الحدائق الناضرة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة ـ نجف
المطبعة: مطبعة النّجف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

وعلى الثالث ان الاقتران بما هو محمول على الكراهة لو سلم كونه قرينة فإنما يتم فيما لو انحصر الدليل فيما هو كذلك ، وهنا قد ورد النهي عن ذلك من غير اقتران بشي‌ء في رواية الهاشمي (١) وكذا رواية الفقيه (٢) ولا يخفى على المتتبع كثرة ورود الأحكام الواجبة من هذا القبيل.

وعلى الرابع ان وجود الكنيف في المنزل كذلك لا يستلزم ان يكون فعله (عليه‌السلام) لجواز كون البيت ليس له سابقا ، ولا يستلزم أيضا جلوسه عليه ، ومع تجويز جلوسه فيمكن الانحراف.

وعلى الخامس انه بمكان من الضعف الشديد ، والمخالفة لآيات الكتاب المجيد كما أوضحناه في المقدمة السابعة (٣) بأتم بيان ، وشددنا منه الجوانب والأركان.

فوائد

(الأولى) ـ الظاهر ـ كما استظهره جملة من الأصحاب ـ تعلق حكم الاستقبال والاستدبار بالبدن كملا كما هو المتعارف ، دون مجرد العورة حتى لو حرفها زال المنع خلافا للبعض.

(الثانية) ـ الظاهر إلحاق حال الاستنجاء بذلك ، لرواية عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «قلت له : الرجل يريد ان يستنجي كيف يقعد؟ قال : كما يقعد للغائط ...».

(الثالثة) ـ انه على تقدير القول بالتحريم فهل الأمر بالتشريق والتغريب في رواية عيسى بن عبد الله الهاشمي (٥) على الوجوب أو الاستحباب؟ وجهان يلتفتان

__________________

(١ و ٢ و ٥) المتقدمة في الصحيفة ٣٩.

(٣) في الصحيفة ١١٥ من الجزء الأول.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

٤١

إلى ان المراد بالقبلة هنا هي ما يجب التوجه عند العلم ولو في أثناء الصلاة إليها ، أو ما لا تجب إعادتها بعد التوجه إليها بناء على ظن كونها قبلة.

وبالثاني صرح بعض المحققين ، ويخدشه ان الحديث الذي اعتمده دليلا على ذلك ـ وهو قوله (عليه‌السلام) (١) : «ما بين المشرق والمغرب قبلة». ـ محمول على الناسي ، كما يفصح عنه صحيح معاوية بن عمار ، وما ورد أيضا (٢) ان «من بال حذاء القبلة ثم ذكر فانحرف عنها إجلالا للقبلة. الحديث» فان ظاهره يشعر بالاكتفاء بانحراف ما يخرج به عن محاذاتها ، وحينئذ فيمكن ان يقال : المراد بالتشريق والتغريب الميل عن القبلة ذات اليمين أو ذات اليسار لا التوجه إلى جهة المشرق والمغرب الاعتداليين.

(الرابعة) ـ انه على تقدير القول بالتحريم ، لو اشتبهت القبلة قيل : وجب الاجتهاد في تحصيلها من باب المقدمة ، فإن حصل شيئا من الأمارات بنى عليه وإلا انتفى التحريم أو الكراهة. واستقرب السيد في المدارك احتمال انتفائهما مطلقا ، للشك في المقتضى والظاهر ان وجه قربه ان مقتضى صحيحة ابن سنان (٣) ـ الدالة على ان «كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه». ونظائرها ـ ذلك.

و (منها) ـ الاستنجاء بالروث والعظم والمطعوم والمحترم ، ومنه ـ التربة الحسينية على مشرفها أفضل التحية ، والقرآن ، وما كتب فيه شي‌ء من علوم الدين ، كالحديث والفقه ، وههنا مقامان :

__________________

(١) في صحيحي زرارة ومعاوية بن عمار المرويين في الوسائل في الباب ـ ١ ـ من أبواب القبلة ، وفي الأول اضافة «كله».

(٢) في رواية محمد بن إسماعيل المروية في الوسائل في الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤ ـ من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة وفي باب «حكم السمن والجبن وغيرهما إذا علم انه خلطه حرام» من أبواب الأطعمة المحرمة.

٤٢

(أحدهما) ـ تحريم الاستنجاء بهذه الأشياء ، أما الثلاثة الأول منها فظاهر العلامة في المنتهى دعوى الإجماع على حرمة الاستنجاء بها ، لكنه في التذكرة احتمل الكراهة في الأولين منها ، وبذلك صرح المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي في كتاب الوسائل ، حيث قال : «باب كراهة الاستنجاء بالعظم والروث» (١) وفي المعتبر صرح بالإجماع على التحريم فيهما.

ويدل على التحريم فيهما رواية ليث المرادي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن استنجاء الرجل بالعظم أو البعر أو العود. فقال : اما العظم والروث فطعام الجن ، وذلك مما اشترطوا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال : لا يصلح بشي‌ء من ذلك».

وقال في الفقيه (٣) : «لا يجوز الاستنجاء بالروث والعظم ، لان وفد الجان جاؤوا إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقالوا : يا رسول الله متعنا ، فأعطاهم الروث والعظم ، فلذلك لا ينبغي ان يستنجى بهما».

واما الثالث فالذي ورد منه في الأخبار الخبز ، كما روي في عدة من كتب الاخبار : منها ـ الكافي ، وروى فيه (٤) عن عمرو بن شمر قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول في حديث : ان قوما أفرعت عليهم النعمة وهم أهل الثرثار (٥) فعمدوا إلى مخ الحنطة فجعلوه خبزا هجأ ، وجعلوا ينجون به صبيانهم ،

__________________

(١) وهو الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٣) ج ١ ص ٢٠ وفي الوسائل في الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٤) ج ٢ ص ١٦٥ وفي الوسائل في الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب أحكام الخلوة ، وفي الباب ـ ٧٨ ـ من أبواب آداب المائدة.

(٥) قال في بيان الوافي : «الثرثار اسم نهر ، وهجأ من هحأ كمنع إذا سكن جوعه وذهب ، وينجون اى يستنجون ، والأسف السخط ، قال الله تعالى : «فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ»

٤٣

حتى اجتمع من ذلك جبل عظيم ، قال : فمر بهم رجل صالح وإذا امرأة وهي تفعل ذلك بصبي لها ، فقال : ويحكم اتقوا الله ولا تغيروا ما بكم من نعمة ، فقالت له : كأنك تخوفنا بالجوع ، اما ما دام ثرثارنا يجري فإنا لا نخاف الجوع. قال فأسف الله وأضعف لهم الثرثار وحبس عنهم قطر السماء ونبت الأرض ، فاحتاجوا إلى ذلك الجبل ، وانه كان ليقسم بينهم بالميزان». ويدل على ذلك الأخبار المستفيضة بإكرام الخبز والنهي عن إهانته.

واما ما عداه من المطعوم فاستدل عليه بان طعام الجن منهي عنه ، فطعام أهل الصلاح بطريق اولى. ولا يخفى ما فيه.

وظاهر بعض محدثي متأخري المتأخرين تخصيص التحريم هنا بالخبز خاصة.

نعم يدل على ذلك ما رواه في كتاب دعائم الإسلام (١) قال : «نهوا (عليهم‌السلام) عن الاستنجاء بالعظام والبعر وكل طعام ...». إلا ان الكتاب المذكور لم يثبت الاعتماد على مصنفه وان كان قد ذكره شيخنا المجلسي (قدس‌سره) في كتاب البحار ونقل عنه ما تضمنه من الاخبار ، إلا انه قال ـ بعد ذكر مصنفه وبيان بعض أحواله ـ ما صورته : «واخباره تصلح للتأييد والتأكيد» انتهى.

واما المحترم كالتربة المشرفة فلا ريب في وجوب إكرامها وتحريم إهانتها من حيث كونها تربته (عليه‌السلام) بل لا يبعد ـ كما ذكره بعض أصحابنا ـ الحكم بكفر المستعمل لها من تلك الحيثية.

__________________

والأضعاف هو جعل الشي‌ء ضعيفا أو مضاعفا ، ولعل الأول أظهر إلا ان الثاني انسب بكلام المرأة وقوله (عليه‌السلام) : «لهم» دون «عليهم» وذلك لأنهم لما اعتمدوا على النهر ضاعف الله لهم النهر ، وحبس عنهم القطر والزرع ليعلموا ان النهر لا يغنيهم عن الله تعالى وان الاعتماد على الله» انتهى (منه رحمه‌الله).

(١) ج ١ ص ١٢٨.

٤٤

ومما يؤيد هذا المقام ـ ويدخل في سلك هذا النظام وان طال به زمام الكلام ، إلا ان فيه ـ زيادة على ما ذكرنا ـ نشر فضيلة من فضائله (عليه‌السلام) ـ ما رواه جملة من مشايخنا عطر الله مراقدهم عن الشيخ (قدس‌سره) في كتاب الأمالي (١) بسنده فيه عن أبي موسى بن عبد العزيز ، قال : «لقيني يوحنا بن سراقيون النصراني المتطبب في شارع أبي أحمد ، فاستوقفني وقال لي : بحق نبيك ودينك من هذا الذي يزور قبره قوم منكم بناحية قصر ابن هبيرة؟ من هو من أصحاب نبيكم؟ قلت : ليس هو من أصحابه ، هو ابن بنته ، فما دعاك إلى المسألة عنه؟ فقال : له عندي حديث طريف. فقلت : حدثني به. فقال : وجه إلي سابور الكبير الخادم الرشيدي في الليل فصرت اليه ، فقال لي : تعال معي ، فمضى وانا معه حتى دخلنا على موسى بن عيسى الهاشمي ، فوجدناه زائل العقل منكبا على وسادة ، وإذا بين يديه طشت فيه حشو جوفه ، وكان الرشيد استحضره من الكوفة ، فاقبل سابور على خادم كان من خاصة موسى ، فقال له : ويحك ما خبره؟ فقال : أخبرك انه كان من ساعة جالسا وحوله ندماؤه وهو من أصح الناس جسما وأطيبهم نفسا ، إذ جرى ذكر الحسين ابن علي (عليهما‌السلام) قال يوحنا : هذا الذي سألتك عنه. فقال موسى : ان الرافضة لتغلوا فيه حتى انهم ـ فيما عرفت ـ يجعلون تربته دواء يتداوون به. فقال له رجل من بني هاشم كان حاضرا : قد كانت بي علة غليظة فتعالجت لها بكل علاج فما نفعني حتى وصف لي ان آخذ من هذه التربة ، فأخذتها فنفعني الله بها وزال عني ما كنت أجده. قال : فبقي عندك منها شي‌ء؟ قال : نعم. فوجه فجاء بقطعة منها فناولها موسى بن عيسى ، فأخذها موسى فاستدخلها دبره استهزاء بمن يتداوى بها ، واحتقارا وتصغيرا لهذا الرجل الذي هذه تربته ، يعني الحسين (عليه‌السلام) فما هو إلا ان استدخلها دبره حتى صاح : النار النار ، الطشت الطشت ، فجئناه بالطشت فاخرج فيه

__________________

(١) في الصحيفة ٢٠٢.

٤٥

ما ترى ، فانصرف الندماء وصار المجلس مأتما ، فاقبل علي سابور فقال : انظر هل لك فيه حيلة؟ فدعوت بشمعة فنظرت فإذا كبده وطحاله ورئته وفؤاده خرج منه في الطشت ، فنظرت إلى أمر عظيم ، فقلت : لا أجد إلى هذا صنعا إلا أن يكون عيسى الذي كان يحيى الموتى. فقال لي سابور : صدقت ولكن كن ههنا في الدار إلى ان يتبين ما يكون من امره ، فبت عندهم وهو بتلك الحال ما رفع رأسه ، فمات في وقت السحر. قال محمد بن موسى : قال لي موسى بن سريع : كان يوحنا يزور قبر الحسين (عليه‌السلام) وهو على دينه ، ثم أسلم بعد هذا وحسن إسلامه».

واما القرآن العزيز وما كتب عليه شي‌ء من أسمائه تعالى ، فلما مر من وجوب صونهما عمن ليس بطاهر ، فعن ملاقاة النجاسة بطريق اولى. ولظاهر قوله تعالى : «فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ» (١) وقوله : «يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ...» (٢).

وما كتب عليه شي‌ء من علوم الدين فلدخوله في الشعائر المأمور بتعظيمها في قوله تعالى : «وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ ...» (٣) وان لا تحل ، لقوله : «لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ...» (٤) وتردد فيه بعض محققي متأخري المتأخرين وجعل التحريم احتمالا قويا.

و (ثانيهما) ـ انه مع الاستنجاء بما ثبت تحريم الاستنجاء به هل يطهر المحل وان أثم بالاستعمال ، أو لا يطهر؟ قولان ، وإلى الأول ذهب العلامة في المنتهى والمختلف والتذكرة والقواعد ، وإلى الثاني ذهب الشيخ وابن إدريس والمحقق. وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في الروض التفصيل في ذلك بين ما يوجب استعماله الحكم بكفر فاعله ، كاستعمال التربة الحسينية والمكتوب عليه شي‌ء من أسماء الله تعالى ، أو العلم كالحديث والفقه عالما وعامدا ، فلا يتصور الطهارة به حينئذ ، وبين ما لا يوجب إلا مجرد الإثم كالمطعوم والعظم والروث ، أو لا يوجب شيئا كاستعمال التربة وما عليه

__________________

(١) سورة عبس الآية ١٤ و ١٥.

(٢) سورة البينة الآية ٣.

(٣) سورة الحج الآية ٣٢.

(٤) سورة المائدة الآية ٢.

٤٦

شي‌ء من أسماء الله تعالى جهلا ، فيطهر وان اثم في الأول.

احتج الشيخ (رحمه‌الله) بأن النهي يدل على الفساد. وزاد المحقق التمسك باستصحاب المنع حتى يثبت رفعه بدليل شرعي.

ورد الأول بأنه ـ على تقدير تسليمه ـ مخصوص بالعبادات. والثاني بأن الاستصحاب مرتفع بعموم ما دل على الاكتفاء بالإنقاء.

والمسألة محل توقف ، ينشأ من ان الطهارة حكم شرعي يتوقف على استعمال ما جعله الشارع مطهرا ، وهذه الأشياء مما قد نهى الشارع عن الطهارة بها ، وظاهر ذلك عدم وقوع التطهير بها. وحديث الإنقاء (١) لا عموم فيه على وجه يشمل محل النزاع ، لاحتمال بل ظهور ان يكون معنى قول السائل : «هل للاستنجاء حد؟» انه هل يتقدر بعدد مخصوص أو كيفية مخصوصة؟ فقال (عليه‌السلام) : «لا بل حده النقاء» بمعنى انه لا يتقدر بشي‌ء من ذلك ، وانما الحد نقاء المحل من النجاسة بأي عدد اتفق وعلى اي كيفية ، واما بيان المطهر فلا تعرض له فيه بوجه ، فيرجع إلى ما ثبت كونه مطهرا. ولقوله (عليه‌السلام) في رواية ليث المتقدمة (٢) : «لا يصلح بشي‌ء من ذلك». ومن احتمال بل ظهور كون النهي عن استعمال هذه الأشياء إنما هو من حيث الاحترام لا من حيث عدم الصلاحية للتطهير. وحينئذ فلا ينافي حصول التطهير بها وان أثم بالاستعمال.

وتحقيقه ان النهي في غير العبادات ان توجه لشي‌ء من حيث عدم صلاحية المنهي عنه لترتب الحكم عليه ، كالنهي عن بيع الخمر ـ مثلا ـ ونجس العين ، والنهي عن نكاح المحارم ونحو ذلك ، كان موجبا للفساد والبطلان ، وان توجه من حيث أمر خارج عن ترتب الحكم على المنهي عنه مفارق من زمان مخصوص أو حال مخصوصة

__________________

(١) وهو حسن ابن المغيرة المتقدم في الصحيفة ١٨.

(٢) في الصحيفة ٤٣.

٤٧

أو نحو ذلك ، كالنهي عن البيع وقت النداء ، فلا وجه للإبطال بل غاية النهي التأثيم خاصة. ومن الظاهر ان توجه النهي هنا إنما هو من جهة الاحترام الذي هو أمر خارج وصفة مفارقة للاستنجاء بتلك الأشياء ، كما يأتي مثله في الاستنجاء بل إزالة النجاسة مطلقا بالماء المغصوب ، فإنه لا ريب في طهارة المحل به وان اثم من حيث التصرف ، وما ذاك إلا من حيث كون صفة الغصب أمرا خارجا ، بخلاف الاستنجاء بالنجس وإزالة النجاسة بالماء النجس ، فإنه من حيث عدم صلاحية تلك الأشياء من حيث هي للإزالة فلا يطهر المحل بها. وهذا الوجه لا يخلو من قوة لو كان الوارد في النص مجرد النهي. لكن قوله في رواية ليث (١) : «لا يصلح بشي‌ء من ذلك». ظاهر في عدم الاجزاء. والرواية وان كانت ضعيفة السند إلا انها مجبورة بعمل الأصحاب ، والأمران اصطلاحيان ، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر. واما عندنا فالأمر أهون من ذلك.

(فرع) لا ريب ان تحريم الاستنجاء بتلك الأشياء المحترمة إنما هو من حيث إهانتها بالإيقاع في النجاسة ، وحينئذ فيحرم تنجيسها مطلقا ، ومثل ذلك القول في الخبز لحديث أهل الثرثار ، فيحرم تنجيسه أيضا بغير الاستنجاء. ولا يبعد انسحاب ذلك في باقي المطعومات ، لاستلزام ذلك كفر النعمة وعدم شكرها ، ولفحوى أحاديث استحباب أكل المتساقط من الخوان ، واخبار استحباب لعق الأصابع بعد الأكل. لكن يبقى الكلام في مثل العظم والروث على القول بتحريم الاستنجاء بهما ، هل يحرم تنجيسهما أم لا؟ لم أقف في ذلك لأحد من أصحابنا في الكتب الاستدلالية على كلام إلا لشيخنا البهائي (قدس‌سره) في أجوبة مسائل الشيخ صالح الجزائري ، حيث قال ـ بعد قول السائل : مسألة ـ الفقهاء (رضوان الله عليهم) قالوا : لا تستجمر بالعظم والروث ، فهل يحرم أصابتهما بغير استجمار أم لا؟ ـ ما صورته : «الجواب ـ

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٤٣.

٤٨

والثقة بالله وحده ـ النهي عن الاستجمار بهما معلل بكونهما طعام الجن (١) وفي خبر آخر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) التعليل بأنهما لا يطهران (٢) وقد يتراءى من التعليل الأول تحريم تنجيسهما ولو بغير الاستنجاء ، لكن احتمال كون تحريم الاستنجاء بهما لتحقيرهما التام ـ بإمرارهما على المخرج مع التنجيس لا لأحدهما فقط ـ يعطي جواز التنجيس بغير الاستنجاء ، سيما مع انضمام أصالة براءة الذمة من المؤاخذة عليه. وأيضا فلعل النهي عن استعمالهما إنما هو لمجرد كون طعام الجن غير مطهر لا للاحترام كما يظن ، وإلى هذا يشير التعليل الثاني ، وهو يعطي جواز التنجيس بغير الاستنجاء وان النهي عن استعمالهما لعدم إفادتهما التطهير ، إلى ان قال : وقد يستفاد عدم كونهما مطهرين من رواية ليث المرادي عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) الناطقة بعدم صلاحيتهما للاستنجاء وكيف كان فالأظهر عدم التوقف في جواز تنجيسهما بغير الاستنجاء كما ان الأظهر أن الاستنجاء بهما لا يفيد طهارة المحل كما هو مذهب السيد والشيخ والمحقق وان قال مشايخنا المتأخرون بطهارة المحل بهما. ولتحقيق الكلام محل آخر» انتهى كلامه (قدس‌سره).

وأقول : ما نقله (قدس‌سره) من الخبر عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأنهما لا يطهران لم أقف عليه بعد التتبع للاخبار. نعم نقله العلامة في التذكرة ، ولا يبعد ان يكون من طرق المخالفين (٤) كما نبه عليه بعض متأخري المتأخرين.

__________________

(١) في رواية ليث المرادي ومرسلة الفقيه المتقدمتين في الصحيفة ٤٣.

(٢ و ٤) رواه الدارقطني عن أبي هريرة عنه (ص) كما في منتقى الاخبار لابن تيمية على هامش نيل الأوطار ج ١ ص ٨٥ ، ولم يرد هذا التعليل بن طرقنا.

(٣) المتقدمة في الصحيفة ٤٣.

٤٩

المورد الثالث

في المستحبات

و (منها) ـ ستر البدن كملا في الغائط بان يبعد المذهب أو يدخل بيتا أو يلج حفيرة ، تأسيا بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإنه لم ير على غائط قط ، وقال (عليه‌السلام): «من اتى الغائط فليستتر». روى ذلك شيخنا الشهيد الثاني في شرح النفلية (١)وروى البرقي في المحاسن (٢) عن حماد بن عثمان أو ابن عيسى عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال لقمان لابنه : إذا سافرت مع قوم ، إلى ان قال : وإذا أردت قضاء حاجتك فابعد المذهب في الأرض».

و (منها) ـ ارتياد موضع مناسب للبول لمزيد الاحتياط في التوقي عنه بالجلوس في مكان مرتفع أو ذي تراب كثير ، فإنه من فقه الرجل ، ففي رواية عبد الله ابن مسكان عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أشد الناس توقيا للبول ، حتى انه كان إذا أراد البول عمد إلى مكان مرتفع من الأرض أو مكان يكون فيه التراب الكثير كراهية ان ينتضح عليه». وفي رواية السكوني عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : من فقه الرجل ان يرتاد موضعا لبوله». ومثل ذلك في رواية الجعفري عن الرضا (عليه‌السلام) (٥).

و (منها) ـ التسمية والدعاء عند دخول المخرج والخروج منه بالمأثور ، والدعاء حال النظر إلى ما يخرج منه ، وحال الغسل.

__________________

(١) ص ١٧ وفي الوسائل في الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الخلوة. وقوله : «ذلك» إشارة إلى الفعل والقول.

(٢) في الصحيفة ٣٧٥ وفي الوسائل في الباب ـ ٤ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٣ و ٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

٥٠

ويدل على ذلك رواية معاوية بن عمار (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : إذا دخلت المخرج فقل : بسم الله وبالله ، اللهم إني أعوذ بك من الخبيث المخبث الرجس النجس الشيطان الرجيم. فإذا خرجت فقل : بسم الله والحمد لله الذي عافاني من الخبيث المخبث وأماط عني الأذى. وإذا توضأت فقل : اشهد ان لا إله إلا الله ، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ، والحمد لله رب العالمين».

ورواية أبي بصير عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٢) قال : «إذا دخلت الغائط فقل : أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم. وإذا فرغت فقل : الحمد لله الذي عافاني من البلاء وأماط عني الأذى».

وصحيحة القداح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) عن آبائه عن علي (عليهم‌السلام) (٣) «انه كان إذا خرج من الخلاء قال : الحمد لله الذي رزقني لذته وأبقى قوته في جسدي واخرج عني أذاه ، يا لها نعمة : ثلاثا».

وما رواه في الفقيه مرسلا (٤) قال : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذا أراد دخول المتوضأ قال : اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم ، اللهم أمط عني الأذى وأعذني من الشيطان الرجيم. وإذا استوى جالسا للوضوء قال : اللهم أذهب عني القذى والأذى واجعلني من المتطهرين. وإذا تزحر قال : اللهم كما أطعمتنيه طيبا في عافية فأخرجه مني خبيثا في عافية. وكان علي (عليه‌السلام) يقول : ما من عبد إلا وبه ملك موكل يلوي عنقه حتى ينظر

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٤) ج ١ ص ١٦ وفي الوسائل في الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ، ما عدا قوله : وكان على (عليه‌السلام) يقول ، إلى قوله : وجنبني الحرام ، فإنه رواه في الباب ـ ١٨ ـ من تلك الأبواب.

٥١

إلى حدثه ، ثم يقول له الملك : يا ابن آدم هذا رزقك فانظر من أين أخذته وإلى ما صار فينبغي للعبد عند ذلك ان يقول : اللهم ارزقني الحلال وجنبني الحرام ، إلى ان قال : وكان (عليه‌السلام) إذا دخل الخلاء يقول : الحمد لله الحافظ المؤدي. فإذا خرج مسح بطنه وقال : الحمد لله الذي اخرج عني أذاه وأبقى في قوته ، فيا لها من نعمة لا يقدر القادرون قدرها».

وفي رواية عبد الرحمن بن كثير في حكاية وضوء أمير المؤمنين (عليه‌السلام) (١) قال : «ثم استنجى فقال : اللهم حصن فرجي وأعفه واستر عورتي وحرمني على النار».

و (منها) ـ التقنع ، لما في مرسلة البرقي عن ابن أسباط أو رجل عنه عمن رواه عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) «انه كان إذا دخل الكنيف يقنع رأسه ويقول سرا في نفسه : بسم الله وبالله. الحديث». الى آخر ما تقدم في رواية معاوية بن عمار.

وروى في الفقيه مرسلا (٣) قال : «وكان الصادق (عليه‌السلام) إذا دخل الخلاء يقنع رأسه ويقول في نفسه : بسم الله وبالله ولا إله إلا الله ، رب اخرج عنى الأذى سرحا بغير حساب ، واجعلني لك من الشاكرين فيما تصرفه عني من الأذى والغم الذي لو حبسته عني هلكت ، لك الحمد ، اعصمني من شر ما في هذه البقعة وأخرجني منها سالما ، وحل بيني وبين طاعة الشيطان الرجيم».

وفي كتاب مجالس الشيخ (٤) وفي كتاب المكارم (٥) في وصية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لأبي ذر (رضي‌الله‌عنه) قال : «يا أبا ذر استحي من الله ، فاني ـ والذي

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٣) ج ١ ص ١٧ وفي الوسائل في الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٤) في الصحيفة ٣٣٨ وفي الوسائل في الباب ـ ٣ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٥) في الصحيفة ٢٦٠.

٥٢

نفسي بيده ـ لا ظل حين اذهب إلى الغائط متقنعا بثوبي استحياء من الملكين الذين معي».

و (منها) ـ تغطية الرأس ، ولم أقف فيه على خصوص خبر سوي اخبار التقنع ، ومن الظاهر مغايرته له. نعم قال الشيخ المفيد : «وليغط رأسه ان كان مكشوفا ليأمن بذلك من عبث الشيطان ومن وصول الرائحة الخبيثة إلى دماغه ، وهو سنة من سنن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وفيه إظهار الحياء من الله لكثرة نعمه على العبد وقلة الشكر منه» وفيه دلالة على ورود النص به ، وليس ببعيد ان المراد به التقنع ، لمناسبة التعليل الأخير له ، دون مجرد التغطية. وقال الصدوق في الفقيه (١) : «ينبغي للرجل إذا دخل الخلاء ان يغطى رأسه إقرارا بأنه غير مبرئ نفسه من العيوب» انتهى وفيه أيضا ما احتملناه في سابقه.

و (منها) ـ تقديم الرجل اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج عكس المسجد. ولم أقف فيه على نص لكن الصدوق ذكره في الفقيه ، والظاهر ان مثله من أرباب النصوص لا يذكر ذلك إلا عن نص بلغه فيه. وربما ظهر من بعض الأصحاب اختصاص الحكم بالبنيان ، نظرا إلى ان مسمى الدخول والخروج لا يصدق في غيره لكن صرح العلامة بأن الأقرب عدم الاختصاص ، فيقدم اليسرى إذا بلغ موضع جلوسه في الصحراء وإذا فرغ قدم اليمنى. ووافقه الشهيد الثاني ، فقال : «ان الأصح عدم الاختصاص بالبنيان» قال في المعالم بعد نقل ذلك عنهما : «والتحقيق ان الترجيح هنا موقوف على اعتبار المأخذ ، فإن كان هو التوجيه الذي حكيناه فلا بأس بعدم الاختصاص» انتهى. وهو كذلك.

و (منها) ـ مسح البطن بعد الخروج ، كما تقدمت الدلالة عليه في كلام

__________________

(١) ج ١ ص ١٧.

٥٣

الفقيه نقلا عن الأمير (صلوات الله عليه) (١).

و (منها) ـ التسمية عند التكشف للبول ، لما رواه في الفقيه (٢) مرسلا عن الباقر (عليه‌السلام) وفي ثواب الأعمال (٣) مسندا عن الصادق عن آبائه عن علي (عليهم‌السلام) قال : «إذا انكشف أحدكم لبول أو لغير ذلك فليقل : بسم الله ، فان الشيطان يغض بصره عنه حتى يفرغ».

و (منها) ـ ان لا يقطع في الاستجمار [إلا على وتر] بالأحجار وشبهها وان نقي المحل إلا على وتر ، لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في رواية عيسى بن عبد الله الهاشمي المتقدمة : «إذا استنجى أحدكم فليوتر بها وترا إذا لم يكن الماء» (٤).

قال في المعتبر : «والرواية من المشاهير» انتهى.

و (منها) ـ الاستبراء على المشهور ، خلافا لظاهر الشيخ في الاستبصار ، مستندا إلى صحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) «في الرجل يبول؟ قال ينتره ثلاثا ، ثم ان سال حتى يبلغ الساق فلا يبالي». وحسنة محمد بن مسلم (٦) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) : رجل بال ولم يكن معه ماء؟ قال : يعصر أصل ذكره إلى طرفه ثلاث عصرات وينتر طرفه ، فان خرج بعد ذلك شي‌ء فليس من البول ولكنه من الحبائل».

وأجيب بمنع الدلالة على الوجوب ، لعدم ظهور الجملة الخبرية فيه.

__________________

(١) في الصحيفة ٥٢.

(٢) ج ١ ص ١٨ وفي الوسائل في الباب ـ ٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٣) في الصحيفة ٩.

(٤) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٦) المروية في الوسائل في الباب ـ ١١ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

٥٤

وفيه نظر ، فان المستفاد من الآيات والأخبار التي قدمناها في المقدمة السابعة (١) انه لا خصوصية في ذلك بصيغة (افعل) بل كل ما دل على الطلب وارادة الفعل ـ سواء كان بالصيغة المشار إليها أم لا ـ فإنه للوجوب إلا مع قيام القرينة على خلافه.

وقال شيخنا البهائي (رحمه‌الله) في كتاب الحبل المتين بعد نقل صحيحة حفص : «وقوله (عليه‌السلام) في الحديث التاسع : ينتره ثلاثا. مما استدل به الشيخ في الاستبصار على وجوب الاستبراء ، والذي يظهر من آخر الحديث ان غرضه (عليه‌السلام) عدم انتقاض الوضوء بما يخرج من البلل بعد الاستبراء لا بيان كون الاستبراء واجبا» انتهى. لكنه (رحمه‌الله) كتب ـ في حاشية الكتاب على قوله : مما استدل به الشيخ ـ ما صورته : «وهو يتوقف على كون المضارع المطلوب به الفعل كالأمر في الوجوب ، والظاهر انه كذلك» انتهى.

وظاهر المحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم المناقشة في اسناد الوجوب إلى الشيخ مستندا إلى استعمال الشيخ لفظ الوجوب ـ في غير موضع ـ فيما هو أعم من الواجب والمندوب ، ثم قال : «وكيف كان فالوجوب لا وجه له».

وأورد عليه ان هذا الاستعمال غير متعارف ، ولعله كان في تلك المواضع مع القرينة ، ولا قرينة هنا.

ومما يدل بظاهره على عدم الوجوب صحيحة جميل عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «إذا انقطعت درة البول فصب الماء».

قيل : وأقله اباحة تعقيب الصب للانقطاع بغير مهلة.

وفيه ان افادة التعقيب بغير مهلة إنما هو للفاء العاطفة ، واما الفاء الجزائية فالأكثر على عدم إفادتها ذلك ، لصحة قولنا : ان يسلم زيد فهو يدخل الجنة.

__________________

(١) في الصحيفة ١١٢ من الجزء الأول.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

٥٥

وحينئذ فلا دلالة في الرواية على التعقيب بغير مهلة.

ورواية داود الصرمي (١) قال : «رأيت أبا الحسن الثالث (عليه‌السلام) يبول غير مرة ويتناول كوزا صغيرا ويصب عليه الماء من ساعته».

ويمكن ان يقال : انه لا دلالة فيه على الفورية على وجه ينافي الاستبراء ، إذ لا مدة له ينافيها ، بل الظاهر ان مراد الراوي هو الاخبار عنه (عليه‌السلام) بأنه كان يبادر الى الاستنجاء من البول من ساعته ، ولا يتركه إلى وقت آخر كسائر الناس في تلك الأوقات ، فإنهم كانوا ينشفون المخرج بتراب ونحوه إلى وقت الصلاة ، كما يستفاد من الأسئلة المتكاثرة في الأخبار عن نسيان الاستنجاء ، كما تقدم شطر منها. نعم يظهر ذلك من رواية روح بن عبد الرحيم (٢) قال : «بال أبو عبد الله (عليه‌السلام) وانا قائم على رأسه ومعي اداوة أو قال كوز ، فلما انقطع شخب البول قال بيده هكذا الي فناولته الماء فتوضأ مكانه».

ثم انه قد اختلفت عبارات القوم في بيان كيفيته ، فقال الشيخ المفيد في المقنعة «انه يمسح بإصبعه الوسطى تحت أنثييه إلى أصل القضيب مرتين أو ثلاثا ، ثم يضع مسبحته تحت القضيب وإبهامه فوقه ويمرهما عليه باعتماد قوي من أصله إلى رأس الحشفة مرتين أو ثلاثا ، ليخرج ما فيه من بقية البول».

وقال الشيخ في النهاية : «انه يمسح بإصبعه من عند مخرج النجو إلى أصل القضيب ثلاث مرات ، ثم يمر إصبعه على القضيب وينتره ثلاث مرات».

وقال في المبسوط ـ على ما نقله عنه في المعتبر ـ : «انه يمسح من عند المقعدة إلى تحت الأنثيين ثلاثا ، ويمسح القضيب وينتره ثلاثا».

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

٥٦

وعن السيد المرتضى «انه ينتر الذكر من أصله إلى طرفه ثلاث مرات» وهو المنقول عن ابن الجنيد.

وقال الصدوق في الفقيه (١) : «ومن أراد الاستنجاء فليمسح بإصبعه من عند المقعدة إلى الأنثيين ثلاث مرات ، ثم ينتر ذكره ثلاث مرات» وهو المنقول عن أبيه في الرسالة.

واقتصر المحقق في المعتبر على نقل قولي الشيخين والسيد ، وقال : «ان كلام الشيخ أبلغ في الاستظهار» وقال في الشرائع : «وكيفيته ان يمسح من المقعدة إلى أصل القضيب ثلاثا ، ومنه إلى رأس الحشفة ثلاثا ، وينتره ثلاثا» ونسب السيد في المدارك هذه الكيفية إلى كلام الشيخ في المبسوط ، وفي فهمها منه تأمل.

وقال العلامة في المنتهى : «انه يمسح بيده من عند المقعدة إلى أصل القضيب ثلاثا ثم يمسح القضيب ثلاثا ، ثم ينتره ثلاثا» ومثله في التذكرة إلا انه زاد فيه التنحنح.

وقال الشهيد في الدروس «يمسح من المقعدة إلى أصل القضيب ثم إلى رأسه ثم عصر الحشفة ثلاثا والتنحنح ثلاثا».

والذي وقعت عليه من الأخبار المتعلقة بذلك ـ زيادة على ما قدمنا نقله ـ رواية عبد الملك بن عمرو عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) «في الرجل يبول ثم يستنجي ثم يجد بعد ذلك بللا؟ قال : إذا بال فخرط ما بين المقعدة والأنثيين ثلاث مرات وغمز ما بينهما ثم استنجى ، فان سال حتى يبلغ السوق فلا يبالي».

وأنت خبير بأن صحيحة حفص (٣) إنما تنطبق على مذهب السيد وابن الجنيد

__________________

(١) ج ١ ص ٢١.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٣) المتقدمة في الصحيفة ٥٤.

٥٧

خاصة ، واما حسنة محمد بن مسلم (١) فليس في شي‌ء من الأقوال ما ينطبق عليها ، لأنها قد تضمنت العصر من أصل الذكر إلى طرفه ثلاثا ثم النتر ولو مرة ، وليس في هذه الأقوال ما يطابق ذلك. وكذلك هذه الرواية الثالثة. ولعل من قال بالمسحات الست مع نتر طرف الذكر استند إلى العمل بمضمون الأخبار الثلاثة جميعا ، لكن تثليث النتر ـ كما ذكروا ـ ليس في شي‌ء منها.

واما التنحنح الذي ذكره العلامة والشهيد فلم نقف أيضا فيه على خبر ، بل ولا في كلام القدماء على اثر ، والعجب من اضطراب عبائرهم في ذلك مع خلو المأخذ مما هنالك.

قيل : وكيف كان فالزيادات التي ذكروها لا حرج فيها ، لما فيها من مزيد الاستظهار في إخراج ما ربما يبقى في المخرج وفيه إشكال ، إذ استعمال ذلك باعتقاد انه سنة شرعية لا يخلو من تشريع. والاستناد إلى التساهل في أدلة السنن تساهل خارج عن السنن.

تنبيهات

(الأول) ـ الظاهر من كلام أكثر الأصحاب اختصاص الاستبراء بالرجل بل صرح بذلك جملة منهم ، وقيل بثبوته للأنثى وانها تستبرئ عرضا ، واختاره العلامة في المنتهى ، وقال : «الرجل والمرأة سواء» ومورد الأخبار المتقدمة ـ كما عرفت ـ إنما هو الرجل ، فالقول بالتعدية مع عدم الدليل مشكل. ونقل عن ابن الجنيد في مختصره انه قال : «إذا بالت المرأة تنحنحت بعد بولها» انتهى.

(الثاني) ـ قد صرح غير واحد من المتأخرين ومتأخريهم بأنه لا يعرف خلافا بين علمائنا في ان البلل المتجدد بعد الاستبراء لا حكم له. وان الخارج مع عدم

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٥٤.

٥٨

الاستبراء بحكم البول في وجوب غسله ونقضه للطهارة ، ونقل عن ابن إدريس دعوى الإجماع على كل من الحكمين.

ويدل على ما ذكروه من الحكم الأول الأخبار الثلاثة المتقدمة (١).

واما الحكم الثاني فاستدلوا عليه بمفهومات الأخبار المتقدمة ، فإن تقييد عدم المبالاة ونفي كونه من البول بل انه من الحبائل بالاستبراء يدل على حصول المبالاة وكونه من البول مع عدمه.

وقد يعارض بإطلاق ما دل من الاخبار على عدم النقض بالخارج بعد البول مطلقا : كصحيحة عبد الله بن أبي يعفور (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل بال ثم توضأ وقام إلى الصلاة فوجد بللا. قال : لا يتوضأ ، إنما ذلك من الحبائل».

وصحيحة حريز (٣) قال : «حدثني زيد الشحام وزرارة ومحمد بن مسلم عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) انه قال : ان سال من ذكرك شي‌ء من مذي أو ودي فلا تغسله ولا تقطع له الصلاة ولا تنقض له الوضوء ، إنما ذلك بمنزلة النخامة ، وكل شي‌ء خرج منك بعد الوضوء فإنه من الحبائل».

والظاهر تقييد إطلاق هذين الخبرين بتلك الأخبار جمعا ، ولتصريحهما بكون الخارج بعد الوضوء مطلقا من الحبائل مع تقييد حسنة محمد بن مسلم (٤) الحكم بكونه من الحبائل بكونه بعد الاستبراء ، والمقيد يحكم على المطلق. ولدلالة جملة من الأخبار

__________________

(١) وهي صحيحة حفص وحسنة محمد بن مسلم ورواية عبد الملك المتقدمات في الصحيفة ٥٤ و ٥٧.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٤) المتقدمة في الصحيفة ٥٤.

٥٩

الواردة في الجنب بالإنزال إذا بال ولم يستبرئ على الأمر بالوضوء :

كقوله (عليه‌السلام) في صحيحة محمد بن مسلم (١) : «وان كان بال ثم اغتسل ثم وجد بللا فليس ينقض غسله ولكن عليه الوضوء ...».

وقوله (عليه‌السلام) في موثقة سماعة (٢) : «وان كان بال قبل ان يغتسل فلا يعيد غسله ولكن يتوضأ ويستنجي».

ومثلهما رواية معاوية بن ميسرة (٣) ومقتضى الجمع حملها على عدم الاستبراء.

ويدل عليه أيضا قوله (عليه‌السلام) ـ في صحيحة ابن سنان (٤) الآتية ان شاء الله في المبحث الثالث من الفصل الثاني من هذا المطلب ـ : «والودي فمنه الوضوء ، لانه يخرج من دريرة البول». بحمله على الخروج قبل الاستبراء ، كما هو ظاهر الخبر ، وللإجماع ـ نصا وفتوى ـ على عدم سببية الودي للوضوء كما يأتي بيانه ان شاء الله تعالى.

ويظهر من بعض فضلاء متأخري المتأخرين الميل ـ لو لا الإجماع المدعى في المقام ـ الى العمل بإطلاق الخبرين المذكورين (٥) ، وحمل ما عارضهما من مفهوم روايات الاستبراء على الاستحباب ، استضعافا لدلالة المفهوم وعدم ظهورها في الوجوب ، وهكذا صحيحة ابن سنان أيضا حملها على الاستحباب. ولا يخفى وهنه.

والتحقيق انه قد تعارض إطلاق صحيحتي عبد الله بن أبي يعفور وحريز (٦) بعدم الوضوء بذلك البلل أعم من أن يكون مع الاستبراء وعدمه ، وإطلاق صحيحة ابن مسلم وروايتي سماعة ومعاوية بوجوب الوضوء بذلك البلل مطلقا أيضا.

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء. وفي الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الجنابة.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٢ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٥) في الصحيفة ٥٩.

(٦) في الصحيفة ٥٩.

٦٠