الحدائق الناضرة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة ـ نجف
المطبعة: مطبعة النّجف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

وجهان ، صرح بأولهما المحقق في المعتبر وجماعة ممن تأخر عنه.

والأخبار في ذلك مختلفة. فمما يدل على الأول ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب نوادر البزنطي عنه عن عبد الكريم بن عمرو عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «إذا بدأت بيسارك قبل يمينك ومسحت رأسك ورجليك ثم استيقنت بعد أنك بدأت بها غسلت يسارك ثم مسحت رأسك ورجليك».

وعلى الثاني موثقة أبي بصير المتقدمة (٢) وصحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) في حديث تقديم السعي على الطواف ، قال : «ألا ترى انك إذا غسلت شمالك قبل يمينك كان عليك ان تعيد على يمينك».

وقال الصدوق في الفقيه (٤) : «روي في من بدأ بغسل يساره قبل يمينه انه يعيد على يمينه ثم يعيد على يساره. وقد روي انه يعيد على يساره». انتهى. والرواية الأولى منهما مما ينتظم في أدلة القول الثاني والثانية في أدلة القول الأول.

واما قوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة المتقدمة (٥) : «... فإن غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه وأعد على الذراع ، وان مسحت الرجل قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرجل ثم أعد على الرجل ، ابدأ بما بدأ الله عزوجل به». فالظاهر منها بقرينة اختصاص لفظ الإعادة بالذراع والرجل وقوع التذكر قبل غسل الوجه في الأول وقبل مسح الرأس. فأمره بالبدأة بغسل الوجه ثم الإعادة على الذراع والبدأة بمسح الرأس ثم الإعادة على الرجل ، ومثلها صحيحة منصور بن حارم المتقدمة في صدر المقالة (٦) وعلى ذلك فلا دلالة في شي‌ء منهما على ما نحن فيه.

__________________

(١ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب الوضوء.

(٢ و ٦) ص ٣٥٨.

(٤) ج ١ ص ٢٩ وفي الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب الوضوء.

(٥) في الصحيفة ٣٥٧.

٣٦١

ويمكن الجمع بين الأخبار المذكورة بحمل موثقة أبي بصير وصحيحة منصور ونحوهما على ما دلت عليه صحيحة زرارة وصحيحة منصور الأخرى من التذكر قبل غسل العضو الأخير أو مسحه ، وحينئذ فيحمل لفظ الإعادة فيها على أصل الغسل مشاكلة لما بعده ، ويحتمل أيضا ـ كما ذكره بعض ـ حمل الموثقة المذكورة وأمثالها على ما إذا كان قد غسل العضو الأخير بقصد انه مأمور به على هذا الوجه. فإنه تجب الإعادة عليه لكون ذلك تشريعا محرما ، والروايات الأخر على ما إذا غسله لا من هذه الحيثية بل من حيث انه جزء من الوضوء وان كان بالقصد الحكمي المستمر كما في سائر الأجزاء ، ولا يخفى ما فيه من البعد. والجمع بين الأخبار بالتخيير لا يخلو من قرب ، وربما كان ذلك هو الظاهر من كلام الفقيه حيث نقل الخبرين المذكورين مع ظهورهما في التنافي ولم يجمع بينهما وقد ذكر بعض مشايخنا المتأخرين ان هذا دأبه فيما إذا لم يجمع بين الخبرين المتنافيين.

(المسألة الرابعة) ـ وجوب المباشرة مع الإمكان ـ وعدم جواز التولية في كل من الطهارات الثلاث ـ هو المشهور بين الأصحاب ، بل ادعى عليه في الانتصار الإجماع ونقل عن ابن الجنيد انه قال : «يستحب ان لا يشرك الإنسان في وضوئه غيره بان يوضئه أو يعينه عليه» ولا ريب في ضعفه ، لان المتبادر من الأوامر الدالة على الغسل والمسح كتابا وسنة مباشرة المتوضئ ذلك ، لان إسناد الفعل إلى فاعله هو الحقيقة وغيره مجاز لا يحمل عليه إلا مع الصارف عن الأول.

ويدل على ذلك رواية الوشاء (١) قال : «دخلت على الرضا (عليه‌السلام) وبين يديه إبريق يريد أن يتهيأ منه للصلاة ، فدنوت لأصب عليه فأبى ذلك وقال : مه يا حسن ، فقلت له : لم تنهاني أن أصب عليك ، تكره ان أوجر؟ قال : تؤجر أنت وأوزر أنا. فقلت له وكيف ذلك؟ فقال : أما سمعت الله يقول : «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٤٧ من أبواب الوضوء.

٣٦٢

رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (١) وها انا ذا أتوضأ للصلاة وهي العبادة فأكره أن يشركني فيها أحد». وجه الاستدلال بها وقوع النهي عن الصب الذي هو حقيقة في التحريم ، مردفا له بما يزيده تأكيدا من ان قبول ذلك موجب للوزر والإثم الذي لا يكون إلا على ارتكاب محرم ، معللا لذلك بدخوله تحت النهي عن الشرك بعبادة ربه وكونه جزئيا من جزئيات ما نهى عنه سبحانه في هذه الآية التي لا مجال لإنكار كون النهي فيها للتحريم ، فيستلزم تحريم قبول الصب عليه ، ولما فيه من الجمع بينه وبين صحيحة أبي عبيدة الحذاء (٢) قال : «وضأت أبا جعفر (عليه‌السلام) بجمع وقد بال فناولته ماء فاستنجى ثم صببت عليه كفا فغسل به وجهه وكفا غسل به ذراعه الأيمن وكفا غسل به ذراعه الأيسر. الحديث». ورواه الشيخ أيضا في موضع آخر بلفظ : «ثم أخذ كفا فغسل به وجهه. إلخ» بدل قوله : «ثم صببت» الا ان قول الراوي : «وضأت» إنما يلائم الأول كما لا يخفى ، وبذلك يظهر لك صحة الاستدلال بالرواية على تحريم التولية ، بحمل الصب فيها على الصب على أعضاء الطهارة ، دون الحمل على الاستعانة كما عليه الجمهور من أصحابنا ، وجعلها دليلا على كراهتها ، حملا للصب المنهي عنه على الصب في اليد وحمل الوزر على الكراهة بقرينة قوله في آخر الخبر : «فأكره» وتكلف الجمع بينها وبين صحيحة الحذاء المتقدمة بحمل الصحيحة المذكورة على الضرورة أو بيان الجواز. وفيه ـ زيادة على ما عرفت ـ ان استعمال الكراهة في المعنى المذكور اصطلاح أصولي طارئ والمفهوم من الأخبار استعمالها في التحريم كثيرا فلا يتقيد به النهي المتأصل في التحريم المؤكد المعلل بما أوضحنا بيانه وشيدنا أركانه.

ومثل رواية الوشاء فيما ذكرناه ما رواه الصدوق (رحمه‌الله تعالى) في الفقيه (٣)

__________________

(١) سورة الكهف الآية ١١٠.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ١٥ من أبواب الوضوء.

(٣) رواه في الفقيه ج ١ ص ٢٧ وفي العلل ص ١٠٣ وفي الوسائل في الباب ٤٧ من أبواب الوضوء.

٣٦٣

مرسلا وفي كتاب العلل مسندا عن الصادق (عليه‌السلام) «ان أمير المؤمنين (عليه‌السلام) كان لا يدعهم يصبون الماء عليه ويقول لا أحب ان أشرك في صلاتي أحدا». والطعن بكون «لا أحب» ظاهرا في الكراهة مردود بما في الأخبار من كثرة ورودها في مقام التحريم ، كما لا يخفى على من خاض في تيار عبابها وذاق صافي لبابها.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان المراد بالتولية المحرمة هي ان يتولى الغير غسل أعضائه أو مشاركته فيها ، واما مجرد صب الماء في اليد فليس منها بل هو من الاستعانة كما ذكره الأصحاب ، واما طلب إحضار الماء للطهارة فقد ذكر جمع من الأصحاب : منهم ـ السيد السند انه من الاستعانة المكروهة. وعندي في أصل الحكم بكراهة الاستعانة ـ وان كان مشهورا بين الأصحاب ـ إشكال ، لعدم الدليل عليه بل قيام الدليل على العدم ، وذلك فإنهم إنما استدلوا على الحكم المذكور برواية الوشاء ومرسلة الفقيه المتقدمتين ، وقد عرفت الحال فيهما ، فيبقى الحكم بناء على ما ذكرناه عاريا عن الدليل وصحيحة الحذاء ـ كما عرفت ـ قد دلت على الصب في يده (عليه‌السلام) ولا معارض لها بناء على ما اخترناه ، فتأويلها ـ بالحمل على الضرورة أو بيان الجواز من غير معارض ـ مشكل ، وطلب إحضار الماء للطهارة قد وقع في عدة من اخبار الوضوء البياني وغيرها كحسنة زرارة (١) قال : «حكى لنا أبو جعفر (عليه‌السلام) وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فدعا بقدح من ماء ...». وفي أخرى «فدعا بقعب من ماء». وفي ثالثة «فدعا بطشت أو تور». وحديث وضوء علي (عليه‌السلام) (٢) وقول علي (عليه‌السلام) لابنه محمد بن الحنفية «ائتني بإناء من ماء أتوضأ للصلاة». الى غير ذلك. وارتكاب الحمل في الجميع من غير معارض سفسطة ظاهرة. وبالجملة فإني لم أقف على دليل على ذلك زائدا على مجرد الشهرة.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١٥ من أبواب الوضوء.

(٢) المروي في الوسائل في الباب ١٦ من أبواب الوضوء.

٣٦٤

ثم ان ما ذكرناه من تحريم التولية مخصوص بحال الاختيار ، فلو اضطر إلى ذلك لمرض أو تقية أو غيرهما جاز اتفاقا ، ولنفي الحرج في الدين وسعة الحنيفية ، وعلى ذلك ينبغي حمل ما رواه الصدوق في كتاب المجالس (١) بسنده فيه عن عبد الرزاق قال : «جعلت جارية لعلي بن الحسين (عليه‌السلام) تسكب الماء عليه وهو يتوضأ فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه. الحديث». فإنه ظاهر في التولية وغسل الأعضاء ، فالواجب حمله على الضرورة لمرض ونحوه ، ولو حمل على صب الماء في اليد ـ وان بعد عن ظاهره ـ فسبيله سبيل الأخبار المتقدمة الدالة على جواز الاستعانة من غير معارض ، ولا ضرورة إلى حمله حينئذ على الضرورة ، لعدم الدليل على الكراهة كما عرفت.

(المسألة الخامسة) لا يجوز الغسل مكان المسح ولا العكس ، وهذا الحكم ثابت عندنا إجماعا فتوى ودليلا ، آية ورواية ، إذ مقتضى الآية الشريفة الواردة في الوضوء (٢) غسل بعض ومسح بعض ، فالواجب الإتيان بكل منهما فيما عين فيه ، وإلا لبقي تحت العهدة ، لعدم الإتيان بالمأمور به ، وبذلك استفاضت الأخبار :

ففي صحيح زرارة المضمر (٣) قال : «لو أنك توضأت فجعلت مسح الرجلين غسلا ثم أضمرت ان ذلك هو المفترض لم يكن ذلك بوضوء».

وفي رواية محمد بن مروان (٤) : «يأتي على الرجل ستون أو سبعون سنة ما قبل الله منه صلاة. قال : قلت : وكيف ذلك؟ قال : لأنه يغسل ما أمر الله بمسحه».

وربما يبني القول بذلك على تباين حقيقتي الغسل والمسح باشتراط الجريان في الأول ومجرد إمرار اليد في الثاني كما هو أحد القولين ، الا ان الظاهر ـ كما

__________________

(١) رواه في مستدرك الوسائل في الباب ٤١ من أبواب الوضوء.

(٢) سورة المائدة الآية ٨.

(٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ٢٥ من أبواب الوضوء.

٣٦٥

استظهره جملة من محققي أصحابنا (رضوان الله عليهم) ـ ان النسبة بينهما العموم من وجه فيجتمعان في المسح باليد مع الجريان ، فعلى هذا لو مسح في الوضوء بنداوة زائدة يحصل بها الجريان مع قصده المسح دون الغسل ، فالظاهر الخروج من العهدة ، وصدق الغسل عليه ـ باعتبار الجريان وان لم يكن مقصودا ـ غير مضر ، لحصول الامتثال بما ذكرنا ، ولأن المتوضئ سيما المسبغ في وضوئه لا تخلو يده بعد الفراغ من بلة زائدة يحصل بها الجريان ولو أقله كما نشاهده في أنفسنا ، مع انه لم يرد عنهم (عليهم‌السلام) نفض أيديهم بعد الغسل لأجل المسح ولا الأمر بذلك ، فالتكيف بالنفض والتجفيف حينئذ يحتاج إلى دليل ، وليس فليس. وربما يستأنس لذلك بصحيح زرارة المتقدم الدال بمفهومه على ان حصول الغسل مع عدم نيته وقصده لا يبطل الوضوء ، وحينئذ فالظاهر تخصيص الأخبار المانعة من الغسل والإجماع المدعى في المقام بالغسل المشتمل على الجريان من غير إمرار اليد أو معه بقصد كونه غسلا لا مسحا ، فان الظاهر خروج تلك الأخبار في مقام التعريض بالعامة الموجبين للغسل بأحد الفردين.

وما يقال ـ من ان وقوع المقابلة بين الغسل والمسح في الآية يقتضي مخالفة حقيقة أحدهما لحقيقة الآخر وإلا فلا معنى للتقابل ـ ففيه انه ان أريد بالمخالفة التباين الكلي فالتقابل بهذا المعنى ممنوع ، وان أريد ما هو أعم فمسلم ، وهي متحققة في العموم من وجه ، إذ يصدق الغسل بدون المسح على مجرد الصب ونحوه من غير إمرار اليد ، والعكس على الإمرار بدون الجريان ، وهذا كاف في صحة التقابل وان اجتمعا في إمرار اليد مع الجريان. ولك ان تقول بمعونة صحيحة زرارة المتقدمة ان الغسل حقيقة فيما يحصل معه الجريان لا مع إمرار اليد أو معه بقصد كونه غسلا ، ويقابله المسح بإمرار اليد لا مع الجريان أو معه بقصد كونه مسحا ، وحينئذ فالنسبة بينهما التباين ، وعدم جواز كل منهما مكان الآخر ظاهر لما بينهما من التباين ، وإمرار اليد بما يستلزم الجريان في موضع المسح مع قصد كونه مسحا كما انه كذلك مع قصد كونه غسلا لا ينافي التباين حينئذ ، فإن كان

٣٦٦

مراد المعترض وغيره ممن عبر بعدم جواز الغسل مكان المسح وبالعكس ما ذكرناه من الغسل المجرد عن إمرار اليد أو معه مع قصد كونه غسلا فمرحبا بالوفاق ، وإلا فهو محل نظر لما عرفت.

(المسألة السادسة) ـ الظاهر انه لا خلاف في ان من أخل بالترتيب بترك بعض الأعضاء نسيانا ، أعاد متى ذكر على ما يحصل به الترتيب ان ذكر قبل جفاف السابق ، وإلا فمن رأس ، ولو كان في الصلاة قطعها وأعادها بعد الوضوء مرتبا ، والأخبار به مستفيضة :

ففي حسنة الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «إذا ذكرت وأنت في صلاتك انك قد تركت شيئا من وضوئك المفروض عليك ، فانصرف وأتم الذي نسيته من وضوئك وأعد صلاتك». والإتمام هنا اما محمول على عدم فوات الموالاة أو انه كناية عن اعادة الوضوء.

وحسنته الأخرى عنه (عليه‌السلام) (٢) قال : «إذا نسي الرجل ان يغسل يمينه فغسل شماله ومسح رأسه ورجليه وذكر بعد ذلك ، غسل يمينه وشماله ومسح رأسه ورجليه ، وان كان انما نسي شماله فليغسل الشمال ولا يعيد على ما كان توضأ». والمراد من قوله : «ولا يعيد على ما كان توضأ» أي غسل ، والوضوء هنا بمعنى الغسل ، يعني لا يعيد ما غسله سابقا ، فلا ينافي وجوب مسح الرجل بعد غسل الشمال ، وعلى ذلك أيضا تحمل صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن رجل توضأ ونسي غسل يساره. فقال : يغسل يساره وحدها ولا يعيد وضوء شي‌ء غيرها». وحمله الشيخ (رحمه‌الله) على معنى لا يعيد وضوء شي‌ء غيرها مما تقدم دون ما تأخر ولا ضرورة إليه ، فإن الوضوء هنا ـ كما عرفت ـ بمعنى الغسل ، فينصرف إلى ما تقدم

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣ و ٤٢ من أبواب الوضوء.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب الوضوء.

٣٦٧

من غير تكلف الحمل على ذلك.

ورواية زرارة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) «في الرجل ينسى مسح رأسه حتى يدخل في الصلاة؟ قال : ان كان في لحيته بلل بقدر ما يمسح رأسه ورجليه فليفعل ذلك وليصل. قال : وان نسي شيئا من الوضوء المفروض فعليه أن يبدأ بما نسي ويعيد ما بقي لتمام الوضوء».

ورواية أبي بصير عنه (عليه‌السلام) (٢) «في رجل نسي أن يمسح على رأسه فذكر وهو في الصلاة؟ فقال : ان كان استيقن ذلك انصرف فمسح على رأسه ورجليه واستقبل الصلاة».

واما ما ورد في بعض الأخبار ـ في من نسي مسح رأسه مما ظاهره الاقتصار عليه ، كرواية الكناني (٣) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل توضأ فنسي أن يمسح على رأسه حتى قام في الصلاة. قال : فلينصرف فليمسح على رأسه وليعد الصلاة». ونحوها رواية المفضل بن صالح وزيد الشحام (٤) ـ فمحمول على ما تقدم من الروايات الدالة على انه يأتي بالمنسي وما بعده تحقيقا للترتيب.

ولا فرق في ظاهر الأصحاب بين كون المنسي عضوا كاملا أو بعضا منه ولو لمعة. فإنه يجب غسله وترتيب ما تأخر عليه ، الا انه نقل في المختلف عن ابن الجنيد انه إذا كان المنسي لمعة دون سعة الدرهم ، فإنه يكفي بلها من غير اعادة على ما بعد ذلك العضو ، ولم نقف له دليل إلا انه نقل فيه أيضا عن ابن الجنيد انه قال : «وقد روى توقيت الدرهم ابن سعيد عن زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) وابن منصور عن زيد ابن علي ، ومنه حديث أبي أمامة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله)» انتهى. وهو أعرف

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٤٢ من أبواب الوضوء.

(٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ٣ من أبواب الوضوء.

٣٦٨

بما نقل. لكن روى الصدوق (رضي‌الله‌عنه) في الفقيه (١) مرسلا عن الكاظم (عليه‌السلام) وفي كتاب عيون الأخبار مسندا عن الرضا (عليه‌السلام) انه «سئل عن الرجل يبقى من وجهه إذا توضأ موضع لم يصبه الماء. فقال يجزئه ان يبله من جسده». وهو وان لم يكن واضح الدلالة على ما ذكره ابن الجنيد إلا انه مناف بظاهره لما عليه الأصحاب ، والحمل على الإتيان بما بعده وان كان بعيدا عن ظاهر اللفظ إلا انه لا مندوحة عن المصير اليه.

وربما ظهر من الصدوق العمل بظاهر الرواية المذكورة ، حيث نقلها ولم يتعرض لتأويلها ولا ردها ، وهو ظاهر المحدث الشيخ محمد الحر في كتاب البداية. وجرى عليه أيضا في كتاب الوسائل ، حيث قال : «باب من نسي بعض العضو أجزأه ان يبله من بعض جسده» ثم نقل الرواية المذكورة بطريقي الفقيه والعيون.

وأنت خبير بأن إثبات الحكم المذكور ـ مع مخالفته لظواهر الأخبار المتعددة والقواعد الممهدة بمجرد هذه الرواية مع ضعف سندها وقبولها للتأويل ـ مشكل. وربما حملت أيضا على ما إذا لم يتيقن عدم اصابة الماء بل وجده جافا.

هذا. ومقتضى ما هو المعروف من كلام الأصحاب انه بعد غسل اللمعة المذكورة يرتب عليها ما تأخر عن ذلك العضو من الأعضاء ، واما انه يرتب أولا ما تأخر عن تلك اللمعة من العضو الذي هي فيه عليها أيضا فالمفهوم من كلام العلامة في المختلف بعد نقل كلام ابن الجنيد المتقدم تفريع ذلك على وجوب الابتداء من موضع بعينه وعدمه حيث قال : «ولا أوجب غسل جميع العضو بل من الموضع المتروك إلى آخره ان أوجبنا الابتداء من موضع بعينه ، والموضع خاصة ان سوغنا العكس» انتهى. وتحقيق الكلام في ذلك قد تقدم.

__________________

(١) ج ١ ص ٣٦ وفي العيون ص ١٩٢ وفي الوسائل في الباب ٤٣ من أبواب الوضوء.

٣٦٩

(المسألة السابعة) ـ الظاهر انه لا خلاف في تحريم الوضوء بالماء النجس ، ويدل عليه أيضا ما رواه الشيخ محمد الحر في كتاب الوسائل (١) عن المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في رسالة المحكم والمتشابه نقلا من تفسير النعماني بإسناده عن علي (عليه‌السلام) قال : «واما الرخصة التي هي الإطلاق بعد النهي ، فان الله تعالى فرض الوضوء على عباده بالماء الطاهر ، وكذلك الغسل من الجنابة. الحديث». ويدل عليه أيضا جملة من الأخبار الواردة بالنهي عن الوضوء بالماء النجس (٢).

وانما الخلاف في المعنى المراد من التحريم في هذا المقام ، فقيل المراد به المعنى المتعارف وهو ما يترتب الإثم على فعله مع بطلانه ، وقيل انه عبارة عن مجرد البطلان والأول اختيار جماعة : منهم ـ المحقق الثاني في شرح القواعد ، والشهيد الثاني في الروض ، وسبطه السيد السند في المدارك ، وعللوه بان استعماله فيما يسمى طهارة في نظر الشارع يتضمن إدخال ما ليس من الشرع فيه فيكون حراما ، إذ المراد التحريم على تقدير استعماله والاعتداد به في الصلاة. والقول الثاني اختاره العلامة في النهاية. والأول أقرب لأن اعتقاد الطهارة بما نهى الشارع عن الطهارة به تشريع البتة ، فيترتب عليه الإثم بلا اشكال.

ثم ان الابطال ـ ووجوب الإعادة وقتا وخارجا إذا كان عن عمد ـ مما لا خلاف ولا اشكال فيه ، والظاهر من كلامهم ان الطهارة به نسيانا في حكم العمد أيضا من حيث وجوب التحفظ عليه ، واما الطهارة به جهلا بالنجاسة فظاهر المشهور بين المتأخرين انه كذلك أيضا ، والمفهوم من كلام الشيخ في المبسوط وجوب الإعادة في الوقت دون الخارج ، وبذلك صرح ابن البراج. وهو ظاهر كلام ابن الجنيد ، وعبائر جل متقدمي علمائنا (رضوان الله عليهم) مطلقة في وجوب الإعادة من غير تفصيل بين الأفراد المذكورة.

__________________

(١) في الباب ٥١ من أبواب الوضوء.

(٢) ذكر هذه الأخبار في الفصل الثالث من باب المياه في حكم القليل الراكد.

٣٧٠

وقال العلامة في المختلف بعد نقل جملة من عبارات الأصحاب الواردة في هذا الباب : «والوجه عندي إعادة الصلاة والوضوء والغسل ان وقعا بالماء النجس ، سواء كان الوقت باقيا أولا ، سبقه العلم أو لا» وعلى منواله حذا جملة من المتأخرين ، واستدل على ما ذهب إليه في المختلف بورود الأخبار بالنهي عن الوضوء بالماء النجس ، مثل صحيحة حريز (١) الدالة على انه «إذا تغير الماء وتغير الطعم فلا تتوضأ منه». وصحيحة البقباق (٢) الدالة على السؤال عن أشياء حتى انتهى إلى الكلب فقال (عليه‌السلام): «رحس نجس لا تتوضأ بفضله ...». قال : «والنهي يدل على الفساد ، فيبقى في عهدة التكليف. لعدم الإتيان بالمأمور به» ثم قال : «لا يقال : هذا لا يدل على المطلوب لاختصاصه بالعالم ، فإن النهي مختص به. لأنا نقول : لا نسلم الاختصاص ، فإنه إذا كان نجسا لم يكن مطهرا لغيره» ثم استدل أيضا بما رواه معاوية في الصحيح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال : «سمعته يقول لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة مما وقع في البئر إلا ان ينتن. فإن أنتن غسل الثوب وأعاد الصلاة». قال : «وهذا مطلق سواء سبقه العلم أو لا».

وقال الشهيد في الذكرى : «يحرم استعمال الماء النجس والمشتبه في الطهارة مطلقا ، لعدم التقرب بالنجاسة ، فيعيدها مطلقا وما صلاه ولو خرج الوقت ، لبقاء الحدث ، وعموم «من فاتته صلاة فليقضها» (٤) يقتضي وجوب القضاء» انتهى.

وللنظر فيما ذكراه (قدس‌سرهما) مجال : اما ما ذكره العلامة (رحمه‌الله) من الاستدلال بالأخبار الدالة على النهي عن الوضوء بالماء النجس ، من حيث ان النهى

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣ من أبواب الماء المطلق.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ١ من أبواب الأسآر و ١١ من أبواب النجاسات.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ١٤ من أبواب الماء المطلق.

(٤) الظاهر انه مضمون مستفاد من الأخبار الواردة في قضاء الصلوات.

٣٧١

يدل على الفساد فيبقى في عهدة التكليف ، فمسلم بالنسبة إلى العامد والناسي ، واما بالنسبة إلى الجاهل فممنوع لعدم توجه النهي إليه كما ذكروا في غير موضع ، معللين له بقبح تكليف الغافل ، كما صرحوا به في مسألة الصلاة في الثوب المغصوب جاهلا والمكان المغصوب ، فإنه لا خلاف بينهم في الصحة ، وحجتهم على ذلك ما أشرنا إليه من عدم توجه النهي إلى الجاهل لقبح تكليف الغافل ، على ان الأظهر ـ كما هو المستفاد من الأخبار ، وعليه جملة من محققي علمائنا الأبرار ـ هو معذورية جاهل الحكم فضلا عن جاهل الأصل إلا ما خرج بدليل ، كما تقدم تحقيقه في المقدمة الخامسة. وما ذكره أخيرا ـ من منع اختصاص النهي بالعالم معللا بأنه إذا كان نجسا لم يكن مطهرا لغيره ـ ففيه انه ان كان المراد به ما كان نجسا في نظر المكلف فمسلم ولكنه ليس محل البحث ، وان أراد به ما كان كذلك واقعا وان لم يكن معلوما للمكلف حال الاستعمال فهو أول المسألة وكذلك ما ذكره في الذكرى من تعليله عدم ارتفاع الحدث به بأنه نجس ولا تحصل به الطهارة إلى آخر ما ذكره ، وتوضيحه ان التكاليف الواردة من الشارع انما جعلت منوطة بالظاهر في نظر المكلف دون الواقع ، والشارع لم يلتفت في ذلك إلى نفس الأمر ولم يكلف بالنظر اليه ، للزوم تكليف ما لا يطاق ، ولا نقول ان التكليف انما هو بالنظر إلى الواقع وان سقط الإثم بالمخالفة دفعا للحرج المذكور ، فلا بد في الصحة من مطابقته كما هو ظاهر الجماعة ، لقولهم (عليهم‌السلام): «كل ماء طاهر حتى تعلم انه قذر» (١). و «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر فإذا علمت فقد قذر ...» (٢). فإنه ـ كما ترى ـ ظاهر الدلالة على الحكم على كل ماء وكل شي‌ء بالطهارة والنظافة إلى وقت العلم بالقذارة ، وبعد العلم بالقذارة يحكم بأنه قذر ، فصفة النجاسة لا تثبت له شرعا إلا بعد

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ١ من أبواب الماء المطلق.

(٢) المروي في الوسائل في الباب ٣٧ من أبواب النجاسات.

٣٧٢

العلم ، ويؤيده قوله : «الناس في سعة ما لم يعلموا» (١). وقوله : «لا أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم» (٢). الى غير ذلك من الأخبار ، وحينئذ فالمكلف إذا توضأ بهذا الماء الطاهر في اعتقاده وان لاقته نجاسة واقعا ، فطهارته شرعية مجزئة ، وصلاته بتلك الطهارة شرعية مجزئة إجماعا. فبعد ثبوت النجاسة في ماء وضوئه وانكشاف الأمر لديه فوجوب قضاء تلك العبادة التي مضت على الصحة من وضوء وصلاة وإعادتها يحتاج إلى دليل ، وليس فليس. وصدق الفوات على مثل هذه العبادة ـ كما ادعاه في الذكرى ـ ممنوع ، كيف وقد فعل المأمور به شرعا ، وامتثال الأمر يقتضي الاجزاء والصحة كما حقق في محله.

والتحقيق في هذا المقام ـ وان استدعى مزيد بسط في الكلام ، فإن المسألة مما لم يحم حول حريم تحقيقها أحد من الأقوام مع كونها كالأصل لابتناء جملة من الأحكام ـ ان يقال : الخلاف في هذه المسألة مبني على مسألتين أخريين : إحداهما ـ معذورية الجاهل وعدمها ، وثانيتهما ـ ان النجس شرعا هل هو عبارة عما لاقته النجاسة واقعا خاصة أو عما علم المكلف بملاقاة النجاسة له ، والمشهور بين الأصحاب في المسألة الاولى هو عدم معذورية الجاهل إلا في مواضع مخصوصة ، والمشهور من الأخبار ـ كما أسلفنا بيانه في المقدمة المشار إليها آنفا ـ هو المعذورية إلا في مواضع خاصة ، والمستفاد من كلامهم في المسألة الثانية ان النجس شرعا هو ما لاقته النجاسة وان لم يعلم به المكلف ، غاية الأمر انه مع عدم العلم ترتفع عنه المؤاخذة ، فعلى هذا لو صلى في النجاسة أو توضأ بماء متنجس كان كل من صلاته ووضوئه باطلا في الواقع وان ارتفع الإثم عنه في ظاهر الأمر ، نقل ذلك عنهم شيخنا الشهيد الثاني في شرح الرسالة في الفصل الثالث في المنافيات

__________________

(١) تقدم في التعليقة ٢ ص ٤٣ ج ١ ان الأصل في هذا الحديث هو قوله (ع) : «هم في سعة حتى يعلموا» في رواية السفرة المروية في الوسائل في الباب ٥٠ من النجاسات و ٣٨ من الذبائح و ٢٣ من اللقطة.

(٢) المروي في الوسائل في الباب ٣٧ من النجاسات.

٣٧٣

للصلاة ، حيث قال المصنف : «الأول ـ نواقض الطهارة مطلقا ومبطلاتها كالطهارة بالماء النجس» قال الشارح : «سواء علم بالنجاسة أم لا حتى لو استمر الجهل به حتى مات ، فإن الصلاة باطلة غايته عدم المؤاخذة عليها ، لامتناع تكليف الغافل ، هذا هو الذي يقتضيه إطلاق العبارة وكلام الجماعة» انتهى. وحينئذ فيتجه القول بالبطلان. والمستفاد من الأخبار ان النجس ليس عبارة عما ذكروا بل هو عبارة عما علم المكلف بملاقاة النجاسة له ، كما ان الطاهر ليس عبارة عما لم تلاقه النجاسة بل عما لم يعلم ملاقاتها له ، وقد تقدم تحقيق المسألة في المقدمة الحادية عشرة (١) ويزيده هنا ما عرفت من الخبرين المتقدمين الدالين على ان «كل ماء طاهر ، وكل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر فإذا علمت فقد قذر» فإنهما كما دلا على ان الماء وغيره من الأشياء على أصل الطهارة من حيث عدم العلم بملاقاة النجاسة له وان حصل ذلك واقعا كذلك دلا على ان النجس الذي هو مقابل له بالمباينة هو ما علم ملاقاة النجاسة له تحقيقا للمباينة. وبذلك يظهر لك ما في كلامهم (رضوان الله عليهم) من الغفلة والمسامحة في الأصل المذكور وما يبتني عليه. هذا مقتضى ما ادى اليه الدليل بالنظر إلى هذا الفكر الكليل والذهن العليل والاحتياط يقتضي الوقوف على كلام الأصحاب (نور الله مراقدهم).

ولم أر من تنبه لما ذكرناه واختار ما حققناه سوى العلامة المحدث السيد نعمة الله الجزائري في رسالته التحفة ، والشيخ جواد الكاظمي في شرح الرسالة الجعفرية ، اما الأول منهما فإنه صرح بان الطاهر والنجس ما حكم الشارع بطهارته ونجاسته ، فالطاهر ليس هو الواقع في نفس الأمر بل ما حكم الشارع بطهارته وكذا النجس ، وليس له واقع سوى حكم الشارع بطهارة المسلمين فصاروا طاهرين ، صرح بذلك (قدس‌سره) في جواب شبهة بعض معاصريه من علماء العراق ممن اعتقد وجوب عزل السؤر عن الناس بزعم انهم نجسون قطعا أو ظنا. واما الثاني فإنه في الكتاب

__________________

(١) ج ١ ص ١٣٦.

٣٧٤

المذكور ـ بعد ان نقل ما قدمنا من عبارة الذكرى ـ قال : «وفيه نظر ، فانا لا نسلم بقاء حدثه ، قولك : النجس لا تحصل به الطهارة قلنا النجس في نفس الأمر أو النجس في علم المكلف ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم ، ويؤيده انا مكلفون مع عدم العلم بالنجاسة لا مع العلم بعدمها ، لاستلزام ذلك الحرج المنفي بالآي والأخبار ، وعلى هذا فكون صلاته فاسدة ممنوع ، وصدق الفوات بالنسبة إليه غير ظاهر ، كيف وهو قد فعل المأمور به شرعا وامتثال الأمر يوجب الاجزاء والصحة ، اما الأول فلأنه مأمور بالطهارة بماء محكوم بطهارته شرعا اي ما كان طاهرا في الظاهر لا في نفس الأمر ، لأن الشارع لم يلتفت إلى نفس الأمر لتعذره ، واما الثاني فلما ثبت في الأصول» انتهى.

وهذه المسألة من جملة ما أشبعنا الكلام في تحقيقها في كتاب المسائل ، إلا انا بعد لم نقف على كلام هذين الفاضلين. وبعض المعاصرين استبعد ما ذهبنا اليه لمخالفته ما هو المشهور ، حيث ان طبيعة الناس جبلت على متابعة المشهورات وان أنكروا بظاهرهم تقليد الأموات ، وقد وفق الله سبحانه للوقوف على كلام الفاضلين المذكورين فأثبتناه هنا لا للاستعانة على قوة ما ذهبنا اليه بل لكسر سورة نزاع من ذكرناه من المعاصرين ، لعدم قبولهم إلا لكلام المتقدمين.

(المسألة الثامنة) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في بطلان الطهارة بالماء المغصوب عالما عامدا ، وهو لا اشكال فيه. اما مع الجهل فظاهرهم هنا الاتفاق على عدم التحريم والابطال ، لعدم توجه النهي اليه. واما نسيان الغصب فهل يكون حكمه حكم العمد كما ذكروا في ناسي النجاسة. فيتوجه إليه النهي ، لأن النسيان انما عرض له بقلة التكرار الموجب للتذكار ، أو حكم الجاهل لامتناع تكليف الغافل؟ قولان : اختار أولهما العلامة في القواعد ، وثانيهما أول الشهيدين في الرسالة ، وثانيهما في شرحها ، وثاني المحققين في شرح الرسالة المذكورة وفي رسالته الجعفرية ، وشارحاها في شرحيهما ، وهو الأظهر لما حققناه آنفا.

٣٧٥

ثم ان الفرق بين جاهل الغصب والنجاسة كما ذكروا ـ معللين له بان مانع النجاسة ذاتي فلا يضره الجهل ، بخلاف الغصب ، فإنه عرضي بسبب النهي عن التصرف في مال الغير ، ومع الجهل والنسيان لا يتحقق النهي لعدم التكليف ، فينتفي المانع ـ محل نظر يظهر مما حققناه آنفا. هذا في جاهل الغصب وناسية.

اما جاهل حكم الغصب وناسية فهو عندهم في حكم العمد ، لوجوب التعلم عليهما وضمهما الجهل إلى التقصير فلا يعد تقصيرهما عذرا. وأنت خبير بما فيه من الوهن والضعف. لما أشرنا إليه آنفا من قيام دليلي العقل والنقل على معذورية الجاهل ، أعم من ان يكون جاهلا بالأصل أو الحكم ، وتقصيره في التعلم غاية ما يوجبه حصول الإثم لإخلاله بذلك على ما ذكرناه في كتاب الدرر النجفية ، حيث حققنا هناك المقام بمزيد بسط في الكلام لا يحوم حوله نقض ولا إبرام.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الغصب ـ على ما عرفوه ـ عبارة عن إثبات اليد على حق الغير عدوانا وظلما. واحترزوا بقيد العدوان عن إثبات الوكيل يده على مال الموكل ، ونحوه المرتهن والولي والمستأجر والمستعير ، وظاهرهم عدم الاكتفاء بشاهد الحال اعني ظن رضا المالك في الخروج عن الغصب ، وبذلك ينقدح الاشكال ويقع الداء العضال في مثل هذه المسألة ، فإنه متى سافر الإنسان من بلد إلى أخرى مسيرة شهر أو أزيد أو انقص ، يجب عليه حينئذ حمل ماء مملوك معه إلى ان يتمكن من تحصيل ماء مباح أو مأذون أو مشتري ، ولا يجوز له الأخذ من المياه التي يمر بها في الطرق لدخولها في باب الغصب ، وفيه من المشقة والحرج والعسر المنفي بالآية والرواية (١) ما لا يخفى ، ولعله لذلك صرح جمع : منهم ـ الشهيدان بجواز الشرب والوضوء والغسل من نحو القناة المملوكة والدالية والدولاب مطلقا عملا بشاهد الحال إلا ان يغلب على الظن الكراهة ، ونفى عنه البعد في الكفاية ، وهو جيد ، وحينئذ لا فرق بين كون ذلك الماء مملوكا

__________________

(١) راجع الصحيفة ١٥١ من الجزء الأول.

٣٧٦

أو مغصوبا ، لان شاهد الحال حاصل على التقديرين على حد ما يأتي بيانه ان شاء الله تعالى في المكان.

(المسألة التاسعة) ـ هل يشترط طهارة أعضاء الوضوء أولا من النجاسة لو كان ثمة نجاسة ثم اجراء ماء الوضوء عليها. أو يكفي ماء واحد لازالة الخبث والحدث؟ قولان : المشهور الأول ، وسيأتي تحقيق المقام في فصل غسل الجنابة ان شاء الله تعالى.

(المسألة العاشرة) ـ المشهور بين متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم) اشتراط الإباحة في مكان الطهارة ، فلو توضأ في مكان مغصوب عالما عامدا بطلت طهارته للنهي عن الكون الذي هو من ضروريات الفعل ، وقطع المحقق في المعتبر بالعدم مع اختياره الاشتراط في الصلاة ، واليه جنح السيد في المدارك ، وتحقيق المسألة حسبما يقتضيه النظر سيأتي ان شاء الله تعالى في مبحث المكان من كتاب الصلاة.

(المسألة الحادية عشرة) ـ ظاهر كلام فقهائنا (رضوان الله عليهم) الاتفاق على ان من كان على أعضاء طهارته جبائر ـ وهي في الأصل تقال للعيدان والخرقة التي تشد على العظام المكسورة ، والظاهر من كلام الفقهاء إطلاقها على ما يشد على القروح والجروح أيضا ، لاشتراك الجميع في الحكم الوارد في الروايات التي هي المستند في هذا الباب ـ فإنه يجب عليه مع الإمكان نزع الجبائر أولا ، أو تكرار الماء عليها على وجه يصل إلى البشرة ويحصل منه الغسل المعتبر شرعا ، وظاهرهم التخيير في ذلك مع الإمكان بعدم التضرر بالنزع وعدم التضرر بتطهير ما تحت الجبيرة لو كان نجسا ، ولو تعذر النزع وأمكن إيصال الماء إلى ما تحت الجبيرة وجب أيضا ، وإلا فيجب المسح عليها ، واحتمل العلامة في النهاية وجوب أقل ما يسمى غسلا ، وهو بعيد. ولو كانت الجبيرة نجسة ولم يكن تطهيرها ثم المسح عليها قالوا يضع عليها خرقة طاهرة ثم يمسح عليها ، واحتمل في الذكرى الاكتفاء بغسل ما حولها. وصرح بعضهم بان القرح والجرح لو كان خاليا من الجبيرة مسح عليه ان أمكن وإلا وضع عليه شيئا طاهرا ومسح عليه.

٣٧٧

هذا إذا كانت الجبيرة في موضع الغسل ، اما إذا كانت في موضع المسح ، فان لم تستوعب محل المسح بحيث يبقى ما يتأدى به الفرض فلا اشكال ، وان استوعبت فإن أمكن نزعها والمسح على البشرة مع طهارتها أو أمكن تطهيرها وجب ذلك ، وإلا مسح على الجبيرة مع طهارتها ، ولا يكفي هنا تكرار الماء عليها بحيث يصل إلى البشرة ، لأن المسح انما يتحقق بإيصال اليد إلى البشرة فيجب مع الإمكان ولا يكفي إمرار الماء ، ومع نجاسة الجبيرة يضع عليها خرقة طاهرة ويمسح. هذا ما يستفاد من متفرقات كلماتهم في بحث الوضوء. ثم انهم في بحث التيمم جعلوا من جملة موجباته الخوف من استعمال الماء بسبب القروح والجروح من غير تقييد بتعذر وضع شي‌ء عليها والمسح عليه ، وكلامهم في هذا المقام لا يخلو من إجمال يحصل به الاشكال.

وها نحن نسوق جملة ما وفقنا الله تعالى للوقوف عليه من الأخبار ، ونتكلم بعدها بما رزقنا سبحانه فهمه من تلك الآثار ، معتصمين بحبل توفيقه من العثار :

فمن ذلك صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (١) قال : «سألت أبا إبراهيم (عليه‌السلام) عن الكسير تكون عليه الجبائر أو تكون به الجراحة كيف يصنع بالوضوء أو عند غسل الجنابة وعند غسل الجمعة؟ قال يغسل ما وصل اليه الغسل مما ظهر مما ليس عليه الجبائر ، ويدع ما سوى ذلك مما لا يستطيع غسله ، ولا ينزع الجبائر ولا يعبث بجراحته» ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان مثله إلا انه أسقط قوله : «أو تكون به الجراحة» (٢).

وروى العياشي في تفسيره عن علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الجبائر تكون على الكسير كيف يتوضأ

__________________

(١ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٣٩ من أبواب الوضوء.

(٢) ولكن التعبير عنه (ع) ب (أبي إبراهيم) انما هو في التهذيب وفي الكافي عبر ب (أبي الحسن).

٣٧٨

صاحبها ، وكيف يغتسل إذا أجنب؟ قال : يجزيه المسح عليها في الجنابة والوضوء. قلت : فان كان في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده؟ فقرأ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً)» (١).

ورواية عبد الله بن سنان أو صحيحته عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الجرح كيف يصنع به صاحبه؟ قال : يغسل ما حوله».

وقال في الفقيه (٣) : «وقد روي في الجبائر عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) انه قال : يغسل ما حولها».

وحسنة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) انه «سأل عن الرجل تكون به القرحة في ذراعه أو نحو ذلك من موضع الوضوء ، فيعصبها بالخرقة ويتوضأ ويمسح عليها إذا توضأ. فقال : ان كان يؤذيه الماء فليمسح على الخرقة ، وان كان لا يؤذيه الماء فلينزع الخرقة ثم ليغسلها قال : وسألته عن الجرح كيف اصنع به في غسله؟ قال : اغسل ما حوله».

ورواية عبد الأعلى (٥) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع بالوضوء؟ فقال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله تعالى : قال الله تعالى : «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (٦) امسح عليه».

ورواية كليب الأسدي (٧) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل

__________________

(١) سورة النساء الآية ٣٣.

(٢ و ٤ و ٥ و ٧) المروية في الوسائل في الباب ٣٩ من أبواب الوضوء.

(٣) ج ١ ص ٢٩ وفي الوسائل في الباب ٣٩ من أبواب الوضوء.

(٦) سورة الحج الآية ٧٨.

٣٧٩

إذا كان كسيرا كيف يصنع بالصلاة؟ قال : ان كان يتخوف على نفسه فليمسح على جبائره وليصل».

وحسنة الوشاء (١) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الدواء إذا كان على يدي الرجل أيجزيه ان يمسح على طلي الدواء؟ قال : نعم يجزيه ان يمسح عليه».

ورواية جعفر بن إبراهيم الجعفري عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ذكر له ان رجلا أصابته جنابة على جرح كان به فأمر بالغسل فاغتسل فكز فمات. فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : قتلوه قتلهم الله. الحديث».

وصحيحة داود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) «في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح أو يخاف على نفسه من البرد؟ فقال : لا يغتسل ويتيمم».

وحسنة محمد بن مسكين وغيره عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «قيل له : ان فلانا أصابته جنابة وهو مجدور فغسلوه فمات؟ فقال : قتلوه ، ألا سألوا ألا يمموه ، ان شفاء العي السؤال». وقال في الكافي (٥) عقيب نقل هذه الرواية : «وروى ذلك ذلك في الكسير والمبطون يتيمم ولا يغتسل».

وحسنة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٦) قال : «سألته عن مجدور أصابته جنابة فغسلوه فمات. فقال : قتلوه ، ألا سألوا فإن دواء العي السؤال».

وصحيحة محمد بن مسلم (٧) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الرجل يكون به القرح والجراحة يجنب. قال : لا بأس بان لا يغتسل ، يتيمم».

ورواه في الفقيه

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣٩ من أبواب الوضوء.

(٢ و ٣ و ٤ و ٦ و ٧) المروية في الوسائل في الباب ٥ من أبواب التيمم.

(٥) ج ١ ص ٢٠ وفي الوسائل في الباب ٥ من أبواب التيمم.

٣٨٠