الحدائق الناضرة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة ـ نجف
المطبعة: مطبعة النّجف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم ...».

وهذا مما استدل به العلامة أيضا على ما ذهب اليه ، وجملة من الأصحاب نقلوا الخبر بلفظ «ظهر» بدل «ظاهر» وعلى أيهما كان فقوله «الى ظاهر» أو «ظهر» بدل من قوله : «الى الكعبين» وهو محتمل للمعنى المشهور بناء على ان الظاهر يقال لغة لما ارتفع ، قال في القاموس : «والظواهر أشراف الأرض» وقال في مادة شرف : «الشرف محركة : العلو ، والمكان العالي» انتهى والظهر أيضا يقال لما ارتفع وغلظ من الأرض كما في القاموس أيضا ، وعلى كل من النسختين فانطباقه على المشهور ظاهر ويحتمل حمل الظهر والظاهر على ما قابل البطن والباطن كما استدل به للقول الآخر ، ولكن لا بد من تتميمه بحمل الظهر أو الظاهر على الاستيعاب طولا لعدم قرينة البعضية ، فيكون المراد به نهايته المتصلة بالساق. ويمكن الجواب بالحمل على الاستحباب بقرينة ان ما اشتملت عليه الرواية سوى أصل المسح ـ من الاستيعاب الطولي بناء على ما أسلفنا تحقيقه ، والعرضي كما أوضحناه أيضا ، والابتداء بالأصابع ـ كله مستحب.

و (منها) ـ حسنة ميسر عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «الوضوء واحد ، ووصف الكعب في ظهر القدم». وأورد في التهذيب هذه الرواية في موضع بهذه الكيفية وفي موضع آخر بهذا السند والمتن لكن بلفظ «واحدة» بدل «واحد» ولفظ «ميسرة» بدل «ميسر» كما هو في الكافي كذلك.

وروايته الأخرى أيضا عنه (عليه‌السلام) (٢) في حكاية الوضوء البياني ، قال فيها : «ثم مسح رأسه وقدميه ثم وضع يده على ظهر القدم ثم قال : هذا هو الكعب ، قال وأومأ بيده إلى أسفل العرقوب ثم قال : ان هذا هو الظنبوب».

وهاتان الروايتان مما استدل به القائلون بالقول المشهور من حيث تضمنهما ان

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

٣٠١

الكعب في ظهر القدم ، والمتبادر من ذلك ـ كما عرفت ـ هو ما ظهر في وسطه الطولى المعبر عنه فيما تقدم من كلامهم بالناتي في وسط القدم والناتي في ظهر القدم أي ما كان نتوه ظاهرا محسوسا.

واما القائلون بالقول الآخر فتأولوا كونه في الظهر بمعنى كونه واقعا فيه وان كان في منتهاه وخفي على الحس.

قال في الوافي ـ بعد نقل أول هذين الخبرين ـ ما لفظه : «ووصف الكعب في ظهر القدم لا ينافي كونه المفصل ، لأنه في ظهرها ومنتهاها. وانما قال ذلك ردا على المخالفين حيث جعلوهما في طرفي القدم وجانبيها» انتهى.

وقال شيخنا البهائي : «على ان قول ميسر ـ في الحديث الثالث : ان الباقر وصف الكعب في ظهر القدم ـ يعطي ان الامام (عليه‌السلام) ذكر للكعب أوصافا ليعرفه الراوي بها ، ولو كان الكعب هذا الارتفاع المحسوس المشاهد لم يحتج إلى الوصف بل كان ينبغي أن يقول : هو ذا ، وقس عليه قوله (عليه‌السلام) في الحديث الأول : «ههنا» بالإشارة إلى مكانه دون الإشارة إليه» انتهى.

أقول : قد قال في رواية ميسر الثانية «هو هذا» فان كان ذلك يكفي في الدلالة على المعنى المشهور فينبغي ان يوافق عليه شيخنا المذكور.

وبالجملة فإنه لما كان الكعب يطلق على كل من المعنيين المذكورين فحمل الروايات جملة على أحدهما دون الآخر يحتاج إلى دلالة بينة واضحة وقرينة مفصحة راجحة ، وقد عرفت ان الاحتمالات قائمة من الطرفين ومتصادمة من الجانبين وان ادعى كل من القائلين رجحان ما ذهب اليه وقوة ما اعتمد عليه ، إلا ان الحق ان ذلك مما يدخل تلك الأخبار في حيز المشتبهات ويوجب العمل بالاحتياط في المسألة.

ويقوى عندي ما ذهب اليه بعض الفضلاء من متأخري المتأخرين في هذا المقام وان كان خلاف ما عليه جملة من متأخري علمائنا الاعلام ، حيث قال بعد نقل جملة من كلام القوم

٣٠٢

على العلامة وما أوقعوه به من الشناعة والملامة : «هذا ملخص ما شنعوا به عليه ، وعند إمعان النظر في كلام العلامة وملاحظة ما أورده في غير المختلف يعلم انه لمن يخرج بقوله عن المشهور بل هو عينه إلا انه بسبب قصده لتطبيق النص عليه خرج في بعض عباراته عن المعهود من كلامهم ، وبيان ذلك انه (رحمه‌الله) قال في التذكرة : «ومحل المسح ظهر القدمين من رؤوس الأصابع إلى الكعبين ، وهما العظمان الناتيان في وسط القدم ، وهما معقد الشراك اعني مجمع الساق والقدم ، ذهب إليه علماؤنا اجمع ، وبه قال محمد بن الحسن الشيباني لأنه مأخوذ من «كعب ثدي المرأة إذا ارتفع» «ولقول الباقر (عليه‌السلام) وقد سئل فأين الكعبان؟ : ههنا يعني المفصل دون عظم الساق». وقال في المنتهى : «ذهب علماؤنا إلى ان الكعبين هما العظمان الناتيان في وسط القدم ، وهما معقدا الشراك ، وبه قال محمد بن الحسن من الجمهور ، وخالف الباقون فيه وقالوا ان الكعبين هما الناتيان في جانبي الساق ، وهما المسميان بالظنابيب» ثم أخذ في الاستدلال وأورد صحيحة زرارة وبكير ابني أعين المذكورة (١) وروايتي ميسر المتقدمتين (٢) إلى أن قال : فروع (الأول) ـ قد تشتبه عبارة علمائنا على بعض من لا مزيد تحصيل له في معنى الكعب. والضابط فيه ما رواه زرارة ، وأورد الرواية ، في القواعد عرف الكعبين بأنهما حد المفصل بين الساق والقدم ، وفي الإرشاد أنهما مجمع القدم وأصل الساق. والمفهوم من خلال هذه العبارات انه أطلق المفصل على العظمين الناتيين تارة وأطلق عليهما الحد والمجمع تارة أخرى ، وكلامه في التذكرة صريح في ذلك ، حيث فسر العظمين الناتيين بأنهما معقدا الشراك وفسر معقد الشراك بأنه مجمع الساق والقدم ، وفي المنتهى قريب منه ولما كان مدلول رواية زرارة وأخيه يقتضي ان الكعبين هما المفصل حيث فسر الامام (عليه‌السلام) فيهما الكعبين بأنهما المفصل دون عظم الساق ورأى علماءنا أطبقوا على انهما العظمان الناتيان ، أراد الجمع بين الكلامين فحمل المفصل على ذلك باعتبار كون

__________________

(١) في الصحيفة ٢٩٩.

(٢) في الصحيفة ٣٠١.

٣٠٣

طرفي ذينك العظمين مما يلي الساق حد المفصل والساق لأن عظم الساق متصل بهما ، فأطلق عليهما المفصل من جهة كونهما حدا له وبداية لحصوله ، فيكون تعريفهما بالمفصل باعتبار نهايتهما ، وغاية الأمر ان ذلك على طريق التجوز لعلاقة المجاورة ، وليس في كلامه ما ينفي إرادة المعنى المشهور بوجه من الوجوه ، بل مقتضى نقله اتفاق علمائنا اجمع عليه انه لا يحتمل ارادة غيره ، وبسبب انه مخالف لظاهر الرواية كما ذكرنا نبه عليه بأنه اشتباه على غير المحصل وان المحصل يعرف ان المراد بالكعبين هو المفصل باعتبار كونه حدا ونهاية لهما ولذلك أطلق عليهما ، وربما كانت الحكمة في هذا الإطلاق من الامام (عليه‌السلام) ارادة إيصال المسح إلى نهاية الكعب ، ولا يليق حمل كلام العلامة على ما فهموه منه ، لانه يلزم من ذلك مناقضة أول كلامه لآخره والخروج عن نقل الإجماع عليه وعدم فهمه المعنى الظاهر من عبارات الأصحاب ، وذلك لا ينسب لا دون الناس وابلدهم فضلا عن مثل جلالة قدر العلامة (رحمه‌الله) ومما يؤكد ذلك ان المحقق في المعتبر استدل على كون الكعبين هما العظمان الناتيان بهذه الرواية ، فلو لا ان المراد بالمفصل ما أشرنا اليه لم يتجه له الاستدلال بها على ذلك» انتهى كلامه زيد مقامه. وانما نقلناه بطوله ليظهر لك حسنه وجودة محصوله.

وأقول : ربما يتسارع الناظر ـ لالفة ذهنه بما زعمه القوم في هذه المسألة من التحقيق ـ إلى إنكار ما ذكره هذا الفاضل من التلفيق ، وعند التأمل الصادق يجده أقرب مما ذكره شيخنا البهائي (قدس‌سره) فإنه (طاب ثراه) وان دقق النظر في المقام وأيده بكلام أولئك الأقوام ، كما هو مقتضى فهمه الثاقب ونظره الصائب في استجلاء أبكار الأحكام ، الا ان حمل هذه العبارات من العلامة وغيره من الأصحاب على ما ذكره من هذا المعنى الخفي ـ كحمل النتو على النتو في بطن الظهر وان لم يظهر للحس ، والتوسط على التوسط العرضي في آخر القدم. وحمل معقد الشراك على كونه في المفصل مع ان كل أحد يعلم انه قدام المفصل ، مع عدم الإشارة إلى شي‌ء من ذلك في تلك

٣٠٤

العبارات سيما عبارات العلامة (عطر الله مرقده) الذي هو مخترع هذا القول على تعددها فإن غاية ما يخرج به عن كلام القوم التعبير بالمفصل دون هذا العظم الخفي الذي ذكره ـ يكاد يقطع العقل ببعده.

وعمدة ما يدور عليه كلامه (قدس‌سره) ـ في الاستدلال على هذا القول ويشجعه على انه مراد العلامة ـ شيئان :

(أحدهما) ـ نسبة الفخر الرازي ومن تبعه ذلك إلى الشيعة وفيه ان الفخر الرازي قد نقل ذلك أيضا عن الأصمعي كما قدمنا نقله عنه ، مع انك قد عرفت ـ مما نقله شيخنا الشهيد في الذكرى عن أبي عمرو الزاهد ـ ان مذهب الأصمعي في الكعب انما هو مذهب العامة ، وبذلك أيضا صرح احمد بن محمد الفيومي في المصباح المنير ، وحينئذ فإذا احتمل تطرق الاختلال إلى نقله عن علماء مذهبه فبالطريق الاولى إلى مذهب الشيعة ، ويؤيده ما قدمنا نقله عن ابن الأثير من ان مذهب الشيعة انهما العظمان اللذان في ظهر القدم ، وما صرح به في المصباح المنير أيضا ، حيث قال : «وذهبت الشيعة إلى ان الكعب في ظهر القدم وأنكره أئمة اللغة كالاصمعي وغيره».

و (ثانيهما) ـ صحيح زرارة وأخيه المتقدم ذكره (١) وهو ـ بعد ما عرفت من ظهور هذا المعنى من كلام الأصحاب سيما كلام الشيخين في المقنعة والتهذيب وظهوره أيضا من تلك الأخبار المتقدمة ـ يجب إرجاعه إلى ما عليه الأصحاب سيما مع عدم الصراحة لما عرفت من تطرق الاحتمال إلى المعنى الذي اعتمدوه منه ، وجملة المتقدمين من الأصحاب لم يفهموا منه المخالفة لما قرروه في عبائرهم من معنى الكعب المشهور ، ولهذا ان الشيخ في التهذيب ـ بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه مما هو صريح في المعنى المشهور ـ نظم هذه الرواية في سلك الأدلة على ذلك ولم يجعلها في قالب المخالف ، والمحقق في المعتبر كذلك بعد ما عرف الكعب بأنه قبة القدم ، وما ذاك كله إلا لفهمهم منها الانطباق على المعنى

__________________

(١) في الصحيفة ٢٩٩.

٣٠٥

المشهور وان احتيج إلى ارتكاب نوع من المجاز.

وبالجملة فتأويل كلام العلامة (رضوان الله عليه) بما يرجع إلى المشهور ـ وان اعتراه في بعض عبائره نوع من القصور ـ أهون وأقرب مما تكلفه (قدس‌سره) وحينئذ فينحصر الخلاف في شيخنا البهائي (رحمه‌الله) ومن تبعه على تلك المقالة. والاحتياط بإيصال المسح إلى المفصل بل إلى عظم الساق مما ينبغي المحافظة عليه. والله الهادي.

(الرابع) ـ الظاهر جواز النكس هنا كالرأس. وفاقا للمشهور وخلافا لظاهري المرتضى وابن بابويه وابن إدريس فيما قطع به ، بل نقل عنه في المختلف كراهية الاستقبال لما تقدم من الأدلة.

ويزيده تأكيدا هنا رواية يونس (١) قال : «أخبرني من رأى أبا الحسن (عليه‌السلام) بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب ومن الكعب إلى أعلى القدم ويقول : الأمر في مسح الرجلين موسع : من شاء مسح مقبلا ومن شاء مسح مدبرا ، فإنه من الأمر الموسع ان شاء الله».

وصحيحة حماد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «لا بأس بمسح القدمين مقبلا ومدبرا».

واستدل للقول الآخر بالآية بناء على أن «الى» فيها لانتهاء المسح. وفيه انها محتملة لكل من غاية المسح والممسوح فالحمل على أحدهما دون الآخر ترجيح بغير مرجح بل ظاهر الأخبار المتقدمة في المورد الأول من هذا البحث كونها غاية للممسوح كما تقدمت الإشارة إليه ثمة.

وبالوضوء البياني. وفيه انه محمول على الاستحباب جمعا بين الأخبار.

وبصحيحة البزنطي (٣) حيث قال فيها : «... فوضع كفه على الأصابع فمسحها

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الوضوء.

٣٠٦

إلى الكعبين ...». وفيه أيضا ما في سابقه.

وبيقين البراءة. وفيه انه يرجع إلى الاحتياط ، وهو هنا مستحب لا واجب كما تقدمت الإشارة إليه.

(الخامس) ـ قد تقدم في سابق هذا البحث الكلام في وجوب المسح بالبلة وعدم جواز استئناف ماء جديد للمسح. لكن بقي الكلام هنا في موضعين :

(أحدهما) ـ انه لو كانت البلة الباقية مشتملة على ما يتحقق به الجريان لو مسح فهل يمسح بها والحال كذلك ، أو يجب التجفيف حذرا من وقوع الغسل المقابل للمسح المنهي عنه في الأخبار فلا يحصل الامتثال؟ وجهان بل قولان يلتفتان إلى ان النسبة بين الغسل والمسح التباين أو العموم من وجه ، فيجتمعان في إمرار اليد مع الجريان وينفرد الأول بالثاني خاصة والثاني بالأول ، والأول ظاهر المشهور ، وإلى الثاني مال جملة من محققي متأخري المتأخرين ، ولعله الأظهر ، وسيأتي مزيد تحقيق للمسألة.

و (ثانيهما) ـ انه مع وجود بلة على الممسوح خارجة عن ماء الوضوء ، فهل يجوز المسح والحال كذلك ، أم يجب التجفيف حذرا من لزوم المسح بماء جديد؟ قولان وبالثاني صرح العلامة في المختلف ونقله فيه وفي المنتهى عن والده أيضا.

وعلى الأول فهل يجوز مع وجود الرطوبة مطلقا ، أو يشترط غلبة ماء الوضوء عليها؟ قولان ، وبالثاني صرح الشهيد في الدروس ، وبالأول صرح المحقق وابن إدريس وابن الجنيد ، قال ابن الجنيد : «من تطهر إلا رجليه فدهمه أمر يحتاج معه إلى ان يخوض بهما نهرا مسح عليهما يده وهو في النهر ان تطاول خوضه وخاف جفاف ما وضأ من أعضائه ، وان لم يخف كان مسحه بعد خروجه أحب الي وأحوط» وقال ابن إدريس : «إذا كان قائما في الماء وتوضأ ثم اخرج رجليه من الماء ومسح عليهما من غير ان يدخل يده في الماء فلا حرج عليه ، لانه ماسح إجماعا ، والظاهر من الآيات والأخبار متناول له» وقال في المعتبر : «لو كان في ماء وغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ورجليه جاز ، لان

٣٠٧

يديه لا تنفك من ماء الوضوء ولم يضره ما كان على القدمين من الماء» وظاهره جواز المسح في الماء كما في كلام ابن الجنيد ، مع احتمال الحمل على خروج الرجل كما في كلام ابن إدريس.

احتج العلامة في المختلف على ما ذهب اليه والده ورجحه هو فيه ـ بان المسح يجب بنداوة الوضوء ويحرم التجديد. ومع رطوبة الرجلين يحصل المسح بماء جديد.

والأظهر ـ كما استظهره جملة من المحققين ـ القول بالجواز مطلقا ، لأصالة الجواز وصدق الامتثال ، وتناول إطلاق الآية والأخبار لذلك ، وعدم الدليل على المنع ، ومنع صدق التجديد لو حصل الجريان باجتماع البلتين بل ولو ببلة الممسوح منفردة عند عدم القصد إلى الغسل وان صدق اسم الغسل ، ويؤيده صحيحة زرارة (١) : «لو أنك توضأت فجعلت مسح الرجلين غسلا ثم أضمرت ان ذلك هو المفترض لم يكن ذلك بوضوء ...». الدالة على جواز غسل الممسوح لا بذلك القصد ، وبذلك يظهر أظهرية ما استظهرناه في المسألة السابقة.

إلا انه يمكن ان يقال ان ظاهر عبارات المجوزين ان البلة الباقية في اليد من ماء الوضوء وان قلت لا تزول بملاقاتها للماء الذي على الرجل الممسوحة وان كثر ، فالمسح يحصل بها وان شاركها غيرها ، والاستناد إلى ظواهر الأدلة انما هو من هذه الجهة ، بمعنى انه يصدق المسح المأمور به شرعا والحال كذلك ، وهو عندي محل اشكال وخفاء ولا سيما في المسح داخل الماء كما ذكره ابن الجنيد ، فإنه لا ريب ان غلبة الماء الذي على الممسوح على البلة الباقية في اليد على وجه تضمحل به في جنبه توجب حصول التجديد في المسح ، كما انه لو كان على هذه اليد الماسحة ـ مثلا ـ بول فإنه بوضعها في الماء يجب الحكم بطهارتها ، لزوال نجاسة البول منها بغلبة الماء ، فبالطريق الاولى هنا ، أو كان عليها ماء مضاف فإنه يجب الحكم بزواله عنها في الصورة المذكورة ، وهكذا يجري بالنسبة إلى ما لو لم يكن

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الوضوء.

٣٠٨

في الماء ولكن أخرجها من الماء ـ كما ذكره ابن إدريس ـ وعليها ماء كثير والبلة التي على اليد قليلة جدا ، فإنها تضمحل في جانب ذلك الماء ويحكم عرفا بل شرعا بزوالها بملاقاة ذلك الماء لاضمحلالها في جنبه ، ومن الظاهر ان بناء قاعدة التطهير من نحو البول باستنجاء أو غيره على غلبة المطهر انما هو من حيث ان النجاسة تزول وتضمحل في جنبه ، ولو كانت باقية لما حصل التطهير ، فكذا ما نحن فيه ، وحينئذ فمتى كانت الرطوبة التي على ظهر الرجل مما تغلب على البلة وتضمحل البلة في جنبها فإنه يحصل المسح بالماء الجديد.

وبالجملة فالمسألة عندي محل توقف لعدم النص ، وما ادعوه من الدخول تحت العمومات ليس بمطرد في جميع ما ذكروه ، فالواجب عندي هو الوقوف على جادة الاحتياط ، وان يراعى عدم غلبة الماء الذي على ظاهر العضو الممسوح على البلة الباقية والاحتياط ـ بتجفيف الرجل ونفض اليدين من البلة المستلزمة للجريان ـ مما ينبغي المحافظة عليه.

(السادس) ـ لا يجوز المسح في كل من الرأس والرجلين على حائل اختيارا إجماعا منا فتوى ورواية ، ومن الحائل الشعر في الرجل على المعروف من مذهب الأصحاب فمن الأخبار الواردة بذلك صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) «انه سئل عن المسح على الخفين وعلى العمامة. فقال : لا تمسح عليهما».

ومرفوعة محمد بن يحيى عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) «في الذي يخضب رأسه بالحناء ثم يبدو له في الوضوء؟ قال : لا يجوز حتى يصيب بشرة رأسه بالماء».

وما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن المرأة هل يصلح لها ان تمسح على الخمار؟ قال : لا يصلح حتى تمسح على رأسها». إلى غير ذلك من الأخبار.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الوضوء.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الوضوء.

٣٠٩

اما مع الضرورة كالتقية والبرد الشديد ونحوهما فظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على الجواز.

ويدل عليه بالنسبة إلى الرجلين رواية أبي الورد (١) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) : ان أبا ظبيان حدثني انه رأى عليا (عليه‌السلام) أراق الماء ثم مسح على الخفين؟ فقال : كذب أبو ظبيان ، أما بلغكم قول علي (عليه‌السلام) فيكم : سبق الكتاب الخفين؟ قلت : فهل فيهما رخصة؟ فقال : لا ، إلا من عدو تتقيه أو ثلج تخاف على رجليك».

والرواية وان كانت ضعيفة السند باصطلاح متأخري أصحابنا إلا انها مجبورة بعمل الأصحاب واتفاقهم على الحكم المذكور ، على ان أبا الورد وان كان غير مذكور في كتب الرجال بمدح ولا قدح إلا انه قد روى في الكافي ما يشعر بمدحه ، ولهذا عده شيخنا المجلسي في وجيزته في الممدوحين ، وشيخنا أبو الحسن في بلغته قال روى مدحه مع ان الراوي عنه هنا بواسطة حماد بن عثمان ، وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، والرواية بناء على ظاهر هذه العبارة صحيحة ، وكيف كان فهي ـ باعتبار مجموع ما ذكرنا من المرجحات مضافا إلى الاتفاق على الحكم ـ مما يقوى الاعتماد عليها واما

ما رواه في الكافي (٢) عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عمر الأعجمي قال : «قال لي أبو عبد الله (عليه‌السلام) : يا أبا عمر ان تسعة أعشار الدين في التقية ، ولا دين لمن لا تقية له ، والتقية في كل شي‌ء إلا في النبيذ والمسح على الخفين». فالظاهر حمله عليهم (صلوات الله عليهم) دون غيرهم ، كما يشير اليه ما رواه حريز عن زرارة في الصحيح (٣) قال : «قلت له : هل في مسح الخفين تقية؟ فقال : ثلاثة

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) الأصول ج ٢ ص ٢١٧ وفي الوسائل بالتقطيع في الباب ـ ٢٤ و ٢٥ ـ من الأمر بالمعروف.

(٣) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٣٨ ـ من أبواب الوضوء ، وفي الباب ـ ٢٥ ـ من الأمر بالمعروف وفي الباب ـ ٢٢ ـ من الأشربة المحرمة.

٣١٠

لا اتقي فيهن أحدا : شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج. قال زرارة : ولم يقل الواجب عليكم ان لا تتقوا فيهن أحدا». وقد حمله الشيخ في التهذيبين على اختصاص نفي التقية بنفسه كما اوله زرارة. وبالجملة فإن أخبار وجوب التقية عامه ومنها الخبر المذكور المتضمن لهذا الإطلاق الظاهر في المنافاة ، فالواجب حمله على ما ذكرناه جمعا بين الأخبار. ومثل خبر زرارة المذكور أيضا ما رواه في الكافي أيضا في الصحيح (١) عن زرارة عن غير واحد قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) : في المسح على الخفين تقية؟ قال : لا يتقى في ثلاث. قلت : وما هن؟ قال شرب الخمر أو قال شرب المسكر والمسح على الخفين ومتعة الحج». والتقريب فيه ما تقدم.

ورواية عبد الأعلى مولى آل سام (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام):

عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع بالوضوء؟ قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله تعالى : قال الله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ... امسح عليه».

ويدل عليه بالنسبة إلى الرأس صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) «في الرجل يحلق رأسه ثم يطليه بالحناء ثم يتوضأ للصلاة؟ فقال : لا بأس بأن يمسح رأسه والحناء عليه». فان الظاهر حملها على ضرورة التداوي كما ذكره في المنتقى نعم ربما احتمل على بعد الحمل على عدم استيعاب الحناء لموضع المسح. واما حمله على المسح على لون الحناء فلا ينطبق عليه لفظ الطلاء كما لا يخفى.

وصحيحة عمر بن يزيد عنه (عليه‌السلام) (٤) «عن الرجل يخضب رأسه بالحناء ثم يبدو له في الوضوء؟ قال : يمسح فوق الحناء». والتقريب ما تقدم. ويمكن حمل هذه

__________________

(١) الفروع ج ٢ ص ١٩٥.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب الوضوء.

(٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٧ ـ من أبواب الوضوء.

٣١١

الرواية على بعد على الخضاب بماء الحناء فيكون المسح على لونه ،

ويؤيد ذلك أيضا إطلاق جملة من اخبار الجبائر ، لدلالتها على المسح على الجبيرة متى تضرر بنزعها أعم من ان يكون في موضع الغسل أو المسح ، مثل حسنة كليب الأسدي (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل إذا كان كسيرا كيف يصنع بالصلاة؟ قال : ان كان يتخوف على نفسه فليمسح على جبائره وليصل». وقوله (عليه‌السلام) في حسنة الحلبي (٢) بعد ان سأله عن الرجل تكون به القرحة في ذراعه أو نحو ذلك من موضع الوضوء فيعصبها بخرقة ويتوضأ : «ان كان يؤذيه الماء فليمسح على الخرقة ...». ويؤيده أيضا أدلة نفي الحرج في الدين.

وبذلك يظهر لك ما في مناقشة جمع من متأخري أصحابنا : منهم ـ السيد السند في المدارك في هذا الحكم حيث اقتصروا في الاستدلال عليه على رواية أبي الورد وردوها بضعف السند ، واحتملوا الانتقال إلى التيمم لتعذر الوضوء بتعذر جزئه. وأنت خبير بعد الإحاطة بجميع ما ذكرنا ان الظاهر انه لا مجال للتردد في الحكم المذكور ، وأيضا فإن التيمم معلوم الاشتراط بشرط غير معلوم التحقق هنا ، والشك في وجود الشرط يستلزم الشك في وجود المشروط ، فلا يتم الانتقال إلى التيمم.

ثم ان ظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على ان من الحائل الذي لا يجوز المسح عليه اختيارا الشعر على الرجل ، حيث صرحوا في الرأس بالمسح على البشرة أو الشعر المختص وفي الرجل بالبشرة.

قال بعض المحققين من متأخري المتأخرين بعد نقل ذلك عنهم : «وهذا الحكم مما لم أقف فيه على تصريح في كلام القوم غير انهم اقحموا لفظ البشرة في هذا الموضع ويمكن أن يكون مرادهم الاحتراز عن الخف ونحوه لا الشعر كما هو الظاهر بحسب النظر لان المسح على الرجلين انما يصدق عرفا على المسح على شعرها» انتهى.

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب الوضوء.

٣١٢

أقول : بل الظاهر ان الوجه في ذلك عندهم ما نبه عليه شيخنا الشهيد الثاني في شرح الرسالة ، حيث قال ـ بعد نقل عبارة المصنف المتضمنة للمسح على بشرة الرجلين ـ ما لفظه : «ويستفاد ـ من حصره المسح في بشرة الرجلين مع تخييره في الرأس بين مسح مقدم شعره وبشرته ـ انه لا يجزئ المسح على الشعر في الرجلين وان اختص بالظهر بل يتحتم البشرة. والأمر فيه كذلك ، والفارق النص الدال بإطلاقه على وجوب مسح الرجلين ، إذ الشعر لا يسمى رجلا ولا جزء منها ، مع التصريح في بعض الأخبار بجواز المسح على شعر الرأس ، وانما لم يصرح الأصحاب بالمنع من المسح على الشعر في الرجلين لندور الشعر الحائل فيهما القاطع لخط المسح ، فاكتفوا باستفادته من لفظ البشرة ، فإنها كالصريح ان لم تكنه» انتهى.

ويرد عليه (أولا) ـ انه قد صرح هو (قدس‌سره) وجملة من الأصحاب بوجوب غسل الشعر النابت على اليد كما تقدم ، معللين له تارة بأنه في محل الفرض واخرى بأنه من توابع اليد. والفرق بينه وبين ما هنا غير ظاهر ، بل تلك التعليلات ان صحت فهي جارية هنا وإلا فلا في الموضعين.

و (ثانيا) ـ ان الظاهر من خلو الأخبار عن ذكره مع عدم انفكاك الرجل عنه غالبا جواز المسح عليه.

(السابع) ـ اختلف الأصحاب في استمرار رفع الوضوء الضروري ـ بمسح على الخفين أو الجبائر أو غسل أو نحو ذلك ـ بعد زوال الضرورة وعدم النقض بأحد الأسباب المعدودة ، فظاهر المشهور بقاء الإباحة وجواز الدخول به في العبادة. ونقل عن الشيخ في المبسوط ـ وبه صرح المحقق في المعتبر ـ تقدير الإباحة بحال الضرورة ، وقربه العلامة في التذكرة ، وعللوه بأنها طهارة مشروطة بالضرورة فتزول بزوالها وتتقدر بقدرها. واعترض عليه بأنه ان أريد بتقدير الطهارة بقدر الضرورة عدم جواز الطهارة كذلك بعد زوال الضرورة فحق ولكنه غير ما نحن فيه ، وان أريد عدم إباحتها فهو محل النزاع.

٣١٣

وأنت خبير بأن المسألة خالية من النص الدال على ذلك نفيا وإثباتا ، إلا انه يمكن الاستدلال على القول المشهور بأنه لا ريب ان الوضوء المذكور رافع للحدث. ومن حكم الوضوء الرافع أن لا يزول رفعه إلا بأحد النواقض ، وزوال الضرورة ليس من جملتها ، فيجب استصحاب الحكم إلى ان يحصل أحد النواقض المقررة. وفيه ان الاستصحاب المقطوع بحجيته ـ كما تقدم تحقيقه ـ هو ما إذا دل الدليل على ثبوت الحكم مطلقا ، بمعنى عدم الاختصاص بوقت مخصوص أو حالة مخصوصة ، فإنه يجب البقاء على مقتضى ما دل عليه حتى يثبت الرافع ، كالحكم باستمرار الطهارة والنجاسة فيما علما فيه وصحة البيوع والأنكحة ونحو ذلك بعد وقوع العقد الصحيح حتى يثبت الرافع ، اما إذا كانت دلالته مخصوصة بحالة معينة أو زمان مخصوص فاجراؤها في الحالة الثانية والزمان الآخر يتوقف على الدليل. وأنت خبير بان ما نحن فيه انما هو من قبيل الثاني ، فإن الدليل الدال على صحة هذا الوضوء ورفعه انما دل باعتبار حال الضرورة وعدم التمكن من المسح الواجب أو الغسل الواجب مثلا كما هو المفروض ، فعند زوال تلك الحال وتجدد حال أخرى مغايرة لها يحتاج في إجراء الحكم في الحالة الأخرى إلى دليل وليس فليس. ولعل في تشبيه الشيخ له بالتيمم ـ حيث نقل عنه انه علل ذلك بأنها طهارة ضرورية فتتقدر بقدر الضرورة كالتيمم ـ إشارة إلى ذلك ، فان وجه المشابهة ظاهر ، فان الماسح على حائل من خف أو جبيرة والمتيمم شريكان في ترك العضو الممسوح وكون الترك فيهما لعذر شرعي ، فتزول الرخصة فيهما بزواله ، وحينئذ فكما ان المتيمم ينتقض تيممه ولو في الصلاة بزوال الحالة الموجبة له لعدم اقتضاء دليله الاستمرار في جميع الأحوال على الأصح ، كذلك هذا المتوضئ ينتقض وضوؤه بزوال الحالة الموجبة له لعين ما ذكر.

قال بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين : «ويتفرع على ذلك انه لو زال العذر في المسح على الحائل قبل كمال الوضوء أو بعده وقبل الجفاف والدخول في

٣١٤

الصلاة ، فهل يجب عليه نزع الحائل والمسح بالبلة قبل الدخول فيها أم يباح له الدخول فيها به؟ لم أقف لأحد من أصحابنا فيه على صريح كلام ، ولعل الأول أقرب ، لبقاء وقت الخطاب بالطهارة المأمور فيها بغسل المغسول ومسح الممسوح ـ وهو وقت ارادة القيام إلى الصلاة ـ الى وقت زوال العذر وهو متمكن من إيقاعها فيه فيجب ، والعدول عن المأمور به لوجود مانع لا يمنع العود اليه بعد زواله ، بل يجب العود اليه لوجود السبب ومنشأ الخطأ عدم الفرق بين انتفاء الحكم لفقد السبب أو لوجود المانع» انتهى. وبذلك يظهر قوة القول بالنقض.

(الثامن) ـ صرح جملة من الأصحاب بأنه لو تأدت التقية بالغسل عوضا عن المسح على الخفين تعين ولم يجز غيره ، وكذا لو تأدت بغسل موضع المسح في الرجل لم يجب الاستيعاب ، وانه لو مسح في موضع الغسل تقية بطل وضوؤه للنهي المقتضي للفساد في العبادة ، وعلل الأول بأن الغسل أقرب إلى المفروض بالأصل ، للإلصاق بالبشرة وكونه مشتملا على المسح مع زيادة ، بخلاف المسح على الخفين ، لعدم الإلصاق. وهو لا يخلو من شوب النظر. وفي التذكرة جعله اولى ولم يجزم بتعينه ، ولعله الاولى. واحتمل بعضهم في الثاني الصحة لأن النهي لوصف خارج عن العبادة.

(التاسع) ـ هل يشترط في العمل بالتقية في هذا الموضع وغيره عدم المندوحة أم لا؟ قولان ، اختار ثانيهما ثاني الشهيدين في روض الجنان ، وبه صرح أولهما أيضا في مسألة مسح الرجلين من البيان وثاني المحققين من شرح القواعد. واختار الأول السيد في المدارك معللا له بانتفاء الضرر مع وجود المندوحة فيزول المقتضي.

أقول : ويؤيده أيضا ان المكلف لا يخرج عن عهدة التكليف يقينا إلا بالإتيان بما كلف به شرعا ، خرج ما إذا استلزم فعله ضرر التقية ونحوها ، فيجوز له الخروج عن الأول إلى ما يندفع به الضرر ، وإلى هذا مال بعض أفاضل متأخري المتأخرين.

الا ان المفهوم من الأخبار الواردة في استحباب الجماعة مع المخالفين ـ والحث

٣١٥

العظيم عليها ، والثواب الموعود عليها ، حتى ان من صلى معهم كان كمن صلى مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مع استلزام ذلك ترك بعض الواجبات أحيانا ـ مما يؤيد القول بالجواز مع المندوحة كما هو خيرة الشهيدين.

وقد صرح المحقق الشيخ علي (رحمه‌الله) في بعض فوائده بالتفصيل بين ما إذا كان المأمور به في التقية بطريق الخصوص فيصح وان كان ثمة مندوحة ، أو بطريق العموم فلا يجزى إلا مع عدم المندوحة ، وظاهر كلامه (قدس‌سره) يعطي ان وجه الفرق حيث ان الشارع في الأول بسبب نصه على ذلك الحكم بخصوصه اقامه مقام المأمور به حين التقية بخلاف الثاني.

(العاشر) مجز بلا خلاف ، لكن الخلاف في انه لو تمكن في العبادة قبل خروج وقتها من الإتيان بها على وجهها هل تجب الإعادة أم لا؟

صرح المحقق الشيخ علي (رحمه‌الله) بتفريع ذلك على ما قدمنا نقله عنه من التفصيل بأنه ان كان متعلق التقية مأذونا فيه بخصوصه كغسل الرجلين في الوضوء والتكتف في الصلاة ، فإنه إذا فعل على الوجه المأذون فيه كان صحيحا مجزئا وان كان للمكلف مندوحة من فعله ، التفاتا إلى ان الشارع اقام ذلك الفعل مقام المأمور به حين التقية كما تقدمت الإشارة إليه ، فكان الإتيان به امتثالا فيقتضي الإجزاء ، قال : «وعلى هذا فلا تجب الإعادة ولو تمكن منها على غير وجه التقية قبل خروج الوقت ، ولا أعلم في ذلك خلافا من الأصحاب» وبملخص هذا الكلام صرح في شرح القواعد ثم قال : «واما إذا كان متعلقها لم يرد فيه نص على الخصوص كفعل الصلاة إلى غير القبلة ، والوضوء بالنبيذ ، ومع الإخلال بالموالاة فيجف أعضاء الوضوء كما يراه بعض العامة فإن المكلف يجب عليه إذا اقتضت الضرورة موافقة أهل الخلاف فيه إظهار الموافقة لهم ثم ان أمكن الإعادة في الوقت بعد الإتيان به لوفق التقية وجبت ، ولو خرج الوقت نظر

٣١٦

في دليل يدل على وجوب القضاء ، فان حصل الظفر به أوجبناه وإلا فلا ، لان القضاء انما يجب بأمر جديد. ونقل عن بعض أصحابنا القول بعدم الإعادة مطلقا ، نظرا إلى كون المأتي به شرعيا فيكون مجزئا على كل تقدير. ورد بأن الاذن في التقية من جهة الإطلاق لا يقتضي أزيد من إظهار الموافقة مع الحاجة» انتهى. وأنت خبير بأنه ان اشترط في جواز العمل بالتقية عدم المندوحة ، يلزم على قوله انه مع المندوحة تجب الإعادة وقتا وخارجا.

ثم لا يخفى عليك ان المسألة لخلوها عن النص الصريح لا تخلو عن الاشكال وما ذكره من التعليل في المقام عليل. إلا ان الذي يقرب إلى الفهم العليل والذهن الكليل ـ من اخبار حفظة التنزيل الدالة على الأمر بمخالطة العامة ومعاشرتهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم. حتى ورد «ان استطعتم ان تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا» (١). والتأكيد على الصلاة معهم ونحو ذلك مع استلزام ذلك المخالفة في بعض الأفعال البتة ـ هو صحة ما أوجبته التقية مطلقا ، سواء كان مأمورا به بطريق الخصوص أو العموم ، له مندوحة عن الإتيان به تقية أم لا ، فان المفهوم من تلك الأخبار ان الغرض من ذلك هو تأليف القلوب واجتماعها لدفع الضرر والطعن على المذهب واهله كما يشعر به قول الصادق (عليه‌السلام) (٢) بعد الأمر بما قدمنا ذكره : «فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا هؤلاء الجعفرية رحم الله جعفرا ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه ، وإذا تركتم ذلك قالوا فعل الله بجعفر ما كان اسوأ ما يؤدب أصحابه». لا ان الغرض إظهار الموافقة لهم في ذلك الجزئي الخاص لدفع الضرر المترتب عليه خاصة ، على انه في صورة ما إذا كان مستند التقية الأخبار المطلقة ، فمتى اقتضت ضرورة التقية الموافقة لهم وكان ذلك هو الواجب عليه شرعا فاتى به ـ وامتثال الأمر يقتضي الإجزاء ـ فالإعادة وقتا وخارجا يحتاج إلى دليل من غير فرق بين المقامين ، لان هذه المسألة في التحقيق فرد من افراد مسألة

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ـ ٧٥ ـ من أبواب الجماعة.

٣١٧

ذوي الأعذار ، الأظهر والأشهر فيها عدم الإعادة. وتعليل وجوب الإعادة في الوقت دون الخارج ـ بأن إطلاق الإذن في التقية لا يقتضي أزيد من إظهار الموافقة مع الحاجة ـ فيه انه ان كان ما فعله إظهارا للموافقة هو فرضه في تلك الحال شرعا فقد مضى بعد فعله على الصحة فاعادته مع عدم الدليل لا وجه لها ، وإلا فالواجب الإعادة في المقامين وقتا وخارجا وهو لا يقول به.

(الحادي عشر) ـ المشهور بين الأصحاب كراهة التكرار في المسح ، وعن ظاهر الخلاف والمبسوط التحريم ، وهو ظاهر المقنعة ، وعن ابن حمزة انه عده من التروك المحرمة ، وعن ابن إدريس انه جعله بدعة ، واحتمل في الذكرى ان يكون مرادهم التكرار مع اعتقاد شرعيته.

ويدل على الوحدة في المسح اخبار الوضوء البياني (١) ومرفوعة أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «مسح الرأس واحدة ...». وعدم الدليل على الزائد لأنه حكم شرعي وإثباته يحتاج إلى دليل ، وربما ظهر من الانتصار دعوى الإجماع على ذلك.

لكن نقل شيخنا الشهيد في الذكرى عن ابن الجنيد انه قال في بيان كيفية الوضوء : «وفي مسح الرجلين يبسط كفه اليمنى على قدمه الأيمن ويجذبها من أصابع رجله إلى الكعب ومن الكعب إلى أطراف أصابعه ، فمهما اصابه المسح من ذلك أجزأه وان لم يقع على جميعه ، ثم يفعل ذلك بيده اليسرى على رجله اليسرى» انتهى.

وما ربما يتوهم ـ من تناول ظواهر أخبار التثنية (٣) كقولهم : «الوضوء مثنى مثنى». لذلك ـ مردود بما سيجي‌ء تحقيقه ان شاء الله تعالى ، ورواية يونس (٤) قال :

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الوضوء.

٣١٨

«أخبرني من رأى أبا الحسن (عليه‌السلام) بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب ومن الكعب إلى أعلى القدم». ـ مردود بما في تتمتها من قول الراوي : «ويقول : الأمر في مسح الرجلين موسع : من شاء مسح مقبلا ومن شاء مسح مدبرا فإنه من الأمر الموسع ان شاء الله» لان الظاهر ان قوله (عليه‌السلام) ذلك تعليل لما فعله من الإقبال تارة والأدبار اخرى. وربما كان مستند ابن الجنيد فيما قدمنا نقله عنه إلى صدر هذه الرواية اما بقطعها عن عجزها أو بحمل العجز على عدم الارتباط بالصدر.

المطلب الرابع

في الأحكام

وتفصيل القول فيها يقع في مسائل (الأولى) ـ المشهور بين الأصحاب استحباب التثنية في الغسل ، وتحقيق البحث في هذه المسألة يقع في مواضع :

(الأول) ـ اعلم انه قد اختلف الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) ـ بعد الاتفاق على عدم تقدير الوجوب بعدد معين ، بمعنى انه لو لم يكف الكف الأول للغسل الواجب وجب الثاني والثالث وهكذا حتى يتأدى الواجب كما نقله في المختلف ـ في الغسلة الثانية :

فالمشهور بين الأصحاب الاستحباب ، بل نقل عن ابن إدريس دعوى الإجماع عليه ، وكأنه لعدم الاعتداد بخلاف معلوم النسب كما صرح به ، حيث قال بعد دعوى الإجماع : «ولا يعتد بخلاف من خالف من الأصحاب بأنه لا يجوز الثانية ، لمعروفية نسبه» وظاهره وجود القائل بالتحريم أيضا ، وهو صريح الشيخ في الخلاف ، حيث قال : «مسألة ـ الفرض في غسل الأعضاء مرة واحدة والثانية سنة والثالثة بدعة ، وفي أصحابنا من قال : الثانية بدعة. وليس بمعول عليه ، ومنهم من قال : ان الثانية تكلف ولم يقل بأنها بدعة. والصحيح الأول» انتهى. ومنه يفهم أيضا قول ثالث

٣١٩

في المسألة وهو الجواز ، ولكنه غير ظاهر الجواز.

ونقل جمع من الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) ـ عن الصدوق في الفقيه ، حيث قال (١) : «الوضوء مرة مرة ومن توضأ مرتين لم يؤجر ومن توضأ ثلاثا فقد أبدع». وعن البزنطي حيث نقل عنه في مستطرفات السرائر انه قال (٢) : «واعلم ان الفضل في واحدة واحدة ومن زاد على اثنتين لم يؤجر». ـ عدم استحباب الثانية.

الا ان الذي يقرب عندي من هذا الكلام هو التحريم :

(اما أولا) ـ فإنه متى انتفى الأجر عليها لزم زيادتها وعدم كونها من الوضوء فتكون محرمة لعدم تصور المباح في العبادة ، وبذلك صرح شيخنا الشهيد الثاني في الروض.

و (اما ثانيا) ـ فلان هذا هو الذي يدور عليه كلام الصدوق في غير هذا الموضع من الفقيه ، حيث قال في موضع آخر ـ بعد ان روى (٣) عن الصادق (عليه‌السلام): «والله ما كان وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلا مرة مرة». ـ ما هذا لفظه : فأما الأخبار التي رويت في ان الوضوء مرتين مرتين فأحدها بإسناد منقطع يرويه أبو جعفر الأحول ذكره عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٤) قال : «فرض الله الوضوء واحدة واحدة ، ووضع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) للناس اثنتين اثنتين». وهذا على جهة الإنكار لا على جهة الأخبار ، كأنه (عليه‌السلام) يقول : حد الله حدا فتجاوزه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وتعداه؟ وقد قال الله عزوجل : «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» (٥) وقد روي «ان الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه وان المؤمن لا ينجسه شي‌ء وانما يكفيه مثل الدهن» (٦). وقال الصادق (عليه‌السلام)

__________________

(١) ج ١ ص ٢٩.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) ج ١ ص ٢٥ وفي الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٤ و ٦) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٥) سورة الطلاق الآية ٢.

٣٢٠