الحدائق الناضرة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة ـ نجف
المطبعة: مطبعة النّجف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

بلفظ القروح والجراحات (١).

وموثقة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٢) «في الرجل تكون به القروح في جسده فتصيبه الجنابة؟ قال : يتيمم».

وصحيحة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «ييمم المجدور والكسير إذا أصابتهما الجنابة».

وموثقة عمار (٤) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل ينقطع ظفره هل يجوز ان يجعل عليه علكا؟ قال : لا ولا يجعل عليه إلا ما يقدر على أخذه عنه عند الوضوء ، ولا يجعل عليه ما لا يصل اليه الماء».

وموثقته الأخرى (٥) «في الرجل ينكسر ساعده أو موضع من مواضع الوضوء فلا يقدر ان يمسح عليه لحال الجبر إذا جبر ، كيف يصنع؟ قال : إذا أراد ان يتوضأ فليضع إناء فيه ماء ويضع موضع الجبر في الماء حتى يصل الماء إلى جلده. وقد أجزأه ذلك من غير ان يحله». ورواه الشيخ في موضع آخر عن إسحاق بن عمار مثله.

هذا ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة ، والكلام فيها يقع في مواضع :

(الأول) ـ ان ما دلت عليه حسنة الحلبي ـ من المسح على الخرقة إذا كان يؤذيه الماء ، ورواية عبد الأعلى من المسح على المرارة لاستلزام رفعها المشقة والحرج ورواية كليب من الأمر بالمسح على الجبائر مقيدا بالخوف على نفسه ـ هو مستند الأصحاب فيما ذكروه من وجوب المسح على الجبيرة متى تعذر إيصال الماء إلى ما تحتها ، وإطلاق بعض الأخبار ـ الدالة على اجزاء المسح على الجبيرة من غير تعرض لتعذر إيصال الماء إلى ما تحتها كرواية العياشي وحسنة الوشاء ـ مقيد بهذه الأخبار.

__________________

(١) ج ١ ص ٥٨ وفي الوسائل في الباب ٥ من أبواب التيمم.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٥ من أبواب التيمم.

(٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ٣٩ من أبواب الوضوء.

٣٨١

وناقش جملة من المتأخرين : منهم ـ السيد في المدارك في وجوب المسح على الجبيرة قائلا بأنه لو لا الإجماع على وجوب مسح الجبيرة لأمكن القول بالاستحباب والاكتفاء بغسل ما حولها ، واحتج على ذلك بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج.

وأنت خبير بان المراد من قوله (عليه‌السلام) في الصحيحة المشار إليها : «ويدع ما سوى ذلك مما لا يستطيع غسله». يعني يدع غسل ما لا يستطيع غسله من الجبائر ، كما يدل عليه أيضا قوله أخيرا : «ولا ينزع الجبائر ولا يعبث بجراحته». وليس فيها نفي أو نهي عن المسح بل هي مطلقة بالنسبة اليه ، ولا ضرر فيه ، لاستفادة الحكم من تلك الأخبار المذكورة مؤيدا بدعوى الإجماع في المسألة ، فيكون إطلاق هذه الرواية مقيدا بتلك الروايات فلا منافاة ، واما ما عدا هذه الرواية مما دل على غسل ما حول الجرح فالظاهر منه ان الجرح خال من الجبيرة ، كما هو ظاهر الشهيد في الدروس ، فإنه بعد ان ذكر التفصيل في الجبائر وما في حكمها قال : «والمجروح يغسل ما حوله» وصريحه في الذكرى. وبالجملة فالرواية التي استند إليها فيما ذكره لا تنهض حجة في ذلك. نعم ربما كان الظاهر من كلام الصدوق في الفقيه هنا التخيير بين المسح على الجبيرة والاكتفاء بغسل ما حولها ، حيث قال (١) : «ومن كان به في المواضع التي يجب عليها الوضوء قرحة أو جراحة أو دماميل ولم يؤذه حلها فليحلها وليغسلها ، وان أضربه حلها فليمسح يده على الجبائر والقروح ولا يحلها ولا يعبث بجراحته ، وقد روى في الجبائر عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) انه قال : يغسل ما حولها». انتهى ، وهذا بعينه ما ذكره في كتاب فقه الرضا حيث قال (عليه‌السلام) (٢) : «ان كان بك في المواضع التي يجب عليها الوضوء قرحة أو دماميل ولم تؤذك فحلها واغسلها ، وان اضرك حلها فامسح يدك على الجبائر والقروح ولا تحلها ولا تعبث بجراحك ،. وقد نروي في الجبائر عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : يغسل ما حولها».

__________________

(١) ج ١ ص ٢٩.

(٢) ص ٢.

٣٨٢

(الثاني) ـ المستفاد من ظاهر رواية عبد الله بن سنان وحسنة الحلبي ان القروح والجروح الخالية من الجبيرة إذا تضررت بالغسل يكتفى بغسل ما حولها ، واما ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ من انه مع تعذر الغسل يمسح عليها ومع تعذر المسح يضع عليها ما يمسح عليه فوقها ـ فلم أقف له على دليل في الأخبار ، وقد اعترف أيضا بذلك بعض متأخري علمائنا الأبرار ، وما علل به ـ من ان فيه تحصيلا لشبه الغسل عند تعذر حقيقته إذا كان الجرح في محل الغسل ، أو انه وسيلة إلى المسح الواجب في موضع المسح ـ فلا محصل له ، مع عدم الدليل الشرعي على ذلك ، وكذلك ما ذكروه من وضع خرقة على الجبيرة لو كانت نجسة وتعذر غسلها ، فإنه لا اشعار به في تلك الروايات بوجه ، والجبيرة إنما رخص في المسح عليها عند تعذر إيصال الماء إلى ما تحتها ، لصيرورتها بسبب ضرورة التداوي بها ولصوقها بالجسد كأنها منه ، وهذا بخلاف وضع الخرقة على هذا الوجه الذي ذكروه ، ولا بأس بالعمل بما ذهبوا إليه ، إذ لعلهم اطلعوا على ما لم نطلع عليه.

(الثالث) ـ ما دلت عليه رواية عبد الأعلى من المسح على المرارة التي على ظفره دليل ما ذكره الأصحاب من المسح على الجبيرة وان كانت في موضع المسح أيضا ، وعليه يدل أيضا إطلاق رواية كليب الأسدي وظاهر حسنة الحلبي. وهل يجب التخليل مع إمكانه وعدم إمكان النزع للتوصل إلى إيصال الماء للبشرة هنا ، كما لو كانت الجبيرة في موضع الغسل ، أو الواجب المسح على الجبيرة خاصة؟ ظاهر الأصحاب الثاني لما قدمنا نقله ، والمفهوم من كلام شيخنا صاحب رياض المسائل فيه الأول حيث قال : «ويجب التخليل مع إمكانه ولو في موضع المسح وان حصل الجريان عليه على الظاهر ، اما على تقدير عدم صدق الغسل المنهي عنه عرفا عليه فظاهر ، واما بتقدير الصدق فلانه ليس باعتقاد انه المفروض دون المسح بل باعتقاد أنه مقدمة ما أستطيع الإتيان به من المسح المأمور به وهو إيصال الماء إلى البشرة مع تعذره إلا مع الجريان وعدم المماسة

٣٨٣

ولتصريح جمع من الأصحاب ـ كما هو الأقوى ـ بتعين الغسل على الرجلين لو تأدت التقية به وبالمسح على الخفين ، لكونه أقرب للامتثال ، وتعلقه بأعضاء الطهارة لا بأمر خارج عنها بل عن المتطهر ، كما يدل عليه فحوى ما رواه ابن بابويه في الفقيه (١) عن عائشة انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «أشد الناس حسرة يوم القيامة من رأى وضوءه على جلد غيره». ولظاهر إطلاق رواية إسحاق بن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) في الرجل ينكسر ساعده. الحديث كما تقدم (٢). انتهى كلامه (قدس‌سره) وهو قوي وان أمكن المناقشة في بعض ما ذكره.

(الرابع) ـ ان ما دلت عليه موثقة عمار الاولى في من انقطع ظفره ـ من انه لا يجعل عليه إلا ما يمكن أخذه عنه عند الوضوء ، ولا يجعل عليه ما لا يصل اليه الماء ـ مما ينافي بظاهره الأدلة العقلية والنقلية. من وجوب دفع الضرر ، ورفع الحرج ، وسعة الحنيفية ، وخصوص جملة مما تلوناه من اخبار الجبيرة الدالة على جواز استعمالها وانه يمسح عليها مع تعذر إيصال الماء ، ولا سيما رواية عبد الأعلى الدالة على خصوص الظفر.

ويمكن حملها على عدم انحصار العلاج بذلك حتى ان بعض محققي متأخري المتأخرين جعل من مستحبات الوضوء ان لا يضع على أعضاء طهارته عند الحاجة إلى العلاج ما لا يقدر على أخذه عند الوضوء أو ما لا يصل اليه الماء إلا مع انحصار العلاج فيه ، ثم قال : «وفي حرمته تأمل ، ينشأ من عموم الرخصة ، ومن خصوص الموثقة المذكورة».

وفيه ما لا يخفى ، فان العمل بظاهر الرواية المذكورة ممنوع بما ذكرنا لك من الأدلة ، فطرحها رأسا لما ذكرنا ليس بذلك البعيد ، لا سيما والراوي عمار المتفرد برواية الغرائب ، كما طعن به عليه المحدث الكاشاني في مواضع من كتاب الوافي.

وحملها الشيخ في التهذيب على انه لا يجوز ذلك مع الاختيار ، فاما مع الضرورة

__________________

(١) ج ١ ص ٣٠ وفي الوسائل في الباب ٣٨ من أبواب الوضوء.

(٢) تقدم في الصحيفة ٣٨١.

٣٨٤

فلا بأس به ، قيل : «وهو مجمل محتمل لأن يراد بالاختيار المقابل بالضرورة ارتفاع الضرورة والحاجة مطلقا ، وارتفاع الضرورة الخاصة الداعية إلى العلاج الخاص مما لا يمكن نزعه عند الوضوء وما لا يصل اليه الماء ، وربما كان المتبادر من كلامه الأول» انتهى

وبالجملة فإن أمكن حملها على وجه تنتظم به مع تلك الأخبار وإلا فطرحها متعين ، فما وقع فيه بعض متأخري متأخرينا بسببها من الاشكال ليس بذلك القريب الاحتمال.

(الخامس) ـ ان ما دلت عليه موثقة عمار المروية في موضع آخر عن إسحاق ابن عمار (١) ـ في من انكسر ساعده أو موضع من مواضع الوضوء فلا يقدر ان يمسح على موضع الكسر لمحل الجبر ، من انه يضع إناء فيه ماء ويضع موضع الجبيرة فيه على وجه يصل إلى البشرة ـ لعله مستند الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيما قدمنا نقله عنهم من انه لو تعذر النزع وأمكن إيصال الماء إلى ما تحت الجبيرة وجب مقدما على المسح على الجبيرة. والشيخ (رضوان الله عليه) حمل الرواية المذكورة على الاستحباب. قائلا انه مع الإمكان وعدم التضرر يستحب له ذلك. وفيه انه انما صير إلى المسح لتعذر الغسل فمع إمكانه على الوجه المذكور يكون واجبا لا مستحبا ، وحينئذ فالخبر محمول على إمكان إيصال الماء وان كان مطلقا في ذلك ، للإجماع ظاهرا ، ولزوم الحرج والمشقة المنفيين عقلا ونقلا ، والروايات المتقدمة.

(السادس) ـ ظاهر الروايات الدالة على المسح على الجبيرة استيعاب الجبيرة بالمسح ، وهو ظاهر المشهور ، وجعله الشيخ في المبسوط أحوط ، وحسنه في الذكرى مستشكلا في وجوب الاستيعاب بصدق المسح عليها بالمسح على جزء منها كصدق المسح على الرجلين والخفين عند الضرورة. ولقائل أن يقول ان تبعيض المسح في الرجلين انما هو لمكان الباء في المعطوف عليه وفي الخفين لتبعيته حينئذ لهما. واستدل أيضا في المعتبر على وجوب الاستيعاب بان المسح بدل من الغسل فكما يجب الاستيعاب في الغسل يجب في بدله. وصريح الأخبار

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب الوضوء.

٣٨٥

المذكورة عدم وجوب اجراء الماء على الجبيرة وان أمكن فلا يجب حينئذ لعدم ورود الأمر به ، واحتمل العلامة في النهاية وجوب أقل ما يسمى غسلا. وهو بعيد.

(السابع) ـ ان ما دل عليه جملة من تلك الأخبار من الأمر بالتيمم لذي القروح والجروح مناف لما دل عليه الجملة الأخرى من المسح على الجبيرة وغسل ما حول الخالي عنها ، وقد اختلف كلام الأصحاب في وجه الجمع بينها على وجوه لا يخلو أكثرها من الإيراد والبعد عن المراد ، والذي يقوى في البال حمل روايات التيمم على التخصيص بالبدلية من الغسل ، سيما فيما إذا كانت القروح والجروح كثيرة متعددة في البدن ، وقوفا على ظواهر ألفاظها ، فإنها إنما وردت بالنسبة إلى الغسل خاصة ، ووقوع السؤال فيها عن القروح والجروح بلفظ الجمع ، ومن الغالب لزوم الحميات لذلك ، وبكشف البدن لأجل الغسل ربما أضر به ملاقاة الهواء لذلك ، كما تدل عليه رواية جعفر بن إبراهيم الجعفري ، فإنها تضمنت انه بعد الغسل كز فمات ، والكزاز كغراب داء يتولد من شدة البرد. وهو قرينة ما قلناه من لزوم الحميات للقروح والجروح وتضرر البدن لذلك بكشفه في الهواء ، ومثلها ظاهر روايتي محمد بن مسكين وابن أبي عمير وظاهر رواية العياشي ، فإنها صرحت أولا بأنه يجزيه المسح على الجبائر في الوضوء والغسل حيث لا يخاف على نفسه ، ومع الخوف على نفسه بإفراغ الماء على جسده فإنه ينتقل إلى التيمم ، لان قراءته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الآية المذكورة يريد المنع من الغسل والانتقال إلى بدله من التيمم.

وبالجملة فروايات التيمم مشعرة بكون السبب في العدول اليه هو التضرر بكشف البدن للغسل من أجل ما فيه من القروح والجروح ، بخلاف روايات المسح على الجبيرة والغسل لما حول الجرح ، فإنها اما صريحة في الوضوء بخصوصه كحسنة الحلبي ورواية عبد الأعلى وحسنة الوشاء واما فيه وفي الغسل لكن لا على الوجه الذي أشرنا إليه كصحيحة عبد الرحمن وصدر رواية العياشي واما عامة لهما كرواية عبد الله بن سنان

٣٨٦

ورواية كليب الأسدي ، وحينئذ فالتيمم في هذه المسألة مخصوص بالبدلية عن الغسل على ذلك الوجه ، والمسح على الجبيرة والغسل لما حول الجرح والقرح مخصوص بالوضوء والغسل على غير ذلك الوجه وعلى ذلك تنتظم الأخبار على وجه واضح المنار ، والاحتياط لا يخفى.

(المسألة الثانية عشرة) ـ قد صرح أكثر الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان صاحب السلس ـ وهو الذي لا يمسك بوله ـ يتوضأ لكل صلاة ويغتفر حدثه بعده ، نظرا إلى أنه بتجدد البول يصير محدثا فتجب عليه الطهارة ويمنع من المشروط بها إلا ان ذلك لما امتنع اعتباره مطلقا لتعذره وجب عليه الوضوء لكل صلاة مراعاة لمقتضى الحدث حسب الإمكان.

ونقل عن الشيخ في المبسوط جواز الجمع بين صلوات كثيرة بوضوء واحد ، محتجا بأنه لا دليل على تجديد الوضوء وحمله على الاستحاضة قياس لا نقول به. وهذا الكلام محتمل لوجهين : (أحدهما) ـ عدم جعل البول بالنسبة إليه حدثا وحصر احداثه فيما عداه. و (ثانيهما) ـ عدم جعل ما يخرج بالتقاطر حدثا واما الذي يخرج بالطريق المعهود فيكون حدثا.

وذهب العلامة في المنتهى إلى جواز الجمع بين كل من الظهرين والعشاءين بوضوء واحد واختصاص الصبح بوضوء واحد واما ما عداها فيجب الوضوء لكل صلاة ، واحتج على ذلك بصحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) انه قال : «إذا كان الرجل يقطر منه البول والدم ، إذا كان حين الصلاة اتخذ كيسا وجعل فيه قطنا ، ثم علقه عليه وادخل ذكره فيه ، ثم صلى : يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر يؤخر الظهر ويعجل العصر بأذان وإقامتين ، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء بأذان وإقامتين ، ويفعل ذلك في الصبح». واما وجوب الوضوء لكل صلاة فيما عدا ما ذكر فوجهه ما تقدم من

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٩ ـ من نواقض الوضوء.

٣٨٧

دليل القول الأول كما صرح به في المنتهى.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة صحيحة حريز المتقدمة.

وحسنة منصور بن حازم (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الرجل يعتريه البول ولا يقدر على حبسه؟ قال : فقال لي : إذا لم يقدر على حبسه فالله اولى بالعذر يجعل خريطة».

ورواية الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «سئل عن تقطير البول. قال يجعل خريطة إذا صلى».

وموثقة سماعة (٣) قال : «سألته عن رجل أخذه تقطير من فرجه اما دم واما غيره قال فليصنع خريطة وليتوضأ وليصل ، فان ذلك بلاء ابتلى به فلا يعيدن إلا من الحدث الذي يتوضأ منه».

وأنت خبير بان ما عدا صحيحة حريز من الروايات المذكورة لا تعرض فيها للوضوء بكونه لكل صلاة ولا لكل صلاتين بل هي مطلقة في ذلك ، وقصارى ما تدل عليه جواز الدخول في الصلاة في تلك الحال مع وجوب التحفظ من النجاسة بحسب الإمكان دفعا للحرج والمشقة المفهومين من أولوية الله سبحانه بالعذر وانه بلاء ابتلى به ، وان الخريطة بالنسبة إليه كجزء من بدنه لا ينقض من النجاسة إلا ما خرج منها دون ما بقي فيها ، ومقتضى القاعدة حمل مطلق الأخبار على مقيدها ، وبه يظهر قوة ما ذهب إليه في المنتهى ورجحه السيد في المدارك أيضا. واما ما عدا الفرائض اليومية فيشكل الوجه فيه لعدم الدليل الناص على حكمه. والاحتياط في المقام بوضع الخريطة المحشوة بالقطن والوضوء لكل صلاة في اليومية وغيرها. وقوله (عليه‌السلام) في آخر موثقة سماعة : «فلا يعيدن إلا من الحدث الذي يتوضأ منه». محتمل للمعنيين المتقدمين في كلام الشيخ

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٩ ـ من نواقض الوضوء.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٧ ـ من نواقض الوضوء.

٣٨٨

في المبسوط ، وكيف كان فهي ظاهرة في كون التقطير ليس حدثا بالنسبة إليه.

ثم انهم صرحوا بأنه متى كان للسلس فترة ينقطع فيها التقطير تسع الطهارة والصلاة وجب انتظارها ، لزوال الضرورة التي هي مناط التخفيف. ولا ريب في أولويته ورجحانه. وذكر البعض أيضا وجوب المبادرة إلى الصلاة بعد الوضوء ، وهو كذلك.

واما المبطون وهو من به داء البطن بخروج غائط أو ريح لا يتمكن من حبسه ، فقد ذكر جمع من الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه يتوضأ لكل صلاة.

والعلامة في المنتهى مع تصريحه بجمع ذي السلس بين الصلاتين صرح هنا بوجوب الوضوء لكل صلاة ومنع من الجمع ، معللا بان الغائط حدث فلا يستباح معه الصلاة إلا مع الضرورة وهي متحققة في الواحدة دون غيرها. ولا يخفى ان ما ذكره جار في السلس أيضا لكن كأنه قال بجواز الجمع هناك للصحيحة المتقدمة المختصة به.

وصرح الأكثر بأنه متى تطهر ودخل في الصلاة ثم فاجأه الحدث فيها تطهر وبنى.

وذهب العلامة في المختلف إلى وجوب استئناف الطهارة والصلاة مع إمكان التحفظ بقدر زمانهما وإلا بنى بغير طهارة ، لأن الحدث المذكور لو نقض الطهارة لا بطل الصلاة ، لان من شروط الصلاة استمرار الطهارة ورد بان ما ذكره من التعليل مصادرة على المطلوب. وأجيب بمنع المصادرة بل هو احتجاج على هذه المقدمة بالإجماع. وفيه ما لا يخفى لمنع الاتفاق على الشرطية بالمعنى المدعى في موضع النزاع.

وذكر جمع من المتأخرين في ذلك تفصيلا وهو انه لا يخلو اما ان يكون له فترة تسع الطهارة والصلاة أم لا ، وعلى الثاني فلا يخلو اما ان يستمر حدثه بحيث لا يتمكن من الدخول في الصلاة على طهارة أم لا ، فعلى الأول يجب عليه انتظار حصول الفترة ، وعلى الأول من الثاني يتوضأ لكل صلاة ويغتفر حدثه الواقع بعد الوضوء ولو في أثناء الصلاة دفعا للحرج ، وعلى الثاني فالمشهور انه متى فاجأه في الصلاة فإنه يتوضأ ويبنى ، وقيل بالتفصيل الذي تقدم عن المختلف. ومحل الخلاف في المسألة غير منقح في كلامهم.

٣٨٩

والذي وقفت عليه من الأخبار في المسألة موثقة محمد بن مسلم (١) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن المبطون. فقال : يبنى على صلاته».

وموثقته الأخرى عنه (عليه‌السلام) (٢) قال : «صاحب البطن يتوضأ ثم يرجع في صلاته فيتم ما بقي».

وصحيحته المروية في الفقيه عنه (عليه‌السلام) (٣) قال : «صاحب البطن الغالب يتوضأ ويبنى على صلاته».

وهذه الروايات ـ كما ترى ـ مطلقة لا دلالة فيها على خصوص فرد من تلك الأفراد المفصلة ، والمفهوم من كلام بعضهم حملها على ما إذا كان ثمة فترة تسع الصلاة أو بعضها فتوضأ ودخل في الصلاة ثم فاجأه الحدث ، ومن كلام بعض آخر على ما إذا دخل في الصلاة متطهرا مطلقا أعم من ان تكون فترة تسع الصلاة كلا أو بعضا أو بمقدار الطهارة خاصة كما هو المفهوم من التفصيل المتقدم.

والتحقيق في المقام ان الروايات المذكورة مطلقة إلا انه ان كان الحدث المذكور متكررا بحيث يؤدي إعادة الوضوء بعد الدخول في الصلاة إلى العسر والحرج ويلزم منه الكثرة الموجبة لبطلان الصلاة ، فالظاهر وجوب الاستمرار في الصلاة وعدم إيجابه الوضوء عملا باخبار سهولة الحنيفية وسعة الشريعة ورفع الحرج في الدين ، وإلا فالظاهر دخوله تحت الأخبار ووجوب الوضوء والبناء. ويحتمل قريبا ان معنى الرواية الاولى والثالثة ان المبطون يبني على صلاته يعني لا يقطعها بالحدث الواقع في أثنائها ، وقوله في الأخيرة يتوضأ يعني قبل الدخول في الصلاة. إذ ليس فيها دلالة بل ولا إشارة إلى دخوله في الصلاة خاليا من الحدث ، بل ربما أشعر قوله في الأخيرة : «صاحب البطن الغالب ...» باستمرار خروج الحدث ، وحينئذ فتكون الروايتان دليلا لما ذكرناه

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٩ ـ من نواقض الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٩ ـ من نواقض الوضوء. وفي التهذيب والوافي والوسائل تقييد البطن فيها بالغالب.

(٣) ج ١ ص ٢٣٧.

٣٩٠

في الشق الأول ، واما الرواية الوسطى فهي صريحة في كون الوضوء في أثناء الصلاة للفظ الرجوع وإتمام ما بقي فتجعل دليلا لما ذكرناه في الشق الثاني ، قال في الذكرى : «والظاهر انه لو كان في السلس فترات والبطن تواتر ، أمكن نقل حكم كل منهما إلى الآخر» انتهى.

ثم لا يخفى ان الروايات الواردة في السلس تضمنت انه بعد وضع الخريطة يصلي وان كان قد دخل في الصلاة بطهارة من الحدث والخبث ، فاجأه الحدث في أثنائها أم لا وروايات المبطون تضمنت اعادة الوضوء والبناء ، ولعل الوجه فيه ما أشرنا إليه آنفا من ان الخريطة المذكورة تكون كالجزء من بدنه ، والاحتياط في المقام بل وفي كل مقام من أعظم المهام.

(المسألة الثالثة عشرة) ـ ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لو شك في شي‌ء من أفعال الوضوء فان كان على حاله اتى به وبما بعده ما لم يجف السابق وإلا أعاد ، وان انتقل إلى حال اخرى مضى ولم يلتفت.

وتحقيق هذا القول يقع في موارد : (الأول) ـ الظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في وجوب الإتيان بالمشكوك فيه متى كان على حال الوضوء اي مشتغلا بأفعاله وان كان في آخره وقد شك في شي‌ء من اوله.

لما رواه زرارة في الصحيح عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا كنت قاعدا على وضوئك ولم تدر أغسلت ذراعيك أم لا؟ فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه انك لم تغسله أو تمسحه مما سمى الله ما دمت في حال الوضوء. فإذا قمت من الوضوء وفرغت وقد صرت إلى حال أخرى في صلاة أو غير صلاة وشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوء فلا شي‌ء عليك ، وان شككت في مسح رأسك وأصبت في لحيتك بلة فامسح بها عليه وعلى ظهر قدميك ، وان لم تصب بلة فلا تنقض الوضوء بالشك وامض في صلاتك ، وان تيقنت انك لم تتم

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الوضوء.

٣٩١

وضوءك فأعد على ما تركت يقينا حتى تأتي على الوضوء». وهو ـ كما ترى ـ ظاهر الدلالة على انه ما لم يفرغ من وضوئه فإنه يتلافى ما شك فيه.

وروى عبد الله بن أبي يعفور في الموثق عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشي‌ء إنما الشك إذا كنت في شي‌ء لم تجزه».

وضمير غيره كما يحتمل رجوعه إلى الوضوء فيكون الحديث المذكور دالا على ما دلت عليه الصحيحة المذكورة كذلك يحتمل رجوعه إلى شي‌ء ، والظاهر انه الأقرب بحسب السياق ، وفيه حينئذ دلالة على عدم الرجوع إلى فعل مع الشك فيه بعد الدخول فيما يليه ، ولا نعلم به قائلا من الأصحاب في هذا المقام ، وعلى ذلك فيكون منافيا للصحيحة المتقدمة. وأظهر منه في المنافاة بذلك قوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة (٢) : «إذا خرجت من شي‌ء ثم دخلت في غيره فشكك ليس شي‌ء». وقوله (عليه‌السلام) في موثقة محمد بن مسلم (٣) : «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو». وقوله في رواية أبي بصير (٤) : «كل شي‌ء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه». لصدق الشيئية على كل فعل من أفعال الوضوء وصدق الغيرية على كل منها بالنسبة إلى ما سواه ، وقصر معنى الشي‌ء في جميع هذه الأخبار على الوضوء مما لا يرام تجشمه ، وبذلك يظهر المنافاة بين جملة هذه الأخبار وبين الصحيحة المتقدمة.

وربما يجاب بقصر الأخبار الثلاثة الأخيرة على موردها وهو الصلاة كما تضمنه صدر كل منها من تعداد السؤال عن جملة من أفعال الصلاة ، أو عمومها وتخصيصها بالصحيحة المتقدمة ، ولعله أظهر لاستنادهم إلى العمل بالكلية المنصوصة فيها في مواضع عديدة غير الصلاة ، واما موثقة ابن أبي يعفور فيتعين حملها على المعنى الأول ،

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الوضوء.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الخلل في الصلاة.

(٤) المروية في الوافي في باب (الشك في اجزاء الصلاة).

٣٩٢

ولا مندوحة عن ارتكاب التأويل في الروايات المذكورة وحمل الموثقة على ما ذكرنا لإطباق الأصحاب على ان محل الرجوع مدة كونه على وضوئه كما هو مقتضى الصحيحة المذكورة.

(الثاني) ـ هل الحال الذي يتلافى المشكوك فيها عبارة عن حالة الاشتغال بالوضوء فلو فرغ منه وان بقي في محله لا يلتفت حينئذ وان التقييد بالقيام والصيرورة إلى حال اخرى ـ كما اشتملت عليه صحيحة زرارة المتقدمة ـ إنما خرج مخرج الغالب من ان المتوضئ إذا فرغ من وضوئه فالغالب انه يقوم من محله أو يتشاغل بحالة أخرى ، أو انه عبارة عن البقاء في موضع وضوئه إلى ان يقوم أو يتشاغل بأمر آخر ما لم يطل القعود حملا لتلك الألفاظ المذكورة على ظاهرها؟ قولان : ظاهر الذكرى والدروس الثاني ، وبالأول صرح جمع من المتأخرين : منهم ـ ثاني المحققين وثاني الشهيدين في شرح القواعد والروض وشرح الرسالة والسيد السند في المدارك ، بل الظاهر انه المشهور في كلام المتأخرين ، واستظهره في كتاب رياض المسائل وحمل الصحيحة المتقدمة وما أشبهها من عبائر متقدمي الأصحاب على الخروج مخرج الغالب. وظاهر المولى الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد التوقف في ذلك بعد نسبته ذلك إلى ظاهر الأصحاب ، حيث قال بعد كلام في المسألة : «ولكن هنا خفاء في ان المراد بعدم الالتفات بعد الانصراف ما هو؟ ظاهر الأصحاب ان مجرد الفراغ يوجب ذلك ، وفي بعض الأخبار قيد بقوله : إذا فرغ وانتقل ودخل في شي‌ء آخر مثل الصلاة وغيره ، فهو محل تأمل وان كان ظاهر بعض الأدلة ما ذكره الأصحاب» انتهى. ولعله أشار بظاهر بعض الأدلة الدال على ما ذكره الأصحاب إلى حسنة بكير (١) قال : «قلت له : الرجل يشك بعد ما يتوضأ؟ قال هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك». فإنها صريحة في عدم الالتفات إلى الشك بعد إكمال الوضوء وان لم يحصل الانتقال إلى حالة اخرى ، وموثقة ابن أبي يعفور المتقدمة حيث قال

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الوضوء.

٣٩٣

في آخرها : «انما الشك إذا كنت في شي‌ء لم تجزه». يعني إنما الشك الموجب للعمل بمقتضاه من الانيان بالمشكوك فيه إذا كنت في شي‌ء لم تخرج عنه ولم تجزه ، وحينئذ فالمراد بقوله في صدرها : «وقد دخلت في غيره» كناية عن مجرد الفراغ ، والترجيح في المقام لا يخلو عن اشكال وان كان القول المشهور لا يخلو من قوة.

لكن يبقى في المقام إشكال أشار إليه السيد السند في المدارك فيما إذا تعلق الشك بالعضو الأخير ، لعدم تحقق الإكمال الموجب لإلغاء الشك. وربما يدفع بان الظاهر تحقق الإكمال والفراغ بمجرد ان يجد نفسه غير مشتغل بأفعال الوضوء بعد تيقن التلبس به فحينئذ لو طرأ الشك لم يعتد به.

وكيف كان فالأحوط بناء على هذا القول التدارك ما لم يحصل القيام أو ما في حكمه ، وبعض الأصحاب صار إلى القول الأول احتياطا ، ولا ريب انه أحوط.

(الثالث) ـ قد عرفت مما أشرنا إليه آنفا اشتراط الأصحاب في الاكتفاء بالإتيان بالمشكوك وما بعده عدم جفاف ما تقدم ، وإلا فالواجب عندهم الإعادة تحصيلا للموالاة الواجبة. وأنت خبير بان الظاهر من الرواية المتقدمة (١) التي هي مستند هذا الحكم الإعادة على العضو المشكوك مطلقا بدون تقييد بعدم الجفاف. وما تقدم من الروايات الدالة على تفسير الموالاة بمراعاة الجفاف لا عموم فيه على وجه يشمل ما نحن فيه حتى يخصص به هذا الإطلاق ، إذ ليس إلا صحيحة معاوية بن عمار وموثقة أبي بصير كما حققناه سابقا (٢) وموردهما خاص بنفاد الماء وعروض الحاجة ، ولعله إلى هذا يشير كلام المحدث الحر (قدس‌سره) في كتاب الوسائل حيث قال : «باب ان من شك في شي‌ء من أفعال الوضوء قبل الانصراف وجب ان يأتي بما شك فيه وبما بعده ، ومن شك بعد الانصراف لم يجب عليه شي‌ء ...» فإنه ظاهر في مراعاة الترتيب بالإتيان بما شك فيه وما بعده أعم من ان يجف ما قبله أم لا ، مع تخصيصه في كتاب البداية فيما تقدم

__________________

(١) وهي صحيحة زرارة المتقدمة في الصحيفة ٣٩١.

(٢) ص ٣٥٠.

٣٩٤

الابطال بالجفاف بالتراخي والتفريق كما أوضحناه هناك ، والحق ان الكلام معهم (رضوان الله عليهم) يرجع إلى أصل المسألة. فإنهم حيث ذهبوا في تفسير الموالاة التي هي أحد واجبات الوضوء عندهم إلى مراعاة الجفاف مطلقا أو في صورة خاصة ، بناء على الخلاف المتقدم ، اتجه لهم تمشية ذلك في جملة فروع المسألة ، واما على ما حققناه آنفا من التخصيص فلا ، فالكلام هنا يتفرع على ذلك. وكيف كان فالأحوط هو الوقوف على ما قرروه شكر الله تعالى اجتهادهم وأجزل اسعادهم.

(الرابع) ـ صرح جمع : منهم ـ الشهيد في الذكرى بأنه لو كثر شكه فالأقرب إلحاقه بحكم كثير الشك في الصلاة دفعا للعسر والحرج ، وأيده السيد السند في المدارك بقوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة وأبي بصير (١) الواردة في من كثر شكه في الصلاة بعد ان أمر بالمضي في الشك : «لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطيعوه ، فان الشيطان خبيث معتاد لما عود». قال : «فان ذلك بمنزلة التعليل لوجوب المضي في الصلاة فيتعدى إلى غير المسؤول عنه» انتهى.

أقول : ويؤيده أيضا ظاهر صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «قلت له رجل مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت هو رجل عاقل؟ فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : واي عقل له وهو يطيع الشيطان؟ فقلت له وكيف يطيع الشيطان؟ فقال : سله هذا الذي يأتيه من أي شي‌ء هو ، فإنه يقول لك من عمل الشيطان». فان الظاهر ان ابتلاءه بذلك باعتبار كثرة الشك في أفعالهما. واما حمله على ما يشمل الوسواس في النية ـ كما ذكره الشارح المازندراني في شرح أصول الكافي ـ فظني انه بعيد غاية البعد ، لأن النية في الصدر السابق ليست على ما يتراءى الآن من صعوبة الإتيان بها ولهذا لم يجر لها ذكر في كلام السلف ولا في الأخبار كما أوضحناه سابقا على وجه واضح

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الخلل في الصلاة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٠ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

٣٩٥

المنار ساطع الأنوار ، والوسواس فيها انما حدث بما أحدثه متأخر وأصحابنا (رضوان الله عليهم) من البحث فيها وفي قيودها والمقارنة بها ونحو ذلك.

(الخامس) ـ الظاهر ـ كما صرح به بعض محققي المتأخرين ـ ان عدم الالتفات إلى ما شك فيه وتركه رخصة لا انه يحرم فعله ، وكذا في صورة تيقن الطهارة والشك في الحدث ، لعموم الاحتياط الموجب المشي على الصراط الذي هو عبارة عن الإتيان بما يتيقن به الخروج عن العهدة على جميع الاحتمالات. ويحتمل الثاني لعموم قوله (عليه‌السلام) في موثقة بكير (١) : «إذا استيقنت أنك أحدثت فتوضأ ، وإياك ان تحدث وضوء ابدا حتى تستيقن انك قد أحدثت». والظاهر حمل الخبر المذكور على المنع عن احداث الوضوء على سبيل الوجوب والحتم ، لعدم العمل به على ظاهره إجماعا نصا وفتوى.

(المسألة الرابعة عشرة) ـ لو شك في الطهارة مع تيقن الحدث أو تيقنها مع الشك فيه ، بنى على يقينه في الموضعين إجماعا نصا وفتوى.

ومن الأخبار الواردة في ذلك موثقة بكير المتقدمة ، وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٢) في حديث قال فيه : «قلت : فان حرك إلى جنبه شي‌ء ولم يعلم به؟

قال : لا حتى يستيقن انه قد نام حتى يجي‌ء من ذلك أمر بين ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين ابدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر».

إذا عرفت ذلك ففي المقام فوائد ثلاث : (الاولى) ـ المفهوم من كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم) استثناء صورة واحدة من هذه القاعدة ، وهو ما إذا بال ولم يستبرئ ثم خرج بلل مشتبه ، فإنهم صرحوا بوجوب الوضوء في الصورة المذكورة بلا خلاف ، بل عن ابن إدريس دعوى الإجماع عليه ، ويدل عليه مفهوم قول الصادق (عليه‌السلام)

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء ، و ٤٤ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

٣٩٦

في صحيحة ابن البختري (١) : «ينتره ثلاثا ثم ان سال حتى يبلغ الساق فلا يبال». وقول الباقر (عليه‌السلام) في حسنة محمد بن مسلم (٢) : «يعصر أصل ذكره إلى طرفه ثلاث عصرات وينتر طرفه ، فان خرج بعد ذلك شي‌ء فليس من البول ولكنه من الحبائل». وصريح صحيحة محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) (٣) الواردة في غسل الجنابة حيث قال فيها : «وان كان بال ثم اغتسل ثم وجد بللا فليس ينقض غسله ولكن عليه الوضوء». ومضمرة سماعة (٤) : «وان كان بال قبل ان يغتسل فلا يعيد غسله ولكن يتوضأ ويستنجى». وهاتان الروايتان وان أطلقتا الوضوء بخروج البلل وان كان مع الاستبراء إلا أنهما مقيدتان بالأخبار المتقدمة مضافة إلى الإجماع على عدم الوضوء مع الاستبراء ، وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا الأوحد في كتاب رياض المسائل ، حيث قال بعد نفل الاحتجاج على الحكم المذكور بمفهوم الروايتين المتقدمتين : «وهو ان لم يكن إجماعا محل تأمل» انتهى.

(الثانية) ـ قد أورد في المقام اشكال ، وهو ان الشك المتعلق بأحد النقيضين متى كان عبارة عن تساوي اعتقادي الوجود والعدم نافى اليقين المتعلق بالنقيض الآخر البتة ، لاقتضاء اليقين بوجود أحد النقيضين نفي النقيض الآخر ، فكيف يمكن اجتماع الشك في الحدث مع تيقن الطهارة وبالعكس؟

وأجاب شيخنا الشهيد في الذكرى بان قولنا : اليقين لا يرفعه الشك لا نعني به اجتماع اليقين والشك في الزمان الواحد لامتناع ذلك ، ضرورة ان الشك في أحد النقيضين يرفع يقين الآخر ، بل المعنى به ان اليقين الذي كان في الزمن الأول لا يخرج عن حكمه

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١١ ـ من أحكام الخلوة.

(٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٣ ـ من أبواب نواقض الوضوء و ٣٦ من أبواب الجنابة.

٣٩٧

بالشك في الزمن الثاني لأصالة بقاء ما كان ، فيؤول إلى اجتماع الظن والشك في الزمن الواحد فيرجح الظن عليه كما هو مطرد في العبارات. انتهى ، وحاصل كلامه (قدس‌سره) تغاير زماني الشك واليقين ، كأن يتيقن في الماضي كونه متطهرا ثم يشك في المستقبل في كونه محدثا ، فهذا الشك لا يرفع حكم اليقين السابق بل يستصحب ذلك الحكم السابق ويظن بقاءه إلى ان يتحقق الناقل.

وهو جيد إلا ان قوله : فيؤول إلى اجتماع الظن والشك. إلخ» محل بحث ، إذ عند ملاحظة ذلك الاستصحاب ينقلب أحد طرفي الشك ظنا والطرف الآخر وهما ، فلم يجتمع الظن والشك في الزمان الواحد ، كيف والشك في أحد النقيضين يرفع ظن الآخر كما يرفع يقينه ، كذا أورده بعض محققي المتأخرين عليه.

وأجيب بأن المراد بالشك في هذا المقام ما قابل اليقين ، كما تفهمه جملة الاستدراك في قوله في صحيحة زرارة المتقدمة : «ولكن ينقضه بيقين آخر» بل هذا المعنى هو الموافق لنص أهل اللغة ، واما إطلاقه على تساوي الاعتقادين فهو اصطلاح بعض أهل المعقول وحينئذ فالشك بالمعنى المذكور ـ وهو مطلق التجويز لكل من طرفي النسبة ـ لا انقلاب فيه عند ملاحظة ذلك الاستصحاب ولا يرفع يقينه ، ألا ترى انه قال : «فيؤول إلى اجتماع الظن والشك» أي إلى اجتماع ظن طرفي النسبة وتجويز مخالفه ، ولم يعبر بلفظ الانقلاب المؤدي إلى الانقلاب كما وقع في كلام المعترض. وهو جيد متين إلا ان فيه مناقشة من جهة أخرى سيأتي بيانها ان شاء الله تعالى.

وأجاب السيد السند في المدارك بحمل الحدث هنا على ما تترتب عليه الطهارة أعني نفس السبب لا الأثر الحاصل من ذلك ، قال : «وتيقن حصوله بهذا المعنى لا ينافي الشك في وقوع الطهارة بعده وان اتحد وقتهما» انتهى. وأنت خبير بان مجرد الحمل على نفس السبب لا يحسم مادة الإشكال ما لم يعتبر تعدد زماني الشك واليقين أو تعدد زمان متعلقيهما.

٣٩٨

والأظهر في وجه الجواب ان يقال بجواز التزام اجتماع الشك واليقين في زمان واحد مع تعدد زمان متعلقيهما ، كأن يتيقن الآن حصول الحدث في زمان ماض أعم من ان يراد بالحدث نفس السبب أو الأثر المترتب عليه ثم يشك أيضا في ذلك الآن في وقوع طهارة سابقة متأخرة عن ذلك الحدث ، سواء أريد بالطهارة نفس الوضوء أو أثره المترتب عليه ، ولا شك ان اجتماع اليقين والشك هنا في زمن واحد مما لا شك فيه ولا خلل يعتريه ، لعدم تناقض متعلقيهما لاختلاف زمانيهما كمن تيقن عند الظهر وقوع التطهر صبحا وهو شاك في انقطاعه ، وحينئذ لا يحتاج إلى تكلف التخصيص بالسبب مع ما عرفت فيه. ولا حمل اليقين على الظن.

(الثالثة) ـ هل الظن المقابل لليقين حكمه حكم الشك في وجوب إطراحه بمعارضة اليقين أم لا؟ المشهور ذلك. وظاهر شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين المخالفة في ذلك ، حيث قال ـ بعد ان صرح أولا بان ما ذكروه من ان اليقين لا يرتفع بالشك يرجع إلى استصحاب الحال إلى ان يعلم الزوال ، فان العاقل إذا التفت إلى ما حصل بيقين ولم يعلم ولم يظن طرو ما بزيله حصل له الظن ببقائه ـ ما صورته : «ثم لا يخفى ان الظن الحاصل بالاستصحاب في من تيقن الطهارة وشك في الحدث لا يبقى على نهج واحد ، بل يضعف بطول المدة شيئا فشيئا بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان بل ربما يصير الطرف الراجح مرجوحا ، كما إذا توضأ عند الصبح ـ مثلا ـ وذهل عن التحفظ ثم شك عند الغروب في صدور الحدث منه ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة إلى ذلك الوقت ، والحاصل ان المدار على الظن ، فما دام باقيا فالعمل عليه وان ضعف» ثم نقل عن العلامة في المنتهى ان من ظن الحدث وتيقن الطهارة لا يلتفت ، لان الظن انما يعتبر مع اعتبار الشارع له ، ولأن في ذلك رجوعا عن المتيقن إلى المظنون ، وقال بعده : «انتهى وفيه نظر لا يخفى على المتأمل فيما تلوناه» هذا كلامه (قدس‌سره).

وبعض محققي متأخري المتأخرين بعد ان جزم بموافقة المشهور في صورة الشك

٣٩٩

في الحدث مع يقين الطهارة لدلالة ما قدمنا من الأخبار على ذلك استشكل في صورة العكس لعدم الدليل ، قائلا في توجيه الإشكال : «لأن صحيحة زرارة المتقدمة كما يمكن ان يستدل بها على عدم اعتبار الظن نظرا الى مفهوم «ولكن ينقضه بيقين آخر» كذلك يمكن ان يستدل بها على اعتباره بمفهوم «لا ينقض اليقين بالشك» مع ان الأصل براءة الذمة» انتهى.

أقول : وفيه ان ظاهر قضية الاستدراك يوجب عدم اعتبار الظن بل مساوقته للشك ثم ، وهو المفهوم من جملة الأخبار الواردة في عدم معارضة الشك باليقين ومنها صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره الى قوله : فان ظننت أنه اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فيه فرأيت؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت ولم ذلك؟ قال لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا». ومن المعلوم ان المراد بالشك هنا ما يشمل الظن ، ومثله في الأخبار غير عزيز يقف عليه المتتبع.

ثم أقول : أنت خبير بأن الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) لما بنوا الأحكام الشرعية على ما في الواقع ونفس الأمر وحملوا العلم واليقين في الأخبار المتعلقة بتلك الأحكام على ما هو المطابق للواقع ، أشكل عليهم المخرج في موارد كثيرة تقف عليها في أثناء مباحث هذا الكتاب ان شاء الله تعالى ، وأنت إذا تأملت بعين التحقيق والإنصاف علمت ان الله سبحانه لم يجعل شيئا من الأحكام الشرعية منوطا بالواقع ونفس الأمر دفعا للحرج ولزوم تكليف ما لا يطاق ، فان يقين الطهارة من النجاسة الذي أوجب الشارع البناء عليه ودفع الشك به في لباس المصلي وبدنه وماء طهارته ونحوها

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٧ و ٣٧ و ٤١ و ٤٢ و ٤٤ ـ من أبواب النجاسات بنحو التقطيع.

٤٠٠