الحدائق الناضرة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة ـ نجف
المطبعة: مطبعة النّجف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

ليس إلا عبارة عن عدم العلم بملاقاة النجاسة لا العلم بالعدم ، فكذلك أيضا يقين الطهارة للصلاة من وضوء وغسل وتيمم ليس إلا عبارة عن فعلها مع عدم العلم بناقض لها لا مع العلم بالعدم ، وحينئذ فالمراد بهذا اليقين المذكور في الأخبار ما هو أعم من اليقين الواقعي أعني العلم بالعدم والظن باصطلاحهم ، وليس له فرد يقابله إلا الشك خاصة الذي هو عبارة عن تجويز المخالفة واحتمالها ، والحمل على الشك الذي هو عبارة عن المعنى المشهور بينهم اصطلاح متأخر مخالف لكلام أهل اللغة ، حيث نص في القاموس والصحاح على ان الشك خلاف اليقين ، مع انهم قد قرروا في غير موضع وجوب حمل الألفاظ الواردة في كلام حافظ الشريعة مع عدم الحقيقة الشرعية أو العرفية الخاصة على المعنى اللغوي ، وحينئذ فالشك في الحدث مع تيقن الطهارة ـ مثلا ـ ليس إلا عبارة عن تيقن فعل الطهارة مع عدم العلم بالناقض لها ثم يحصل له بسبب عروض بعض الأشياء شك في انتقاض طهارته يعني احتمال وتجويز انتقاضها ، أعم من ان يكون ذلك الاحتمال والتجويز قويا كما ربما عبر عنه في الأخبار بالظن أو ضعيفا يعبر عنه بالوهم أو الشك ، واما لو توضأ صبحا ثم انه شك في آخر النهار بسبب طول المدة في انه هل أحدث أم لا وان كان من عادته في سائر الأيام الحدث في أثناء النهار وعدم الوضوء فهذا لا يخرج عما ذكرنا أيضا ، فالعمل على هذا الشك خيال نفساني بل وسواس شيطاني وان قوى حتى يبلغ مرتبة الظن ، بل هذا بمقتضى ما ذكرنا من الأخبار متطهر يقينا يعمل على يقين طهارته وبذلك يظهر لك ما في كلام هؤلاء الفضلاء (نور الله تعالى تربتهم وأعلى رتبتهم) ولا سيما كلام شيخنا البهائي. هذا هو التحقيق في المقام والله سبحانه الهادي إلى سواء الطريق في جملة الأحكام.

(المسألة الخامسة عشرة) ـ لو تيقن الطهارة والحدث معا وشك في المتأخر فقد أطلق الأكثر سيما المتقدمين وجوب الوضوء ، لعموم الأوامر الدالة على وجوب الوضوء عند إرادة الصلاة من الكتاب والسنة ، خرج منه متيقن الطهارة ، ويدل عليه

٤٠١

خصوص ما ذكره في كتاب فقه الرضا (١) قال (عليه‌السلام): «وان كنت على يقين من الوضوء والحدث ولا تدري أيهما سبق فتوضأ». وبهذه العبارة صرح في الفقيه من غير اسناد إلى امام كما هي عادته غالبا من كون ما ينقله فيه عاريا عن النسبة مأخوذا من هذا الكتاب كما أشرنا إليه آنفا ، ولانه من المعلوم المقطوع إيجاب الشارع الدخول في الصلاة بطهارة يقينية والمنع من الدخول بالحدث ، وهذان اليقينان هنا قد تصادما ، ولم يعلم من الشارع ترجيح لأحدهما ، فالعمل على أحدهما ترجيح من غير مرجح ، فيجب إلغاؤهما معا والرجوع إلى حكم الأصل من البقاء على الحدث الذي لا ينفك الإنسان عنه في سائر أحواله. ومع المناقشة فيما ذكرنا لا أقل ان يكون ذلك من قبيل الشبهات المأمور فيها بالاحتياط كما استفاض عن أهل العصمة (سلام الله عليهم) ولا ريب ان الاحتياط في الطهارة (لا يقال) : ان الاحتياط ليس بدليل شرعي كما يتداوله جملة من المتأخرين ومتأخريهم (لأنا نقول) : قد قدمنا لك في المقدمة الرابعة ما يدل على كونه في مثل هذا المقام دليلا شرعيا.

وفي المسألة قولان آخران : (أحدهما) ـ لثاني المحققين صريحا وأولهما ظاهرا ، وهو انه ينظر إلى حاله قبل الطهارة والحدث المفروضين فان جهلها تطهر وان علمها أخذ بضد ما علمه ، واحتج عليه في المعتبر بأنه ان كان سابقا محدثا فقد تيقن رفع ذلك الحدث بالطهارة المتيقنة مع الحدث الآخر ، لأنها ان كانت بعد الحدثين أو بينهما فقد ارتفعت الأحداث السابقة بها ، وانتقاضها بالحدث الآخر غير معلوم للشك في تأخره ، فيكون متيقنا للطهارة شاكا في الحدث ، وان كان متطهرا فقد تيقن انه نقض تلك الطهارة بالحدث المتيقن مع الطهارة ، ورفعه بالطهارة الأخرى غير معلوم لجواز تقدمها عليه تجديدا للطهارة السابقة أو مع الذهول عنها ، فيكون متيقنا للحدث شاكا في الطهارة. وضعفه ظاهر ، لأن الأحداث السابقة في الصورة الاولى وان ارتفعت بالطهارة المجامعة

__________________

(١) في الصحيفة ٢.

٤٠٢

للحدث الأخير ، وكذلك الطهارة السابقة في الصورة الثانية وان ارتفعت بالحدث المجامع لتلك الطهارة الأخيرة ، لكن يبقى الشك في رفع ذلك الحدث الأخير بالطهارة المجامعة له ونقضها له من حيث الشك في تقدم أيهما على الآخر ، وغاية ما يفيده كلامه رفع الحالة السابقة من طهارة أو حدث واما محل الاشكال فهو باق على الاشتباه والاحتمال.

و (ثانيهما) ـ ما نقل عن المختلف ، حيث قال ـ بعد ان نقل عن الأصحاب إطلاق القول بإعادة الطهارة في المسألة ـ ما صورته : «ونحن فصلنا ذلك في أكثر كتبنا وقلنا ان كان في الزمن السابق على زمان تصادم الاحتمالين محدثا وجب عليه الطهارة ، وان كان متطهرا لم يجب ، ومثاله انه إذا تيقن عند الزوال انه نقض طهارة وتوضأ عن حدث وشك في السابق فإنه يستصحب الحال السابق على الزوال ، فان كان في تلك الحال متطهرا فهو على طهارته ، لانه تيقن انه نقض تلك الطهارة وتوضأ ولا يمكن ان يتوضأ عن حدث مع بقاء تلك الطهارة ، ونقض الطهارة الثانية مشكوك فيه فلا يزول عن اليقين بالشك ، وان كان قبل الزوال محدثا فهو الآن محدث ، لانه تيقن انه انتقل عنه إلى طهارة ثم نقضها والطهارة بعد نقضها مشكوك فيها» انتهى. وفيه ان ما ذكره يشعر بان طهارته لا تقع إلا رافعة وحدثه لا يكون إلا ناقضا ، والظاهر ان هذا بعينه ما ذكره في القواعد من قوله : «ولو تيقنهما متحدين متعاقبين وشك في المتأخر فان لم يعلم حاله قبل زمانهما تطهر وإلا استصحب» ومراده بالاتحاد تساوي اعداد الطهارات والأحداث وبالتعاقب وقوع الطهارة بعد الحدث وبالعكس ، ومثله في التذكرة أيضا ، وبذلك تخرج المسألة عن باب الشك إلا ان يحمل على انه باعتبار أول الأمر وفي عبارته في المختلف مناقشات رأينا الإغماض عن التطويل بالتعرض لها أولى.

(المسألة السادسة عشرة) ـ من تيقن بعد الصلاة بطهارتين ترك عضو من إحداهما أو وقوع حدث بعد إحداهما ففيه صور :

(الاولى) ـ من توضأ ثم أحدث وضوء آخر ثم صلى ثم ذكر الإخلال بعضو

٤٠٣

من احدى الطهارتين ، فهذان الوضوء ان اما ان يكونا معا واجبين أو مندوبين أو الأول واجبا والثاني مندوبا أو بالعكس ، وعلى التقادير الأربعة اما ان تعتبر القربة خاصة أو يضم إليها الوجه فقط أو يضم إلى ذلك أحد الأمرين من الرفع والاستباحة ، وحيث انه لا دليل عندنا على زيادة شي‌ء وراء القربة فالصلاة المذكورة صحيحة ، لأن الإخلال ان كان من الأولى فالثانية صحيحة عندنا ، وان كان من الثانية فالأولى صحيحة اتفاقا ، فلا حاجة إلى إعادتها ولا إعادة الطهارة ، واما على تقدير ضم شي‌ء آخر إلى القربة ففيه تفاصيل يلزم في بعضها اعادة كل من الوضوء والصلاة ، ولا ثمرة مهمة عندنا في تطويل الكلام بالبحث عن تلك الشقوق ، مع ضرورة صرف الوقت فيما هو أهم من ذلك ، ومن أحب الوقوف عليها فليرجع إلى مطولات أصحابنا (شكر الله تعالى سعيهم) وأيضا فإنا قررنا في هذا الكتاب ان لا نطول البحث إلا في موضع أغفلوا تحقيقه ، الا ان الشهيد في البيان نقل عن السيد جمال الدين ابن طاوس (قدس‌سره) عدم الالتفات إلى هذا الشك مطلقا لاندراجه تحت الشك في الوضوء بعد الفراغ ، واستوجهه أيضا ، وقواه العلامة في المنتهى ، قال في المدارك بعد نقل ذلك تبعا لما لخصه في الذكرى : «ويمكن الفرق بين الصورتين بان اليقين هنا حاصل بالترك وانما حصل الشك في موضعه بخلاف الشك بعد الفراغ ، فإنه لا يقين فيه بوجه ، والمتبادر من الأخبار المتضمنة لعدم الالتفات إلى الشك في الوضوء بعد الفراغ الوضوء المتحد الذي حصل الشك فيه بعد الفراغ منه» انتهى. وفيه ان يقين حصول الترك انما حصل بالنظر إلى الوضوءين معا اما بالنظر إلى كل واحد على حدة فإنه غير متيقن الترك بل مشكوكة ، لأصالة الصحة واحتمال كون الترك من الآخر ، نظير ما قرره (قدس‌سره) في مسألة الإناءين المتيقن وقوع النجاسة في أحدهما من ان كل واحد متيقن الطهارة مشكوك النجاسة.

(الصورة الثانية) ـ وهي الأولى بعينها ولكنه صلى بالوضوء الأول فرضا وبالثاني فرضا آخر من غير تخلل حدث ، وقد صرح الشيخ في المبسوط بوجوب إعادة

٤٠٤

الصلاة المتوسطة بين الطهارتين لاحتمال ان يكون الخلل واقعا من الطهارة الاولى ، واما الفريضة الأخيرة فصحيحة. وهذا واضح مع الحكم بصحة الوضوء الثاني كما اخترناه ، فإن الأخيرة حينئذ واقعة بوضوء صحيح اما الأول أو الثاني ، واما على تقدير العدم فيعيدهما معا ، وبه صرح ابن إدريس بناء على ان الوضوء الثاني عندهم لم يحصل به رفع ولا استباحة ، واختاره في المختلف لاشتراطه ذلك في النية أيضا. ويأتي على ما ذهب اليه جمال الدين والعلامة في المنتهى واختاره بعض محققي متأخري المتأخرين أيضا عدم إعادة شي‌ء من الصلاتين. ثم انه يأتي على القول الأول والثالث عدم اعادة الوضوء لحصول طهارة صحيحة عنده على الأول وصحتهما لعدم تأثير الشك في شي‌ء منهما على الثالث ، وعلى الثاني تجب الإعادة لعدم صحة شي‌ء منهما ، اما الأولى فباعتبار احتمال ترك العضو منها ، والثانية غير رافعة ولا مبيحة.

واستشكل بعض مشايخنا المحققين في وجوب إعادة الصلاة المتخللة كما هو قول المبسوط أو كلتا الصلاتين كما هو القول الآخر ، قائلا بأنه انما تجب إعادة الصلاة بعد الفراغ منها على تقدير تعين فسادها ، وهو انما يحصل على تقدير حصول كل احتمال ممكن الوقوع ، وما نحن فيه ليس كذلك ، فإن أحد الاحتمالين الممكنين هنا كون الإخلال من الثانية فتصح الصلاتان على القولين ، فوجوب إعادتهما يستلزم نقض اليقين بالشك المنهي عنه عموما ، والخروج عن القاعدة المجمع عليها المندرج ما نحن فيه تحتها عموما من ان الشك بعد الفراغ لا يلتفت اليه ، وليس عدم تعين الصحة كافيا في الوجوب ، وادعاء ان الشك في الصحة كالشك في أصل الإيقاع ـ والأصل بقاء شغل الذمة بها حتى يعلم المزيل ـ دعوى عارية عن الدليل ، وان تمت فإنما تتم مع بقاء الوقت ، لان الشك في الإيقاع بعد الفوت لا يوجب القضاء ، لعدم كون وجوب الأداء كافيا في سببية وجوبه إذ هو بأمر جديد ، والأمر الجديد ب «من فاتته صلاة فليقضها كما فاتته» (١)

__________________

(١) هذا المضمون مستفاد من الأخبار الدالة على وجوب قضاء الصلوات الفائتة

٤٠٥

لا يتناوله ، لعدم حصول ما علق عليه ، ولقول الصادق (عليه‌السلام) في حسنة زرارة والفضيل (١) : «ومتى استيقنت أو شككت في وقت فريضة انك لم تصلها أو في وقت فوتها انك لم تصلها صليتها ، وان شككت بعد ما خرج وقت الفوت فقد دخل حائل فلا اعادة عليك من شك حتى تستيقن ...». وليس فساد احدى الطهارتين بمقتض ليقين فساد احدى الصلاتين ، لجواز كون الفاسدة واقعا هي الثانية وفسادها لا يقتضي فساد إحداهما بل يقتضي صحتهما ، فظهر ان وجوب إعادة الطهارة ـ لما يستقبل من الصلاة على تقدير القول به كما هو مقتضى كلام الفاضلين ـ لا يقتضي وجوب إعادة شي‌ء من الصلاتين ، لان وجه وجوب إعادتهما عند يقين حدث سابق على الطهارتين الاندراج في حكم الشك في الطهارتين مع يقين الحدث ، باعتبار ان الشك في حصول الطهارة المبيحة أو الرافعة شك في أصلها وهو لا يعارض يقين الحدث ، وذلك لا يوجب إعادة الصلاة ، لأن الشك في الطهارة مع يقين الحدث انما يبطل من الصلوات ما وقع بعده بلا طهارة لا ما سبقه لمضيه على الصحة. ولم أقف لأحد من أصحابنا في هذا المقام على إيماء لما أشرنا اليه إلا ان الأدلة تدل عليه ، انتهى كلامه زيد في الخلد مقامه.

وقد تلخص مما ذكرنا في هذه الصورة أقوال أربعة : (أحدها) ـ وجوب إعادة الصلاة المتوسطة وعدم اعادة الوضوء كما هو مقتضى كلام المبسوط. و (ثانيها) ـ وجوب اعادة الوضوء والصلاتين معا كما هو قول ابن إدريس والمختلف. و (ثالثها) ـ عدم إعادة شي‌ء من الوضوء والصلاة كما هو مقتضى كلام السيد جمال الدين (قدس‌سره) و (رابعها) ـ صحة الصلاتين واعادة الوضوء كما يشعر به آخر هذا الكلام الأخير ، الا ان يحمل آخر كلامه على التنزل والمجاراة دون الاختيار لذلك ، وإلا فيرد عليه ان

__________________

المروية في الوسائل في الباب ١ من قضاء الصلوات ، ومنها صحيحة زرارة المروية في الباب ٦ منه.

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٦٠ ـ من مواقيت الصلاة.

٤٠٦

جل ما ذكره من التعليلات في عدم إعادة الصلاة يجري في الوضوء أيضا كما لا يخفى.

(الصورة الثالثة) ـ هي الثانية بعينها ولكن مع تخلل الحدث بعد الصلاة المتوسطة ، والظاهر انه لا ريب في إعادة الوضوء حينئذ ، لأنه ـ بالحدث السابق على الطهارة الاولى والحدث المتوسط مع احتمال كون العضو المتروك من كل من الطهارتين ـ يكون متيقنا للحدث شاكا في الطهارة ، ولا ريب أيضا في بطلان احدى الصلاتين لبطلان احدى الطهارتين ، لكن هل يجب حينئذ اعادة الفرضين معا لتوقف الخروج من العهدة يقينا عليه ، أم يخص ذلك بما إذا اختلفا عددا وإلا فيكفي الإتيان بفريضة واحدة مرددة في نيتها؟ الأكثر على الثاني ، وإلى الأول ذهب الشيخ في المبسوط بل أوجب أيضا بناء على ذلك قضاء الخمس لو صلاها بخمس طهارات ثم ذكر الإخلال المذكور في إحدى الطهارات مع تخلل الحدث بين كل طهارة وصلاة منها ، وتبعه أبو الصلاح وابن زهرة ، وربما لزم على تقدير ما ذهب اليه السيد جمال الدين عدم وجوب إعادة شي‌ء من الوضوء والصلاتين ، لصدق انه شك بعد الفراغ ، والظاهر انه لا يلتزمه.

ويدل على قول الأكثر ورود النص في من فاتته صلاة من الخمس مشتبهة انه يكتفي باثنتين وثلاث واربع مرددة (١) إما لكون العلة في الجميع واحدة ، أو لكون المتنازع فيه داخلا في موضوع الخبر ، بان يقال ان بطلان الصلاة ببطلان شرطها المتوقف صحتها عليه فوت يدخل في عموم «من فاتته. الخبر» ويؤيد ذلك أيضا قول ابي جعفر (عليه‌السلام) في حسنة زرارة (٢) : «... وان نسيت الظهر حتى صليت العصر فذكرتها وأنت في الصلاة أو بعد فراغك فانوها الاولى ثم صل العصر ، فإنما هي أربع مكان اربع ...». لكن يشكل من حيث اختلاف هيئتي الجهرية والإخفاتية جهرا وإخفاتا

__________________

(١) وهو مرسل على بن أسباط ومرفوع الحسين بن سعيد المرويان في الوسائل في الباب ١١ من قضاء الصلوات.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٦٣ ـ من مواقيت الصلاة.

٤٠٧

وان ذكروا انه مخير بين الجهر والإخفات في صورة اجتماعهما في الفرض المردد. وأورد عليه أيضا وجوب الجزم في النية مع الإمكان فلا تجزئ النية المرددة ، وهذا لازم على المورد في صورة مورد الخبر المتقدم.

(الصورة الرابعة) ـ ان يتوضأ وضوءين ويصلي بكل منهما فرضا ثم يذكر الحدث عقيب واحد منهما غير معين ، فان قلنا بالاكتفاء بالقربة فالطهارتان صحيحتان وانما يقع الشك في فريضة واحدة باعتبار احتمال كون الحدث عقيب الطهارة الأولى فتبطل الصلاة الأولى خاصة واحتمال كونه عقيب الثانية فتبطل الصلاة الثانية خاصة ، فيرجع الكلام حينئذ إلى ما تقدم من وجوب إعادتهما معا ان اختلفتا عددا تحصيلا ليقين البراءة ، وإلا فذلك العدد مرددا في النية ، ومقتضى ما نقل عن الشيخ آنفا اعادة الجميع مطلقا ، لكن لم أر من تصدى لنقل مذهبه هنا ، وان لم نقل بالاكتفاء بالقربة ـ حسبما تقدم في الصورة الاولى من التفصيل ـ وجب اعادة الجميع ، لاحتمال كون الحدث عقيب الاولى فتبطل الصلاة الواقعة بعدها ، والوضوء الثاني انما وقع بنية التجديد وهو غير مبيح ولا رافع فتبطل الصلاة الواقعة بعده ، وعلى كل تقدير فيجب إعادة الطهارة هنا لاحتمال وقوع الحدث بعد الطهارة الثانية فيلزم بطلانها مع سابقتها بخلاف صورة الإخلال فإنه إنما تبطل الطهارة التي وقع فيها خاصة فتسلم له الأخرى.

(المسألة السابعة عشرة) ـ يكره الوضوء بجملة من المياه : منها ـ الماء المشمس في الآنية على المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل نقل الشيخ في الخلاف الإجماع عليه لكنه اشترط في الحكم القصد إلى ذلك ، وصرح في المبسوط بالتعميم وأطلق في النهاية ، وهو الذي عليه جمهور الأصحاب.

والأصل في هذه المسألة رواية السكوني عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : الماء الذي تسخنه الشمس لا تتوضؤوا به

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المضاف.

٤٠٨

ولا تغتسلوا به ولا تعجنوا به ، فإنه يورث البرص».

وما رواه الصدوق (رضي‌الله‌عنه) في كتاب العلل (١) بسنده إلى ابن عباس قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : خمس تورث البرص. وعد منها التوضؤ والاغتسال بالماء الذي تسخنه الشمس».

وموثقة إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن (عليه‌السلام) (٢) قال : «دخل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على عائشة وقد وضعت قمقمتها في الشمس ، فقال يا حميراء ما هذا؟ قالت : اغسل رأسي وجسدي. قال : لا تعودي فإنه يورث البرص».

وحمل النهي على الكراهة لمرسلة محمد بن سنان عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «لا بأس بأن يتوضأ بالماء الذي يوضع في الشمس».

وربما علل الحمل على الكراهة بضعف سند الروايات المذكورة كما هو طريقة جملة من المتأخرين ومتأخريهم. وفيه ما تقدم في مقدمات الكتاب من ان ضعف السند ليس من جملة قرائن المجاز الصارفة عن الحمل على الحقيقة ، ولو علل بذكر وجه الحكمة في الخبر لكان أقرب.

تنبيهات :

(الأول) ـ ظاهر الخبر الأول والثاني ثبوت الكراهة ، سواء كان في آنية أو غيرها من حوض وساقية ، وسواء كانت الآنية منطبعة أم لا ، وسواء قصد إلى تسخينه أو تسخن من قبل نفسه ، وسواء كانت البلاد حارة أو معتدلة ، وبهذا الإطلاق حكم جملة من الأصحاب ، الا ان ظاهرهم نفى الكراهة في غير الآنية ، بل نقل عن العلامة في النهاية والتذكرة الإجماع عليه ، وظاهر العلامة في النهاية اشتراط كونه في الأواني المنطبعة غير الذهب والفضة ، قال : «لان الشمس إذا أثرت فيها استخرجت

__________________

(١) رواه في الخصال ج ١ ص ١٢٨.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٦ ـ من أبواب الماء المضاف.

٤٠٩

منها زهومة تعلو الماء ومنها يتولد المحذور» وفيه ان العلة المذكورة لبيان وجه الحكمة فلا يجب اطرادها ، وعلل الشرع ـ كما صرحوا به ـ معرفات لا علل حقيقة يدور المعلول مدارها وجودا وعدما.

(الثاني) ـ الحق جماعة من الأصحاب بالطهارة سائر وجوه الاستعمالات ، واقتصر جماعة : منهم ـ الشهيد في الذكرى على العجين وفاقا للصدوق ووقوفا على ظاهر النص

(الثالث) ـ هل يشترط القلة في الماء؟ قولان.

(الرابع) ـ الظاهر ترتب الأثر المذكور على المداومة دون مجرد المرة أو المرتين ولعل في قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في موثقة إبراهيم بن عبد الحميد ـ : «لا تعودي» من الاعتياد أو تعودي من العود ـ إيماء إلى ذلك.

(الخامس) ـ هل تبقى الكراهة وان زال التشميس أم لا؟ قولان ، قطع بأولهما الشهيد في الذكرى وتبعه جمع من المتأخرين ، تمسكا بالاستصحاب ، وبقاء التعليل وصدق الاسم بناء على ان المشتق لا يشترط في صدقه بقاء مأخذ الاشتقاق. ويرد على الأول عدم ثبوت حجية الاستصحاب في مثل هذا المقام ، إذ الاستصحاب الذي يستفاد من الأخبار جواز الاعتماد عليه هو ما إذا دل الدليل على حكم من غير تقييد بزمان ولا كيفية ولا حالة مخصوصة ، فإنه يستصحب الحكم المذكور في جميع الأزمان والحالات عملا بعموم الدليل كما تقدم تحقيقه في المقدمة الثالثة (١) الا انه ربما يقال هنا ان مقتضى الدليل الدال على كراهة الوضوء بالمتسخن بالشمس عموم ذلك لما بعد زوال السخونة ، وقد مر نظيره في المسألة الرابعة من الفصل الثاني من الباب الأول (٢) وتكلمنا في ذلك بما اقتضاه المقام. وعلى الثاني ما تقدم هنا. وعلى الثالث (أولا) ـ عدم الدليل على صحة الاعتماد على هذه القاعدة كما تقدم تحقيقه في المقدمة التاسعة. و (ثانيا) ـ منع صدق الاسم ، فان صدق المشتق مع عدم بقاء مأخذ الاشتقاق لو سلم فهو مخصوص بما إذا لم يطرأ على المحل

__________________

(١) في الصحيفة ٥١.

(٢) ج ١ ص ٢٤٦.

٤١٠

وصف وجودي يضاده ، وهنا ليس كذلك لطرو وصف البرودة المضاد لوصف السخونة وما أجاب به في المعالم وتبعه بعض أفاضل متأخري المتأخرين ـ من ان الاشتقاق هنا من التسخين لا من السخونة ، وحينئذ ولو طرأ الوصف الوجودي لكنه لا يضاد الأول لاشتراط وحدة الفاعل في التضاد ـ ففيه ان الحكم منوط بالتسخن كما هو المشهور لا بالتسخين وان ذهب اليه الشيخ كما تقدم ذكره ، وحينئذ فالتضاد حاصل كما حققنا ذلك في كتاب الدرر النجفية.

(السادس) ـ صرح جملة من الأصحاب بأن الحكم بالكراهة مخصوص بما إذا وجد ماء غيره للطهارة ، إذ مع عدم وجدان غيره يتعين استعماله عينا وهو مناف لتعلق النهي به. واعترض عليه بأنه لا منافاة بين الوجوب عينا والكراهة في الصلاة ونحوها على بعض الوجوه ، واللازم من ذلك عدم زوال الكراهة بفقد غيره ، لبقاء العلة وعدم منافاة وجوب الاستعمال لها.

أقول : والتحقيق انه ان فسرت الكراهة بالمعنى المصطلح الأصولي وهو ما يترجح تركه على فعله فالمنافاة حاصلة سواء وجد ماء غيره أو لم يوجد ، فإنه كما لا ريب في منافاة تعلق الأمر الإيجابي العيني بشي‌ء مع النهي التنزيهي ، كذلك يأتي مثله في الأمر الإيجابي التخييري مع النهي التنزيهي ، إذ كما يكون الأمر بالشي‌ء امرا إيجابيا عينيا مانعا من تعلق النهي به المقتضى لمرجوحيته ، كذلك الأمر به امرا تخييريا المقتضى لرجحانه يمنع من تعلق النهي المقتضي لمرجوحيته ، وسيأتي تحقيق المسألة ان شاء الله تعالى.

و (منها) ـ الماء الآجن ، لحسنة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) «في الماء الآجن؟ يتوضأ منه إلا ان يجد غيره فيتنزه عنه».

و (منها) ـ الماء الذي مات فيه عقرب ، لموثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣ ـ من أبواب الماء المطلق.

٤١١

السلام) (١) وفيها «وان كان عقربا فارق الماء وتوضأ من ماء غيره». ومثلها موثقة أبي بصير عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٢).

و (منها) ـ سؤر الحائض ، لموثقة الحسين (٣) ـ والظاهر انه ابن أبي العلاء الخفاف ـ قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الحائض يشرب من سؤرها قال : نعم ، ولا يتوضأ منه». وقيدها جملة من المتأخرين بالمتهمة ، ويدل على التقييد المذكور موثقة علي بن يقطين (٤) وربما ظهر من التهذيب والاستبصار التحريم لظاهر النهي. وتحقيق المسألة قد تقدم في بحث الأسآر.

(المسألة الثامنة عشرة) ـ قد صرح جملة من الأصحاب بكراهة الوضوء في المسجد من حدث البول والغائط ، لصحيحة رفاعة (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الوضوء في المسجد فكرهه من البول والغائط». وقال الشيخ في النهاية وتبعه ابن إدريس : «لا يجوز التوضؤ من الغائط والبول في المساجد ولا بأس بالوضوء فيها من غير ذلك» وسوى ابن إدريس بين المنع من الوضوء من الغائط والمنع من إزالة النجاسة فيها ، وفي المبسوط «لا يجوز إزالة النجاسة في المساجد ولا الاستنجاء من البول والغائط فيها ، وغسل الأعضاء في الوضوء لا بأس به فيها» ويحتمل قريبا ـ بل لعله الأقرب ـ حمل كلام الشيخ في النهاية على الاستنجاء وحمل الرواية المتقدمة أيضا على ذلك ، فان استعمال الوضوء بمعنى الاستنجاء ـ بل بمعنى مطلق الغسل ، والكراهة بمعنى التحريم ـ شائع في الأخبار وكلام المتقدمين.

وروى بكير في الحسن عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٦) قال : «إذا كان الحدث في المسجد فلا بأس بالوضوء في المسجد». ولعل المراد بالحدث في المسجد مثل النوم

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأسآر.

(٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٨ ـ من أبواب الأسآر.

(٥ و ٦) المروية في الوسائل في الباب ـ ٥٧ ـ من أبواب الوضوء.

٤١٢

والريح مثلا ، ومفهوم الرواية على ما ذكرنا انه لو كان النوم في غير المسجد كره الوضوء له في المسجد ، ولا ينافي ذلك مفهوم الرواية الأولى بناء على حمل الوضوء فيها على الرافع للحدث ، لان ذلك مفهوم لقب.

ثم انه لو اتفق حصول البول أو الغائط في المسجد اختيارا أو اضطرارا فهل يتصف الوضوء له في المسجد بالكراهة أم لا؟ ظاهر الرواية الأولى ـ بناء على كون الوضوء فيها بمعنى الرافع ـ ذلك ، ولكن ينافيه ظاهر الرواية الثانية ، الا ان تخص بما ذكرنا أو تحمل على ان وقوع حدث البول والغائط في المسجد لما كان نادرا أطلق الحكم بعدم البأس في المسجد من الحدث الواقع فيه. ويحتمل عدم الكراهة عملا بإطلاق الرواية الثانية وعمومها ، وحمل الاولى على ان البول والغائط لما كان حدوثهما في المسجد نادرا فلذا أطلق عليهما كراهة الوضوء لهما في المسجد ، ويعضده أصالة البراءة من الكراهة. والله العالم.

(المسألة التاسعة عشرة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) كراهة التمندل بعد الوضوء ، وقيل بعدم الكراهة ، ونقله في المدارك عن ظاهر المرتضى في شرح الرسالة وأحد قولي الشيخ.

ويدل على الكراهة ما روي بعدة طرق في الكافي وثواب الأعمال والمحاسن (١) عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «من توضأ وتمندل كتبت له حسنة ، ومن توضأ ولم يتمندل حتى يجف وضوؤه كتبت له ثلاثون حسنة».

ويدل على الجواز روايات كثيرة : منها ـ صحيحة محمد بن مسلم (٢) : «قال سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن التمسح بالمنديل قبل ان يجف. قال لا بأس به».

ورواية الحضرمي عنه (عليه‌السلام) (٣) قال : «لا بأس بمسح الرجل وجهه بالثوب إذا توضأ إذا كان الثوب نظيفا».

وموثقة إسماعيل بن الفضل (٤) قال : «رأيت أبا عبد الله (عليه‌السلام) توضأ

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب الوضوء.

٤١٣

للصلاة ثم مسح وجهه بأسفل قميصه ، ثم قال : يا إسماعيل افعل هكذا فاني هكذا افعل.

وصحيحة منصور بن حازم (١) قال : «رأيت أبا عبد الله (عليه‌السلام) وقد توضأ وهو محرم ثم أخذ منديلا فمسح به وجهه».

وصحيحته المروية في المحاسن (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يمسح وجهه بالمنديل. قال : لا بأس به».

ومرسلة عبد الله بن سنان المروية فيه أيضا (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن التمندل بعد الوضوء. فقال : كان لعلي (عليه‌السلام) خرقة في المسجد ليس الا للوجه يتمندل بها». وروى مثله مسندا في الصحيح عن عبد الله بن سنان (٤).

وبذلك الإسناد أيضا (٥) قال : «كانت لعلي (عليه‌السلام) خرقة يعلقها في مسجد بيته لوجهه إذا توضأ تمندل بها».

وروى فيه أيضا عن محمد بن سنان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٦) قال : «كانت لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) خرقة يمسح بها وجهه إذا توضأ للصلاة ثم يعلقها على وتد ولا يمسها غيره».

وأنت خبير بانا لو خلينا وظاهر هذه الأخبار لكان المستفاد منها استحباب ذلك لظاهر حديث إسماعيل بن الفضل الدال بظاهره على مداومته (عليه‌السلام) على ذلك وكذلك اخبار المحاسن عن علي (عليه‌السلام) كما لا يخفى على المتأمل فيها ، فإنها ظاهرة في مداومته (عليه‌السلام) على ذلك ، ومن البعيد مداومته على ذلك الأمر المكروه ، والحديث الأول يضعف عن معارضتها لوحدته وتعددها. والجمع بين الأخبار بما ذكره المحدث الكاشاني في الوافي ـ بحمل الخبر الأول على الأفضل والاولى وحمل خبر الحضرمي وصحيحة محمد بن مسلم على الرخصة والجواز وحمل خبر إسماعيل بن الفضل على الضرورة من برد وخوف شين وشقاق ـ وان احتمل بالنسبة إلى الأخبار التي ذكرها إلا ان اخبار فعل علي (عليه‌السلام) الدالة بظاهرها على المداومة على ذلك لا تقبل الحمل على

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب الوضوء.

٤١٤

الضرورة ولا على مجرد الجواز كما لا يخفى ولعل الأقرب الحمل على التقية (١) الا ان

__________________

(١) اختلف فقهاء المذاهب في التمندل بعد الوضوء ، ففي المدونة لمالك ج ١ ص ١٧ «لا بأس بالمسح بالمنديل بعد الوضوء» وتبعه الزرقانى في شرح مختصر أبي الضياء ج ١ ص ٤٧ قال : «لا يندب ترك مسح الأعضاء بخرقة بل يجوز» وفي المغني لابن قدامة الحنبلي ج ١ ص ١٤١ «لا بأس بتنشيف أعضائه بالمنديل من بلل الوضوء والغسل» قال : «وممن روى عنه أخذ المنديل بعد الوضوء عثمان والحسن بن على وانس وكثير من أهل العلم ، ونهى عنه جابر بن عبد الله ، وكرهه عبد الرحمن بن مهدي وجماعة من أهل العلم» وفي المنهاج للنووي الشافعي ص ٤ «من سنن الوضوء ترك التنشيف في الأصح» وفي الوجيز للغزالي «لا ينشف الأعضاء فهي سنة على أظهر الوجهين» وفي شرح المنهاج لابن حجر ج ١ ص ١٠١ «ان النووي في شرح مسلم اختار اباحة التنشيف مطلقا» وفي شرح الدر المختار للحصفكي الحنفي ج ١ ص ٢٥ «من آداب الوضوء التمسح بمنديل».

ولا يفوت القارئ الكريم الوقوف على شي‌ء طالما طعن أهل السنة به على الشيعة الإمامية وهو العمل بالتقية التي جوزها الكتاب المجيد حيث يقول في آل عمران ٢٨ : «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْ‌ءٍ إِلّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» ويقول في النحل ١٠٦ : «إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» ولم يتباعد عن العمل بالتقية علماء أهل السنة ، ففي تفسير الالوسى ج ٣ ص ١٢١ في الآية الاولى «ان فيها دلالة على مشروعية التقية ، وعرفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء سواء كان العداء لأجل اختلاف الدين أو للأغراض الدنيوية» ثم قال : «وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والظلمة والفسقة بالتبسم في وجوههم والانبساط معهم» وقال ابن العربي في (أحكام القرآن) ج ٢ ص ٢٢٣ في الحجرات ٢ «لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ» : جوز الشافعي ونظراؤه الائتمام في الجماعة خلف الفاسق ومن لا يؤتمن على حبة من مال ، وأصله ان الولاة الذين يصلون بالناس جماعة لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة معهم ولا يستطاع إزالتهم صلى معهم وراءهم ، ومن الناس من إذا صلى معهم تقية أعادها ومنهم من يكتفى بها ، وانا أقول بوجوب إعادتها سرا ولكن لا ينبغي ترك الصلاة معهم» وقال الالوسى المفسر في رسالته (الأجوبة العراقية) ص ٢٢٥ : «المسألة ٢٢ ـ كنت أصلي الظهر في البيت بعد صلاة الجمعة وأنكر في قلبي على من يصليها

٤١٥

فيه أيضا ما لا يخفى ، قال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب البحار بعد نقل جملة من هذه الأخبار : «والذي يظهر لي انه لما اشتهر بين بعض العامة كأبي حنيفة وجماعة منهم نجاسة غسالة الوضوء وكانوا يعدون لذلك منديلا يجففون به أعضاء الوضوء ويغسلون المنديل ، فلذا نهوا عن ذلك وكانوا يتمسحون بأثوابهم ردا عليهم ، كما روى عن مروان بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : توضأ. ثم نقل حديث إسماعيل بن الفضل إلى ان قال : فيمكن حمل تلك الأخبار على التقية أو انه لم يكن بقصد الاجتناب عن الغسالة أو انه كان لبيان الجواز» انتهى. ولا يخفى ما فيه. والحكم لا يخلو من شوب الاشكال.

ثم انه هل يختص الحكم بالمسح بالمنديل فلا يلحق به غيره ، أو يشمل الذيل

__________________

في الجامع جماعة وانه ليضيق صدري ولا ينطلق لساني» وفي الفروع لابن مفلح الحنبلي ج ١ ص ٤٨٢ «لا تصح امامة الفاسق مطلقا وإذا لم تصح صلى معه دفعا للأذى ويعيد ، وقرأ المروزي على احمد بن حنبل ان انس بن مالك كان يصلى المكتوبة في منزله ويصلى الجمعة خلف الحجاج فلم ينكر ذلك احمد» وفي مناقب أبي حنيفة للخوارزمي ج ١ ص ١٧١ حيدر اباد «ان أبا حنيفة كان يقول امام ابن هبيرة : «عمر أفضل من على تقية» وفيه ص ١٧١ وفي مناقبه للبزار في ذيل مناقبه للخوارزمي ص ١٧٢ «كان المشايخ في زمان بنى أمية لا يذكرون عليا (ع) باسمه خوفا منهم والعلامة بينهم إذا رووا عن على ان يقولوا قال الشيخ كذا ، وكان الحسن البصري يتقي في الرواية عن على بن أبي طالب فيقول روى (أبو زينب) كناية عنه خوفا من بنى مروان» وروى ابن قدامة في المغني ج ٢ ص ١٨٦ عن أبي الحارث «انه لا يصلى خلف مرجى‌ء ولا رافضي ولا فاسق إلا ان يخافهم فيصلي ويعيد» ولم يتعقب هذه الرواية. وفي تاريخ بغداد للخطيب ج ١٣ ص ٣٨٠ «كان أبو حنيفة يعمل بالتقية خوفا» وفي تفسير المنار ج ٣ ص ٢٨١ و (اقتضاء الصراط المستقيم) لابن تيمية ص ١٧٦ و (التبصير في الدين الإسلامي) للاسفرائينى ص ١٦٤ و (الروض الباسم) للوزير اليماني ج ٢ ص ٤١ والنجوم الزاهرة لابن تغربردى الحنفي ج ٢ ص ٢١٩ ما يؤيد ذلك.

٤١٦

والكم ونحوهما ، أو المنديل والذيل خاصة ، أو يلحق به التجفيف بالنار والشمس أيضا؟ أقوال ، ولعل الأظهر منها الاقتصار على المنديل وقوفا فيما خالف الأصل على موضع الوفاق ، ولاشتمال أكثر الأخبار المتقدمة عليه خاصة.

فائدة

لا يخفى ان المكروه في اصطلاح الأصوليين والفقهاء عبارة عما يكون عدمه راجحا على وجوده ، وهذا المعنى لما لم يتم إجراؤه في العبادات في المواضع التي ورد النهي عنها لرجحان الإتيان بها على عدمه ، فسروا الكراهة فيها بمعنى آخر وهو باعتبار اقلية الثواب فيها بالنسبة إلى عبادة أخرى.

وأورد عليه بان ذلك منتقض بكثير من المستحبات والواجبات التي بعض أفرادها أقل ثوابا من الآخر مع ان الأقل ثوابا منها بالنسبة إلى الأكثر لا يطلق عليه الكراهة.

وربما أجيب بأن المراد أقل ثوابا من مثله اي فرد أخر من نوعه.

وفيه أيضا ما تقدم ، فإن الصلاة في أحد المساجد أقل ثوابا بالنسبة إلى الصلاة في المسجد الحرام بل بعض المساجد بالنسبة إلى آخر مع انه لا يوسم الأقل منها بالنسبة إلى الأكثر بالكراهة ، وأيضا فإن صوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء ليس أقل ثوابا من صوم آخر مع انه مكروه.

قيل : «والحق ان يقال المراد ان ضده أفضل منه ، مثلا ـ الدعاء يوم عرفة أفضل من الصوم المضعف عنه فمكروه العبادة انما يكون في صورة تكون فيها عبادتان متضادتان» انتهى أقول : أنت خبير بان مكروه العبادة ـ على ما عرفت ـ هو ما تعلق به النهي التنزيهي أعم من ان يكون معه عبادة أخرى مضادة أم لا ، فإن الصلاة في الحمام ونحوه ـ من الأماكن المنهي عنها في الأخبار والوضوء في المسجد وبالماء المشمس ونحوها ـ ليس لها عبادة أخرى مضادة لها.

٤١٧

والتحقيق في الجواب ان المراد بمكروه العبادة ما كان أقل ثوابا منها نفسها لو لم تكن كذلك بل كانت متصفة بأصل الإباحة ، ويدل على ذلك ما تقدم من حديث «من توضأ وتمندل كتبت له حسنة ومن توضأ ولم يتمندل كتبت له ثلاثون حسنة». وتوضيح ذلك ان يقال : ان العبادة قد تكون بحيث لا يتعلق بها أمر ولا نهي غير الأمر الذي تعلق بأصل فعلها ، وبهذا المعنى تتصف بالإباحة كالصلاة في البيت البعيد عن المسجد أو حال المطر ، وقد يتعلق بها أمر زائد على الأول باعتبار اتصافها أو اشتمالها على أمر راجح به كالصلاة في المسجد مثلا إلا مع عذر مسقط ، وربما انتهى إلى حد الوجوب كما إذا نذر إيقاعها فيه ، وقد يتعلق بها نهي بالاعتبار المذكور مع المرجوحية كالصلاة في الحمام ، وربما انتهى إلى حد التحريم كصلاة الحائض والصلاة في الدار المغصوبة على أشهر القولين ، وحينئذ فمكروه العبادة هو ما كان أقل ثوابا بالاعتبار المذكور آنفا منها نفسها لو لم تكن كذلك بل كانت متصفة بصفة الإباحة المذكورة ، فالصلاة في الحمام مكروهة بمعنى أنها أقل ثوابا منها في البيت مثلا لا في المسجد ، فلا يرد حينئذ ما أورد سابقا من ان الكراهة بمعنى اقلية الثواب توجب كون الصلاة في جميع المساجد مكروهة لكونها أقل ثوابا من الصلاة في المسجد الحرام ، فان المعتبر ـ كما عرفت ـ في المفضل عليه بالأقلية هو المتصف بأصل الإباحة ، وهكذا بالنسبة إلى ما لم يوجد فيه أمر زائد على الأول. والله العالم.

تم الجزء الثاني من كتاب الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة ويتلوه الجزء الثالث في الغسل. والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعترته الطيبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

٤١٨

فهرس الجزء الثاني

من كتاب الحدائق الناضرة

عنوان

صفحة

عنوان

صفحة

وجوب ستر العورة

٢

هل يجب إزالة الأثر في غسل مخرج الغائط؟

٢٨

تعريف العورة

٥

تحديد آلة الاستنجاء

٢٩

وجوب الاستنجاء من البول بالماء

٧

شروط آلة الاستنجاء

٣١

تنجيس المتنجس

١٠

اجزاء الاحجار ونحوها في غسل مخرج الغائط مع عدم التعدي

٣٢

أقل ما يجزئ من الماء في الاستنجاء من البول

١٧

وجوب الزيادة على الثلاثة مع عدم النقاء بها

٣٤

المراد بالمثلين الغسلة الواحدة أو الغسلتان

١٩

هل يجزئ ذو الجهات الثلاث؟

٣٥

هل يعتبر الانفصال الحقيقي على تقدير التعدد؟

٢٠

هل يجب امرار كل حجر على موضع النجاسة أو يكفى التوزيع؟

٣٧

هل يجب التمسح بالحجر عند عدم الماء للتطهير من البول؟

٢٠

استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط.

٣٨

هل يجب الدلك في الاستنجاء من البول؟

٢١

تعلق حكم الاستقبال والاستدبار بالبدن أو العورة

٤١

هل يجب الدلك في الاستنجاء من البول؟

٢٢

لحوق حال الاستنجاء بحال التخلي في الحكم

٤١

من صلى ناسياً للاستنجاء

٢٢

التشريق والتغريب بالبول والغائط

٤١

تعين الماء في غسل مخرج الغائط مع التعدي

٢٦

اشتباه القبلة

٤٢

وجوب غسل الجميع بالماء مع التعدي

٢٨

ما يحرم الاستنجاء به

٤٢

عدم وجوب غسل باطن المخرج

٢٨

٤١٩

عنوان

صفحة

عنوان

صفحة

وجوب اكرام التربة المشرفة وحرمة اهانتها

٤٤

بن مسلم

٦٣

هل يطهر المحل بالاستنجاء بما يحرم الاستنجاء به؟

٤٦

استحباب تعجيل الاستنجاء

٦٤

هل يحرم تنجيس العظم والروث؟

٤٨

استحباب الأكفاء على اليد قبل ادخالها الاناء

٦٥

استحباب ستر البدن كملا في الغائط

٥٠

استحباب البداة في الاستنجاء بالمقعدة

٦٥

استحباب ارتياد موضع مناسب للبول

٥٠

استحباب اختيار الماء

٦٥

التسمية والدعاء عند دخول المخرج والخروج منه

٥٠

أفضلية الجمع بين المطهرين

٦٦

استحباب التقنع في بيت الخلاء

٥٢

اشكال صاحب المدارك في المقام وجوابه

٦٦

استحباب تغطية الرأس في بيت الخلاء

٥٣

هل يستحب الاعتماد على اليسرى في بيت الخلاء؟

٦٨

استحباب تقديم الرجل اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج

٥٣

هل يستحب اعداد الاحجار؟

٦٨

استحباب مسح البطن بعد الخروج

٥٣

المواضع التي يكره التخلي فيها.

٦٩

استحباب التسمية عند التكشف للبول

٥٤

كلام حول الأشجار المثمرة.

٧٠

استحباب ان لا يقطع في الاستجمار إلا على وتر

٥٤

استقبال الشمس والقمر بالبول

٧٣

استحباب الاستبراء

٥٤

استقبال الشمس والقمر بالغائط

٧٤

كيفية الاستبراء

٥٦

استدبار الشمس والقمر

٧٤

هل يختص الاستبراء بالرجل؟

٥٨

استقبال الريح واستدبارها

٧٥

البلل المشتبه

٥٨

كراهة السواك في الخلاء

٧٥

هل يستحب الصبر هنيئة قبل الاستبراء؟

٦٢

كراهة طول الجلوس على الخلاء

٧٥

كلام المجلسي (قده) في حسنة محمد

كراهة استصحاب خاتم فيه اسم الله أو شئ من القرآن

٧٦

٤٢٠