الحدائق الناضرة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة ـ نجف
المطبعة: مطبعة النّجف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

من وضوئه يأخذ من بلل وجهه ، وفي بعضها انه مع تعذر البلل في وجهه يعيد وضوءه.

فمن ذلك رواية مالك بن أعين عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «من نسي مسح رأسه ثم ذكر انه لم يمسح رأسه ، فإن كان في لحيته بلل فليأخذ منه وليمسح رأسه ، وان لم يكن في لحيته بلل فلينصرف وليعد الوضوء».

ورواية خلف بن حماد عمن أخبره عنه (عليه‌السلام) (٢) قال : «قلت له الرجل ينسى مسح رأسه وهو في الصلاة؟ قال : ان كان في لحيته بلل فليمسح به. قلت : فان لم يكن له لحية؟ قال : يمسح من حاجبيه أو من أشفار عينيه».

وما رواه ابن بابويه في الفقيه (٣) عن أبي بصير عنه (عليه‌السلام) «في رجل نسي مسح رأسه؟ قال : فليمسح. قال : لم يذكره حتى دخل في الصلاة؟ قال فليمسح رأسه من بلل لحيته».

وروى فيه (٤) أيضا مرسلا عنه (عليه‌السلام) قال : «ان نسيت مسح رأسك فامسح عليه وعلى رجليك من بلة وضوئك ، فان لم يكن بقي في يدك من نداوة وضوئك شي‌ء فخذ ما بقي منه في لحيتك وامسح به رأسك ورجليك ، وان لم يكن لك لحية فخذ من حاجبيك وأشفار عينيك وامسح به رأسك ورجليك ، وان لم يبق من بلة وضوئك شي‌ء أعدت الوضوء». ومثلها رواية زرارة (٥).

وهذه الروايات وان اشتركت في ضعف السند بناء على هذا الاصطلاح المحدث بين متأخري أصحابنا ، إلا انها معتضدة بالشهرة بينهم ، وهي من المرجحات عندهم ، مع ان فيها ما هو من مرويات الفقيه المضمون صحة ما تضمنه من مصنفه ، كما اعتمدوا عليها لذلك في غير موضع من كلامهم ، بل ورد مثل ذلك في حسنة الحلبي عن أبي عبد الله

__________________

(١ و ٢ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الوضوء.

(٣ و ٤) ج ١ ص ٣٦. وفي الوسائل في الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الوضوء.

٢٨١

(عليه‌السلام) (١) قال : «إذا ذكرت وأنت في صلاتك انك قد تركت شيئا من وضوئك المفروض عليك ، فانصرف وأتم الذي نسيته من وضوئك وأعد صلاتك ، ويكفيك من مسح رأسك أن تأخذ من لحيتك بللها إذا نسيت أن تمسح رأسك فتمسح به مقدم رأسك».

ومورد الأسئلة في هذه الأخبار وان كان النسيان ، إلا انه لا قائل بالفرق ، مع ان خصوص السؤال لا يخصص الجواب كما هو مقرر عندهم.

وكيف كان فلا يخفى على المتأمل المصنف انه إذا كان جملة الأخبار البيانية الواردة في مقام التعليم على تعددها انما اشتملت على المسح بالبلة ، واخبار النسيان كذلك وزيادة انه مع فقدها يعيد الوضوء ، فكيف يبقى مع هذا قوة للتمسك بإطلاق الآية؟ على انه لو ورد خبر بلفظ الأمر بالمسح بالبلة أو بلفظ النهي عن التجديد ، لسارعوا إلى حمله على الاستحباب والكراهة ، محتجين بعدم الجزم بدلالة الأمر على الوجوب والنهي على التحريم ، لشيوعهما في خلاف ذلك ، وهو اجتهاد محض وتخريج صرف.

والعجب من جملة من مشايخنا المحققين وعلمائنا المدققين من متأخري المتأخرين ، حيث انهم جعلوا مذهب ابن الجنيد بمجرد دلالة إطلاق الآية عليه في غاية القوة والجزالة وأخذوا في المناقشات فيما ذكرنا من الروايات ، وارتكاب جادة التأويلات البعيدة والتمحلات الغير السديدة ، مما لا يصح النظر اليه ولا العروج عليه ، فبعض منهم إنما اعتمد على انعقاد الإجماع بعد ابن الجنيد ، وبعض منهم بعد الاستشكال إنما التجأ إلى الاحتياط. على انه لو تم إبطال الاستدلال بمجرد الاحتمال في المقام. لانسد هذا الباب في جملة الأحكام ، إذ لا دليل إلا وهو قابل للاحتمال ، ولا قول إلا وللقائل فيه مجال. هذا.

ومما استدل به على المشهور أيضا قوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة (٢) :

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ و ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

٢٨٢

«... فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات : واحدة للوجه واثنتان للذراعين ، وتمسح ببلة يمناك ناصيتك ، وما بقي من بلة يمناك تمسح به ظهر قدمك اليمنى ، وتمسح ببلة يسراك ظهر قدمك اليسرى». فإن الجملة الخبرية بمعنى الأمر الذي هو حقيقة في الوجوب.

ورد بأنه يجوز ان يكون قوله (عليه‌السلام) : و «تمسح» معطوفا على قوله : «ثلاث غرفات» بتقدير «ان» فيكون داخلا في حيز الاجزاء لا جملة مستقلة مرادا بها الأمر.

وقد يناقش في ذلك بان المرتضى قد نقل في كتاب (الغرر والدرر) عن ابن الأنباري انه يشترط في إضمار «أن» كذلك كون المعطوف عليه مصدرا لا اسما جامدا والجواب ان المعطوف عليه في الحقيقة مصدر للمرات ، مع إمكان المناقشة فيما ذكره ابن الأنباري ، لعدم الدليل عليه.

واستدل في المختلف لابن الجنيد بموثقة أبي بصير (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن مسح الرأس ، قلت : امسح بما في يدي من الندى رأسي؟ قال : لا بل تضع يدك في الماء ثم تمسح».

وصحيحة معمر بن خلاد (٢) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) أيجزئ الرجل ان يمسح قدميه بفضل رأسه؟ فقال برأسه؟ : لا. فقلت أبماء جديد؟ فقال برأسه : نعم».

أقول : ومثلهما أيضا رواية أبي عمارة الحارثي (٣) قال : «سألت جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) امسح رأسي ببلل يدي؟ قال : خذ لرأسك ماء جديدا».

وأنت خبير بان مدلول هذه الروايات هو وجوب الاستئناف مع وجود البلة ، وهذا لا ينطبق على مذهب ابن الجنيد ، لتخصيصه ذلك بفقد البلة من اليد كما عرفت من عبارته.

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢١ ـ من أبواب الوضوء.

٢٨٣

وكيف كان فهذه الأخبار محمولة على التقية (١) كما صرح به جملة من أصحابنا.

واستشكل السيد في المدارك هذا الحمل في صحيحة معمر بأنها لا تنطبق عليه ، لأنها متضمنة لمسح الرجلين وهم لا يقولون به.

ثم أجاب بأنهم يعترفون بصحة إطلاق اسم المسح على الغسل بزعمهم الفاسد ، وهو كاف في تأدي التقية.

واعترض هذا الجواب شيخنا البهائي (قدس‌سره) في الحبل المتين بان ما تضمنه الحديث من المسح بفضل الرأس يأبى عنه هذا التنزيل ، ثم قال (قدس‌سره) : «فلو نزل على مسح الخفين كان اولى» ثم رجح (قدس‌سره) ان إيماءه (عليه‌السلام) برأسه نهى لمعمر عن السؤال لئلا يسمعه المخالفون ، فظن معمر انه (عليه‌السلام) انما نهاه عن المسح ببقية البلل ، فقال : «أبماء جديد؟» فسمعه الحاضرون ، فقال (عليه‌السلام) : «نعم».

أقول : ويمكن الجواب ـ عما اعترض به من إباء المسح بفضل الرأس هذا

__________________

(١) في المغني لابن قدامة ج ١ ص ١٣٠ «ويمسح رأسه بماء جديد غير ما فصل عن ذراعيه ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم ، قاله الترمذي ، وجوزه الحسن وعروة والأوزاعي ، ثم قال : ولنا ما روى عبد الله بن زيد قال : «مسح النبي (ص) رأسه بماء غير فضل يديه». ولأن البلل الباقي في يده مستعمل فلا يجزئ المسح به كما لو فصله في إناء ثم استعمله» وفي بداية المجتهد لابن رشد ج ١ ص ١١ «أكثر العلماء أوجب تجديد الماء لمسح الرأس قياسا على سائر الأعضاء» وفي جامع الترمذي ج ١ ص ٥٣ من شرحه لابن العربي بعد ان ذكر رواية عبد الله بن زيد وغيره ان النبي (ص) أخذ لرأسه ماء جديدا قال : «والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم رأوا أن يأخذ لرأسه ماء جديدا». وفي أحكام القرآن للشافعي ج ١ ص ٥٠ «أخذ رسول الله (ص) لكل عضو ماء جديدا». وقال في الأم ج ١ ص ٢٢ : «والاختيار له ان يأخذ الماء بيديه فيمسح بهما رأسه معا : يبدأ بمقدم رأسه إلى قفاه ويردهما إلى المكان الذي بدا منه».

٢٨٤

التنزيل ـ بأنه من المحتمل انه بعد ان سأله عن المسح بفضل رأسه فقال : «لا» سأله ثانيا أيمسح بماء جديد؟ كناية عن الغسل وانه يقدر الغسل دون المسح ، بمعنى «أيغسل بماء جديد؟» فاجازه (عليه‌السلام) تقية.

هذا. والظاهر انه لا ورود لأصل الإشكال فلا يحتاج إلى ما تمحله كل من هذين العلمين من الاحتمال ، وذلك فان المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى نقلا القول بجواز المسح عن الحسن البصري وابن جرير الطبري وأبي علي الجبائي ، وتعين المسح فقط عن الشعبي وأبي العالية وعكرمة وانس بن مالك ، ونقله الشيخ في الاستبصار عن بعض الفقهاء من غير تعيين. ونقل والدي (قدس‌سره) في بعض حواشيه الجواز أيضا عن احمد والأوزاعي والثوري ، وان الإنسان عندهم مخير بين الغسل والمسح ، وحينئذ فيتم الحمل على التقية من غير اشكال ، وعلى تقديره فالمراد مسح الرجل كلها بطنا وظهرا كما هو المنقول عنهم.

ومما يمكن ان يستدل به لابن الجنيد حسنة منصور (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عمن نسي أن يمسح رأسه حتى قام في الصلاة قال : ينصرف ويمسح رأسه ورجليه».

ورواية الكناني (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل توضأ فنسي أن يمسح على رأسه حتى قام في الصلاة؟ قال : فلينصرف فليمسح على رأسه وليعد الصلاة».

ورواية أبي بصير عنه (عليه‌السلام) (٣) «في رجل نسي أن يمسح رأسه فذكر وهو في الصلاة؟ فقال : ان كان استيقن ذلك انصرف فمسح على رأسه وعلى رجليه واستقبل الصلاة ، وان شك فلم يدر مسح أو لم يمسح فليتناول من لحيته ان كانت مبتلة وليمسح على رأسه ، وان كان امامه ماء فليتناول منه فليمسح به رأسه».

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤٢ ـ من أبواب الوضوء.

٢٨٥

وهذه الأخبار قد اشتركت بحسب ظاهرها في الدلالة على الأمر بالاستيناف متى ذكر نسيان المسح في صلاته.

والجواب عنها (أولا) ـ انها أخص من المدعى فلا تنهض حجة.

و (ثانيا) ـ انه يحتمل حمل الأمر بالمسح بعد الانصراف ـ بمعنى قطع الصلاة ـ على المسح من بلة شعره بناء على ان ثمة بلة حسبما تضمنته الروايات المتقدمة ، وهذا الاحتمال في رواية أبي بصير أقرب منه في غيرها. واما الأمر بالمسح فيها من بلل لحيته مع الشك فمحمول على الاستحباب استظهارا. واما الأمر بتناول الماء ان كان امامه في صورة الشك فلعله مخصوص بهذه الصورة.

و (ثالثا) ـ بحمل قوله (عليه‌السلام) : «يمسح رأسه ورجليه» على انه كناية عن اعادة الوضوء بسبب فوات الموالاة ، فإن التعبير بمثله مجاز شائع في الأخبار ، ومنه ما تقدم في حسنة الحلبي (١) حيث قال : «إذا ذكرت وأنت في صلاتك انك قد تركت شيئا من وضوئك المفروض ، فانصرف وأتم الذي نسيته ...». فإنه لا يستقيم على إطلاقه إلا بحمل الإتمام على اعادة الوضوء ، إذ لو جف السابق على العضو المنسي المقتضي لفوات الموالاة ، لم يكف الإتمام البتة بل تجب الإعادة.

و (رابعا) ـ بأن بإزائها من الأخبار المتقدمة ما هو صريح في ان الحكم في هذه الصورة هو الأخذ من بلة ما في الوجه وإلا فإعادة الوضوء ، ويدل أيضا على الإعادة ـ زيادة على ما تقدم ـ موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «من نسي مسح رأسه أو قدميه أو شيئا من الوضوء الذي ذكره الله في القرآن ، كان عليه اعادة الوضوء والصلاة». وحينئذ فلا بد من النظر في الترجيح ، ولا ريب انه في الروايات المتقدمة لموافقتها للمجمع عليه كما هو أحد المرجحات المنصوصة ، ولمخالفة ما عليه العامة الذي هو

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣ و ٤٢ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣ و ٣٥ ـ من أبواب الوضوء.

٢٨٦

كذلك ، والاحتياط الذي هو معدود منها أيضا ، واعتضادها باخبار الوضوء البياني ، فيتعين حمل هذه الأخبار على أحد المحامل المذكورة آنفا ، أو الحمل على التقية (١).

فائدة

اعلم ان جملة من محققي متأخري المتأخرين صرحوا بأن الأخذ من بلة الوجه لا يتقيد بفقد البلة من اليد ، بل يجوز وان كان فيها بلة تجزئ للمسح ، قالوا : والتعليق في عبارات الأصحاب انما خرج مخرج الغالب ، وانه لا يختص الأخذ من هذه المواضع بل يجوز من جميع محال الوضوء ، وتخصيص الشعر لكونه مظنة البلل.

ولا يخفى ان الحكم الأول لا يخلو من شوب الاشكال ، لعدم الدليل على ذلك إذ المستفاد من اخبار الأخذ من بلة الوجه تقييد ذلك بحال النسيان والدخول في الصلاة التي هي مظنة جفاف اليد كما لا يخفى ، واخبار الوضوء البياني ـ على تعددها وكثرتها ـ انما اشتملت على المسح بنداوة اليد ولم يتضمن شي‌ء منها الأخذ من بلة الوجه ، فمن المحتمل قريبا ان يكون الأخذ من بلة الوجه انما هو لضرورة جفاف اليد حينئذ وبدونه فلا يجوز ، والاحتياط تركه إلا مع الجفاف.

(الثامن) ـ قد ذكر جملة من أصحابنا انه لا يجوز المسح بغير اليد اتفاقا ، وان الظاهر تعينه بالباطن لانه المتيقن ، الا ان يتعذر فيجوز بالظاهر ، وان الاولى كونه في الناصية باليد اليمنى ، وانه يمسح الرجل اليمنى باليد اليمنى والرجل اليسرى باليسرى.

ولا يخفى عليك ان المسح باليمنى في الموضعين الأولين واليسرى في الأخير وان كان مما ظاهرهم الاتفاق على استحبابه. الا انه لا يخلو من شوب الاشكال ، لما عرفت في مسألة الابتداء بالأعلى ، الا ان يحمل «وتمسح» على الدخول في حيز الاجزاء بعطف «وتمسح» على «ثلاث غرفات» كما عرفت ، فيضعف الاشكال على ما ذكرنا

__________________

(١) راجع التعليقة ١ في الصحيفة ٢٨٤.

٢٨٧

وكذلك الاستحباب على ما ذكروا.

وذكروا أيضا ان الواجب كونه بالأصابع. ولو تعذر المسح بالكف فقد صرح في الذكرى بالمسح بالذراع. وفيه اشكال.

وهل يشترط تأثير المسح في الممسوح؟ قولان ، أظهرهما وأحوطهما الأول وفاقا للعلامة في التذكرة والسيد السند في المدارك.

الركن الخامس ـ مسح الرجلين

والكلام فيه يقع في موارد :

(الأول) ـ وجوب مسح الرجلين دون غسلهما مما انعقد عليه إجماع الإمامية (أنار الله برهانهم) فتوى ودليلا كتابا وسنة ، ووافقنا عليه بعض متقدمي العامة ، وآخرون خيروا بينه وبين الغسل ، وبعض جمعوا بينهما ، واستقر فتوى الفقهاء الأربعة على وجوب الغسل خاصة (١).

__________________

(١) في عمدة القارئ ج ١ ص ٦٥٧ «المذاهب في وظيفة الرجلين أربعة : (الأول) ـ مذهب الأئمة الأربعة من أهل السنة ان وظيفتها الغسل. (الثاني) ـ مذهب الإمامية من الشيعة الفرض مسحهما. (الثالث) ـ مذهب الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري وأبي على الجبائي التخيير بين الغسل والمسح. (الرابع) ـ مذهب أهل الظاهر وهو رواية عن الحسن الجمع بين الغسل والمسح» ثم ذكر الأخبار المصرحة بغسل النبي (ص) رجليه وبعدها ذكر الأحاديث المصرحة بمسح النبي (ص) رجليه كحديث جابر الأنصاري وعمر وأوس ابن أوس وابن عباس وعثمان ورجل من قيس. ثم ذكر حديث رفاعة بن رافع قال : «غسل النبي (ص) وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه ورجليه إلى الكعبين». قال : «وحديث رفاعة حسنه أبو على الطوسي والترمذي وأبو بكر البزاز وصححه الحافظ ابن حبان وابن حزم» وفي اختلاف الحديث على هامش الام ج ٧ ص ٦٠ وأحكام القرآن ج ١ ص ٥٠ كلاهما للشافعي «غسل الرجلين كمال والمسح رخصة وكمال وأيهما شاء فعل» وفي تفسير الطبري ج ١٠ ص ٥٩ من الطبعة تحقيق محمود محمد شاكر واحمد محمد شاكر «عن جابر

٢٨٨

والكلام في دلالة الآية (١) على وجوب المسح ونفى الغسل مما تكفل به مطولات أصحابنا (جزاهم الله تعالى عنا خير الجزاء).

لكن روى الشيخ (رحمه‌الله) في التهذيب (٢) عن غالب بن الهذيل قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن قول الله عزوجل (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (٣) على الخفض هي أم على النصب؟ قال : بل هي على الخفض». ولا يخفى انه على تقدير النصب يدل على المسح أيضا بالعطف على محل الرؤوس ، كما تقول : مررت بزيد وعمرا. الا انه ربما يفهم من هذه الرواية ان قراءة أهل البيت (عليهم‌السلام) انما هي على الخفض وان كان النصب مما يقرأون به في ذلك الوقت ، كما هو أحد القراءات السبع المشهورة الآن ، فانا قد حققنا في كتاب المسائل ـ وسيأتي ان شاء الله تعالى في هذا الكتاب التنبيه عليه في محله ـ ان هذه القراءات السبع فضلا عن العشر وان ادعى بعض علمائنا (رضوان الله عليهم) تواترها عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلا ان الثابت في أخبارنا ـ وعليه جملة من أصحابنا ـ خلافه وان صرحت أخبارنا بالرخصة لنا في القراءة بها حتى صاحب الأمر (عجل الله تعالى فرجه).

وليس بالبعيد ان هذه القراءة كغيرها من المحدثات في القرآن العزيز ، لثبوت

__________________

عن أبي جعفر قال : امسح على رأسك وقدميك. وعن الشعبي نزل جبريل بالمسح ، ألا ترى التيمم يمسح ما كان غسلا ويلغى ما كان مسحا. وعن عامر نزل جبريل بالمسح. ثم قال ابن جرير : الصواب عندنا ان الله تعالى أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم ، وإذا فعل ذلك المتوضئ فهو ماسح غاسل لأن غسلهما إمرار الماء عليهما أو أصابتهما بالماء ومسحهما إمرار اليد أو ما قام مقامها عليهما» وبذلك كله يظهر لك ان قول ابن كثير في تفسيره ج ٢ ص ٢٦ : «ومن أوجب من الشيعة مسحهما فقد ضل وأضل» جرأة لا تغفر وعثرة لا تقال.

(١ و ٣) سورة المائدة. الآية ٢.

(٢) ج ١ ص ٢٠ ، وفي الوسائل في الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الوضوء.

٢٨٩

التغيير والتبديل فيه عندنا زيادة ونقصانا. وان كان بعض أصحابنا ادعى الإجماع على نفي الأول ، إلا ان في أخبارنا ما يرده ، كما انهم تصرفوا في قوله تعالى في آية الغار لدفع العار عن شيخ الفجار ، حيث ان الوارد في أخبارنا أنها نزلت : «... فانزل الله سكينته على رسوله وأيده بجنود لم تروها ...» (١) فخذفوا لفظ «رسوله» وجعلوا محله الضمير. ويقرب بالبال ـ كما ذكره أيضا بعض علمائنا الأبدال ـ إن توسيط آية «... إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ... الآية» (٢) في خطاب الأزواج من ذلك القبيل.

هذا ، وما يدل على وجوب المسح ونفى الغسل من أخبارنا فمستفيض ، بل الظاهر انه من ضروريات مذهبنا.

واما ما في موثقة عمار ـ عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) «في الرجل يتوضأ الوضوء كله إلا رجليه ثم يخوض بهما الماء خوضا؟ قال : أجزأه ذلك». ـ فمحمول على التقية

وصحيحة أيوب بن نوح ـ (٤) قال : «كتبت إلى ابي الحسن (عليه‌السلام) اسأله عن المسح على القدمين. فقال : الوضوء بالمسح ولا يجب فيه إلا ذلك ، ومن غسل فلا بأس». ـ فيحتمل الحمل على التقية أيضا ، فإن منهم من قال بالتخيير كما تقدم (٥) والحمل على التنظيف كما احتمله الشيخ في التهذيب مستدلا عليه بصحيحة أبي همام عن أبي الحسن (عليه‌السلام) (٦) «في وضوء الفريضة في كتاب الله المسح ، والغسل في الوضوء للتنظيف».

وروى زرارة مضمرا في الصحيح (٧) قال قال لي : «لو أنك توضأت فجعلت مسح الرجلين غسلا ثم أضمرت ان ذلك هو المفترض لم يكن ذلك بوضوء ، ثم قال : ابدأ بالمسح على الرجلين ، فان بدا لك غسل فغسلت فامسح بعده ليكون آخر ذلك المفترض».

__________________

(١) سورة التوبة. الآية ٤٠.

(٢) سورة الأحزاب. الآية ٣٣.

(٣ و ٤ و ٦ و ٧) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٥) راجع التعليقة ١ في الصحيفة ٢٨٨.

٢٩٠

قال المحدث الكاشاني في الوافي (١) بعد ذكر هذه الرواية : «لعل المراد بالحديث انه ان كنت في موضع تقية فابدأ أولا بالمسح ليتم وضوؤك ثم اغسل رجليك ، فان بدا لك أولا في الغسل فغسلت ولم يتيسر لك المسح ، فامسح بعد الغسل حتى تكون قد أتيت بالفرض في آخر أمرك» انتهى.

وقال شيخنا الشهيد في الذكرى : «ولو أراد التنظيف قدم غسل الرجلين على الوضوء ، ولو غسلهما بعد الوضوء لنجاسة مسح بعد ذلك ، وكذا لو غسلهما للتنظيف ، وفي خبر زرارة قال : ان بدا لك فغسلت فامسح بعده ليكون آخر ذلك المفترض» انتهى.

(الثاني) ـ المشهور ـ بل ادعى عليه في الانتصار الإجماع ، وهو ظاهر العلامة في المنتهى حيث نسبه إلى علمائنا اجمع ، وفي التذكرة حيث قال : انه إجماع فقهاء أهل البيت (عليهم‌السلام) ـ وجوب الاستيعاب في مسح الرجلين طولا ولو بمسماه عرضا ، استنادا إلى ظاهر الكتاب بجعل «إلى» غاية للمسح ، وجملة من الأخبار البيانية المشتملة على كون مسحهم (عليهم‌السلام) الى الكعبين.

ويدل عليه أيضا صحيحة البزنطي عن أبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفه على الأصابع فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم. الحديث».

وتردد المحقق في المعتبر ثم رجح وجوب الاستيعاب لظاهر الآية. واحتمل في الذكرى عدم الوجوب ، وبه جزم المحدث الكاشاني في المفاتيح ، ونفى عنه البعد صاحب رياض المسائل وحياض الدلائل.

ولا يخفى انه لو ثبت جعل «الى» هنا غاية للمسح كما ذكروه ، لقوي الاعتماد على المشهور ، لكن ثبوت جواز النكس ـ كما سيأتي ان شاء الله تعالى ـ مما يمنع ذلك

__________________

(١) ج ٤ ص ٤٦.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الوضوء.

٢٩١

فالأظهر جعلها غاية للممسوح ، ويؤيد ذلك أيضا قرينة السياق ، فإنها في المرفقين غاية للمغسول اتفاقا.

واما الاستناد إلى بعض اخبار الوضوء البياني في الوجوب فمحل اشكال ، لعدم الصراحة في ذلك ، لاشتمال بعضها على مسح الرجلين وبعض على ظهر القدمين الصادق عرفا بمسح البعض ، كاشتمالها على مسح الرأس في بعض والمقدم في آخر مع الاتفاق على عدم الاستيعاب فيه ، فكذا فيهما.

ومما يدل على هذا القول أيضا الأخبار الدالة على عدم استبطان الشراكين حال المسح كما في حسنة الأخوين عن الباقر (عليه‌السلام) (١) حيث قال (عليه‌السلام): «... ولا يدخل أصابعه تحت الشراك ...».

وحسنة زرارة عنه (عليه‌السلام) (٢) : «ان عليا (عليه‌السلام) مسح على النعلين ولم يستبطن الشراكين».

وضعيفته أيضا (٣) : «ان عليا (عليه‌السلام) توضأ ثم مسح على نعليه ولم يدخل يده تحت الشراك».

ورواية جعفر بن سليمان (٤) قال : «سألت أبا الحسن موسى (عليه‌السلام) فقلت : جعلت فداك يكون خف الرجل مخرقا فيدخل يده فيمسح ظهر قدمه ، أيجزيه ذلك؟ قال : نعم».

ويؤيده أيضا قوله (عليه‌السلام) في صحيحة الأخوين (٥) : «قال الله تعالى :

__________________

(١ و ٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٤ و ٣٨ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الوضوء.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الوضوء. وسند الرواية في الكافي ج ١ ص ١٠ والوافي ج ٤ ص ٤٤ عنه هكذا : عن جعفر بن سليمان عن عمه قال. إلخ ، وفي التهذيب عن الكافي ج ١ ص ١٨ والوسائل وجامع الرواة ج ١ ص ١٥٢ عنه أيضا هكذا : عن جعفر بن سليمان عمه قال. إلخ.

٢٩٢

(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ). (١) فإذا مسح بشي‌ء من رأسه أو بشي‌ء من رجليه قدميه ما بين الكعبين إلى آخر أطراف الأصابع فقد أجزأه ...».

وقال في حسنتهما (٢) أيضا : «ثم قال (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ). فإذا مسح بشي‌ء من رأسه أو بشي‌ء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه ...».

وفي صحيحتهما الأخرى (٣) «انه قال في المسح : تمسح على النعلين ولا تدخل يدك تحت الشراك ، وإذا مسحت بشي‌ء من رأسك أو بشي‌ء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك».

وهي ظاهرة ـ كما ترى ـ في كون التحديد في الآية للممسوح لا للمسح ، حيث ان «إلى» في كلامه (عليه‌السلام) قرنت بالأصابع دون الكعبين عقيب الاستدلال بالآية في الروايتين الأولتين ، فهو كالتفريع عليها والتفسير لها ، قال شيخنا صاحب رياض المسائل (رحمه‌الله) : و «ما» في «ما بين الكعبين» كما تحتمل الموصولية المفيدة للعموم والأبدال من «شي‌ء» فيفيد بمفهوم الشرط توقف الاجزاء على مسح مجموع المسافة الكائنة بينهما وهو يستلزم الوجوب ، فكذا تحتمل الموصوفية مع الأبدال منه ، وكلاهما مع كون «ما» واقعة على المكان منتصبة انتصاب الظرف ، والعامل فيه ما عمل في الجار والمجرور الواقع صفة ل «شي‌ء» من الكون ، أو بدلا من قدميه أو من رجليه المبدل منه قدميه بدلا بعد بدل أو بدلا من البدل ، فيفيد بالمنطوق دون المفهوم الاجتزاء بمسح جزء من المسافة المذكورة. والاحتمالات الأخيرة ـ مع تعددها وانحصار مخالفها في فرد

__________________

(١) سورة المائدة. الآية ٦.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء. ولا يخفى ان الفرق بين الصحيحة والحسنة انما هو في الطريق ، فإن الأولى هي رواية الشيخ والثانية رواية الكليني وقد رواها في الوسائل عن الكليني ثم قال : ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد. إلخ.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الوضوء.

٢٩٣

وأظهريتها أقل تخصيصا وأوفق بالأصل ، فوجب المصير إلى ما اشتركت في الدلالة عليه إلا أن يثبت الإجماع على خلافه. انتهى. وهو جيد وجيه.

وبالجملة فإنه لا ظهور في شي‌ء من الآية والروايات المتعلقة بالمسألة في الدلالة على القول المشهور سوى صحيحة البزنطي المتقدمة (١) مع معارضتها بما ذكرنا من الأخبار المذكورة ، الا ان الاحتياط في الوقوف على المشهور ، وحينئذ فتحمل صحيحة البزنطي المتقدمة على الاستحباب.

هذا بالنسبة إلى الاستيعاب الطولى. واما العرضي فقد نقلوا الإجماع على عدمه ومنهم العلامة في التذكرة والمنتهى ، الا انه في التذكرة ـ بعد ان ذكر ما قدمنا نقله عنه آنفا بأسطر يسيرة ـ قال : «ويستحب أن يكون بثلاث أصابع مضمومة ، وقال بعض علمائنا يجب» انتهى. وفي المختلف نسبه إلى المشهور مؤذنا بالخلاف فيه.

ويدل على المشهور ما تقدم (٢) من صحيحتي الأخوين وحسنتهما وروايات عدم استبطان الشراكين في المسح مع اعتضادها بالأصل.

وعلى الثاني ظاهر الآية وصحيحة البزنطي المتقدمة (٣) حيث قال الراوي بعد نقل ما تقدم منها : «قلت : جعلت فداك لو ان رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا؟ فقال : لا إلا بكفه كلها». ولا يخفى ما فيها من المبالغة في الاستيعاب ، حيث انه مفهوم أولا من قوله : «فمسحها» ثم من النهي الصريح.

ويؤيده قوية عبد الأعلى (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع بالوضوء؟ فقال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). امسح عليه».

__________________

(١ و ٣) في الصحيفة ٢٩١.

(٢) في الصحيفة ٢٩٢ و ٢٩٣.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٩ ـ من أبواب الوضوء.

٢٩٤

ورواية معمر بن عمر عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (١) قال : «يجزئ من المسح على الرأس ثلاث أصابع ، وكذلك الرجل».

والمسألة لا تخلو من اشكال ، ولو لا اخبار المسح وعدم استبطان الشراكين ، لكان القول بمضمون هذه الروايات في غاية القوة ، فإن ما عداها قابل للتأويل والتقييد بهذه الأخبار. وحمل هذه الأخبار على الاستحباب ـ كما هو المشهور ـ ليس اولى مما قلناه ، فإن صراحة صحيحة البزنطي فيما دلت عليه ـ كما قدمنا الإشارة اليه ، مع الاعتضاد بظاهر الآية والروايتين المذكورتين. وإجمال الشي‌ء في روايات الأخوين ـ مما يرشد اليه ويحمل عليه. واعتضاد تلك بدعوى الإجماع ـ كما قيل ـ ممنوع بعد وجود الخلاف كما عرفت ، مع ما في الإجماع المدعى في أمثال هذه المقامات من المناقشة الظاهرة ، ولهذا قال السيد السند في المدارك ـ بعد نقل الإجماع على الاكتفاء بالمسمى ولو بإصبع واحدة عن المعتبر والتذكرة ، والاستدلال بصحيحة زرارة (٢) ـ ما لفظه : «ولولا ذلك لأمكن القول بوجوب المسح بالكف كلها. لصحيحة أحمد بن محمد بن ابي نصر (٣)» ثم ساق الرواية وقال : «فان المقيد يحكم على المطلق. ومع ذلك فالاحتياط هنا مما لا ينبغي تركه ، لصحة الخبر وصراحته وإجمال ما ينافيه» انتهى وهو جيد

ثم انه على تقدير وجوب الاستيعاب طولا فهل يجب إدخال الكعبين في المسح أم لا؟ وجهان بل قولان مبنيان على ما سبق في المرفقين. الا ان ظاهر صحيحتي الأخوين واخبار عدم استبطان الشراكين (٤) العدم هنا. والاحتياط في أمثال هذه المقامات مما ينبغي المحافظة عليه.

(الثالث) ـ هل الكعبان هما قبتا القدمين ما بين المفصل والمشط ، كما هو

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المتقدمة في الصحيفة ٢٩٢.

(٣) المتقدمة في الصحيفة ٢٩٤.

(٤) المتقدمة في الصحيفة ٢٩٢ و ٢٩٣.

٢٩٥

المشهور بين الأصحاب بل ادعى عليه جمع منهم الإجماع. أو ملتقى الساق والقدم المعبر عنه بالمفصل بين الساق والقدم ، كما عليه العلامة وجمع ممن تأخر عنه ، كالشهيد الأول في الرسالة وان بالغ في التشنيع عليه في الذكرى ، وصاحب الكنز ، وشيخنا البهائي ، والمحدث الكاشاني ، والمحدث الحر العاملي ، وجمع من متأخري المتأخرين؟ إشكال ينشأ من تعارض كلام أهل اللغة في هذا المقام ، وتدافع اخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام) مع دخول التأويل في اخبار كل من الطرفين وقبول الانطباق على كل من الجانبين

وتفصيل هذه الجملة على وجه الاختصار انه قد نقل أول الشهيدين في الذكرى وثاني المحققين في شرح القواعد ، ان لغوية العامة مختلفون في ذلك ، واما لغوية الخاصة فهم متفقون على انه بمعنى المشهور.

ونقل شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين ان الكعب يطلق على معان أربعة : (الأول) ـ العظم المرتفع في ظهر القدم الواقع بين المفصل والمشط. (الثاني) ـ المفصل بين الساق والقدم (الثالث) ـ عظم مائل إلى الاستدارة واقع في ملتقى الساق والقدم له زائدتان في أعلاه يدخلان في حفرتي قصبة الساق وزائدتان في أسفله يدخلان في حفرتي العقب ، وهو نأت في وسط ظهر القدم اعني وسطه العرضي ولكن نتوه غير ظاهر لحس البصر لارتكاز أعلاه في حفرتي الساق ، وقد يعبر عنه بالمفصل ، لمجاورته له أو من قبيل تسمية الحال باسم المحل. (الرابع) ـ أحد الناتيين عن يمين القدم وشماله.

وأقول : المعنى الأول هو الذي عليه جمهور الأصحاب ، والثالث هو الذي نسبه (قدس‌سره) للعلامة وان عبر عنه بالمفصل مجازا كما ذكره ، وعلى هذا فالثاني يرجع إلى الثالث ، والرابع هو الذي عليه العامة.

ثم نقل (قدس‌سره) جملة من كلام العامة كالفخر الرازي في تفسيره الكبير ، فإنه قال : «قالت الإمامية وكل من ذهب إلى وجوب المسح : ان الكعب عبارة عن عظم مستدير مثل كعب الغنم والبقر موضوع تحت عظم الساق حيث يكون مفصل

٢٩٦

الساق والقدم ، وهو قول محمد بن الحسن ، وكان الأصمعي يختار هذا القول ، ثم قال : حجة الإمامية ان اسم الكعب يطلق على العظم المخصوص الموجود في ارجل جميع الحيوانات ، فوجب ان يكون في حق الإنسان كذلك» ومثله كلام صاحب الكشف وكلام النيشابوري ، ثم نقل جملة من كلام علماء التشريح.

وعورض بان ابن الأثير قال ـ بعد ذكر الكعب بالمعنى الذي عليه العامة ـ ما لفظه : «وذهب قوم إلى أنهما العظمان اللذان في ظهر القدم ، وهو مذهب الشيعة ، ومنه قول يحيى بن الحرث : رأيت القتلى يوم زيد بن علي فرأيت الكعاب في وسط القدم» ومثل ذلك نقل عن صاحب لباب التأويل ، ونقل الشهيد في الذكرى عن العلامة اللغوي عميد الرؤساء انه صنف كتابا في تحقيق معنى الكعب وأكثر فيه من الشواهد على ان الكعب هو الناشز في ظهر القدم امام الساق حيث يقع معقد الشراك من النعل ، ويظهر من الصحاح ان ذلك قول أكثر الناس ، حيث قال : «وأنكر الأصمعي قول الناس انه في ظهر القدم» وقال في الذكرى أيضا : «ومن أحسن ما ورد في ذلك ما ذكره أبو عمرو الزاهد في كتاب فائت الجمهرة ، قال : اختلف الناس في الكعب ، فأخبرني أبو نصر عن الأصمعي انه الناتي في أسفل الساق عن يمين وشمال ، وأخبرني سلمة عن الفراء قال هو في مشط الرجل وقال هكذا برجله ، قال أبو العباس فهذا الذي يسميه الأصمعي الكعب هو عند العرب المنجم ، قال : وأخبرني سلمة عن الفراء عن الكسائي قال قعد محمد بن علي بن الحسين (عليهم‌السلام) في مجلس كان له وقال : ههنا الكعبان قال فقالوا هكذا فقال : ليس هو هكذا ولكنه هكذا وأشار إلى مشط رجله ، فقالوا له : ان الناس يقولون هكذا فقال : لا ، هذا قول الخاصة وذاك قول العامة». انتهى.

وأنت خبير بان المعنى الثالث ـ من المعاني التي ذكرها شيخنا البهائي وهو الذي ادعى انه مراد العلامة ـ لم يذكر في كلام أحد من أهل اللغة وان ذكره جملة من علماء العامة ونسبوه إلى الشيعة كما نقله ، وذكره علماء التشريح أيضا. وما توهمه من عبارة

٢٩٧

القاموس ـ حيث قال ـ بعد تفسيره بالمفصل والعظم الناشز فوق القدم والناشزين من جانبي القدم ـ ما لفظه : «والذي يلعب به كالكعبة» ـ فغير صريح في المعنى الذي أراده ، لاحتمال حمله على كعب النرد كما ذكره في النهاية ، حيث قال : «الكعاب فصوص النرد واحدها كعب وكعبة ، واللعب بها حرام» انتهى ، بل هذا المعنى أظهر. هذا ما يتعلق بذلك من كلام أهل اللغة.

واما كلام علمائنا (رضوان الله عليهم) في هذا المقام فأكثر عباراتهم ـ تصريحا في بعض وتلويحا في آخر ـ انما ينصب على القول المشهور سيما عبارة الشيخ المفيد ، فإنها في ذلك على غاية من الظهور حيث قال : «الكعبان هما قبتا القدمين امام الساقين ما بين المفصل والمشط» وظاهر الشيخ في التهذيب ـ بعد نقل العبارة المذكورة ـ القول بذلك بل دعوى الإجماع على ان الكعب هو ذلك ، حيث قال : «ويدل عليه إجماع الأمة ، فإنهم بين قائل بوجوب المسح دون غيره ويقطع على ان المراد بالكعبين ما ذكرنا ، وقائل بوجوب الغسل عينا أو تخييرا بينه وبين المسح ويقول الكعبان هما العظمان الناتيان خلف الساق ، ولا قول ثالث ، فإذا ثبت بالدليل الذي قدمنا ذكره وجوب مسح الرجلين وانه لا يجوز غيره ثبت ما قلناه من ماهية الكعبين» انتهى. ولا يخفى عليك ما فيه من الصراحة في المعنى المشهور.

وجملة من عبارات الأصحاب ـ كابن أبي عقيل والسيد المرتضى وأبي الصلاح والشيخ في أكثر كتبه وابن إدريس والمحقق ـ قد اشتركت في وصف الكعبين بأوصاف متلازمة ، من وصفه بالنتو في ظهر القدم عند معقد الشراك في بعض ، وكونه في ظهر القدم في أخرى ، وكونه معقد الشراك في ثالثة. والنتو في وسط القدم في رابعة ، وكونهما في ظهر القدم عند معقد الشراك في خامسة ، وانهما معقدا الشراك في سادسة ، وكونهما قبتي القدم في سابعة.

٢٩٨

والعلامة (رحمه‌الله) قد ادعى انصباب هذه العبارات على ما ذهب اليه وادعى اشتباهها على غير المحصل ، وشيخنا البهائي (طاب ثراه) أوضح هذه الدعوى بان هذه العبارات لا تأبى الانطباق على ما ذهب إليه العلامة من المعنى الثالث من معاني الكعب المتقدمة ، لأن غاية ما يتوهم منه المنافاة وصفه بالنتو في وسط القدم ، والعلامة قد فسره في التذكرة والمنتهى بذلك لكنه يقول ليس هو العظم الواقع امام الساق بين المفصل والمشط بل هو العظم الواقع في ملتقى الساق والقدم ، وهو الذي ذكره المشرحون ، وهو ـ كما تقدم ـ نأت في وسط ظهر القدم اعني وسطه العرضي ولكن نتوه غير ظاهر لحس البصر لارتكاز أعلاه في حفرتي الساق ، وربما عبر عنه في بعض كتبه بحد المفصل وفي بعضها بمجمع الساق والقدم وفي بعضها بالناتي في وسط القدم وفي بعضها بالمفصل. انتهى

أقول : وأنت إذا أعطيت التأمل حقه من الإنصاف وجدت ان تنزيل عبائر الأصحاب على ما ذكره (رحمه‌الله) في غاية الاعتساف ، فان المتبادر من الوسط هو ما كان في الطول والعرض ومن الارتفاع والنتو هو ما كان محسوسا مشاهدا ، ولو كان المراد بالكعب هذا المعنى الذي لا يفهمه إلا علماء التشريح دون سائر العلماء فضلا عن المتعلمين لا وضحوه بعبارات جلية وبينوه بكلمات واضحة غير خفية ، ولما اقتصروا في وصفه على مجرد النتو والارتفاع الغير المحسوس الذي هو من قبيل تعريف المجهول بما هو أخفى نعم في عبارة ابن الجنيد ما يوهم ذلك ، حيث قال : «الكعب في ظهر القدم دون عظم الساق ، وهو المفصل الذي هو قدام العرقوب» ويحتمل رجوع ضمير «هو» الى عظم الساق ويكون المراد انه عند عظم الساق ، بقرينة سابق كلامه من قوله : «الكعب في ظهر القدم» هذا خلاصة ما يتعلق بكلام الأصحاب.

واما الأخبار الواردة في هذا المضمار (فمنها) ـ صحيحة الأخوين (١) حيث قال فيها : «فقلنا اين الكعبان؟ قال : ههنا يعني المفصل دون عظم الساق. فقلنا : هذا

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

٢٩٩

ما هو؟ قال : هذا عظم الساق والكعب أسفل من ذلك» وقوله : «والكعب أسفل من ذلك».

في رواية الكافي دون التهذيب. وهذا الحديث هو عمدة أدلة العلامة ومن تابعه ، وهو ظاهر فيما ادعوه ، إلا ان للمجيب ان يقول ـ بناء على ظهور غيره من الأخبار في المعنى المشهور وظهور عبارات الأصحاب في خلافه ـ كما عرفت ـ غاية الظهور ـ :

(أولا) ـ بأنه وان ظهر ذلك بالنسبة إلى رواية التهذيب إلا انه بالنظر إلى الزيادة التي في الكافي من قوله : «والكعب أسفل من ذلك» لا يخلو من اشكال ، فإنه اما أن يكون المشار إليه ـ في قوله : «هذا من عظم الساق» على ما في الكافي أو «هذا عظم الساق» على ما في التهذيب ـ المنجم أو منتهى عظم الساق ، فان كان الأول فهو عند المفصل كما قال في النهاية : «الكعبان : العظمان الناتيان عند مفصل الساق والقدم من الجنبين» وحينئذ فحكمه (عليه‌السلام) بان الكعب أسفل من ذلك ظاهر في انه المعنى المعروف عند القوم ، وان كان الثاني فالأمر أوضح ، فعلى هذا يجب حمل قوله : «ههنا يعنى المفصل» على انه قريب إلى المفصل لئلا يلزم التناقض.

فان قيل : انه يمكن حمل قوله : «أسفل من ذلك» على التحتية كما يدعيه شيخنا البهائي (قدس‌سره) فلا يلزم التناقض.

قلنا : ان لم يكن ما ذكرنا من حمل الاسفلية على الكعب المشهور أظهر لظهور ذلك لكل ناظر وتبادره لكل سامع ، فلا أقل من المساواة ، وبه ينتفي ظهور الرواية في المدعى فضلا عن أظهريتها.

و (ثانيا) ـ بأنها معارضة بما سيأتي من الأخبار فيجب ارتكاب التجوز فيها جمعا

ومن تلك الأخبار صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن الرضا (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفه على الأصابع

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الوضوء.

٣٠٠