اتصال زمانهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتتابعهم ، فيقيد إطلاقه بصراحة هذه الأحاديث كما هو واضح.

نعم يؤيّد دلالته على الاثني عشر الروايات المرفوعة المتواترة على ذلك ، وأمّا التمسّك بإطلاقه على جواز كون هذا العدد في جميع مدّة الإسلام فلا يجوز بعد ذلك استظهار أنّه من كلامه ، مضافا إلى أنّه كما

٢٨٩

حققناه لو بنينا على صدور خبر بهذا اللفظ يجب أن يقيّد إطلاقه بالروايات الدالة على التتابع.

هذا ولا يخفى عليك ما وقع فيه السيوطي أيضا في المقام من السهو والنسيان ، فإنّه على ما ذكره يلزم أن يكون ثلاث منهم من أهل بيت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ عليّا والحسن عليهما‌السلام من أهل البيت بتصريح آية التطهير ، ونصّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا مضافا إلى ما في كلامه من عدّ مثل ابن الزبير ومعاوية ممن يعمل بالهدى.

وهنا وجوه رديئة ضعيفة اخرى يظهر منها حيرتهم وعجزهم الفاحش عن تفسير هذه الأحاديث بما يصرفها عن مصداقها الفريد : الأئمة الاثني عشر المشهورين من أهل البيت عليهم‌السلام.

فمنها ، وهو خامس الوجوه : وجود هذا العدد في زمان واحد كلهم يدعي الإمارة والخلافة ، وقالوا : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرنا بأعاجيب تكون بعده ، منها ، افتراق الناس بعده في وقت واحد على اثني عشر أميرا ، وهذا مما تضحك به الثكلى ، وقد ردّ عليه بعضهم فقال : هو كلام من لا يقف على شيء من طرق الحديث غير الرواية التي وقعت في البخاري هكذا مختصرة ، وقد عرفت من الروايات التي ذكرتها من عند مسلم وغيره أنّه ذكر الصفة التي تختص بولايتهم وهو كون الإسلام عزيزا منيعا ... إلخ.

أقول : إنّ الروايات قد دلت على أنّ مدتهم مدة الإسلام وبقاؤه ولذا تؤيد صحة وقوع غيبة الثاني عشر منهم وطول عمره وامتداد حياته كما جاءت به الروايات الصحيحة الكثيرة.

ومنها ، وهو السادس لهذه الوجوه : ما عن ابن تيمية وهو أنّهم يكونون مفرّقين في الأمّة لا تقوم الساعة حتى يوجدوا.

٢٩٠

أقول : كأنّهم يرون أنّه لا يلزم في استفادة المراد من الأحاديث الاعتماد على ألفاظها ومفهومها العرفي المعتمد عند العرف والعقلاء ، سيّما إذا كانت ألفاظها بمعانيها الظاهرة تنطبق على مذهب العترة من أهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشيعتهم فيقول كل فيها ما يشاء ويهوى ، وإلّا فمن أين جاء ابن تيمية بهذا المعنى المخالف لألفاظ هذه الأحاديث.

ومنها ، وهو السابع لهذه الوجوه : ما ذكره بعض معاصرينا ممّن يسلك بعض المسالك المستحدثة برعاية المستعمرين فزاد في الطنبور نغمة اخرى ، فحمل الأحاديث بزعمه على حكّام المسلمين ، وهم : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية ثم عبد الملك ، وذكر اسماء بني أميّة إلى مروان وقال : ثم انتقلت الإمامة إلى بني العباس ومنهم المنصور ثم ابنه المهدي ثم هارون الرشيد إلى من بعدهم ، وعدّ عماد الدين الزنكي ونور الدين وصلاح الدين ، ثم قال : ولا ينبغي أن نبخس هؤلاء حقّهم.

أقول : على هذا فالموصوفون بالخلفاء في هذه الأحاديث هم هؤلاء الذين أكثرهم من الملوك والحاكمين على المسلمين بالقهر والغلبة والتسلط ، وعدّتهم تزيد على الاثني عشر بكثير ، فإذا كان الحديث يجوز أن ينطبق على كل واحد من هؤلاء على السواء ، فلما ذا نبخس الباقين حقّهم ونقتصر على الاثني عشر منهم ، وما فائدة هذا الكلام الصادر عن مثل نبيّنا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولا بدّ لهذا القائل أن لا يبخس سائر الملوك من الأندلسيين والعثمانيين وحتى الحكّام في عصرنا الذين تعرفهم شعوبهم بالخيانة للإسلام!.

فو الله ما أدري ما أقول لمثل هذا الكاتب الذي يعدّ نفسه من أهل الثقافة العصرية ، من الذين يقولون في سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

٢٩١

وسلّم ما يوافق أهواءهم وأهواء من ينفق عليهم من أموال المسلمين ، وأهواء مقلّده الغربيين الذين يريدون تفسير جميع ما ورد في الكتاب والسنّة المبنية على الإيمان بالغيب بما يوافق آراء الحسّيين المادّيين أو المستعمرين ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

ثمّ اعلم أنّا اعتمدنا في الجواب عن هذه الوجوه التي قيلت في تفسير هذه الأحاديث على ما يستفاد من خصوص هذه الروايات وما تقتضيه ظواهرها الواضحة ، ولم نجب بغيرها من الروايات الكثيرة المعتبرة الدالة على إمامة الأئمّة الاثني عشر بأسمائهم وخصوصياتهم ، وإلّا فالجواب أوضح من هذا.

وإن شئت مزيد توضيح لذلك فعليك بالكتب المصنّفة في هذا الباب فإنّ فيها ما يذهب بكل شك وارتياب ، والله الهادي إلى الحقّ والصواب.

٢٩٢

تتمة

ممّا يقف عليه المتتبّع في أحاديث الاثني عشر ما أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (١) : حدثنا مطلب بن شعيب الأزدي ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث بن سعد ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال عن ربيعة بن سيف ، أنّه حدثه أنه جلس مع شفي الأصبحي فقال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : يكون بعدي اثنا عشر خليفة أبو بكر الصدّيق ، لا يلبث بعدي إلّا قليلا وصاحب رحى دارة ، يعيش حميدا ويموت شهيدا ، قيل من هو يا رسول الله؟ قال : عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه ، ثم التفت إلى عثمان فقال : وأنت سيسألك الناس أن تخلع قميصا كساك الله عزوجل والذي نفسي بيده لئن خلعته لا تدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط.

وأخرجه في مكان آخر منه (٢) إلّا أنّه قال : ربيعة بن سيف عن عبد الله بن عمرو ، وقال : لا يلبث إلّا قليلا ، وقال : دارة العرب ، وقال :

__________________

(١) ـ المعجم الكبير : ج ١ ص ٧ ح ١٢.

(٢) ـ المعجم الكبير : ج ١ ص ٤٧ ح ١٤٢.

٢٩٣

فقال رجل : من هو؟ وقال : وأنت سيسألك الناس أن تخلع قميصا كساك الله إياه.

أقول : اعلم أنّنا لم نقف على أحد احتج بهذه الزيادة المكذوبة ... على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتفسير هذه الأحاديث أو إثبات أن خلافة هؤلاء الثلاثة شرعية منصوصة ، بل الظاهر اتفاقهم على عدم وجود نصّ من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ولاية هؤلاء الثلاثة ولا ريب أنّها من وضع العثمانيين ومحاولتهم لإخفاء مطاعن عثمان وأحداثه في الإسلام التي استنكرها مثل طلحة وعائشة وعمّار استنكارا شديدا وفتحت على المسلمين باب الفتن والحروب الداخلية ، وأدّت إلى ثورة المسلمين ومطالبتهم إيّاه تطبيق أعماله وأحكامه على القوانين الشرعية ، ولكنه لم يتنازل عما كان عليه من سياساته المالية والحكومية حتى انتهى ذلك إلى تشدّد الثوار فصار ما صار وقتل عثمان.

ولأجل إيضاح زيادة هذه الزيادة على الخبر نجري الكلام فيها في موضعين : في سند الخبر ، وفي متنه.

أمّا سنده : فمن رجاله عبد الله بن صالح الذي توفي سنة (٢٢٢) ه. ق.

قال الذهبي في التذكرة : قد سقت أخباره في الميزان وإنّه ليس بحجّة وله مناكير في سعة ما روى.

وقال ابن أحمد : سألت أبي عنه فقال : كان أوّل أمره متماسكا ثم فسد بآخره وليس هو بشيء.

وقال صالح بن محمّد : كان ابن معين يوثقه وعندي أنّه كان يكذب في الحديث.

وقال ابن المديني : ضربت على حديثه وما أروي عنه شيئا.

٢٩٤

وقال أحمد بن صالح : متّهم وليس بشيء.

وقال النسائي : ليس بثقة ، وقال : إنّ حديثه «إنّ الله اختار أصحابي على جميع العالمين» موضوع ، وفيه طعون كثيرة.

وقال ابن حبان : منكر الحديث يروي عن الأثبات ما ليس من حديث الثقات ، وقال : كان له جار يشبه خطّه خطّ عبد الله يكتب ويرميه في داره بين كتبه فيتوهّم عبد الله أنّه خطّه فيحدّث به.

ومنهم الليث بن سعد الذي توفي سنة (١٧٥ ه‍. ق) الموصوف بالعلم وبتفسير القرآن لا بالوقوف عند ظاهره بل ـ على ما قيل في ترجمته ـ بروح النصوص وبغير ذلك من الأوصاف التي مدحوه بها.

كان هو كابن أبي ليلى وابن شبرمة وأضرابهما من فقهاء الدولة ، فكان محلا لثقة المنصور الجبّار الفتّاك الذي جهر أمثال أبي حنيفة باستبداده وطغيانه واضطهاده العلويين واغتصابه الخلافة ، فلم يقبل هديته وقال : إنّها من بيت مال المسلمين ولا حق فيه إلّا للمقاتلين والفقراء والعاملين وهو ليس منهم ، وأمر المنصور بحبسه وضربه بالسياط حتى مات به أو بالسّم ، وهو يوصي بأن يدفنوه في أرض لم يغتصبها الخليفة أو أحد رجاله وعمّاله.

أمّا الذين أتوا بعد المنصور من العباسيين المعاصرين له فقد اعتمدوا عليه وكان كالعين لهم في مصر وكانوا محتاجين إلى مثله لأنّ المصريين كانوا متشيّعين للإمام علي عليه‌السلام ولأولاده ، فهم لذلك يرون العلويين أحق بالخلافة من العباسيين الذين تشهد أعمالهم وخوضهم في الدماء وتصرفاتهم المسرفة في بيت المال على عدم أهليتهم للخلافة وتولّي امور المسلمين.

وقد سعى الليث في تضعيف موالاة المصريين لآل الرسول صلّى الله

٢٩٥

عليه وآله وسلّم.

وكان الناس في مصر ينتقصون عثمان لسابقتهم القديمة في ذلك فالثورة على عثمان انفجرت من مصر ، فأخذ الليث يذكر للمصريين فضائل لعثمان ، ومن الطبيعي أنّ عالما مثله في قطر مثل مصر هو أمل السياسة الحاكمة النافية للولاء لأهل البيت عليهم‌السلام.

ولهذا نرى أنّ هذه السياسة أمرت بأن لا يقضى في مصر بشيء إلّا بمشورته فجعلت الوالي والقاضي تحت أمر مشورته.

فهذا الخبر إن لم يكن من وضع عبد الله بن صالح أو يكون قد دسّه غيره في كتبه ، فلعل هذا الليث ـ الذي لا نحبّ أن نتهمه بوضع الحديث أو نقل الخبر الموضوع ـ قد رواه ، لأنّه كما قيل لم يكن من الذين يقفون عند النص لا يتجاوزون عنه بل يرى أنّ النصوص ليست ظاهرة فحسب ، ليست كلمات ، بل هي روح لها دلالات وفحوى وعلل ، فلعلّه رأى أنّ وعيد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن كذب عليه متعمّدا في مثل الحديث المشهور : «من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار» روحه أقصر من ظاهره لا يشمل الكذب عليه ، ورواية الحديث الموضوع عليه إذا اقتضب ذلك مصلحة سياسية حكوميّة أو غيرها.

وكيف كان فالمرجّح بالنظر أنّ هذه الزيادة من وضع عبد الله بن صالح أو غيره من رجال الخبر ، ولكن مما يورث سوء ظن الباحث بالليث سيرته في معاشه حتى إنّهم نقلوا عنه أنّه بنى دارا كبيرا في الفسطاط لها نحو عشرين بابا وجعل فيها حديقة ملأها بالأشجار والزهر والريحان.

وكانت الريح تحمل عطرها إلى ما حولها وكان له لكل يوم من أيام السنة ثوب خاص فما يلبس الثوب يومين متتاليين.

وعن أبي العباس السراج : نقلنا مع الليث من الاسكندرية وكان معه

٢٩٦

ثلاث سفائن ، فسفينة فيها مطبخه ، وسفينة فيها عياله ، وسفينة فيها أضيافه ، ولا شكّ في أنّه كان في مصر وفي الفسطاط في زمانه جماعات من الفقراء والمساكين والعمّال صابرين على شدة الجوع لا مسكن لهم يقيهم من الحر والبرد ، وكان حال الليث كما سمعت!.

وأعجب من سيرته المعاشية سيرته الفتيائية الخاضعة لما يريده الملوك وأهل السلطة ، فقد ذكروا أنّه قد جرى بين هارون وزوجته زبيدة كلام فقال هارون لها أنت طالق إن لم أدخل الجنّة ، فجمع الفقهاء لذلك فلم يكن عند أحد منهم احتيال يحلّ لهما ما حرم بزعمهما عليهما ، والليث كان في آخر المجلس ، فسأله فقال : إذا أخلى الخليفة مجلسه كلّمته ، وبعد ذلك طلب الليث من هارون أن يحضر مصحفا ، فقال الليث : تصفّحه حتى تصل إلى سورة الرحمن فاقرأها ففعل ، فلما انتهى إلى قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (١) قال الليث أمسك ، قل : والله إنّي أخاف مقام ربّي ، فقال ذلك ، فقال : فهما جنّتان وليست بجنّة واحدة ، وكانت زبيدة تسمع هي وجواريها خلف ستار فارتفع التصفيق والفرح من وراء الستر ، فقال هارون : أحسنت والله فأمر له بجوائز وخلع وآلاف الدنانير ، وأمرت له زبيدة بمثلها وأقطعه هارون أرض الجيزة كلّها وهي من أخصب أرض مصر.

وهذا فقه لا نفهم له معنى إلّا التجارة بأحكام الله وتحليل حرامه وجلب رضا هارون وزوجته إمبراطور عصره وإمبراطورة زمانها ، لا أمير المؤمنين.

ولا ندري هل فهمت زبيدة فساد هذه الفتوى أم لا ، وكذلك هارون لم يفهم ، أو فهم ولكن أراد التخلّص من مؤاخذة الناس به أو عدم تمكين

__________________

(١) ـ الرحمن : ٤٦.

٢٩٧

زبيدة له ، فو الله إنّه لعجيب مثل هذا التلاعب بأحكام الله ممّن يسمّي نفسه بخليفة المسلمين وممّن يرى نفسه من فقهاء الدين والدولة.

ولا يخفى عليك أنّه على المقرر في فقه أهل البيت عليهم‌السلام لا يقع الطلاق المشروط بشرط سواء كان شرطه حاصلا في الحال أو تحقق في المستقبل ، وإنّما يقع بألفاظ صريحة منجّزة غير معلّقة.

وأما بناء على فقه المذاهب الحكومية فلا حاجة إلى مثل هذا الاحتيال الفاسد إذا لم يكن الطلاق هو الثالث الذي لا يجوز أن ينكح المطلق المطلقة حتى تنكح زوجا غيره ، فإنّه يرجع إليها في العدّة إن لم تكن يائسة وكانت مدخولا بها ، ويجدد العقد عليها إن كانت يائسة أو غير مدخولة ، وكان على الليث السؤال عن كيفية وقوع الطلاق.

ثم إنّه على مذهب من يقول بوقوع الطلاق المشروط يمكن أن يقال : إن لم يكن الشرط حاصلا لا يحكم بوقوعه إلّا بعد تحقّق الشرط أو العلم بتحققه ، وفي صورة الشك فالمرجع هو استصحاب بقاء الزوجية وجواز الاستمتاعات ، إبقاء لما كان على ما كان.

هذا ، والظاهر أنّه لم يكن عند الليث حل شرعي للمسألة غير هذا الاحتيال الذي يعرف فساده من كان له أدنى بصيرة في فقه الشريعة وذلك :

أولا : فإن الخوف من الله ليس بأقوى من الإيمان به الذي هو الأصل للخوف منه ، وهو إنّما ينفع إذا بقي للشخص إلى أن يلقى الله تعالى به ، فحصول هذا الثواب متوقّف على ثبات الخائف على خوفه من الله تعالى لإمكان عدم ثباته على هذا الخوف وزواله عنه في مقامات اخرى طول عمره.

وثانيا : أو ما يرى الليث أعمال هارون الاستبدادية وأفعاله الكسروية

٢٩٨

والقيصرية وبطشه واستعلاءه وإيثار نفسه وخواصه وشعرائه وجواريه ومغنّيه ومغنّياته على البؤساء والضعفاء ، واضطهاده الأولياء والصلحاء وتعذيبهم في السجون ، وقتله الإمام الكاظم عليه‌السلام أكبر شخصية معنوية مثالية كان هو معترفا بعلوّ قدره بعد السجن الطويل.

وهارون هذا هو أول خليفة لعب بالشطرنج من بني العباس (١) وأول من جعل للمغنّين مراتب وطبقات (٢)

قال الصولي : خلف مائة ألف ألف دينار ومن الأثاث والجوهر والورق والدواب ما قيمته مائة ألف ألف دينار وخمسة عشر ألف دينار (٣) ، وأعطى إسحاق الموصلي في مجلس واحد مائتي ألف درهم (٤) ... إلخ وبعد ذلك وما عرفه هو وجميع الناس من أعماله الاستبدادية الشاهدة على عدم خوفه من الله تعالى ، ما قيمة تحليفه على ذلك إلّا جلب عناية الخليفة وزوجته ، لا سامح الله من يصنع في أحكامه مثل هذا ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٥).

ولا يخفى عليك أنّ هذا ليس أوّل قارورة كسرت في الإسلام فليس مثل هذا الإلحاد واستحلال الفروج منحصرا بالليث بل كان ذلك دأب فقهاء الحكومة الذين يصوّبون أعمال الحكّام.

فقد أخرج السلفي في كتاب الطيوريات ، على ما في تاريخ الخلفاء ، أخرج بسنده عن ابن المبارك قال : لمّا أفضت الخلافة إلى الرشيد وقعت في

__________________

(١) ـ تاريخ الخلفاء : ص ٢٩٥.

(٢) ـ تاريخ الخلفاء : ص ٢٩٥.

(٣) ـ نفس المصدر : ص ٢٩٢.

(٤) ـ نفس المصدر : ص ٢٨٦.

(٥) ـ فصّلت : ٤٠.

٢٩٩

نفسه جارية من جواري المهدي فراودها عن نفسها ، فقالت : لا أصلح لك إنّ أباك قد طاف بي ، فشغف بها فأرسل إلى أبي يوسف فسأله أعندك في هذا شيء؟ فقال : يا أمير المؤمنين أو كلّما ادّعت أمة شيئا ينبغي أن تصدّق ، لا تصدّقها فإنّها ليست بمأمونة ، قال ابن المبارك : فلم أدر ممّن أعجب! من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتحرّج عن حرمة أبيه ، أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين ، أو من هذا فقيه الأرض وقاضيها ، قال : اهتك حرمة أبيك واقض شهوتك وصيّره في رقبتي ، انتهى. (١)

وأنا أقول : لم يتحرّج عن حرمة أبيه وهو محاط بمئات من الجواري التي لعل فيهن أحسن وأجمل منها ، ولكن ما كان له صبر على الحرام ، وإنّما رجع إلى فقيه دولته ليأخذ منه العذر عند الناس في ذلك.

ثم حكى عن عبد الله بن يوسف فتوى اخرى ، وعن إسحاق بن راهويه فتوى ثالثة ، وأن هارون أجازه بمائة ألف درهم.

فهذا هو ـ الليث ـ أحد رجال هذا الخبر.

ومن رجاله خالد بن يزيد الجمحي المصري الّذي قال عنه في الجرح والتعديل : سألت أبي عنه قال : هو مجهول.

ومنهم سعيد بن أبي هلال الذي قال أحمد فيه : ما يدري أي شيء يخلط في الأحاديث.

ومن رجاله ربيعة بن سيف وهو الذي يشعر كلام ابن عياش من أعلام القرن الثالث بأنّه ذكر الزيادة في روايته ، وربيعة هذا أيضا مطعون بأنّه يخطئ كثيرا وأنّ عنده مناكير ، وضعّفه النسائي.

ومن رجاله عبد الله بن عمرو ، ولا حاجة إلى التعريف به وبأبيه ،

__________________

(١) ـ تاريخ الخلفاء : ص ٢٩١.

٣٠٠