الحدائق الناضرة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة ـ نجف
المطبعة: مطبعة النّجف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

ونقل عن بعض المتأخرين انه فهم من هذا الكلام انهم يرون وجوب تجفيف مطلق النجاسة عند تعذر إزالتها ، وان ذلك بدل اضطراري للطهارة من النجاسات كبدلية التيمم للطهارة من الأحداث ، وصرح بالموافقة لهم عليه.

وفيه (أولا) ـ ان ما ذكروه من وجوب المسح بالحجر ونحوه في هذا المقام لا دليل عليه. وما استندوا إليه في الدلالة مجرد اعتبار لا دلالة عليه في الاخبار ، إذ غاية ما يستفاد منها وجوب التطهير بالغسل وصب الماء ، فعند تعذر الماء يسقط التكليف رأسا. وكون الغسل مثلا مشتملا على الأمرين المذكورين لا يستلزم التكليف بأحدهما عند فقده. ولا ريب ان ما ذكروه طريق احتياط لمنع تعدي النجاسة الى الثوب والبدن.

و (ثانيا) ـ ان هذا القائل ان أراد ـ بما فهمه من كلامهم من البدلية ـ ثبوت التطهير بالحجر في حال الضرورة ، كما يفهم من ظاهر كلامه وتمثيله ببدلية التيمم ، فهو مخالف لما عرفت آنفا من الإجماع ـ نصا وفتوى ـ على عدم التطهير في الاستنجاء من البول إلا بالماء أعم من ان يكون حال ضرورة أو سعة ، وعبائر هؤلاء الجماعة الذين قلدهم فيما فهم من كلامهم ناطقة بذلك ، وان أراد مجرد تجفيف النجاسة حذرا من التعدي ، فقد عرفت انه لا دليل عليه وان كان الاولى فعله.

(السادس) ـ الظاهر انه لا يجب الدلك ، لما روى «انه ليس بوسخ فيحتاج ان يدلك» (١). ولما في الاخبار من الأمر بالصب خاصة ، وفي بعضها (٢) بعد الأمر بالصب «فإنما هو ماء». هذا إذا كان رطبا. فلو كان جافا مترا كما فلا يبعد الوجوب. لعدم تيقن

__________________

(١) كما في مرسل الكافي ج ١ ص ٧ وفي الوسائل في الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام الخلوة وفي الباب ـ ١ ـ من أبواب النجاسات.

(٢) وهو خبر البزنطي المروي في الوسائل عن السرائر في الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب أحكام الخلوة ، وفي الباب ـ ١ ـ من أبواب النجاسات.

٢١

الإزالة إلا به ، مع احتمال العدم وقوفا على ظاهر إطلاق الاخبار ، منضما إلى أصالة البراءة. والاحتياط يقتضي الأول البتة.

(السابع) ـ هل يجب على الأغلف في الاستنجاء من البول كشف البشرة وتطهير محل النجاسة ، أو يكتفي بغسل ما ظهر؟ قولان مبنيان على ان ما تحت الغلفة هل هو من الظواهر أو البواطن؟

وبالأول جزم المحقق الشيخ علي (قدس‌سره) في شرح القواعد ، ونقل الثاني فيه عن المنتهى والذكرى ، معللين له بإلحاقه بالبواطن فيغسل ما ظهر ، ثم قال : «وللنظر فيه مجال».

أقول : والذي وقفت عليه في الكتابين المذكورين لا يطابق ما نقل (قدس‌سره) عنهما ، فإنه صرح في الذكرى بأنه يجب كشف البشرة على الأغلف ان أمكن ، ولو كان مرتتقا سقط. ومثله في المنتهى فيما إذا كشفها وقت البول ، اما لو لم يكشفها حال البول فهل يجب كشفها لغسل المخرج؟ فإنه استقرب الوجوب هنا ايضا. ومثله في المعتبر أيضا ، فإنه تردد في هذه الصورة في الوجوب ، ثم اختاره وجعله الأشبه ، معللا له بأنه يجري مجرى الظاهر. وجزم في التذكرة والتحرير بالحكم في هذه الصورة من غير تردد. وبالجملة فإني لم أقف فيما حضرني من كتب الفقهاء علي خلاف في وجوب غسل البشرة في الصورة المذكورة إلا على ما نقله المحقق الشيخ على. وقد عرفت ما فيه. نعم ظاهر المنتهى والمعتبر التردد في ذلك إلا أنهما اختارا الوجوب كما عرفت. ومن ذلك يعلم انه لا ينبغي الركون إلى مجرد النقل والاعتماد عليه بل ينبغي مراجعة المنقول عنه حيث كان وعلى اي نحو كان.

(الثامن) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيمن صلى ناسيا للاستنجاء ، فالمشهور وجوب الإعادة وقتا وخارجا. وعن ابن الجنيد تخصيص وجوب

٢٢

الإعادة بالوقت واختيار الاستحباب خارجه. وعن الصدوق في الفقيه وجوب الإعادة في البول دون الغائط فلا يعيد ، وزاد في البول اعادة الوضوء ايضا. وعن ابن أبي عقيل ان الاولى إعادة الوضوء ولم يقيد ببول ولا غائط. وروايات المسألة مختلفة جدا.

فمما يدل على المشهور صحيحة زرارة (١) قال : «توضأت يوما ولم اغسل ذكري ثم صليت ، فسألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن ذلك ، فقال اغسل ذكرك وأعد صلاتك». وإنما حملنا الرواية على ترك الغسل نسيانا لبعد التعمد من مثل زرارة في الصلاة بغير استنجاء.

وصحيحة عمرو بن أبي نصر المتقدمة في أول المسألة (٢).

وموثقة ابن بكير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) «في الرجل يبول وينسى ان يغسل ذكره حتى يتوضأ ويصلي؟ قال : يغسل ذكره ويعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء».

ومورد الجميع نسيان الاستنجاء من البول. وموثقة سماعة (٤) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : إذا دخلت الغائط فقضيت الحاجة فلم تهرق الماء ، ثم توضأت ونسيت أن تستنجي ، فذكرت بعد ما صليت ، فعليك الإعادة ، وان كنت أهرقت الماء فنسيت ان تغسل ذكرك حتى صليت فعليك اعادة الوضوء والصلاة وغسل ذكرك ، لان البول مثل البراز».

وإطلاق هذه الاخبار يدل على الإعادة وقتا وخارجا.

وبإزائها ما يدل على عدم الإعادة ، كرواية هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٥) «في الرجل يتوضأ وينسى ان يغسل ذكره وقد بال؟ فقال : يغسل ذكره ولا يعيد الصلاة».

ورواية عمرو بن أبي نصر (٦) قال : «قلت لأبي عبد الله : اني صليت

__________________

(١ و ٣ و ٦) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٨ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٢) في الصحيفة ٧.

(٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

٢٣

فذكرت اني لم اغسل ذكري بعد ما صليت ، أفأعيد؟ قال : لا». ومورد الروايتين نسيان البول.

وموثقة عمار بن موسى (١) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : لو ان رجلا نسي ان يستنجى من الغائط حتى يصلي لم يعد الصلاة».

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن رجل ذكر وهو في صلاته انه لم يستنج من الخلاء. قال : ينصرف ويستنجي من الخلاء ويعيد الصلاة ، وان ذكر وقد فرغ من صلاته أجزأه ذلك ولا اعادة عليه».

ومن هذه الأخبار تعلم أدلة القولين الآخرين :

وجمع الشيخ بين هذه الأخبار بما لا يخلو من البعد.

وظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم) جعل هذه المسألة خارجة عن مسألة من صلى في النجاسة ناسيا ، حيث لم ينقل الخلاف هنا في وجوب الإعادة وقتا وخارجا ، إلا عن ظاهر ابن الجنيد حيث خصص الوجوب بالوقت ، وعن الصدوق حيث نفى الإعادة في الغائط. واما هناك فأكثر المتقدمين على الإعادة مطلقا وعن الشيخ في بعض أقواله العدم مطلقا ، وفي كتاب الاستبصار ـ وتبعه عليه رجل المتأخرين ـ الإعادة في الوقت دون خارجه.

وصريح عبارة السيد السند في المدارك ان هذه المسألة من جزئيات تلك ، فإن أراد أنها كذلك عند الأصحاب ، ففيه ما عرفت. وان أراد ان مقتضى الدليل كونها كذلك ، فهو كذلك ، إلا ان اخبار تلك المسألة ايضا على غاية من الاختلاف. وسيأتي بسط الكلام عليها في محلها ان شاء الله تعالى.

نعم يبقى الكلام هنا في الجمع بين اخبار هذه المسألة ، ولعل الترجيح لأخبار

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

٢٤

العدم ، لتأيدها بالأصل ، ويحمل ما يقابلها على الاستحباب جمعا.

واحتمل بعض المتأخرين حمل أخبار الإعادة على انتقاض الوضوء السابق بخروج بلل مع عدم الاستبراء. وفيه انه لا قرينة في شي‌ء من تلك الأخبار تؤنس به. الا انه ربما يجوز ابتناء ذلك على قرينة حالية وان خفيت علينا الآن ، وله نظائر في الاخبار. ولو تم ما استندوا إليه ـ في الجمع بين أخبار الصلاة في النجاسة نسيانا بالإعادة وقتا لا خارجا ـ لأمكن الحمل عليه هنا أيضا. الا انه ـ كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى ـ غير تام. والمسألة لا تخلو عن الاشكال ، لتصادم اخبارها مع صحة الجميع وصراحته. والجمع بما ذكرناه من الوجوه لا يخلو عن بعد. فالاحتياط فيها لازم.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الصدوق (رحمه‌الله تعالى) ذهب إلى وجوب اعادة الوضوء في نسيان الاستنجاء من البول خاصة كما قدمنا ذكره.

وعليه تدل موثقة سماعة المتقدمة (١) وصحيحة سليمان بن خالد عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٢) «في الرجل يتوضأ فينسى غسل ذكره؟ قال : يغسل ذكره ثم يعيد الوضوء».

ومثلها موثقة أبي بصير (٣).

وبإزائها من الأخبار في ذلك صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألته عن الرجل يبول فلا يغسل ذكره حتى يتوضأ وضوء الصلاة. فقال يغسل ذكره ولا يعيد وضوءه».

وصحيحة عمرو بن أبي نصر المتقدمة (٥) وصحيحة أخرى له ايضا (٦) قال :

__________________

(١) في الصحيفة ٢٣.

(٢ و ٣ و ٤ و ٦) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٨ ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(٥) في الصحيفة ٧.

٢٥

«سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يبول فينسى ان يغسل ذكره ويتوضأ قال يغسل ذكره ولا يعيد وضوءه».

وموثقة ابن بكير المتقدمة (١) وحسنة ابن أذينة المتقدمة في صدر المسألة (٢) وجمع الشيخ (رضى الله عنه) بينها بحمل اعادة الوضوء على ما إذا لم يتوضأ سابقا وفيه ان لفظ الإعادة في بعضها ينافيه ، مع ذكر الوضوء سابقا في بعض آخر. وجمع آخرون بحمل الإعادة على الاستحباب. ولا بأس به. إلا ان الأقرب حمل ذلك على التقية ، إذ هي الأصل التام في اختلاف الاخبار كما تقدم بيانه (٣).

وكيف كان فالأحوط إعادة الوضوء في الاستنجاء من البول كما هو مورد تلك الأخبار.

و (منها) ـ الاستنجاء من الغائط. وتحقيق الكلام فيه يقع في مواضع :

(الأول) ـ الظاهر انه لا خلاف في انه مع التعدي يتعين فيه الماء ومع عدمه يتخير بينه وبين الأحجار وشبهها.

لكن بيان معنى التعدي هنا لا يخلو من إجمال واشكال ، حيث ان ما صرح به الأصحاب ـ من انه عبارة عن تجاوز الغائط المخرج وهو حواشي الدبر وان لم يبلغ الأليتين ـ لا دليل عليه في اخبار الاستنجاء بالأحجار الواردة من طرقنا بل هي مطلقة نعم روي من طرق العامة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله «يكفي أحدكم ثلاثة أحجار إذا لم يتجاوز محل العادة» (٤).

__________________

(١) في الصحيفة ٢٣.

(٢) في الصحيفة ٧ ، وقد وصفها هناك بالصحة.

(٣) في المقدمة الأولى في الصحيفة ٤ من الجزء الأول.

(٤) المروي من طرق العامة هو قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «يكفى أحدكم ثلاثة أحجار». ولم نقف على تذييله بالجملة الشرطية المذكورة بعد التتبع في مظانه. والذي يؤيد عدم ورود هذا الذيل من طرقهم هو ما ذكره ابن قدامة الحنبلي في المغني ج ١ ص ١٥٩

٢٦

والظاهر ان مستند أصحابنا في ذلك إنما هو الإجماع كما صرح به جماعة منهم ، ومن ثم توقف فيه جملة من متأخري متأخريهم.

بل جزم البعض ـ كالسيد السند في المدارك ـ بأنه ينبغي أن يراد بالتعدي وصول النجاسة إلى محل لا يعتاد وصولها اليه ، ولا يصدق على إزالتها اسم الاستنجاء.

والظاهر انه الأقرب (اما أولا) ـ فلعموم الأدلة وعدم المحصص.

و (اما ثانيا) ـ فلبناء الأحكام الشرعية على ما هو المتعارف المعتاد المتكرر دون النادر القليل الوقوع ، كما لا يخفى على من تتبع مظانها. ولا يخفى ان المتكرر هو التجاوز مع عدم التفاحش.

و (اما ثالثا) ـ فلما صرحوا به في ماء الاستنجاء من الحكم بطهارته ما لم يتفاحش الخارج على وجه لا يصدق على إزالته اسم الاستنجاء ، وحينئذ فكما بنوا الحكم هناك في طهارة الماء على ما يزال به المعتاد المتكرر الذي يصدق على إزالته اسم الاستنجاء ، فلو تفاحش وخرج عن ذلك المصداق لم يحكم بطهارة غسالته ، فكذا يجب البناء عليه ههنا.

و (اما رابعا) ـ فلانه المناسب لبناء شرعية الأحجار من رفع الحرج والضيق في الشرعية. هذا. والاحتياط لا يخفى.

__________________

حيث قال : «ما عدا المخرج لا يجزئ فيه إلا الماء ، وبه قال الشافعي وإسحاق وابن المنذر ، لان الاستجمار في المحل المعتاد رخصة لأجل المشقة في غسله ، لتكرر النجاسة فيه ، فما لا تتكرر فيه للنجاسة لا يجزئ فيه إلا الغسل كساقه وفخذه. وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «يكفى أحدكم ثلاثة أحجار». أراد به ما لم يتجاوز محل العادة» فإن ذكره بنحو التفسير لكلامه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يدل على عدم وروده وإلا لاستدل به على مدعاه ولم يكن لتنزيل إطلاق الحديث عليه وجه بعد ورود المقيد المتصل ، فالجملة الشرطية المذكورة ليست جزء من الحديث وإنما هي من تفسير الفقهاء.

٢٧

(الثاني) ـ انه مع التعدي هل يجب غسل الجميع بالماء فلا يطهر بغيره ، أو الواجب غسل ما زاد على القدر الذي يجزئ فيه الأحجار ، فلو غسله كفى استعمال الأحجار في الباقي؟ لم أقف على صريح كلام لهم في ذلك إلا ان ظاهر عبارتهم الأول.

(الثالث) ـ الواجب في الغسل غسل ظاهر المخرج دون باطنه بلا خلاف.

وعليه تدل صحيحة إبراهيم بن أبي محمود عن الرضا (عليه‌السلام) (١) «قال في الاستنجاء : يغسل ما ظهر منه على الشرج ولا يدخل فيه الأنملة».

وموثقة عمار (٢) «إنما عليه ان يغسل ما ظهر منها ـ يعني المقعدة ـ وليس عليه ان يغسل باطنها».

(الرابع) ـ قد صرح جمع من الأصحاب بأنه يجب في الغسل هنا ازالة العين والأثر. وغاية ما يستفاد من الأخبار الإنقاء كما في حسنة ابن المغيرة المتقدمة (٣) وهو عبارة عن ازالة العين ازالة تامة وان بقيت الريح ، لقوله في تتمة الرواية المذكورة : «قلت : فإنه ينقى ما ثمة وتبقى الريح؟ قال : الريح لا ينظر إليها». وإذهاب الغائط كما في موثقة يونس بن يعقوب (٤) «يغسل ذكره ويذهب الغائط ...». والغسل كما في ثالث. نعم يستحب المبالغة ، ف إنها مطهرة للحواشي ومذهبة للبواسير ، كما في صحيحة مسعدة بن زياد أو موثقته (٥).

واما ما ذكروا بعد العين من الأثر فلم نقف له في الأخبار على عين ولا أثر ، مع اضطراب كلامهم في تفسيره.

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة ، وفي الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب النجاسات.

(٣) في الصحيفة ١٨.

(٤ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

٢٨

فقيل بأنه ما يتخلف على المحل بعد مسح النجاسة وتنشيفها ، وانه غير الرطوبة لأنها من العين.

واعترض عليه بان هذا المعنى غير متحقق ولا واضح ، وعلى تقدير تحققه فوجوب إزالته إنما يتم مع عدم صدق النقاء والإذهاب والغسل ، وإلا فلو صدق شي‌ء من ذلك قبله لزم الاكتفاء به حسبما دلت عليه تلك الأخبار.

وأجاب بعض محدثي متأخري المتأخرين عن أصل الاعتراض بان المحل يكتسب ملوسة من مجاورة الخارج ، وهذه الملوسة تدرك بالملامسة عند صب الماء ، فلعل مراده هذه ، فإنها غير الرطوبة المذكورة. وفيه من التمحل ما لا يخفى.

وقيل انه اللون ، لانه عرض لا يقوم بنفسه ، فلا بد له من محل جوهري يقوم به ، والانتقال على الاعراض محال ، فوجوده حينئذ دليل على وجود العين.

وفيه (أولا) ـ النقض بالرائحة ، فإنها تحصل بالمجاورة. ومما يؤيد عدم الاستلزام ايضا حدوث الحرارة في الماء بالنار والشمس.

و (ثانيا) ـ تصريح الأصحاب والاخبار بالعفو عن اللون.

و (ثالثا) ـ منع وجوب الإزالة بعد حصول الإنقاء والإذهاب والغسل كما عرفت ، إذ هو غاية ما يستفاد وجوبه من الأخبار.

(الخامس) ـ المشهور ـ بل ادعي عليه الإجماع ـ انه يكفي في الاستنجاء مع عدم التعدي كل جسم طاهر جاف قالع للنجاسة. ونقل عن سلار انه لا يجزئ في الاستجمار إلا ما كان أصله الأرض. وعن ابن الجنيد انه قال : «ان لم تحضر الأحجار تمسح بالكرسف أو ما قام مقامه. ثم قال : ولا اختار الاستطابة بالآجر والخزف إلا ما ألبسه طين أو تراب يابس» وعن المرتضى انه قال : «يجوز الاستنجاء بالأحجار أو ما قام مقامها من المدر والخزف».

٢٩

أقول : والموجود في النصوص من ذلك ـ الأحجار كما في جملة من الأخبار :

(منها) ـ صحيحة زرارة (١) «ويجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار ...».

والكرسف وهو القطن ، كما في صحيحة زرارة (٢) قال : «سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول : كان الحسين (عليه‌السلام) يتمسح من الغائط بالكرسف ولا يغسل».

والمدر والخرق والخزف كما في صحيحة زرارة المضمرة (٣) قال : «كان يستنجى من الغائط بالمدر والخرق والخزف». وربما وجد في بعض نسخ التهذيب بعد المدر «الخزف» بالزاي والفاء خاصة.

ويدل على التعميم ـ كما هو القول المشهور ـ حسنة ابن المغيرة (٤) حيث سأله هل للاستنجاء حد؟ فأجاب (عليه‌السلام): «لا حتى ينقى ما ثمة». وجه الدلالة انه (عليه‌السلام) نفى الحد وناط ذلك بالنقاء ، واشتراط الإزالة بشي‌ء خاص نوع من التحديد زائد على الإنقاء المطلق المتحقق بأي مزيل كان إلا ما قام الدليل على استثنائه.

وموثقة يونس بن يعقوب المتقدمة (٥) المتضمنة لاذهاب الغائط ، فإن ظاهرها الاكتفاء بزوال العين بأي مزيل إلا ما استثنى.

ويعضد ذلك الإجماع المدعى في المقام. وللمناقشة في الجميع مجال.

وظاهر شيخنا صاحب كتاب رياض المسائل وحياض الدلائل التوقف في الحكم

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٦ و ٣٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٣ و ٣٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة ، وفي الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب النجاسات.

(٥) في الصحيفة ٢٨.

٣٠

المذكور ، لعدم الدليل الواضح على العموم. وهو في محله ، لأن الطهارة حكم شرعي يتوقف على ما جعله الشارع مطهرا. وإطلاق الروايتين المذكورتين يمكن تقييده بخصوص الأفراد التي وردت بها النصوص. والإجماع لا يخفى ما فيه. وكيف كان فطريق الاحتياط الاقتصار على ما وردت به الأخبار.

(السادس) ـ قد اشترطوا ـ بناء على القول بالتعميم ـ في آلة الاستنجاء شروطا :

منها ـ الطهارة ، وهو المشهور بل ادعى في المنتهى عليه الإجماع ، واستدل عليه بقوله (عليه‌السلام) في مرسلة أحمد بن محمد بن عيسى (١) : «جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار ويتبع بالماء». وبأنه إزالة نجاسة فلا يحصل بالنجاسة كالغسل. ولاشتماله على نقض الغرض الحاصل من زيادة النجاسة بتعدد نوعها أو شخصها المنافي للحكمة.

وأنت خبير بان جميع ما ذكروه من التعليلات في المقام إنما ينطبق على ما إذا تعدت نجاسة الحجر مثلا إلى المحل ، والمدعى أعم من ذلك. واما الخبر فهو على إطلاقه غير معمول عليه عندهم ، لجواز الاستنجاء بالأحجار المستعملة بعد تطهيرها ، كما لا خلاف فيه بينهم ، فليحمل على الاستحباب في ذلك. كما هو محمول عليه بالنسبة إلى الأتباع بالماء ، ويبقى جواز الاستنجاء بالحجر النجس إذا لم تتعد نجاسته إلى المحل داخلا تحت إطلاق الأخبار وسالما من المانع ، وهم لا يقولون به.

ثم انه بناء على ما ذهبوا اليه من المنع. لو استعمله فهل تبقى الرخصة ، أو يتحتم الماء ، أو يفرق بين ما نجاسته كنجاسة المحل وغيرها؟ أوجه بل أقوال ، ولعل الأوسط أوسط كما انه أحوط.

ومنها ـ الجفاف ، صرح به الأكثر ، فلا يجزئ الرطب عندهم ، اما انه

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

٣١

لا ينشف المحل كما ذكره العلامة في التذكرة ، أو ان البلل الذي عليه ينجس بإصابة النجاسة وتعود نجاستها على الحجر فتحصل عليه نجاسة أجنبية فيكون قد استعمل الحجر النجس ، أو ان الرطب لا يزيل النجاسة بل يزيد التلويث والانتشار كما ذكره (قدس‌سره) في النهاية.

وفي الجميع نظر (اما الأول) فلان تنشيف المحل من النجاسة سيما في المسحة الثالثة لا ينافي رطوبته بالحجر حال الاستعمال ، لجريان ذلك في الماء أيضا ، فإنه يكون مطهرا وقالعا للنجاسة مع رطوبة المحل به.

و (اما الثاني) فلان نجاسة البلة التي تعود على الحجر انما هي بنجاسة المحل ، وهي غير ضارة ، وإلا لأدى إلى عدم التطهير بالماء أيضا ، إلا ان يكون مما لا ينفعل بالملاقاة ، أو يقال بعدم انفعال قليله بها.

وبالجملة فالأخبار بالنسبة إلى هذين الشرطين مطلقة ، والأدلة التي ذكروها لا تنهض ـ كما عرفت ـ بالدلالة وان كان الاحتياط يقتضي المصير إلى ما ذكروه.

ومنها ـ كونه قالعا للنجاسة ، بمعنى ان لا يكون صقيلا يزلق عن النجاسة كالزجاج ونحوه ، ولا لزجا ولا رخوا كالفحم ، لعدم قلع النجاسة. ولا ريب في ذلك مع عدم قلع النجاسة ، اما لو فرض قلعه النجاسة فالظاهر ـ كما صرح به البعض ـ حصول التطهير به ، لصدق الامتثال بناء على ثبوت الكلية التي أدعوها خلافا لجمع : منهم ـ العلامة في النهاية.

(السابع) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في اجزاء الأحجار ونحوها مع عدم التعدي ، والأخبار به متظافرة ، بل ربما يدعى ضروريته من الدين.

ففي صحيح زرارة (١) «ويجزئك من الاستنجاء ثلاثة أحجار ، بذلك جرت السنة من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ...».

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

٣٢

وفي صحيحة المضمر (١) «كان يستنجي من البول ثلاث مرات : ومن الغائط بالمدر والخرق والخزف».

وفي صحيحته الثالثة (٢) «كان الحسين بن علي (عليهما‌السلام) يتمسح من الغائط بالكرسف ولا يغسل».

وفي صحيحة رابعة له أيضا (٣) «جرت السنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان ولا يغسله ...». إلى غير ذلك من الأخبار.

وحينئذ فما ورد مما يدل بظاهره على خلاف ذلك يجب ارتكاب التأويل فيه.

كموثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) «في الرجل ينسى ان يغسل دبره بالماء حتى صلى إلا انه قد تمسح بثلاثة أحجار؟ قال : ان كان في وقت تلك الصلاة فليعد الوضوء وليعد الصلاة. وان كان قد مضى وقت تلك الصلاة التي صلى فقد جازت صلاته ، وليتوضأ لما يستقبل من الصلاة».

وحملها الشيخ على الاستحباب ، ويمكن الحمل أيضا على حالة التعدي ، ولعله (عليه‌السلام) علم ذلك فأجاب بالإعادة ، ومثله في الأخبار غير عزيز.

وكيف كان فهي قاصرة عما قدمنا من الأخبار ، مع ما في روايات عمار من التهافت ، وفي تتمة هذه الرواية ما يؤيد ما قلنا من نقض الوضوء بمس باطن الدبر وباطن الإحليل. والعجب من الصدوق (قدس‌سره) حيث افتى بمضمون صدر هذه الرواية في المقنع ، كما افتى بعجزها في الفقيه ، كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى ، مع مخالفتها في الموضعين للأخبار المستفيضة.

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ـ ٢٦ و ٣٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٠ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

٣٣

ورواية عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (عليه‌السلام) (١) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إذا استنجى أحدكم فليوتر بها وترا إذا لم يكن الماء». وضمير بها يعود إلى أداة الاستنجاء المدلول عليها بقوله : «إذا استنجى» ومفهومه عدم اجزاء الاستنجاء بالأحجار ونحوها مع وجود الماء.

والأظهر حملها على الاستحباب وأفضلية الماء ، وعلى ذلك أيضا تحمل مرسلة أحمد المرفوعة إلى أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار ويتبع بالماء».

واحتمل بعض الحمل على التعدي في الخبرين المذكورين.

(الثامن) ـ الظاهر انه لا خلاف في وجوب الزيادة على الثلاثة مع عدم النقاء بها كما نقله غير واحد ، وانما اختلفوا في وجوب التثليث مع حصول النقاء بالأقل ، فظاهر المشهور ذلك وقيل بالعدم ، وهو المنقول عن المفيد (رحمه‌الله) واختاره في المختلف.

ويدل على المشهور ما قدمنا (٣) من صحاح زرارة : الاولى والثانية والرابعة : أما الاولى والرابعة فلتضمنهما للتثليث صريحا ، واما الثانية فباعتبار صيغة الجمع في المدر وما بعده الذي أقله ثلاثة. وقوله (عليه‌السلام) في رواية العجلي (٤) : «يجزئ من الغائط المسح بالأحجار ...». وفي مرسلة أحمد المتقدمة (٥) «جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار ...». وأصالة بقاء المحل على النجاسة حتى يعلم المزيل.

ويدل على الثاني ما تقدم من حسنة ابن المغيرة (٦) المتضمنة للإنقاء ، وموثقة

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٢ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٣) في الصحيفة ٣٢ و ٣٣.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ و ٣٠ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٦) المتقدمة في الصحيفة ١٨.

٣٤

يونس بن يعقوب (١) المتضمنة لاذهاب الغائط. وبهما تزول أصالة البقاء المذكورة. وعدم دلالة اجزاء عدد خاص أو ما يدل عليه على عدم اجزاء ما دونه. وحكاية الفعل في صحيحة زرارة المضمرة (٢) لا يقتضي الوجوب. والسنة في صحيحة زرارة الاولى ومرسلة أحمد (٣) أعم من الوجوب. والمسألة محل توقف وان كان القول المشهور لا يخلو من رجحان ، لأن الطهارة ـ كما عرفت ـ حكم شرعي يتوقف على ثبوت سببه ، والمتكرر في الاخبار التثليث وإطلاق روايتي ابن المغيرة (٤) ويونس (٥) يمكن تقييده بتلك الأخبار ، مع ان مورد رواية يونس الاستنجاء بالماء والأخرى لا تأبى الحمل عليه أيضا. والاحتياط لا يخفى.

(التاسع) ـ اختلف الأصحاب ـ بناء على وجوب التثليث ـ في ذي الجهات الثلاث ، هل يجزئ عن الثلاثة أم لا؟ قولان.

اختار أولهما العلامة في جملة من كتبه ، ونقله في المختلف عن ابن البراج ، وهو منقول أيضا عن الشيخ المفيد ، واختاره الشهيد والمحقق الشيخ علي.

وإلى الثاني ذهب المحقق وجماعة من المتأخرين : منهم ـ الشهيد الثاني. وكلام الشيخ في هذا المقام لا يخلو من إجمال وإبهام.

احتج العلامة في المختلف على الاجزاء ، قال : «لنا ان المراد ثلاث مسحات بحجر كما لو قيل اضربه عشرة أسواط ، فإن المراد عشر ضربات بسوط. ولأن المقصود إزالة النجاسة وقد حصل. ولأنها لو انفصلت لا جزأت فكذا مع الاتصال ، واي عاقل يفرق بين الحجر متصلا بغيره ومنفصلا؟ ولأن الثلاثة لو استجمروا بهذا الحجر لا جزأ كل واحد عن حجر واحد» انتهى.

__________________

(١ و ٥) المتقدمة في الصحيفة ٢٨.

(٢) المتقدمة في الصحيفة ٣٣.

(٣) المتقدمتين في الصحيفة ٣٢ و ٣٤.

(٤) المتقدمة في الصحيفة ١٨.

٣٥

وزاد آخرون الاستدلال بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «إذا جلس أحدكم لحاجته فليمسح ثلاث مسحات» (١).

وأجيب عن الأول بأن إرادة المسحات من قولنا : «امسحه بثلاثة أحجار» مجاز البتة ، وهو موقوف على القرينة ، والتشبيه بما ذكره مردود بالفرق بين قولنا : «اضربه عشرة أسواط» و «اضربه بعشرة أسواط» فإن قرينة التجوز في الأول بإرادة عشر ضربات ظاهرة بخلافها في الثاني ، فالتشبيه غير موافق.

وعن الثاني بأنه مصادرة محضة ، فإن المقصود إزالة النجاسة على الوجه المعتبر شرعا ، لان كلا من النجاسة والطهارة حكم شرعي يجب الوقوف فيه على ما رسمه الشارع وعينه مطهرا ومنجسا.

وعن الثالث بأنه قياس مع وجود الفارق وهو النص ، فإنه دل على الجواز حال الانفصال دونه حال الاتصال ، والغالب ـ كما قيل ـ في أبواب العبادات رعاية جانب التعبد.

وعن الرابع بان الفرق ـ بين استجمار كل واحد بواحد وبين استجمار الواحد بكل واحد ـ واضح ، لحصول الامتثال في الأول دون الثاني. على ان في الاستجمار بالحجر الواحد لواحد أو أكثر لزوم محذور ما تقدم من اشتراط الطهارة في أحجار الاستجمار.

وعن الخامس بان الخبر عامي ضعيف لا يقوم حجة. على انه مطلق والخبر

__________________

(١) سيأتي منه (قده) ان هذا الخبر عامي ، ولم نقف على هذا النص من طرق العامة بعد الفحص في مظانه ، والذي وقفنا عليه من طرقهم بهذا المضمون ما في مجمع الزوائد للهيثمى ج ١ ص ٢١١ وهو قوله (ص): «إذا تغوط أحدكم فليمسح ثلاث مرات». وقوله (ص): «إذا تغوط أحدكم فليمسح بثلاثة أحجار ، فإن ذلك كافيه». وقوله (ص): «إذا دخل أحدكم الخلاء فليمسح بثلاثة أحجار». وروى الأول والثالث في كنز العمال ج ٥ ص ٨٤ و ٨٥.

٣٦

المتضمن للأحجار مقيد ، والمقيد يحكم على المطلق.

واستند بعض فضلاء متأخري المتأخرين في الاستدلال لهذا القول أيضا بحسنة ابن المغيرة وموثقة يونس (١).

ولا يخفى ما فيه ، فان الكلام في هذه المسألة مبني على وجوب التثليث كما أشرنا إليه آنفا ، والخبران المذكوران ظاهران في عدمه كما عرفت سابقا ، فالقائل به لا بد له من ارتكاب التأويل في ذينك الخبرين على وجه يؤولان به إلى اخبار التثليث كما وجهناه سابقا ، فلا يتم الاستدلال بهما هنا. هذا. والقول بعدم الاجزاء هنا فرع ثبوت التثليث من تلك الأخبار ، وقد عرفت ما فيه. إلا ان المشهور ثمة كان لا يخلو من رجحان فهنا كذلك ، وإلى ذلك مال جملة من متأخري المتأخرين.

ثم انه هل ينسحب الحكم إلى غير الحجر؟ ظاهر المحقق في المعتبر ذلك واستظهر في المدارك القطع بعدمه تمسكا بالعموم. ولعله الأقرب قصرا للاشتراط ـ ان تم ـ على مورده.

(العاشر) ـ هل يجب إمرار كل حجر على موضع النجاسة ، أم يجزئ التوزيع ، بمعنى ان يمسح ببعض أدوات الاستنجاء بعض محل النجاسة وببعض آخر بعضا آخر وهكذا مع حصول النقاء بذلك؟ قولان : اختار أولهما المحقق في الشرائع ، وثانيهما في المعتبر ، واليه مال السيد في المدارك ، قائلا : «إذ لا دليل على وجوب استيعاب المحل كله بجميع المسحات» انتهى.

وهذا مبني على قاعدة أصولية اشتهر البناء عليها في أمثال ذلك ، وهو انه إذا تعلق الطلب بماهية كلية كفى في الامتثال الإتيان بأي فرد منها ، كما ذكروه في مواضع من أبواب الفقه ، منها ـ غسل الوجه واليدين في الوضوء وغيره. وهو ـ كما حققه

__________________

(١) المتقدمتين في الصحيفة ١٨ و ٢٨.

٣٧

بعض محدثي متأخري المتأخرين ـ محل نظر ، قال : «فان بعض الماهيات الكلية تحته افراد تصلح عند العقلاء لأن يتعلق غرض الشارع ببعضها دون بعض ، كحج البيت وغسل الوجه في الوضوء ومسح المخرج بثلاثة أحجار ، ويستهجن عندهم الاقدام على فرد مشكوك فيه من إفرادها من غير سؤال وينسبون فاعله إلى السفه ، وهذا نوع من الإجمال منشأه نفس المعنى لا اللفظ» انتهى كلامه زيد مقامه. وهو وجيه.

المورد الثاني

في المحرمات

و (منها) ـ استقبال القبلة واستدبارها بالبول والغائط على المشهور ، ولكن هل يحرم مطلقا أو في الصحراء خاصة واما في الدور فالأفضل الاجتناب؟ قولان : المشهور الأول ، ونقل الثاني عن ظاهر سلار.

واما مذهب الشيخ المفيد في هذه المسألة فقد اختلف كلام الأصحاب في نقله ، فحكى عنه في المعتبر التحريم في الصحاري والكراهة في البنيان ، وحكى عنه ـ في المنتهى والتذكرة والدروس ـ التحريم في الصحاري ولم يذكروا الكراهة. وقال في المختلف بعد نقل عبارة المقنعة : «وهذا الكلام يعطي الكراهة في الصحاري والإباحة في البنيان» انتهى. ولعل هذا الاختلاف نشأ من اختلاف الأفهام في فهم عبارة المقنعة حيث قال : «ثم ليجلس ولا يستقبل القبلة بوجهه ولا يستدبرها ، ولكن يجلس على استقبال المشرق ان شاء أو المغرب ، إلى ان قال بعد كلام خارج في البين : فان دخل الإنسان دارا قد بني فيها مقعد للغائط على استقبال القبلة أو استدبارها لم يضره الجلوس ، وإنما يكره ذلك في الصحاري والمواضع التي يتمكن فيها من الانحراف عن القبلة» انتهى. وحيث كان صدر عبارته محتملا للحمل على التحريم والكراهة ـ ولفظ الكراهة أيضا في عجز عبارته محتمل لهما ، فإنه كثيرا ما يعبر بالكراهة في مقام

٣٨

التحريم كما هو شائع في الاخبار ـ وقع هذا الاختلاف في نقل مذهبه ، مع ان في انطباق النقول المذكورة مع ذلك نوع اشكال.

ونقل عن ابن الجنيد استحباب ترك الاستقبال في الصحراء ولم يذكر الاستدبار ولا الحكم في البنيان.

وذهب جملة من متأخري المتأخرين : منهم ـ السيد في المدارك إلى الكراهة مطلقا.

والذي وقفت عليه من الاخبار في المسألة رواية عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن جده عن علي (عليه‌السلام) (١) قال : «قال لي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ، ولكن شرقوا أو غربوا».

ومرفوعة محمد في الكافي (٢) قال : «سئل أبو الحسن (عليه‌السلام) ما حد الغائط؟ قال : لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها».

ومرفوعة عبد الحميد بن أبي العلاء أو غيره رفعه (٣) قال : «سئل الحسن ابن علي (عليهما‌السلام) ما حد الغائط؟ قال : لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ، ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها».

وروى في الفقيه (٤) مرسلا قال : «نهى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن استقبال القبلة ببول أو غائط».

وروى في الكافي (٥) عن علي مرفوعا قال : «خرج أبو حنيفة من عند ابي عبد الله (عليه‌السلام) وأبو الحسن (عليه‌السلام) قائم وهو غلام ، فقال له أبو حنيفة :

__________________

(١ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٢) ج ١ ص ٦ وفي الوسائل في الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٤) ج ١ ص ١٨٠ وفي الوسائل في الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٥) ج ١ ص ٦ وفي الوسائل في الباب ـ ٢ و ١٥ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

٣٩

يا غلام أين يضع الغريب ببلدكم؟ فقال : اجتنب أفنية المساجد ، وشطوط الأنهار ، ومساقط الثمار ، ومنازل النزال ، ولا تستقبل القبلة بغائط ولا بول ، وارفع ثوبك وضع حيث شئت ...».

وروى محمد بن إسماعيل قال : «دخلت على الرضا (عليه‌السلام) وفي منزله كنيف مستقبل القبلة ...» (١).

وأنت خبير بان ما عدا الرواية الأخيرة ظاهرة الدلالة على التحريم كما هو القول الأول الذي عليه المعمول.

وطعن جملة من متأخري المتأخرين في هذه الاخبار ـ بعد التمسك بأصالة الجواز ـ بضعف السند ، فحملوها على الاستحباب لذلك ، وزاد بعض منهم الطعن أيضا بضعف الدلالة ، لاقتران ما ورد من النهي عن الاستقبال والاستدبار بجملة من النواهي المراد بها الكراهة ، وزاد آخر أيضا ـ بعد الاستدلال على عدم التحريم برواية محمد ابن إسماعيل المذكورة ـ انه مع قطع النظر عن ذلك فدلالة الأوامر الواردة في أخبارنا على الوجوب والنواهي علي التحريم ممنوع وان قلنا ان الأمر والنهي حقيقة في الوجوب والتحريم ، لشيوع استعمال الأول في الاستحباب والثاني في الكراهة على وجه لا يمكن دفعه.

ويرد على الأول انه لا دليل على التمسك بهذا الأصل من كتاب ولا سنة ، كما بسطنا لك الكلام عليه في المطلب الأول من المقام الثالث من المقدمة الثالثة (٢).

ويرد على الثاني ان ضعف السند ليس من القرائن الموجبة لصرف اللفظ عن ظاهره.

__________________

(١) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٢ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٢) في الصحيفة ٤١ من الجزء الأول.

٤٠