الحدائق الناضرة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة ـ نجف
المطبعة: مطبعة النّجف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

وأما ما تضمنته رواية ابن بكير (١) من ان «من لم يستيقن أن الواحدة تجزيه لم يؤجر على الثنتين». فلعل معناه انه لما كانت الواحدة هي الفرض من الله سبحانه وان الواجب المفروض يتأدى بمثل الدهن كما استفاضت به الأخبار ، فمن لم يعتقد اجزاءها بل اعتقد فرض الثنتين كان مبدعا مشرعا في وضوئه ، لاعتقاده وجوب ما ليس بواجب وهو الثانية فلا يؤجر على وضوئه ، وهو عين ما ذكره الصدوق مما قدمنا نقله عنه.

واما ما تضمنته مرسلة ابن أبي عمير (٢) ـ وهي مضمون عبارة الصدوق المتقدمة أولا من أن «الوضوء واحدة فرض واثنتان لا يؤجر والثالثة بدعة». ـ فيحتمل بمعونة ما ذكرناه في رواية ابن بكير أن الواحدة والاثنتين بمعنى الغرفة وان عدم الأجر على الثنتين مع عدم اعتقاد اجزاء الواحدة التي هي الفرض ، وأما الثالثة فهي بدعة لأنها زيادة على ما جاءت به السنة ، بخلاف الثانية ، فإنها سنة للاسباغ بها كما عرفت ، ولعل في التعبير بعدم الأجر إشارة إلى ذلك. ويحتمل حمل الواحدة والاثنتين على الغسلة والغسلتين ، ومعناه حينئذ أن الغسلة الواحدة فرض والغسلتان لا يؤجر. وقد عرفت ان معنى هذا اللفظ الكناية عن البدعية والتحريم ، وحينئذ فيكون المراد بلفظ البدعة في الثالثة بمعنى المبتدع المخترع لا ما قابل السنة ، وإلا فقد عرفت ان الثانية بدعة بذلك المعنى ، فمرجع عدم الأجر في الثانية والبدعية في الثالثة إلى أمر واحد.

وأما ما ذكره جملة من محققي متأخري متأخرينا ـ من عدم تحريم الغسلة الثانية بل عدم الكراهة ، مستندين إلى عدم الدليل على ذلك وان لفظ «لا يؤجر» في الأخبار غاية ما يفهم منه عدم الأولوية ـ ففيه ما عرفت في تحقيق كلام الشيخين المتقدمين ، ويزيده هنا انها مع زيادتها وعدم كونها جزء من العبادة ـ كما يعترفون به ـ فاما ان يعتقد المكلف في حال استعماله لها شرعيتها واستحبابها ، وهذا مما لا يستراب في تحريمه

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

٣٤١

وتشريعه بناء على ما اعترفوا به كما قدمنا الإشارة اليه ، واما ان لا يعتقد ذلك بل يكون عابثا لاعبا ، وهذا لا اختصاص له بهذا المقام ليخص بالذكر في أخبارهم (عليهم‌السلام) بل يجري مثله في الثالثة ، مع انهم لا يخالفون في بدعيتها وتحريمها ، وان هذا اللفظ قد ورد في رواية زرارة المتقدمة (١) في تعداد الروايات المعارضة بعد قوله : «مثنى مثنى» ومن الظاهر بل المعلوم ان المراد به التحريم اتفاقا أعم من ان تجعل التثنية في الغسل كما هو المشهور أو في الغرفة كما ذكرنا ، لأن الزيادة هنا بمعنى التثليث ، وهو مما لا اشكال عندهم في تحريمه. ومما يدل أيضا على ان اللفظ إنما خرج كناية عن التحريم قول الصادق (عليه‌السلام) في صحيحة داود بن فرقد المروية في الكافي (٢) : «إن أبي كان يقول ان للوضوء حدا من تعداه لم يؤجر ...». مع قول الباقر (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (٣) : «إنما الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه ...». فان نفي الأجر في الأول عبارة عن كونه معصية كما في الثاني كما لا يخفى.

(الثالث) ـ قال في كتاب رياض المسائل وحياض الدلائل ـ بعد البحث في المسألة ، والجمع بين الأخبار بحمل بعضها على التجديد وبعضها على التقية وبعض على الغسلتين والمسحتين ـ ما لفظه : «بقي هنا شي‌ء ، وهو أنه لا خلاف في أنه إذا لم تكف الغرفة الأولى في غسل العضو وجبت الثانية وهكذا ، لعدم الخروج عن العهدة ، كما صرح به العلامة في المختلف وغيره ، كما انه لا خلاف في وقوع الخلاف في الثانية إذا كمل غسل العضو بالأولى. وأما لو لم يكمل غسل العضو بالأولى مع إمكان شمولها إياه واختار غسل العضو بغرفتين موزعتين عليه ، فهل يجري في الثانية الخلاف السابق أم لا؟ لم أقف للأصحاب فيه على صريح كلام ، وكلامهم فيه قابل للأمرين ، الى أن

__________________

(١) في الصحيفة ـ ٣٢٥.

(٢) ج ١ ص ٧ وفي الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب الوضوء.

٣٤٢

قال : والظاهر من الأخبار بعد التأمل فيها ومراجعة ما حررناه إن استئناف الغرفة الثانية غير مأجور عليه ، وان الاقتصار على الغرفة مع إمكان شمولها العضو ولو بالمبالغة فيها كما أو كيفا هو الأولى ، وانها ليست بمحرمة بل هي غاية الحد في الوضوء الذي لا يجوز تعديه ، من زاد عليه فقد أبدع» انتهى كلامه زيد مقامه.

وعندي فيه تأمل من وجوه : (أحدها) ـ ان الظاهر ـ من الأخبار الدالة على إجزاء ما يحصل به مسمى الغسل ولو كالدهن ، وبه قال الأصحاب أيضا ـ الاكتفاء في غسل العضو بالغرفة اليسيرة جدا ، وحينئذ فالظاهر من قول العلامة في المختلف ـ أنه مع عدم كفاية الكف الأول في غسل العضو يجب الثاني ولو لم يكفيا وجب الثالث وهكذا ـ انما هو من قبيل الفرض في المسألة لا أنه كذلك حقيقة ، حتى يصح جعل ما لو اختار غسل العضو بغرفتين موزعتين مع إمكان شمول الأولى له مطرحا لخلاف آخر في المسألة أيضا.

(ثانيها) ـ انك قد عرفت ان جملة من الأخبار دلت على كون الثانية إسباغا ، وأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قد سنها لذلك ، ولا مجال لحملها على الغسلة ، لما فيه من المنافاة لأخبار الوحدة ، كما عرفت وحققه هو أيضا (قدس‌سره) في أول كلامه ، فتحمل على الغرفة ، ومن الظاهر حينئذ انها أعم من أن تكون الأولى تأتي على العضو كملا ولم يغسل بها أم لا ، وبذلك يظهر لك ما في دعواه (قدس‌سره) في آخر كلامه : أن الظاهر من الأخبار بعد التأمل فيها ان استئناف الغرفة الثانية غير مأجور عليه ، فإنه غفلة زائدة عن ملاحظة هذه الأخبار ولا سيما روايتي الكشي وعلي بن يقطين (١) إلا أن عذره فيهما ظاهر ، حيث لم يتعرض لنقلهما في الكتاب المذكور ، ولعله (طاب ثراه) لم يطلع عليهما أو لم يخطرا بباله حال التصنيف.

__________________

(١) المتقدمين في الصحيفة ٣٢٦ و ٣٢٧.

٣٤٣

(ثالثها) ـ ان صحيحة الأخوين (١) ـ كما عرفت ـ دلت على أن الثنتين تأتيان على ذلك كله بعد حكمه فيها بأن الغرفة المبالغ فيها مجزئة لذلك أيضا ، وقد عرفت شرح القول في معناها ، وهو أعم من إتيان الأولى على مجموع العضو وعدمه. وأما ما احتمله (طاب ثراه) في ضمن كلامه أولا في الرواية المذكورة ـ من كون لام الثنتين عهدية إشارة إلى الغرفتين المذكورتين أولا للوجه واليدين ، بمعنى أن الغرفة الواحدة للوجه والغرفة الواحدة للذراع مع المبالغة فيهما تأتيان على الوجه والذراع بحيث لا يحتاج إلى تثنية الغسلات ـ ففيه من التكلف بل البعد عن ساحة الإمكان ما لا يحتاج إلى الإيضاح والبيان.

(رابعها) ـ ان الظاهر أنه لا معنى لوصف الغرفة بالوجوب أو الاستحباب أو البدعية إلا باعتبار الغسل بها ، فالوصف انما يرجع إلى الغسل بها لا إليها نفسها ، فلا يتحقق كل من الأوصاف الثلاثة إلا بعد الغسل ، فإذا غسل بالأولى ـ وإن كانت تأتي على مجموع العضو ـ بعضه خاصة ، فإنه لا خلاف ولا إشكال في وجوب غسل بقية العضو ولو بغرفة يمكن إتيانها عليه كملا ، وحينئذ فكيف يصح اجراء الخلاف فيها بعد الغسل بها؟ وكيف يصح مع هذا ان استئناف الغرفة الثانية غير مأجور عليه؟ نعم ربما احتمل اجراء كلامه في الثالثة ، حيث ان الثنتين المخففتين وان كان كل منهما يقوم بالغسل الواجب الذي هو ولو كالدهن ، إلا أنه لتحصيل سنة الإسباغ يستحب الغسل بهما معا ، فمع تفريقه لهما على شطر العضو وعدم غسله بهما معا مع إتيانهما عليه وأخذه ثالثة ، ربما تطرق إليها احتمال الدخول تحت أخبار بدعية الثالثة بحملها على ما هو أعم من ان يغسل بها بعد كمال الغسل بالثنتين أو قبله مع حصول الإسباغ بالثنتين وتقصيره في الغسل بهما ، الا أنه بعد لا يخلو من شوب الاشكال.

(خامسها) ـ قوله أخيرا في الغرفة الثانية : انها ليست بمحرمة ، وهو

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٣٣٧.

٣٤٤

بناء منه (قدس‌سره) على ما فهمه من أخبار عدم الأجر على الثانية بحمل الثانية على الغرفة وعدم الأجر على الجواز وعدم الاستحباب ، كما قدمنا نقله عن جملة من الأصحاب. وقد حققنا لك ما فيه وكشفنا عن باطنه وخافية.

(الرابع) ـ المشهور بين الأصحاب تحريم الغسلة الثالثة ، وقد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ الصدوق والشيخ في الخلاف فيما تقدم من عبارتيهما ببدعيتها ، ونقل عن المبسوط والنهاية أيضا. ونقل عن ابن الجنيد وابن أبي عقيل القول بعدم التحريم ، لكن الذي في المختلف عن ابن أبي عقيل التعبير عن ذلك بنفي الأجر ، كما هو مضمون رواية زرارة المتقدمة (١) وقد عرفت ما في هذا اللفظ. والشيخ المفيد (رحمه‌الله) في المقنعة اثبت التحريم فيما زاد على الثلاث وجعل الثالثة كلفة.

والأظهر المشهور ، ويدل عليه التصريح بالبدعية في مرسلة ابن أبي عمير المتقدمة (٢) ونفي الأجر الذي هو ظاهر في التحريم أيضا كما أشرنا إليه آنفا ، ولأنها عبادة والإتيان بها بدون الاذن تشريع محرم.

وما يقال ـ من انه مع اعتقاد المشروعية فلا ريب في ذلك ولكن مجرد الإتيان بها لا يستلزمه ، وهب انه يستلزمه وانه اعتقد الاستحباب فغاية ما يلزم منه تحريم اعتقاد ندبيتها لافعلها بدون ذلك الاعتقاد بل مع ذلك الاعتقاد أيضا ، والكلام انما هو في حرمة الفعل لا الاعتقاد كما هو الظاهر. ثم ان حرمة ذلك الاعتقاد أيضا ممنوعة ، لأن الاعتقاد لو كان ناشئا من الاجتهاد أو التقليد فلا وجه لحرمته. غاية الأمر أن يكون خطأ ولا اثم على الخطأ كما تقرر عندهم ، كذا قرره بعض محققي متأخري المتأخرين ـ

ففيه نظر من وجوه : (أحدها) ـ ان ظاهر ما دل على البدعية والتحريم من الأخبار وكلام الأصحاب كون ذلك ناشئا عن اعتقاد المشروعية ، ردا على المخالفين القائلين باستحبابها والمؤكدين على المواظبة عليها ، حتى خرجت الأخبار بالأمر للشيعة بذلك تقية

__________________

(١ و ٢) في الصحيفة ٣٢٥.

٣٤٥

منهم كما عرفت سابقا ، والمناقشة بجواز الإتيان بها لا بهذا الاعتقاد أمر خارج عن محل البحث ولا خصوصية له بهذا المقام بل هي مسألة على حيالها ، فان إدخال الأفعال الأجنبية في العبادة لا بقصد كونها منها بل لغرض آخر أو خالية من الغرض ان توجه له المنع من جهة أخرى غير جهة فعله امتنع من تلك الجهة وإلا فلا ، الا ترى ان الصلاة التي هي عبادة متصلة قد جوز الشارع اشتمالها على بعض الأفعال الأجنبية لأغراض خاصة وحرم بعضا آخر لمنافاته لها ، فالوضوء الذي هو عبادة منفصل بعضها عن بعض أجدر بالجواز ، الا انه ينقدح الاشكال فيما نحن فيه من وجه آخر ، وهو وجوب المسح ببلة الوضوء على الأشهر الأظهر ، والحال ان بلة الثالثة ليست منه اتفاقا من المحرمين والمجوزين ، لا من مجرد الإتيان بها ، والا فلو تمضمض أربعا أو زاد في غسل الوجه واليدين على الحدود المقررة شرعا لا بقصد العبادة في شي‌ء من ذلك ، فإنه لا ضرر فيه ، لما عرفت آنفا من ان الأفعال تابعة للقصود والنيات في تميز بعضها عن بعض وترتب آثارها عليها.

(ثانيها) ـ ما ذكره ـ من انه مع اعتقاد استحبابها فغاية ما يلزم منه تحريم الاعتقاد لا الفعل ـ ظاهر البطلان ، كيف والأفعال ـ كما عرفت ـ تابعة للقصود والنيات صحة وبطلانا وثوابا وعقابا ، ومما لا ريب فيه ان هذا الفعل منهي عنه عموما لدخوله في البدع المحرمة في الدين ، وخصوصا لما في مرسلة ابن أبي عمير ورواية زرارة السالفتين (١) ولا معنى للمحرم إلا ما نهى الشارع عنه نهيا توجب مخالفته الإثم ، وهو هنا كذلك.

(ثالثها) ـ انه لو تم ما رتبه من الغاية المذكورة لجرى فيما لو زاد ركعة في صلاته عامدا معتقدا وجوبها فضلا عن استحبابها ، فإن غاية الأمر تحريم اعتقاد وجوبها ولا يلزم منه تحريمها ، بل يلزم في كل مبدع في الدين ان يكون ما يأتي به من البدع جائزا غير محرم وان حرم قصده واعتقاده جواز ذلك فيأثم على مجرد هذا القصد والاعتقاد ،

__________________

(١) في الصحيفة ٣٢٥.

٣٤٦

ما هذه إلا سفسطة ظاهرة وكلمات متنافرة.

(رابعها) ـ ان ما ذكره ـ من منع حرمة ذلك الاعتقاد لو كان ناشئا عن اجتهاد أو تقليد ـ على إطلاقه ممنوع ، بل الوجه فيه انه إذا كان هذا الاجتهاد مقتضى ما ادى اليه فهمه من أدلة الكتاب والسنة بعد الفحص والتتبع للأدلة حسب الجهد والطاقة فهو كذلك ، ومن المعلوم ان ما نحن فيه ليس منه ، وإلا فهو مخطئ آثم في اعتقاده ومحتمل لإثم من قلده في ذلك ، كما هو مقتضى الآيات القرآنية والسنة المحمدية ، وان أباه جملة من الأصحاب تبعا لما قرره العامة في هذا الباب كما حققناه في محل آخر.

(الخامس) ـ انه على تقدير تحريم الثالثة وبدعيتها فهل يبطل الوضوء بمجرد فعلها ، أو لا يبطل ، أو يبطل ان مسح بمائها مطلقا ، أو بخصوص ما إذا كانت الغسلة في اليد اليسرى؟ أقوال : أولها لأبي الصلاح ، وثانيها للمحقق في المعتبر ، وثالثها ظاهر الدروس والذكرى ، بل الظاهر انه المشهور بين المتأخرين ، ورابعها للعلامة في النهاية.

والأظهر عندي من هذه الأقوال الأول ، وهو مقتضى كلام الشيخين الأقدمين (الصدوق وثقة الإسلام) كما قدمنا بيانه وشيدنا بنيانه.

ويدل عليه من الأخبار رواية الكشي (١) حيث قال في أولها : «ومن توضأ ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له» وفي آخرها : «توضأ مثنى مثنى ولا تزدن عليه ، وانك ان زدت عليه فلا صلاة لك».

وما رواه في الفقيه (٢) مرسلا وفي كتاب العلل مسندا عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «من تعدى في وضوئه كان كناقضه».

ويؤيده ما رواه في الكافي (٣) والتهذيب في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٣٢٦.

(٢) ج ١ ص ٢٥ وفي العلل ص ١٠٣ وفي الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) ج ١ ص ٧ وفي التهذيب ج ١ ص ٣٨ وفي الوسائل في الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب الوضوء.

٣٤٧

عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «انما الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه ...». فإنه صريح ـ كما ترى ـ في عصيان من زاد على الوضوء المحدود ، ومن الظاهر ان العصيان انما نشأ هنا من مخالفة الأمر في العبادة المستلزمة للإبطال.

ثم لا يخفى انه لو أمكن المناقشة في بعض هذه الأدلة أو في كل منها إلا انه بالنظر إلى مجموعها ـ مع عدم المنافي لها من الأخبار ، مع ان بعضها من مرويات الفقيه الذي ضمن مصنفه فيه صحة ما يرويه ، كما اعتمدوا على ذلك في غير موضع من كلامهم ، مضافا إلى قول الشيخين المعتمدين بذلك ـ لا يبقى لتطرق الشك في الحكم المذكور وجه ، وقد مر أيضا ما يؤكده ويزيده تأييدا.

(المسألة الثانية) ـ الظاهر انه لا خلاف بين أصحابنا (نور الله تعالى مراقدهم) في وجوب الموالاة كما ادعاه جماعة ، إنما الخلاف في معناها ، فقيل إنها مراعاة الجفاف بمعنى انه لا يؤخر بعض الأعضاء عن بعض بمقدار ما يجف ما تقدمه ، وقيل انها عبارة عن المتابعة اختيارا ومراعاة الجفاف اضطرارا.

وهل الإخلال بالمتابعة المذكورة هنا موجب للإثم خاصة أو للبطلان أيضا؟ قولان لأصحاب هذا القول ، والمشهور عندهم الأول ، وبه صرح العلامة في جملة من كتبه والمحقق في المعتبر ، وظاهر المبسوط الثاني ، وحينئذ ففي المسألة أقوال ثلاثة.

وظاهر المحقق الشيخ علي في شرح القواعد إنكار القول الثالث ، فإنه بعد ان نقل القولين ونقل عن بعض حواشي الشهيد قولا ثالثا جامعا بين التفسيرين قال : «وعندي ان هذا هو القول الأول ، لأن القائل به لا يحكم بالبطلان بمجرد الإخلال بالمتابعة ما لم يجف البلل ، فلم يبق لوجوب المتابعة معنى إلا ترتب الإثم على فواتها ، ولا يعقل تأثيم المكلف بفواتها إلا إذا كان مختارا ، لامتناع التكليف بغير المقدور» انتهى ويظهر ذلك أيضا من المختلف حيث لم ينقل فيه إلا القول بمراعاة الجفاف والقول بالمتابعة من غير تعرض لكلام المبسوط. وأنت خبير بأن عبارة الشيخ في المبسوط

٣٤٨

ـ حيث قال : «الموالاة واجبة في الوضوء ، وهو ان يتابع بين الأعضاء مع الاختيار وان خالف لم يجزه» ـ ظاهرة الدلالة على الابطال مع المخالفة اختيارا كما نسبه اليه جمع من المتأخرين.

ونقل الصدوق في الفقيه (١) عن أبيه في رسالته إليه انه قال : «ان فرغت من بعض وضوئك وانقطع بك الماء من قبل ان تتمه فأتيت بالماء ، فتمم وضوءك ان كان ما غسلته رطبا ، وان كان قد جف فأعد وضوءك ، فان جف بعض وضوئك قبل أن تتم الوضوء من غير ان ينقطع عنك الماء ، فاغسل ما بقي جف وضوؤك أو لم يجف» انتهى. ويظهر منه ان اي الفردين من مراعاة الجفاف والتتابع خصل فهو كاف في صحة الوضوء ، فلو تابع بين أعضاء الوضوء واتفق الجفاف لضرورة كان أم لا صح وضوؤه ، ولو لم يتابع بل فرق بين الأعضاء لعذر كان أم لا روعي الجفاف وعدمه ، فان حصل بطل وضوؤه وإلا فلا.

وإلى هذا القول مال جملة من أفاضل متأخري المتأخرين : منهم ـ المحدث الشيخ محمد ابن الحسن الحر العاملي في كتاب البداية وكتاب الوسائل ، حيث خص الابطال بجفاف السابق بصورة التراخي والتفريق (٢) وبذلك يصير المسألة قول رابع. ثم ان ظاهر القول بكون الموالاة أحد واجبات الوضوء ترتب الإثم على تركها ، وبذلك صرح أصحاب القولين المذكورين ، وان القائلين بمراعاة الجفاف صرحوا بأنه مع التفريق بين الأعضاء حتى يجف السابق يأثم ويبطل الوضوء ، بل صرح الشهيد منهم في الدروس والبيان بأنه يأثم مع التفريق إذا أفرط في التأخير عن المعتاد وان لم يبطل الا مع الجفاف ، والقائلون بالمتابعة صرحوا بالإثم مع الإخلال بها وعدم البطلان الا بالجفاف ، وبعضهم ـ كما تقدم ـ قال بالإثم والابطال مع الإخلال بها. وفي ثبوت الإثم المذكور من الأدلة إشكال ، لعدم ما يدل عليه ولو في الجملة ، ومن ثم ذهب بعض من محققي متأخري المتأخرين إلى شرطية الموالاة في الوضوء بمعنى توقف صحته عليها ، فغاية

__________________

(١) ج ١ ص ٣٥.

(٢) في الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الوضوء.

٣٤٩

ما يلزم من فواتها بطلانه دون الوجوب المستلزم لاستحقاق الذم بالمخالفة ، اللهم إلا ان يثبت إجماع على الوجوب أو على حرمة إبطال العمل ، وربما كان الظاهر من كلام علي بن بابويه ذلك ، ومنه ربما ينتج بلوغ الخلاف في المسألة إلى أقوال خمسة.

ويدل على القول بمراعاة الجفاف من الأخبار صحيحة معاوية بن عمار (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : ربما توضأت فنفد الماء فدعوت الجارية فأبطأت علي بالماء فيجف وضوئي؟ فقال : أعد».

وموثقة أبي بصير (٢) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : إذا توضأت بعض وضوئك فعرضت لك حاجة حتى تنشف وضوؤك فأعد وضوءك. فان الوضوء لا يبعض».

واستدل بعض الأصحاب على ذلك أيضا برواية مالك بن أعين ومرسلة الصدوق المتقدمتين في الأمر السابع من البحث الثالث في مسح الرأس (٣) لدلالتهما على اعادة الوضوء لمن نسي مسح رأسه وفقد البلة من أعضاء وضوئه.

وعندي في الدلالة نظر ، إذ من الجائز أن يكون استناد وجوب الإعادة المستلزم لبطلان الوضوء السابق انما هو للإخلال ببعض اجزاء الوضوء الذي هو المسح ، لعدم جوازه إلا ببلة الوضوء ، مع تعذرها كما هو المفروض ، دون الجفاف.

وأنت خبير بأن غاية ما يفهم من الروايتين الأولتين اللتين هما مستند القول المذكور الأمر بالإعادة الدال على بطلان ما فعله سابقا ولا دلالة فيه على الذم والإثم بوجه ، بل ربما كان في سكوته (عليه‌السلام) عن الذم والإنكار بالتأخير حتى يجف الوضوء نوع إيماء إلى العدم ، وبذلك يظهر قوة القول بالشرطية خاصة. وما ربما يتوهم ـ من قوله في موثقة أبي بصير : «فان الوضوء لا يبعض». بناء على ان الجملة الخبرية هنا في معنى الإنشاء وان المعنى حينئذ انه لا يجوز تبعيضه ـ فمردود بأنه يجوز ان يكون

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) في الصحيفة ٢٨١.

٣٥٠

المراد ان الوضوء الشرعي ليس بقابل للتبعيض ، بل تبعيضه يوجب الإتيان بوضوء غير مبعض ، لعدم الخروج عن العهدة ، فهو خبر أريد به خبر آخر هو لازمه وهو عدم صحة المبعض ، ووجوب إعادته من قبيل الكناية ، أو أريد به الإنشاء وهو الأمر بالإعادة. وشي‌ء منهما لا يدل على الإثم ، ويرشد إلى هذا انه وقع تعليلا للأمر بالإعادة مع الجفاف في مادة عروض الحاجة إلى الماء.

ثم ان مضمون الروايتين المشار إليهما أيضا حصول الابطال بالجفاف الناشي عن التفريق ، اما لو اتفق الجفاف لا مع التفريق فلا دلالة للخبرين المذكورين على الابطال ، وليس غيرهما في الباب.

وبه يظهر قوة ما ذهب اليه الصدوقان ومن تبعهما من انه لو تابع بين أعضاء الوضوء صح وضوؤه وان اتفق الجفاف ، لعذر كان من حرارة ونحوها أم لا ، وضعف ما ذكره شيخنا الشهيد في الذكرى والدروس من انه لو والى وجف بطل وضوؤه إلا مع إفراط الحر وشبهه ، وقال في الذكرى : «ظاهر ابني بابويه ان الجفاف لا يضر مع الولاء والأخبار الكثيرة بخلافه ، مع إمكان حمله على الضرورة» انتهى. وما ذكره من الأخبار الكثيرة الدالة على الابطال مع الجفاف في الصورة المذكورة لم نعثر منها في هذا الباب على غير ما قدمناه.

ويدل أيضا على ما ذكرناه ما ذكره في كتاب فقه الرضا (١) حيث قال (عليه‌السلام): «إياك ان تبعض الوضوء ، وتابع بينه كما قال الله تعالى : ابدأ بالوجه ثم باليدين ثم بالمسح على الرأس والقدمين ، فان فرغت من بعض وضوئك وانقطع بك الماء من قبل ان تتمه ثم أوتيت بالماء ، فاتمم وضوءك إذا كان ما غسلته رطبا ، فان كان قد جف فأعد الوضوء ، وان جف بعض وضوئك قبل ان تتم الوضوء من غير ان ينقطع عنك الماء ، فامض على ما بقي جف وضوؤك أم لم يجف». وقوله : وان فرغت

__________________

(١) في الصحيفة ١.

٣٥١

إلى آخره هو عين ما نقله الصدوق عن والده (قدس‌سرهما) وهو مؤيد لما صرحنا به في تتمة المقدمة الثانية من مقدمات الكتاب من اعتماد الصدوقين على الأخذ من الكتاب المذكور ونقلهما عبائره بعينها ، ويزيده تأييدا ان صدر عبارة الكتاب المذكور إلى قوله «فان فرغت» وان لم ينقله في الفقيه لكن نقله في الذكرى عن علي بن بابويه متصلا بما نقله في الفقيه ، وبذلك يظهر لك ان ما ذكره في الذكرى بعد نقل كلام علي بن بابويه المتقدم ـ من انه لعله عول على ما رواه حريز عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) كما أسنده ولده في كتاب مدينة العلم ، وفي التهذيب وقفه على حريز ، قال : «قلت : ان جف الأول من الوضوء قبل ان اغسل الذي يليه؟ قال : جف أو لم يجف اغسل ما بقي ...». ـ ليس على ما ظنه (قدس‌سره) بل انما عول على ما قدمنا ذكره ، وهذه الرواية حملها في التهذيب على الجفاف بالريح الشديدة والحر العظيم أو التقية ، والأخير أقرب كما ذكره في البحار ، لأن في تمام الخبر «قلت : وكذلك غسل الجنابة؟ قال : هو بتلك المنزلة ، وابدأ بالرأس ثم أفض على سائر جسدك. قلت : وان كان بعض يوم؟ قال : نعم» إذ ظاهره هنا المساواة بين الوضوء والغسل ، فكما ان الغسل لا يعتبر فيه الريح الشديدة والحر كذلك الوضوء.

واستدل القائلون بالقول الثاني بوجوه نذكر ما هو أمتنها دلالة عندهم :

(فمنها) ـ قوله (عليه‌السلام) في صحيح زرارة (٢) : «تابع بين الوضوء كما قال الله تعالى : ابدأ بالوجه ثم باليدين ثم امسح الرأس والرجلين ...». وقوله في رواية حكم ابن حكيم (٣) : «ان الوضوء يتبع بعضه بعضا». وقوله (عليه‌السلام) في حسنة الحلبي (٤) : «... اتبع وضوءك بعضه بعضا».

__________________

(١) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الوضوء ، وفي الباب ٢٩ و ٤١ من أبواب الجنابة.

(٢) المروي في الوسائل في الباب ـ ٣٤ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٣ ـ من أبواب الوضوء.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٣ و ٣٥ ـ من أبواب الوضوء.

٣٥٢

والجواب ان ظاهر الأخبار المذكورة ان المراد بالمتابعة فيها هو الترتيب بين الأعضاء بتقديم ما حقه التقديم وتأخير ما حقه التأخير ، فالمراد من المتابعة فيها من باب تبع فلان فلانا إذا مشى خلفه لا المتابعة بمعنى اللحوق والقرب والدنو كما هو المدعى ، بقرينة قوله في الرواية الأولى : «كما قال الله تعالى : ابدأ بالوجه. إلخ» على وجه التفسير والأبدال والتعليل ، وقوله في الثالثة قبل هذا الكلام : «إذا نسي الرجل ان يغسل يمينه فغسل شماله ومسح رأسه ورجليه وذكر بعد ذلك ، غسل يمينه وشماله ومسح رأسه ورجليه ، وان كان انما نسي شماله فليغسل الشمال ولا يعتد على ما كان توضأ ، وقال : اتبع. إلخ» وقوله في الثانية بعد ان سأله الراوي عن رجل نسي من الوضوء الذراع والرأس قال : «يعيد الوضوء ، ان الوضوء. إلخ» على انه لو تم ما ادعوه منها لوجب الحكم بالبطلان دون مجرد الإثم بالمخالفة ، لعدم الإتيان بالفعل على الوجه المأمور به شرعا وأكثرهم لا يقول به كما عرفت وما ذكرناه في معاني الأخبار المذكورة ان لم يكن متعينا لما ذكرنا من قرائن سياقها فلا أقل ان يكون هو الأظهر ، وبذلك يبطل الاستناد إليها فيما ذكروا ، ومنه يعلم ضعف الاعتماد عليها في ثبوت الإثم لمن أخل بالمتابعة كما يدعونه ، فضلا عن حصول الابطال معه كما ادعاه في المبسوط.

و (منها) ـ اخبار الوضوء البياني (١) فإنها مبينة للأمر المجمل في الوضوء.

والجواب انه وان كان كذلك كما حققناه آنفا ، الا انه انما يحتج به مع عدم دليل من خارج يقتضي تقييد مطلقه وتبيين مجمله ، والأخبار الدالة على تخصيص الابطال بالجفاف في صورة التفريق مخصصة ، على انه يمكن منع دلالة الوضوء البياني هنا على الوجوب بالحمل على ان ذلك مقتضى العادة في مثله. وجريان مثل ذلك في أعلى الوجه ومرفقي اليدين ممنوع ، والغسل في كل منهما مجمل والوضوء البياني مبين له.

و (منها) ـ موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «ان

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء.

٣٥٣

نسيت فغسلت ذراعك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثم اغسل ذراعك بعد الوجه ...». وجه الاستدلال بها انه أمر بإعادة غسل الوجه الدال على فعله أولا ، وليس ذلك إلا لبطلان الوضوء بفوات المتابعة بين أعضاء الطهارة ، لا لفوات الترتيب ، لأنه يحصل بإعادة غسل الذراع خاصة.

والجواب انه لو كان الأمر كذلك لحصل المنافاة بين صدر هذه الرواية وعجزها حيث قال بعد ما قدمنا ذكره منها : «فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فأعد غسل الأيمن ثم اغسل اليسار ، وان نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك» فإنه لو كان الأمر بإعادة غسل الوجه في صدرها انما هو لترك المتابعة ، لكان ينبغي الأمر بإعادة غسل الوجه في الفرضين الأخيرين ، مع انه اقتصر فيهما على اعادة ما أخر تقديمه نسيانا ثم اعادة ما قدمه عليه ليحصل الترتيب بين اجزاء الوضوء. نعم يرد الاشكال فيها من جهة أخرى وهو ان تحصيل الترتيب ممكن بدون اعادة غسل ما أخره نسيانا ، بان يعيد غسل ما قدمه عليه خاصة ثم ما بعده ، وهذه مسألة على حيالها قد تعارضت فيها الأخبار ، وسيجي‌ء تحقيقها ان شاء الله تعالى ، على ان ظاهر الرواية ـ بناء على ما يدعيه المستدل ـ الابطال بترك الموالاة ولو نسيانا ، وهم لا يقولون به ، بل غاية ما يدعونه حصول الإثم مع العمد دون النسيان ، والشيخ في المبسوط وان قال بالإبطال إلا ان الظاهر انه يخصه بصورة العمد أيضا ، وحينئذ فلا انطباق للرواية على ما يدعونه منها.

و (منها) ـ قوله في موثقة أبي بصير المتقدمة (١) : «فإن الوضوء لا يبعض». وهو صادق مع الجفاف وعدمه.

والجواب انك قد عرفت آنفا من معنى هذا اللفظ ان المراد به حيث وقع تعليلا للإعادة مع الجفاف بطلان المبعض وعدم صحته ، وحينئذ فلو أريد بالتبعيض فيه مجرد

__________________

(١) في الصحيفة ٣٥٠.

٣٥٤

التفريق كما يدعيه المستدل ، للزم القول ببطلان الوضوء بمجرد التفريق وان لم يحصل الجفاف ، وهو لا يقول به ، فالظاهر ان المراد بالتعليل ان الوضوء لا يبعض بان يصير بعضه رطبا وبعضه يابسا بالتفريق ، بمعنى انه لا يفرق على وجه يلزم منه يبس السابق.

و (منها) ـ رواية حكم بن حكيم المتقدمة (١) وجه الاستدلال بها ان المتابعة لو لم تكن واجبة لما حكم (عليه‌السلام) بإعادة الوضوء ، مؤيدا ذلك بالتعليل : «ان الوضوء يتبع بعضه بعضا». فإنه يدل على ان المراد بالمتابعة عدم الفصل لا الترتيب ، لان حصول الترتيب لا يتوقف على اعادة الوضوء بل يكفي فيه الإتيان على العضو المنسي وما بعده.

والجواب ان روايات نسيان بعض اجزاء الوضوء (٢) قد اتفقت على ان الحكم في ذلك الإتيان بالجزء المنسي وما بعده ما لم يحصل الجفاف دون الابطال ، وهي مستفيضة ولا سيما الروايات الدالة على المسح بالبلة الباقية في أعضاء الوضوء لمن نسي مسح رأسه أو رجليه (٣) المتضمن جملة منها لعدم ذكر ان ذلك الا بعد الدخول في الصلاة ، على انهم ـ كما عرفت آنفا ـ لا يقولون بالإعادة إلا في حال الجفاف ، وانما غاية ما يدعونه حصول الإثم مع التخصيص بصورة العمد ، وإلا لوردت عليهم الأخبار المذكورة ، وحينئذ فالواجب حمل هذه الرواية على اعادة الوضوء بالجفاف الموجب لفوات الموالاة ويحتمل أيضا حمل اعادة الوضوء على الإتيان بما نسي منه وما بعده وهو الأنسب بالتعليل واما على تقدير المعنى الأول فالأظهر في معنى التعليل المذكور حمله على ما تقدم في معنى قوله : «فان الوضوء لا يبعض» والمعنى حينئذ انه يعيد الوضوء لبطلان السابق بالجفاف ، فان الوضوء يتبع بعضه بعضا ولا يفرق على وجه يجف السابق ، وعليه

__________________

(١) في الصحيفة ٣٥٢.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الوضوء.

٣٥٥

فتكون الرواية ثالثة لموثقة أبي بصير وصحيحة معاوية بن عمار المتقدمتين في الدلالة على البطلان مع الجفاف بالتفريق.

وأنت خبير بان ملخص ما ظهر ـ من مطاوي هذا البحث بعد استقصاء النظر في أدلته ـ أن الموالاة التي هي عبارة عن مراعاة الجفاف شرط في صحة الوضوء مع التفريق واما مع المتابعة فلا يضر جفاف ما سبق لعذر كان من حرارة هواء ونحوها أم لا كما لا يخفى ، والاحتياط بالمتابعة مما لا ينبغي تركه.

تنبيهات : (الأول) ـ هل المبطل على تقدير القول بمراعاة الجفاف هو جفاف جميع الأعضاء المتقدمة. أو جفاف عضو في الجملة ، أو العضو السابق على ما هو فيه؟ أقوال ثلاثة : أولها ظاهر المشهور ، وثانيها صريح ابن الجنيد على ما نقل عنه من اشتراط بقاء البلل في جميع ما تقدم إلا لضرورة ، وثالثها ظاهر السيد المرتضى وابن إدريس.

والظاهر هو القول المشهور ، لأصالة صحة الوضوء فيقتصر في بطلانه على القدر المتيقن وهو جفاف الجميع ، ولأن الروايتين الدالتين على الابطال مع الجفاف ان لم تكونا ظاهرتين في ترتب الابطال على جفاف الجميع فلا ظهور لهما في جفاف البعض.

ومما استدل به على ذلك أيضا الأخبار الدالة على الأخذ من بلة الوضوء لمن نسي مسح رأسه أو رجليه (١) ويضعف باحتمال اختصاص الحكم بالناسي كما هو مورد تلك الأخبار أو الضرورة كما يقوله ابن الجنيد.

(الثاني) ـ وقع في عبائر كثير من الأصحاب التقييد في الجفاف بالهواء المعتدل ، وظاهره ان تعجيل الجفاف في الهواء الشديد الحرارة وتأخيره في الهواء الشديد الرطوبة لا اعتبار به بل الاعتبار بحكم الهواء المتوسط بينهما فيحمل عليه كل من الطرفين ، الا ان شيخنا الشهيد في الذكرى قال : «لو كان الهواء رطبا جدا بحيث لو اعتدل جف البلل لم يضر لوجود البلل حسا ، وتقييد الأصحاب بالهواء المعتدل

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الوضوء.

٣٥٦

ليخرج طرف الإفراط في الحرارة» انتهى. وهو جيد ، لأن الإعادة إنما علقت في الخبرين المتقدمين على الجفاف ، وهو غير صادق هنا لا لغة ولا عرفا ، والجفاف التقديري لا دليل عليه ، لكن يبقى الإشكال أيضا في طرف الإفراط بالجفاف بالحرارة الشديدة من حيث ان الحكم معلق في الأخبار على الجفاف وقد تحقق كما هو المفروض والتقدير أيضا لا وجه له ، وتقييد النص بحال الاعتدال من غير دليل محل إشكال إلا ان يتمسك بالضرورة. وفيه انه يندفع بالتيمم أو الاستئناف.

(الثالث) ـ صرح جمع من الأصحاب بأنه لو تعذرت الموالاة فلم تبق بلة على اليد للمسح جاز الاستئناف للمسح ، للضرورة ، وصدق الامتثال ، واختصاص المسح بالبلة بحال الإمكان. ويحتمل الانتقال إلى التيمم. ولم أقف على نص في ذلك ، والاحتياط يقتضي التعجيل في الوضوء ، فان لم تبق بلة جمع بين الاستئناف والتيمم.

(المسألة الثالثة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء فيما عدا الرجلين إحداهما على الأخرى ، ووجوب الإعادة على ما يحصل معه مع مخالفته عمدا أو نسيانا قبل الجفاف ، وشرح الكلام في هذه المسألة ينتظم في فوائد :

(الأولى) ـ القول بوجوب الترتيب ـ بأن يبدأ بالوجه ثم باليد اليمنى ثم باليسرى ثم بالرأس ثم بالرجلين ـ مما انعقد عليه إجماعنا فتوى ورواية :

فمن الأخبار الواردة بذلك صحيحة زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (١) قال : «تابع بين الوضوء كما قال الله عزوجل : ابدأ بالوجه ثم باليدين ثم امسح الرأس والرجلين. ولا تقدمن شيئا بين يدي شي‌ء تخالف ما أمرت به ، فان غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه وأعد على الذراع ، وان مسحت الرجل قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرجل ثم أعد على الرجل ، ابدأ بما بدأ الله عزوجل به». وهي صريحة

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣٤ من أبواب الوضوء.

٣٥٧

في تقديم الوجه على مجموع اليدين ، وهما على مجموع الرأس والرجلين ، وتقديم مسح الرأس على الرجلين.

وصحيحة منصور بن حازم عن الصادق (عليه‌السلام) (١) «في الرجل يتوضأ فيبدأ بالشمال قبل اليمين؟ قال يغسل اليمين ويعيد اليسار». وهي دالة على الترتيب بين اليدين.

وموثقة أبي بصير عنه (عليه‌السلام) (٢) قال : «ان نسيت فغسلت ذراعك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثم اغسل ذراعك بعد الوجه ، فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فأعد غسل الأيمن ثم اغسل اليسار ، وان نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك». وهذه الرواية قد استجمعت الترتيب بين الأعضاء ما عدا الرجلين ، إلى غير ذلك من الأخبار.

بقي الكلام فيما لو توضأ بالمطر المتقاطر عليه ، كما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن الرجل لا يكون على وضوء فيصيبه المطر حتى يبتل رأسه ولحيته وجسده ويداه ورجلاه ، هل يجزيه ذلك من الوضوء؟ قال : ان غسله فان ذلك يجزيه». أو في الماء ، فالظاهر ان المرجع في وجوب تقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره إلى القصد ، فلا عبرة بحصول الغسل في شي‌ء من تلك الأعضاء من غير اقترانه بالقصد المذكور ، وحينئذ فلو قدم في قصده عمدا أو سهوا بعض ما يجب تأخيره أبطل ووجبت الإعادة على ما يحصل به الترتيب.

(الثانية) ـ اختلف الأصحاب في وجوب الترتيب بين الرجلين وعدمه على أقوال ثلاثة : (أحدها) ـ الوجوب بتقديم اليمنى على اليسرى ، نقله في المختلف عن الصدوقين وابن الجنيد وسلار ، واختاره جملة من المتأخرين. و (ثانيها) ـ ما هو

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٣٥ من أبواب الوضوء.

(٣) رواه في الوسائل في الباب ٣٦ من أبواب الوضوء.

٣٥٨

المشهور من سقوط الوجوب فيجوز مسحهما دفعة واحدة بالكفين وتقديم اليمنى على اليسرى وبالعكس. و (ثالثها) ـ التخيير بين المقارنة وتقديم اليمنى دون العكس ، نقله في الذكرى عن بعضهم ، وهو ظاهر المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر في البداية والوسائل واختاره بعض فضلاء متأخري المتأخرين.

والظاهر منها هو الأول ، ويدل عليه حسنة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «امسح على القدمين وابدأ بالشق الأيمن».

وما رواه النجاشي في كتاب الرجال (٢) بإسناده عن عبد الله بن أبي رافع وكان كاتب أمير المؤمنين (عليه‌السلام) انه كان يقول : «إذا توضأ أحدكم للصلاة فليبدأ باليمين قبل الشمال من جسده».

وما استند اليه أصحاب القول المشهور ـ من إطلاق الأوامر وصدق الامتثال الذي هو غاية ما اعتمدوا عليه ـ ففيه انه يجب تقييد مطلق تلك الأوامر بما ذكرنا من الأخبار ، وصدق الامتثال مع ما ذكرنا ممنوع.

والجواب ـ بحمل الأخبار على الاستحباب وان كان الأمر من حيث هو حقيقة في الوجوب كما برهن عليه في الأصول ، معللا بكثرة الأوامر في الشريعة للندب ، فلا وثوق في الاحتجاج بها على الوجوب الموجب لاشتغال الذمة ، كما اعتمد عليه جملة من فضلاء متأخري المتأخرين وردوا لأجله الأوامر في جملة من الأحكام ـ مردود بأنه تخريص في الدين وجرأة على سيد المرسلين ، فإنه كما ان الأصل براءة الذمة كما تعلقوا به وردوا لأجله تلك الأوامر فلا يثبت اشتغالها إلا بدليل ، كذلك الأصل في الأمر الوجوب كما هو المسلم فلا يخرج عنه إلا بدليل ، وكثرة ورود الأخبار للندب ـ معتضدا أكثرها بالقرائن الحالية والمقالية على ذلك ـ لا يقتضي حمل ما ليس كذلك عليه ،

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٣٤ من أبواب الوضوء.

(٢) في ص ٥ وفيه (أبو محمد) بدل (أبي عبد الله) وفي الوسائل في الباب ٣٤ من أبواب الوضوء.

٣٥٩

والتحرز عن الوقوع في اشتغال الذمة ليس اولى من التحرز عن الوقوع في مخالفة الأمر الموجبة للإثم ، والتمسك بأصالة البراءة انما يتم قبل ورود الأمر أو بعده مع ظهور الدلالة على عدم الوجوب ، والتفصي عن المخالفة بالحمل على الاستحباب لا يسمن ولا يغني من جوع في هذا الباب ، إذ متى كان الحكم واجبا شرعا وقد أمر به حافظ الشريعة لذلك فحمل امره على الاستحباب المؤذن بجواز الترك تخرصا عين المخالفة لمقتضى امره والرد لنافذ حكمه. هذا ، وقد تقدم الجواب عن ذلك مستوفى في المقدمة السابعة (١) ويدل على القول الثالث

ما رواه الطبرسي (قدس‌سره) في كتاب الاحتجاج (٢) من التوقيع الخارج من الناحية المحروسة في جملة أجوبة مسائل الحميري ، حيث سأل عن المسح على الرجلين : يبدأ باليمين أو يمسح عليهما جميعا؟ فخرج التوقيع «يمسح عليهما جميعا معا ، فان بدأ بإحداهما قبل الأخرى فلا يبدأ إلا باليمين».

وأنكر جملة من محققي متأخري المتأخرين وجود دليل لهذا القول لعدم الوقوف على الرواية المذكورة حتى تكلف بعضهم الاستدلال عليه بما لا يخلو من شي‌ء.

(الثالثة) ـ لو خالف مقتضى الترتيب المذكور عمدا أو نسيانا ، فإنه تجب عليه الإعادة على ما يحصل به الترتيب مع عدم الجفاف ومعه فتجب الإعادة من رأس ، وظاهر العلامة في التحرير الإعادة مع العمد من رأس وان لم يجف ، وفي التذكرة عكسه وهو الإعادة مع النسيان من رأس وان لم يجف ، والتفصيل بالجفاف وعدمه مع العمد ، وهو غريب.

ثم انه هل يكفي في الإعادة مع عدم الجفاف اعادة ما قدم مما حقه التأخير دون ما أخر مما حقه التقديم لصحته ، إذ لا مانع من صحته إلا تقديم ما حقه التأخير عليه ، وهو غير صالح للمانعية لفساده ، أو يجب اعادة الجميع ، نظرا إلى انه كما بطل الأول لتقديمه في غير موضعه كذلك بطل الثاني لترتيبه عليه ووضعه أيضا في غير موضعه؟

__________________

(١) ج ١ ص ١١٥.

(٢) ص ٢٥٥ وفي الوسائل في الباب ٣٤ من أبواب الوضوء.

٣٦٠