الحدائق الناضرة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة ـ نجف
المطبعة: مطبعة النّجف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

«من تعدى في وضوئه كان كناقضه» (١). ثم ذكر حديث ابن أبي المقدام الآتي (٢) وتأوله بحمل «اثنتين اثنتين» فيه على التجديد ، ثم حمل أيضا حديث «من زاد على مرتين لم يؤجر» (٣). وكذلك ما روى (٤) في المرتين «أنه إسباغ» على التجديد أيضا ، إلى أن قال : وقد فوض الله (عزوجل) الى نبيه (عليه‌السلام) أمر دينه ، ولم يفوض اليه تعدي حدوده. وقول الصادق (عليه‌السلام): «من توضأ مرتين لم يؤجر» (٥). يعني به انه اتى بغير الذي أمر به ووعد الأجر عليه فلا يستحق الأجر ، وكذلك كل أجير إذا فعل غير الذي استؤجر عليه لم تكن له اجرة. انتهى.

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ صريح في إنكاره الثانية وقوله ببدعيتها ، حيث انه جعل الحد المفروض من الله تعالى في الوضوء واحدة واحدة ، وان ما زاد تعد للحد ، وان من يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ، وفسر عدم الأجر في قوله (عليه‌السلام): «من توضأ مرتين لم يؤجر» (٦). بأنه اتى بغير الذي أمر به ووعد الأجر عليه فلا يستحق الأجر ، وملخصه أن التثنية تعد للحد وانه لا يستحق المثنى ـ على أصل وضوئه لكونه مخالفا متعديا للحد فضلا عن التثنية ـ أجرا كما لا يستحق الأجير ـ إذا فعل غير ما استؤجر عليه ـ اجرا.

ونقل أيضا القول بعدم الاستحباب عن ثقة الإسلام في الكافي ، والذي يظهر لي من عبارته أيضا هو القول بالتحريم ، حيث قال (٧) ـ بعد نقل حديث عبد الكريم الآتي (٨) الدال على انه ما كان وضوء علي (عليه‌السلام) إلا مرة مرة ـ ما لفظه «هذا دليل على ان الوضوء انما هو مرة مرة ، لأنه (عليه‌السلام) كان إذا ورد عليه أمران كلاهما لله طاعة أخذ بأحوطهما وأشدهما على بدنه ، وان الذي جاء عنهم (عليهم‌السلام) انه قال : «الوضوء مرتان» إنما هو لمن لم تقنعه مرة فاستزاده فقال مرتان

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦ و ٨) المروي في الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٧) ج ١ ص ٩.

٣٢١

ثم قال : «ومن زاد على مرتين لم يؤجر» وهو أقصى غاية الحد في الوضوء الذي من تجاوزه اثم ولم يكن له وضوء ، وكان كمن صلى الظهر خمس ركعات ، ولو لم يطلق (عليه‌السلام) في المرتين لكان سبيلهما سبيل الثلاث» انتهى.

والمفهوم من هذا الكلام ان مراده الجمع بين أخبار المرة والمرتين والثلاث ، بحمل أخبار المرة على انه الوضوء الشرعي المأمور به ، واخبار المرتين على من أراد سنة الإسباغ ولم تقنعه المرة لذلك ، وإلا فاجزاء المرة ـ للقدر الواجب الذي كالدهن حقيقة أو مجازا ـ مما لا ريب فيه ، فيغسل حينئذ بالمرتين ، وهو أقصى الحد في الوضوء ومنتهى الرخصة في الزيادة فيه ، واخبار الثلاث الدالة على عدم الأجر بعد تجاوز الثنتين على من تجاوز هذا الحد إلى الغسل بثالثة ، فإنه يأثم وليس له وضوء. ويمكن توجيهه بأن الثالثة ـ بعد غسل العضو غسلا مسبغا بالثنتين ـ لا مدخل لها في أداء الواجب بل هي زائدة من تلك الجهة ، كزيادة الركعة الخامسة بعد الإتيان بالواجب التي هي الأربع ، ولا دليل هنا على استحباب التكرار بعد أداء الواجب المتصف بكمال سنة الإسباغ ، والضمير في قوله : «وهو أقصى غاية الحد» راجع إلى ما تقدم من الوضوء مرتين ، ومحصل الكلام ان الوضوء الشرعي انما هو مرة مرة ، واخبار المرتين انما هي لمن لم تقنعه المرة في أداء الواجب كاملا ، وهذا غاية الحد في الوضوء ، فمن زاد على ذلك اثم وبطل وضوؤه ، وهو المراد من عدم الأجر كما أشرنا إليه آنفا ، ولعل منشأ ما ذكروه توهم عود الضمير المذكور إلى قوله : «ومن زاد على مرتين» بمعنى ان الزيادة على المرتين أقصى غاية الحد ، وهو توهم ظاهر البطلان ، لان جعل الزيادة على المرتين الذي هو عبارة عن التثنية أقصى غاية الوضوء يدل على دخول تلك الزيادة في الوضوء الشرعي وانها جزء منه ، فتكون الثانية بعد تمام الغسل بالمرتين من جملة الوضوء واجزائه ، وان الإثم وعدم الوضوء انما ينصرف حينئذ إلى من تجاوزها ، ويصير حديث التمثيل بمن صلى الظهر خمس ركعات انما هو لمن زاد عليها ، فكيف يصح حينئذ نفي الأجر عنها بقوله :

٣٢٢

«ومن زاد على مرتين لم يؤجر» والغرض ان المرتين ـ كما عرفت ـ انما هي عبارة عن غسلة واحدة ، ما هذا إلا تناقض ظاهر لا يصدر عن مثل هذا العالم الماهر. ويؤكد ما قلناه قوله أخيرا : «ولو لم يطلق. إلخ» فإن معناه انه لو لم يرخص لمن استزاده في المرتين لكان سبيلهما في الإثم وبطلان الوضوء سبيل الثلاث في الإثم وبطلان الوضوء بها كما ذكره ، وهو دليل على ما قلناه من أن غاية الحد المرخص فيه هي المرتان المشتركتان في أداء الواجب ، وان الزيادة المنفي عنها الأجر في كلامه هي المشار إليها هنا بالثلاث ، وهي التي تكون موجبة للإثم ومبطلة للوضوء عنده.

وأنت إذا تأملت فيما تلوناه ظهر لك ان هذا عين ما ذكره الصدوق (قدس‌سره) من تعدى الحد بالتثنية ، وعدم استحقاق الأجر على أصل الوضوء المشعر ببطلانه فضلا عن التثنية كما عرفته مما تقدم ، والعجب من أولئك الفضلاء المحققين في عدم إمعان النظر في كلام الشيخين المذكورين ، حيث نقلوا عنهما في الكتابين المذكورين القول بعدم استحباب الثانية ، بل صرح البعض منهم بصراحة كلام الكافي في عدم الحرمة والبدعية وقال انه ظاهر الصدوق ، ونحن إنما أطلنا البحث بنقل العبارتين وبيان ما هو المفهوم منهما ليظهر لك جلية الحال مما ذكره أولئك الأبدال ، وبذلك يظهر ان الظاهر ان نقل القول بالتحريم في كلام الشيخ وابن إدريس إشارة إلى ما حررناه من كلام هذين الشيخين

(الثاني) ـ اعلم ان الأخبار الواردة عن العترة الأطهار (صلوات الله عليهم) أكثرها دال على الوحدة :

فمنها ـ اخبار الوضوء البياني (١) فإنها على تعددها إنما تضمنت الغسل بكف كف لكل من الأعضاء المغسولة.

ومنها ـ قول الباقر (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة (٢) : «ان الله وتر يحب

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ و ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

٣٢٣

الوتر فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات : واحدة للوجه واثنتان للذراعين ...». وقوله (عليه‌السلام) في حديث ميسرة (١) : «الوضوء واحدة واحدة ...».

وقول الصادق (عليه‌السلام) في جواب يونس بن عمار (٢) حيث سأله عن الوضوء للصلاة فقال : «مرة مرة».

وقول الباقر (عليه‌السلام) للأخوين في صحيحتهما عنه (٣) بعد ان حكى لهما وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وبعد أن قالا له : أصلحك الله فالغرفة الواحدة تجزئ للوجه وغرفة للذراع؟ فقال : «نعم إذا بالغت فيها ، والثنتان تأتيان على ذلك كله».

وقول الصادق (عليه‌السلام) في موثقة عبد الكريم (٤) : «ما كان وضوء علي (عليه‌السلام) الا مرة مرة».

وقوله (عليه‌السلام) فيما رواه في الفقيه (٥) مرسلا مضمرا «من توضأ مرتين لم يؤجر».

وقول الصادق (عليه‌السلام) فيما أرسله عنه في الفقيه (٦) : «والله ما كان وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلا مرة مرة ، وتوضأ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مرة مرة فقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به». وقوله : «وتوضأ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى آخره». يحتمل أن يكون من مقول قول الصادق (عليه‌السلام) وان يكون من كلام صاحب الفقيه ، فيكون خبرا مقطوعا ، وهو الظاهر الذي فهمه جملة من الأصحاب.

واما ما يعارضها ظاهرا من الأخبار فمنه ـ قول الصادق (عليه‌السلام) في صحيحة

__________________

(١ و ٢ و ٤) المروي في الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٥) ج ١ ص ٢٦ وفي الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء ، والحديث في الفقيه والوسائل مروي عن الصادق (ع) كما تقدم منه ص ٣٢١.

(٦) ج ١ ص ٢٥ وفي الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

٣٢٤

معاوية بن وهب (١) : «الوضوء مثنى مثنى». وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة صفوان (٢) : «الوضوء مثنى مثنى». وقوله في رواية زرارة (٣) : «الوضوء مثنى مثنى من زاد لم يؤجر عليه». وقوله في موثقة يونس (٤) : «يغسل ذكره ويذهب الغائط ثم يتوضأ مرتين مرتين».

وقول الرضا (عليه‌السلام) فيما رواه في مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي (٥) : «ان الفضل في واحدة ومن زاد على اثنتين لم يؤجر».

وقول الصادق (عليه‌السلام) في مرسلة مؤمن الطاق (٦) : «فرض الله الوضوء واحدة واحدة ووضع رسول الله للناس اثنتين اثنتين».

وقوله (عليه‌السلام) في مرسلة عمرو بن أبي المقدام (٧) : «إني لأعجب ممن يرغب أن يتوضأ اثنتين اثنتين وقد توضأ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اثنتين اثنتين».

وما رواه في الفقيه مضمرا مرسلا (٨) «روى في المرتين أنه إسباغ».

وقول الصادق (عليه‌السلام) في مرسلة ابن أبي عمير (٩) : «الوضوء واحدة فرض واثنتان لا يؤجر والثالثة بدعة».

وقوله (عليه‌السلام) في رواية ابن بكير (١٠) : «من لم يستيقن أن الواحدة من الوضوء تجزيه لم يؤجر على الثنتين».

وقوله (عليه‌السلام) في حسنة داود بن زربي (١١) : «توضأ ثلاثا ثلاثا ، قال

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٦ و ٧ و ٩ و ١٠) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٥) هذا الحديث ـ في السرائر والوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء ـ مروي عن نوادر البزنطي عن الصادق (ع).

(٨) ج ١ ص ٢٦ وفي الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(١١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الوضوء.

٣٢٥

ثم قال لي : أليس تشهد بغداد وعساكرهم؟ قلت بلى ...».

وروى الصفار في كتاب بصائر الدرجات بسنده فيه عن عثمان بن زياد (١) «انه دخل على أبي عبد الله (عليه‌السلام) فقال له رجل : إني سألت أباك عن الوضوء فقال مرة مرة فما تقول أنت؟ فقال : انك لم تسألني عن هذه المسألة إلا وأنت ترى أني أخالف أبي ، توضأ ثلاثا ثلاثا وخلل أصابعك».

وروى في كتاب عيون اخبار الرضا (٢) بسنده فيه إلى الفضل بن شاذان مما كتبه الرضا (عليه‌السلام) للمأمون من محض الإسلام قال فيه : «ثم الوضوء كما أمر الله في كتابه : غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس والرجلين مرة واحدة».

ورواه في موضع آخر (٣) مثله إلا انه قال : «ان الوضوء مرة فريضة واثنتان إسباغ».

وروى محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي في كتاب الرجال (٤) بسنده فيه عن داود الرقي قال : «دخلت على أبي عبد الله (عليه‌السلام) فقلت له : جعلت فداك كم عدة الطهارة؟ فقال : اما ما أوجبه الله فواحدة ، وأضاف إليها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واحدة لضعف الناس ، ومن توضأ ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له ، انا معه في ذا حتى جاء داود بن زربي فسأله عن عدة الطهارة فقال له : ثلاثا ثلاثا من نقص عنه فلا صلاة له. قال : فارتعدت فرائصي وكاد ان يدخلني الشيطان فأبصر أبو عبد الله (عليه‌السلام) إلي وقد تغير لوني فقال : اسكن يا داود هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق. قال : فخرجنا من عنده وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور وكان قد ألقي إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي وانه رافضي يختلف إلى جعفر بن محمد ، فقال أبو جعفر المنصور اني مطلع إلى طهارته فان هو توضأ وضوء جعفر بن محمد ـ فإني لأعرف طهارته ـ حققت عليه القول وقتلته ، فاطلع وداود يتهيأ

__________________

(١) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) ص ٢٦٦ وفي الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) ص ٢٦٩ وفي الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٤) ص ٢٠٠ وفي الوسائل في الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الوضوء.

٣٢٦

للصلاة من حيث لا يراه فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثا ثلاثا كما أمره أبو عبد الله (عليه‌السلام) فما تم وضوؤه حتى بعث إليه أبو جعفر المنصور فدعاه ، قال : فقال داود : فلما ان دخلت عليه رحب بي وقال : يا داود قد قيل فيك شي‌ء باطل وما أنت كذلك ، قد اطلعت على طهارتك وليس طهارتك طهارة الرافضة فاجعلني في حل ، وأمر له بمائة ألف درهم ، قال : فقال داود الرقي : التقيت انا وداود بن زربي عند أبي عبد الله (عليه‌السلام) فقال له داود بن زربي : جعلت فداك حقنت دماءنا في دار الدنيا ونرجو ان ندخل بيمنك وبركتك الجنة. فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : فعل الله ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين. فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لداود بن زربي : حدث داود الرقي بما مر عليك حتى تسكن روعته. قال فحدثه بالأمر كله ، فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام): لذا أفتيته لأنه كان أشرف على القتل من يد هذا العدو ، ثم قال يا داود بن زربي : توضأ مثنى مثنى ولا تزدن عليه وانك ان زدت عليه فلا صلاة لك».

وروى الشيخ المفيد في الإرشاد (١) بسنده إلى علي بن يقطين : «انه كتب إلى أبي الحسن (عليه‌السلام) يسأله عن الوضوء ، فكتب إليه أبو الحسن (عليه‌السلام) فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء ، والذي آمرك به في ذلك ان تتمضمض ثلاثا وتستنشق ثلاثا وتغسل وجهك ثلاثا وتخلل شعر لحيتك وتغسل يديك من أصابعك إلى المرفقين ثلاثا وتمسح رأسك كله وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثا ، ولا تخالف ذلك إلى غيره. فلما وصل الكتاب إلى علي بن يقطين تعجب مما رسم فيه مما جميع العصابة على خلافه ، ثم قال : مولاي أعلم بما قال وانا امتثل امره ، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد ويخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالا لأمر أبي الحسن (عليه‌السلام) وسعي بعلي بن يقطين إلى الرشيد وقيل له انه رافضي ، فامتحنه الرشيد من حيث لا يشعر فلما نظر إلى وضوئه ناداه كذب يا علي بن يقطين من زعم انك من الرافضة

__________________

(١) ص ٣١٥ وفي الوسائل في الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الوضوء.

٣٢٧

وصلحت حاله عنده ، وورد عليه كتاب أبي الحسن : ابتداء من الآن يا علي بن يقطين توضأ كما أمر الله : اغسل وجهك مرة فريضة واخرى إسباغا ، واغسل يديك من المرفقين كذلك ، وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما كنا نخاف منه عليك ، والسلام».

هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة ، وأصحابنا (رضوان الله عليهم) في مطولاتهم الاستدلالية لم يذكروا منها إلا اليسير ، وقد اختلفت كلمتهم (طيب الله تعالى مراقدهم) في الجمع بينها على أقوال :

(أحدها) ـ ما هو المشهور من حمل أخبار التثنية والمرتين على التثنية في الغسل وحمل الثانية على الاستحباب بعد الغسل كاملا بالأولى ، وحمل نفي الأمر في الثانية على ما إذا اعتقد وجوبها.

وفيه ان الأخبار الكثيرة المستفيضة بالوضوء البياني خالية منه بل كلها مشتملة على الوحدة في الغسل ، ويبعد غاية البعد الاستحباب على الوجه المذكور مع عدم اشتمال شي‌ء منها عليه.

وربما أجيب عن ذلك بان تلك الأحاديث إنما وردت في مقام بيان الواجب من الوضوء خاصة.

ويرد عليه (أولا) ـ انها دعوى خالية من الدليل ، بل المتبادر منه ما كان يفعله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في وضوئه غالبا ، وهو مشتمل على الواجب والمستحب لا المفترض خاصة ، وإلا لكان الأنسب في السؤال أو الحكاية ابتداء أن يسأل عن المفترض أو يقال : إلا أحكي لكم ما افترضه الله من الوضوء.

و (ثانيا) ـ ان جملة من اخبار حكاية وضوئهم (عليهم‌السلام) كخبر عبد الرحمن بن كثير الهاشمي (١) الوارد في صفة وضوء مولانا أمير المؤمنين (عليه‌السلام)

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الوضوء.

٣٢٨

مع اشتماله على جملة المستحبات ، فإنه ليس فيه تصريح بشي‌ء من ذلك ، بل هو ظاهر الدلالة على العدم ، وصحيحتي أبي عبيدة الحذاء (١) وحماد بن عثمان (٢) في وصف وضوء الباقر والصادق (عليهما‌السلام) سيما مع أردف بعض أخبار الوحدة بالقسم كما تقدم.

(وثالثا) ـ انه قد روى زرارة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) قال قال : «الوضوء مثنى مثنى من زاد لم يؤجر عليه ، وحكى لنا وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : فغسل وجهه مرة واحدة وذراعيه مرة واحدة ومسح رأسه بفضل وضوئه ورجليه». وأنت خبير بأنه مع حمل التثنية في الخبر على ما هو المشهور من استحباب غرفة ثانية والغسل مرة ثانية ينافي ما حكاه عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من المرة الواحدة ، فيحصل التدافع بين صدر الخبر وعجزه.

(الثاني) ـ ما ذهب اليه الصدوق (طاب ثراه) في الفقيه من حمل المرتين في تلك الأخبار على التجديد تارة وعلى الغسلتين اخرى كما قدمنا من كلامه ، ففي مثل حديث مؤمن الطاق (٤) حمل «اثنتين اثنتين» فيه على غسلتين غسلتين ولكن تأوله بالحمل على الإنكار دون الأخبار ، مستندا إلى ما عرفته ثمة من أن «الوضوء حد من حدود الله وانه لا يجوز ان يحد الله حدا ويتجاوزه رسوله ، وأنه تعالى فوض إلى نبيه أمر دينه ولم يفوض اليه تعدي حدوده» وكذا فيما رواه من قول الصادق (عليه‌السلام) (٥) «من توضأ مرتين لم يؤجر». حمله على الغسلتين وأوضح نفى الأجر فيه بما تقدم في كلامه ، وحمل حديث ابن أبي المقدام (٦) على التجديد ، وعلى ذلك أيضا حملما رواه مرسلا (٧) من «أن المرتين إسباغ». قال : «والخبر الذي روى «أن من زاد على مرتين لم يؤجر ،.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٢ و ٣ و ٤) المروي في الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٥ و ٧) ج ١ ص ٢٦ وفي الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٦) المتقدم في الصحيفة ٣٢٥.

٣٢٩

يؤكد ما ذكرته ، ومعناه أن تجديده بعد التجديد لا أجر له كالأذان ، من صلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين أجزأه ، ومن أذن للعصر كان أفضل ، والأذان الثالث بدعة لا أجر له» انتهى.

ولا يخفى عليك ما فيه من التكلف الظاهر والنظر الغير الخفي على الماهر :

(أما أولا) ـ فلأن ما تأول به رواية مؤمن الطاق من الحمل على الإنكار دون الأخبار مدخول بان صدر رواية الكشي المتقدمة (١) قد تضمن أن الثانية اضافة من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على وجه لا يقبل التأويل.

و (أما ثانيا) ـ فلأن ما استند اليه من أن «الوضوء حد من حدود الله. إلخ» مهدوم بما رواه هو وغيره من الأخبار الدالة على أن الذي فرضه الله تعالى من الصلاة إنما هو ركعتان فأضاف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى الثلاثية منها ركعة وإلى الرباعية اثنتين (٢) وفي بعض الأخبار «وفوض الله إلى محمد فزاد وهي سنة»

و (أما ثالثا) ـ فلأن التجديد لا ينحصر في دفعتين خاصة حتى يمكن حمل حديث «مثنى مثنى» و «مرتين مرتين» أو نحوهما عليه ، كما توهمه (قدس‌سره) وتبعه جمع من الفضلاء عليه ، إذ الظاهر من الأدلة وكلام الأصحاب في هذا الباب هو استحباب التجديد وان ترامى مع الفصل ولو بنافلة ، وعموم الأدلة ـ مثل قولهم (عليهم‌السلام): «الوضوء على الوضوء نور على نور» (٣). وقولهم : «من جدد وضوءه من غير حدث جدد الله توبته من غير استغفار» (٤). وقولهم : «الطهر على الطهر عشر حسنات» (٥). وغير ذلك ـ شاهد على ما ذكرنا من الزيادة على الدفعتين والثلاث والأزيد. وأما ما تكلفه (ره) ـ في معنى «من زاد على مرتين لم يؤجر». من قوله : «ومعناه

__________________

(١) في الصحيفة ٣٢٦.

(٢) روى صاحب الوسائل هذه الأخبار في الباب ـ ١٣ ـ من أعداد الفرائض من كتاب الصلاة.

(٣ و ٤ و ٥) المروي في الوسائل في الباب ـ ٨ ـ من أبواب الوضوء.

٣٣٠

أن تجديده بعد التجديد لا أجر له. إلخ» ـ ففيه انه إن أراد التجديد من غير تخلل زمان أو صلاة أو نحوهما فالتجديد الأول أيضا لا أجر له ، بل هو ليس بتجديد لأن الوضوء جديد ، وإن أراد به التجديد مع التخلل كما في مثال الأذان الذي أورده فقوله : «لا أجر له» ممنوع ، كيف وهو نفسه روى في هذا المقام عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «انه كان يجدد الوضوء لكل فريضة ولكل صلاة» (١).

و (أما رابعا) ـ فلأن حمل الإسباغ على التجديد فيما رواه (٢) من «أن المرتين إسباغ». مما لا يكاد يشم له رائحة من الأخبار ولا من كلام أحد من الأصحاب ، إذ الظاهر المتبادر من الإسباغ هو الإكثار من ماء الوضوء لا تكراره ، والعجب من جمع من محققي متأخري المتأخرين حيث تبعوه في هذا التأويل وجعلوا عليه المدار والتعويل من غير إعطاء التأمل حقه في ذلك ولا إمعان النظر فيما هنالك.

(الثالث) ـ ما ذهب اليه الشيخ حسن في المنتقى قال (قدس‌سره) ـ بعد نقل الخبر الدال على قوله : «مثنى مثنى» ـ : «والمتجه حمله على التقية ، لأن العامة تنكر الوحدة وتروي في أخبارهم التثنية» (٣) انتهى.

__________________

(١) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٨ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) ج ١ ص ٢٦ وفي الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) في البحر الرائق لابن نجيم ج ١ ص ٢٣ «الاولى فرض والثنتان سنة. وذكروا لدليل السنة ان رسول الله (ص) توضأ مرة وتوضأ مرتين وتوضأ ثلاثا» وهذه الروايات التي أشار إليها رواها البخاري في صحيحة أول باب الوضوء وفي بداية المجتهد لابن رشد المالكي ج ١ ص ١١ «أنفق لعلماء على أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة المرة إذا أسبغ وان الاثنتين والثلاث مندوب إليهما» وفي المهذب لأبي إسحاق الشيرازي الشافعي ج ١ ص ١٧ «يستحب أن يتوضأ ثلاثا وإن اقتصر على مرة وأسبغ أجزأه وان خالف بين الأعضاء فغسل بعضها مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثا جاز» وفي المغني لابن قدامة ج ١ ص ١٣٩ «الوضوء مرة مرة والثلاث أفضل في قول أكثر أهل العلم ، ولم يوقت ـ

٣٣١

أقول : وقد نقل القول بذلك في المعتبر عن الشافعي وأبي حنيفة وأحمد ، ونقل من رواياتهم في ذلك ما رواه عن ابن عمر (١) انه قال : «توضأ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مرة مرة وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ، ثم توضأ مرتين وقال : من ضاعف وضوءه ضاعف الله له الأجر ، ثم توضأ ثالثة وقال : هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي».

ثم لا يخفى عليك أن ما ذكره من الحمل وإن كان لا بأس به بحسب الظاهر ، إلا أنه مما لا تجتمع عليه روايات المسألة كملا ، لما عرفت في قصتي داود بن زربي وعلي بن يقطين ورواية بصائر الدرجات (٢) من أن التقية انما كانت في الغسلات الثلاث وانهم (عليهم‌السلام) أمروا داود وعلي بن يقطين بعد زوال المحذور بالتثنية ، وقد تضمن صدر رواية داود تعليل الأمر بإضافة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الثانية بأنها لضعف

__________________

مالك المرة أو الثلاث ، وعند الأوزاعي الوضوء ثلاثا إلا غسل الرجلين فإنه ينقيهما ويجوز غسل بعضها مرة وبعضها أكثر» وفي فتح الباري لابن حجر ج ١ ص ١٦٦ «من الغريب ما عن بعض العلماء من عدم جواز النقص عن الثلاث لمخالفته الإجماع ، وقول مالك في المدونة ـ : لا أحب الواحدة ـ ليس فيه إيجاب الزيادة عليها» وفي شرح النووي على صحيح مسلم بهامش إرشاد الساري ج ٢ ص ٢١٣ «اجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة وعلى أن الثلاث سنة ، وجاءت الأحاديث الصحيحة بالغسل مرة وثلاثا وبعضها مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثا ، واختلافها دليل الجواز وان الثلاث كمال والواحدة تجزؤ ، وعلى هذا يحمل اختلاف الأحاديث».

(١) في سنن البيهقي ج ١ ص ٨٠ عن معاوية بن قرة عن ابن عمر قال : «دعا النبي (ص) بماء فتوضأ واحدة واحدة فقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ، ثم دعا بماء فتوضأ مرتين مرتين وقال : هذا وضوء من يؤتى أجره مرتين ، ثم دعا بماء فتوضأ ثلاثا ثلاثا وقال : هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي».

(٢) في الصحيفة ٣٢٦ و ٣٢٧.

٣٣٢

الناس ، وتضمنت رواية علي بن يقطين تعليلها بالإسباغ ، وعاضدها في ذلك أيضا ما عرفت من بعض الأخبار.

وقال بعض فضلاء متأخري المتأخرين بعد نقل كلام المنتقى ما صورته : «وهو بعيد ، لأن معظم العامة ورواياتهم المعتمدة على التثليث (١) فلا تتأدى التقية بالمرتين» انتهى.

وشيخنا البهائي (طاب ثراه) في كتاب الحبل المتين بعد أن نقل حسنة داود ابن زربي (٢) احتمل فيها أن المراد بالتثليث فيها تثليث الأعضاء المغسولة بمعنى زيادة إدخال الرجلين في الغسل ، ثم قال : «ويكون الأمر بالتقية في غسل الرجلين كما ورد مثله من أمر الكاظم (عليه‌السلام) علي بن يقطين بغسل الرجلين تقية للرشيد ، والقصة مشهورة أوردها المفيد في الإرشاد وغيره ، ويؤيد هذا الحمل ان هذا هو الفعل الذي اشتهر بين العامة انه الفصل المميز بينهم وبين الخاصة ، وأما قولنا بوحدة الغسلات أو تثنيتها وكون الزائد على ذلك بدعة عندنا ، فالظاهر انه لم يشتهر بينهم ولم يصل إلى حد يكون دليلا على مذهب فاعله حتى يحتاج إلى التقية فيه ، على أن الغسلة الثالثة ليست عندهم واجبة وربما تركوها» انتهى كلامه زيد مقامه.

وهو قوي بالنظر إلى إجمال تلك الرواية التي نقلها ، أما بالنظر إلى ما اشتملت عليه روايتا الكشي والمفيد (٣) من قصتي داود وعلي بن يقطين فغير تام ، فإنهما صريحان في كون التثليث إنما هو في الغسلات كما لا يخفى ، وما ذكره (طاب ثراه) ـ من أن غسل الرجلين هو الذي اشتهر كونه فصلا مميزا بين الخاصة والعامة دون التثليث ـ جيد إلا أن المفهوم من تتبع الأخبار ومطالعة السير ان مذاهب العامة خذلهم الله ليس لها حد

__________________

(١) تقدم في التعليقة ٣ في الصحيفة ٣٣١ ماله دخل في المقام.

(٢) المتقدمة في الصحيفة ٣٢٦.

(٣) المتقدمتان في الصحيفة ٣٢٦ و ٣٢٧.

٣٣٣

ولا انضباط في الصدر الأول ، فربما اشتهر القول بينهم في عصر من الأعصار على وجه لا يتمكن أحد من العمل بخلافه وندر في عصر آخر ، لأن المدار في شيوع تلك المذاهب على ما اعتنت به سلاطين الجور وائمة الضلال من نصب قضاة من جهتهم وحمل الناس على العمل بما يفتون به ، ولا ريب ان عمل كل من قضاتهم وفقهائهم إنما هو على ما تستحسنه عقولهم وتقتضيه قياساتهم ، فلا قاعدة لهم مربوطة ولا سنة لهم مضبوطة ، واشتهار هذه المذاهب الأربعة إنما وقع أخيرا كما صرح به جملة من علمائنا وعلمائهم ، وحينئذ فمن الجائز اشتهار التثليث في الغسل في ذلك الوقت وإن ندر في وقت آخر ، ومن ذلك يعلم أيضا قرب احتمال التقية في أخبار التثنية كما احتمله في المنتقى ، على أن الذي رأيته فيما حضرني من كتبهم الفروعية ذكر التثليث في مستحبات الوضوء مصرحين بأن الأولى فرض والثانية سنة والثالثة كمال السنة ، ولعل اشتهار التثليث عندهم ـ وملازمتهم عليه على وجه يتهمون من تركه بكونه رافضيا ، كما سمعته من قصتي داود وعلي بن يقطين ـ أن الشيعة لما أنكرته تمام الإنكار بل أبطلوا به الوضوء كما دلت عليه نصوصهم ردا على العامة ، شدد العامة الأمر فيه أيضا ردا على الشيعة ولازموا عليه تمام الملازمة عنادا لهم ، ويؤيده انهم قد تركوا كثيرا من السنن مع اعترافهم بكونها كذلك عنادا للشيعة لملازمتهم عليها ، كما أوضحنا جملة من ذلك في بعض رسائلنا ، فجعلوا كل من لم يعمل بالتثليث رافضيا. والعجب من شيخنا البهائي (طاب ثراه) حيث استند إلى قصة علي بن يقطين في دلالتها على الأمر بغسل الرجلين تقية وحمل التثليث على ضم غسل الرجلين إلى غسل العضوين الآخرين ، وغفل عما دلت عليه صريحا من الأمر بغسل كل من تلك الأعضاء ثلاثا ثلاثا ، ولعله (قدس‌سره) لم يلاحظ الرواية وقت التصنيف.

(الرابع) ـ ما ذهب اليه شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين من حمل التثنية على الغسل والمسح ، قال في الكتاب المذكور : «ولا يخفى احتمال تلك الأخبار لمعنى آخر طالما يختلج بالبال ، وهو أن يكون (عليه‌السلام) أراد بقوله : «الوضوء مثنى

٣٣٤

مثنى». ان الوضوء الذي فرضه الله إنما هو غسلتان ومسحتان لا كما يزعمه المخالفون من أنه ثلاث غسلات ومسحة واحدة ، وقد اشتهر عن ابن عباس انه كان يقول : «الوضوء غسلتان ومسحتان (١) نقله الشيخ في التهذيب وغيره ، ومما يؤيد هذا الحمل ما تضمنه الحديث العاشر أعني حديث يونس بن يعقوب (٢) من قول الصادق (عليه‌السلام) في جواب اذلسؤال عن الوضوء الذي افترضه الله على العباد : «يتوضأ مرتين مرتين».

فان المراد بالمرتين فيه الغسلتان والمسحتان لا تثنية الغسلات ، فإنها ليست مما افترضه الله على العباد» انتهى.

وما ذكره (رحمه‌الله) وإن أمكن احتماله بالنسبة إلى صحيحتي معاوية بن وهب و

صفوان (٣) الدالتين على أن «الوضوء مثنى مثنى». لإجمالهما وكذا حديث يونس بن يعقوب إلا أنه لا يجري في غيرهما مما يدل على التثنية من الأخبار المتقدمة ، فلا يحسم مادة الإشكال.

(الخامس) ـ ما ذهب اليه بعض من الأصحاب من حمل تلك الأخبار على بيان نهاية الجواز ، وإلى هذا يميل كلام السيد السند في المدارك ، حيث قال ـ بعد نقل كلام المشايخ الثلاثة المتقدم ـ ما لفظه : «ومقتضى كلام المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) أفضلية المرة الواحدة ، وهو الظاهر من النصوص ، وعلى هذا فيمكن حمل الأخبار المتضمنة للمرتين على أن المراد بها بيان نهاية الجواز ، ثم استشهد بقوله (عليه‌السلام)

__________________

(١) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الوضوء ، وفي التهذيب ص ١٨ ورواه عن ابن عباس الطبري في تفسيره ج ١٠ ص ٥٨ الطبعة الثانية وابن كثير في تفسيره ج ٢ ص ٢٥ وابن العربي في أحكام القرآن ج ١ ص ٢٣٩ والعيني في عمدة القارئ ج ١ ص ٦٥٧.

(٢) المروي في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(٣) المتقدمتين في الصحيفة ٣٢٥.

٣٣٥

في صحيحة الأخوين المتقدمة (١) «والثنتان تأتيان على ذلك كله». ثم قال : وأعلم أن المستفاد من كلام الأصحاب أن المستحب هو الغسل الثاني الواقع بعد إكمال الغسل الواجب ، وانه لو وقع الغسل الواحد بغرفات متعددة لم يوصف باستحباب ولا تحريم ، والأخبار إنما تدل ـ بعد التسليم ـ على أن المستحب كون الغسل الواجب بغرفتين ، والفرق بين الأمرين ظاهر» انتهى.

والظاهر أنه جنح هنا إلى القول الثالث الذي قدمنا نقله عن الشيخ في الخلاف وحمل عليه كلام المشايخ الثلاثة ، متمسكا بنفي الأجر على الثانية. وفيه ما قد عرفته سابقا في ذيل كلام ذينك الشيخين الأعظمين ، وهو (قدس‌سره) لم ينقل من كلام الصدوق إلا ما قدمنا نقله عنه أولا (٢) من قوله : «الوضوء مرة مرة ، ومن توضأ مرتين مرتين لم يؤجر ، ومن توضأ ثلاثا فقد أبدع» دون الكلام الأخير الذي هو ظاهر الدلالة بل صريحها فيما ادعيناه ، ثم ان قوله (طاب ثراه) : «واعلم أن المستفاد. إلخ» ظاهر الدلالة في الرجوع عما ذكره أولا ، إذ ظاهر الكلام الأول ان الثانية التي هي نهاية الجواز إنما هي بعد تمام الغسل الواجب ، وكلامه الأخير ظاهر المخالفة لذلك ، ولعل في قوله أولا : «وعلى هذا فيمكن. إلخ» إشارة إلى ذلك. ثم إنه مع الإغماض عما ذكرنا فهذا الحمل لا تنطبق عليه أخبار المسألة كملا على وجه يحسم مادة النزاع. لعدم جريانه في الأخبار الدالة على أن الثانية إسباغ كما هو ظاهر.

(السادس) ـ ما ذكره المحدث الكاشاني (قدس‌سره) في الوافي من حمل أحاديث الوحدة على الغسلة وأحاديث التثنية على الغرفة ، قال : «وبهذا تكاد تتوافق جميع الأخبار وينكشف عنها الغبار ، كما يطهر بعد التأمل في كل كل ، وإن كان أيضا لا يخلو من تكلف إلا أنه أقل تكلفا مما ذكروه ، فيصير معنى حديث مؤمن الطاق (٣)

__________________

(١) في الصحيفة ٣٢٤.

(٢) في الصحيفة ٣٢٠.

(٣) المتقدم في الصحيفة ٣٢٥.

٣٣٦

«ان الفرض في الوضوء إنما هو غسلة واحدة ، ووضع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) للناس غرفتين لتلك الغسلة» فهو تحديد منه لما لم يرد له من الله تحديد ليس بتعد من حد ، وأما الثنتان في قوله : «واثنتان لا يؤجر» (١) فالمراد بهما الغسلتان ، والمراد بالواحدة والثنتين في قوله (٢) : «من لم يستيقن أن الواحدة من الوضوء تجزيه لم يؤجر على الثنتين» الغرفة والغرفتان ، والدليل على هذا التأويل ما مضى في حديث زرارة وبكير (٣) : «فقلنا أصلحك الله فالغرفة الواحدة تجزئ للوجه وغرفة الذراع؟ فقال : نعم إذا بالغت فيها والثنتان تأتيان على ذلك كله». انتهى.

وظني أن هذا الاحتمال أقرب من تلك الاحتمالات إلى الروايات ، لكن لا على ما يفهم من كلامه (رحمه‌الله) من حمل لفظ الواحدة والمرة على الغسلة كائنا ما كان ، بل على ما تقتضيه القرائن الحالية وتساعده المقامات المقالية ، ومن أن الغسلة المفروضة يستحب ان تكون بغرفتين دائما ، كما ذكره في توجيه رواية مؤمن الطاق (٤) من حمل الوحدة على الغسلة والتثنية على الغرفة ، وان ذلك تحديد منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما فرضه الله تعالى ، فإنه خلاف ما استفاض عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في حكاية وضوئه وعن أبنائه (عليهم‌السلام) في الحكاية عنهم من أن الوضوء غرفة غرفة ، إذ لو كان قد وضع الغرفتين حدا لتلك الغسلة بمعنى أنه سن ان تكون الغسلة بغرفتين ، لكان هو (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أولى من لازم عليه كما ندب اليه ، وأبناؤه (عليهم‌السلام) اولى من أحيى سنته ونهج طريقته ، بل الظاهر أن المراد منها أن الفرض الذي أوجبه الله تعالى في الوضوء الغسل ولو كالدهن ، وهو يحصل بالغرفة المتعارفة الغير المبالغ فيها ،

__________________

(١) في مرسل ابن أبي عمير المتقدم في الصحيفة ٣٢٥.

(٢) في رواية ابن بكير المتقدمة في الصحيفة ٣٢٥.

(٣) المروي في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٤) المتقدمة في الصحيفة ٣٢٥.

٣٣٧

وزاد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) غرفة أخرى ليحصل بالجميع سنة الإسباغ ، وعلى هذا ينطبق كل من هذه الرواية ورواية الكشي (١).

(السابع) ـ ما خطر بالبال العليل والفكر الكليل ، وبيانه أن الواجب من الغسل هو ما يحصل به مسمى الجريان اتفاقا ، وهو يحصل بالغرفة اليسيرة إن حملنا أخبار الدهن على المبالغة ، وإلا فقد عرفت مما سبق أن العمل بها على ظاهرها لا يخلو من قوة ورجحان ، وحينئذ نقول هنا : ان بعضا من تلك الأخبار المتقدمة تضمنت أن التثنية من الإسباغ المستحب في الوضوء كما استفاض في جملة من الأخبار ، ومعنى الإسباغ هو الغسل الواجب بماء كثير يتيقن استيعابه للعضو ، ولا يستلزم تعدد الغرفات بل قد يكون بغرفة واحدة مملوءة ، فالإسباغ حينئذ يحصل إما بمل‌ء الكف من الماء مرة واحدة ، كما حكاه حماد بن عثمان في صحيحته عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) في حكاية وضوئه (عليه‌السلام) حيث قال : «فدعا بماء فملأ به كفه فعم به وجهه ، ثم ملأ كفه فعم به يده اليمنى ، ثم ملأ كفه فعم به يده اليسرى. الحديث». وكما حكاه زرارة في صحيحته عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٣) في حكايته وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فان ذلك مبني على سنة الإسباغ ، إذ الغسل الواجب يحصل بما هو كالدهن ، وهو يحصل بالغرفة اليسيرة كما لا يخفى ، أو بالمرتين الغير المملوءتين ، كما هو الظاهر من أحاديث التثنية بقرينة ما دل منها على ان الثانية إسباغ حملا لمطلقها على مقيدها ، وقد استفيد كلا الفردين من صحيحة الأخوين (٤) حيث قالا له : «فالغرفة الواحدة تجزئ للوجه وغرفة للذراع؟ فقال : نعم إذا بالغت فيها والثنتان تأتيان على ذلك كله». فان ذلك كله مبني على سنة الإسباغ البتة ، وبعين ذلك يقال

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٣٢٦.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

٣٣٨

في رواية مؤمن الطاق (١) وما في معناها مما دل على ان الفريضة واحدة وزاد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الثانية لسنة الإسباغ فيغسل بمجموعهما العضو لأجل الإسباغ ، والظاهر ان معنى قوله في رواية داود الرقي المنقولة عن الكشي (٢) : «وأضاف إليها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الثانية لضعف الناس». اي ضعف عقولهم بسبب عدم مقاومة الوساوس الشيطانية بالشك في وصول الماء إلى جميع العضو عند الاكتفاء بغرفة ، فسن (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الثانية ليحصل الجزم والاطمئنان باستيعاب العضو بالغسل.

(لا يقال) : ان زيادة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الغرفة الثانية لسنة الإسباغ ينافيه الحصر في المرة في قوله (عليه‌السلام) في موثقة عبد الكريم (٣) : «ما كان وضوء علي (عليه‌السلام) إلا مرة مرة». والقسم في قوله (عليه‌السلام) في مرسلة الصدوق (٤) : «والله ما كان وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلا مرة مرة».

(لأنا نقول) : قد عرفت ان الإسباغ يحصل بأحد فردين : اما بالغرفة المبالغ فيها كما عرفت من ذينك الحديثين المتقدمين (٥) أو الثنتين الغير المبالغ فيهما ، وهذان الخبران محمولان على الأول.

وبالجملة فإن بعض الأخبار تضمن أن الغرفة الثانية لسنة الإسباغ ، وبعض الأخبار تضمن الغرفة المملوءة والمبالغ فيها ، ومن الظاهر البين أن المبالغة فيها وملأ الكف بها انما هو لتحصيل سنة الإسباغ كما عرفت ، وبعض الأخبار جمعهما معا ، وبعض تضمن الغرفة أو المرة من غير ذكر المبالغة والملأ مع كونه مما يجب حمله على الوجه الأكمل ، وبعضها تضمن الثنتين من غير ذكر الإسباغ ، فالواجب حمل ما تضمن من الأخبار المرة أو الغرفة عاريا عن القيد على مقيدها ليكون واقعا على الوجه الأكمل ، وما تضمن التثنية

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٣٢٥.

(٢) المتقدمة في الصحيفة ٣٢٦.

(٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٥) وهما صحيحا حماد وزرارة المتقدمان في الصحيفة ٣٣٨.

٣٣٩

عاريا عن ذلك القيد أيضا على مقيدها بذلك القيد ، وعليه تجتمع الأخبار ، على أنه يمكن أيضا أن يقال : انه يجوز أن تكون التثنية مخصوصة بغيرهم (صلوات الله عليهم) ممن بضعف عقله عن الاكتفاء بالواحدة ، كما يستفاد من ظاهر حديث الكشي المتقدم (١) ويؤيده ما تقدم من كلام ثقة الإسلام : «ان الذي جاء عنهم (عليهم‌السلام) انه قال : «الوضوء مرتان». إنما هو لمن لم تقنعه المرة واستزاده» ثم إنه حيث كالت سنة الإسباغ ـ كما عرفت ـ تحصل بالغرفة الثانية متى أضيفت إلى الأولى وغسل العضو بمجموعهما ، فالغرفة الثالثة حينئذ تكون بعد تمام الغسل فتوصف بالبدعة وعدم الأجر ، وهذا معنى ما رواه في مستطرفات السرائر عن الرضا (عليه‌السلام) (٢) من «ان الفضل في واحدة واحدة ومن زاد على اثنتين لا يؤجر». اي الفضل في واحدة واحدة مملوءة لأن فيه سنة الإسباغ الذي فيه الفضل أو اثنتين غير مملوءتين كما هو المستفاد مما قدمناه ، وهو مطوي هنا في الكلام ومثله كثير ، ومن زاد على اثنتين لم يؤجر. وهذا هو الذي صرح به ثقة الإسلام والصدوق (قدس‌سرهما) فيما قدمنا في تحقيق كلامهما.

وأما قوله في مرسلة ابن أبي المقدام (٣) : «إني لأعجب ممن يرغب أن يتوضأ اثنتين اثنتين وقد توضأ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اثنتين اثنتين». مع استفاضة الأخبار البيانية بان وضوءه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما كان إلا بغرفة غرفة ، فلعل المعنى فيه ـ والله سبحانه وقائله أعلم ـ انه كما واظب على الغرفة المملوءة في الأكثر كذلك توضأ في بعض الأوقات بغرفتين خفيفتين ، كما أمر به فيما نقله عنه أبناؤه (سلام الله عليهم) من انه زاد الثانية لسنة الإسباغ ، والامام (عليه‌السلام) هنا تعجب ممن رغب عن هذه السنة التي سنها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والحال انه قد اتى بها في بعض وضوءاته

__________________

(١) ص ٣٢٦.

(٢) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء. وقد تقدم في التعليقة ٥ ص ٣٢٥ ان الحديث عن الصادق (عليه‌السلام).

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

٣٤٠