الحدائق الناضرة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة ـ نجف
المطبعة: مطبعة النّجف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

الرأس؟ وكيف يصح إثباته بالاستدلال؟ والأمور النقلية إنما نثبت بالسماع لا بالاستدلال ومن كلامهم «جز ناصيته» «وأخذ بناصيته» ومعلوم انه لا يتقدر ، لأنهم قالوا : الطرة هي الناصية. واما الحديث «ومسح بناصيته» فهو دال على هيئة ، ولا يلزم نفي ما سواها. وان قلنا : الباء للتبعيض ارتفع النزاع» انتهى. ثم قال (رحمه‌الله) بعدها : «وهو نص على ما امليناه وشاهد صدق على ما ادعيناه» انتهى.

أقول : والذي يلوح للفكر القاصر ان مراد صاحب المصباح من سوق هذا الكلام ـ حيث انه شافعي المذهب ـ الرد على أبي حنيفة فيما ذهب اليه من وجوب المسح على ربع الرأس مدعيا أنه الناصية ، مستندا إلى رواية المغيرة بن شعبة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأنه مسح على ناصيته ، قال : «والناصية تقرب من ربع الرأس» (١). فقال صاحب الكتاب بعد تفسير الناصية بما فسيرها به غيره من أهل اللغة بقصاص الشعر : ان تخصيص أهل اللغة كلا من هذه المواضع من اجزاء الرأس باسم على حدة ـ ولم يعينوا اسما للمسافة التي من القصاص مما يلي الوجه إلى قمة الرأس ـ يعطي أن الناصية في كلامهم اسم لمقدم الرأس الذي هو عبارة عن هذه المسافة ، وحينئذ فاما ان تكون الناصية عبارة عن القصاص كما هو المشهور في كلامهم ، أو عن مجموع المقدم كما هو المستفاد من هذا التقسيم ، فالقول بكونها عبارة عن ربع الرأس لا مجال له. ثم اعترض عليه بأنه كيف يثبت بالاستدلال ، إشارة إلى الاستدلال بالرواية المذكورة ، وساق الكلام في الرد على أبي حنيفة وتأويل الحديث الذي استند اليه. هذا ما يفهم من العبارة المذكورة. وقوله ـ : «كالصريح في ان الناصية مقدم الرأس» بحمل المقدم على الناصية دون العكس ـ يرشد إلى ما ادعيناه ، وحينئذ فالعبارة في الدلالة على ما ندعيه أظهر.

__________________

(١) في الهداية لشيخ الإسلام الحنفي ج ١ ص ٤ «المفروض في مسح الرأس مقدار الناصية وهو ربع الرأس ، لما روى المغيرة بن شعبة : «ان النبي (ص) توضأ ومسح بناصيته وخفيه ، والكتاب مجمل فالتحق بيانا به». وفي التعليقة ٦ في الصحيفة ٢٥٣ ما يتعلق بالمقام.

٢٦١

إذا عرفت ذلك فاعلم ان جل الأخبار قد اشتمل على وجوب المسح على الرأس وجملة منها قد اشتمل على وجوب مسح مقدمه ، فيجب حمل مطلقها على مقيدها كما هو القاعدة المطردة.

بقي في المقام صحيحة زرارة المشتملة على مسح الناصية (١) ويمكن الجمع بينها وبين اخبار المقدم بوجوه :

(أحدها) ـ بما تقدم في كلام المحقق المولى الأردبيلي (رحمه‌الله) من حمل الناصية على المقدم ، مجازا لقرينة القرب والمجاورة ، أو حقيقة شرعية. ويؤيده ما صرح به الشيخ الطبرسي (رحمه‌الله) في كتاب مجمع البيان في تفسير قوله سبحانه : «... فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ)» (٢) حيث قال : «والناصية شعر مقدم الرأس».

و (ثانيها) ـ كون الأمر بالمسح بالناصية لكونها أحد أجزاء الموضع الممسوح ولا دلالة فيه على الاختصاص ونفى ما سوى هذا الموضع وانه لا يجزئ المسح عليه ، كما ورد في جملة من الأخبار المسح بإصبع ، فإنه لا دلالة فيه على تعيين هذا القدر لا في الماسح ولا في الممسوح ، ويؤيد ذلك ما ورد في الأخبار ـ كما سيأتي ان شاء الله تعالى ـ من ان المرأة لا تمسح بالرأس كما تمسح الرجال ، إنما المرأة إذا أصبحت مسحت رأسها وتضع الخمار عنها ، وإذا كان الظهر والعصر والمغرب والعشاء تمسح بناصيتها ، فان ظاهره ـ كما ترى ـ ان مسح رأسها في الصبح بعد وضع الخمار عنها في غير موضع الناصية أو زيادة عليها ، بخلاف باقي الصلوات مع بقاء الخمار عليها فإنها تدخل يدها تحته وتمسح على الناصية خاصة.

و (ثالثها) ـ حمل المسح ببلة اليمنى على الدخول في حيز الاجزاء ، بعطف قوله : «وتمسح» بإضمار «ان» على قوله : «ثلاث غرفات» كما سيأتي تحقيقه ،

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ٢٥٣.

(٢) سورة الرحمن. الآية ٤١.

٢٦٢

فيصير مسح الناصية داخلا تحت الأجزاء الذي هو أقل مراتب الواجب ، فيسقط الاستدلال بها رأسا.

وذيل الكلام في المقام واسع الأطراف إلا أنا اقتصرنا على ما فيه كفاية للمتأمل بعين الإنصاف.

وبما حققناه في المقام وكشفنا عنه نقاب الإبهام ، ظهر لك ان ما نقله شيخنا المشار إليه في رسالته عن الوالد الماجد (نور الله تعالى تربتهما) من الإجماع صحيح لا غبار عليه ، ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه وليته كان حيا فاهدى هذا التحقيق اليه ، ويتبين أيضا ان هذا القول ليس مخصوصا بشيخنا الشهيد الثاني في الروضة أو غيرها من كتبه ، وان الوالد قلده في ذلك فأغرب بدعوى الإجماع على ما هنالك ، كما بسط به ذلك الفاضل لسان التشنيع وسجل به من القول الفظيع.

(الثاني) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في قدر واجب المسح من الرأس :

فالمشهور ـ كما نقله جمع : منهم ـ السيد السند في المدارك ـ الاكتفاء بالمسمى ، ولو بجزء من إصبع ممرا له على الممسوح ، ولا يجزئ مجرد الوضع ، لعدم صدق المسح بذلك.

ونقل الشهيد في الذكرى عن القطب الراوندي في أحكام القرآن انه لا يجزئ أقل من إصبع.

وظاهر المفيد في المقنعة ذلك ، قال : «ويجزئ الإنسان في مسح رأسه أن يمسح من مقدمه مقدار إصبع يضعها عليه عرضا من الشعر إلى قصاصه ، وان مسح منه مقدار ثلاث أصابع مضمومة بالعرض كان قد أسبغ» انتهى. فان المتبادر من لفظ الاجزاء ان يراد به أقل الواجب.

٢٦٣

وهو الظاهر أيضا من كلام الشيخ في التهذيب حيث قال بعد نقل العبارة المذكورة : «يدل على ذلك قوله تعالى : «... وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ...» (١) ومن مسح رأسه ورجليه بإصبع واحدة فقد دخل تحت الاسم ويسمى ماسحا ، ولا يلزم على ذلك ما دون الإصبع ، لأنا لو خلينا والظاهر لقلنا بجواز ذلك لكن السنة منعت منه» انتهى.

ويظهر من العلامة في المختلف اختيار ذلك أيضا ، بل نسبه فيه إلى المشهور ولم ينقل القول بالمسمى فيه أصلا ، حيث قال : «المشهور بين علمائنا الاكتفاء في مسح الرأس والرجلين بإصبع واحدة» ثم نقله عن الشيخ في أكثر كتبه وابن أبي عقيل وابن الجنيد وسلار وأبي الصلاح وابن البراج وابن إدريس ، ثم نقل جملة من عبائر الأصحاب المشتملة على المسح بثلاث أصابع.

وبذلك أيضا صرح الشهيد في الدروس حيث قال : «ثم مسح مقدم الرأس بمسماه ولا يحصل بأقل من إصبع» وقال بعد ذلك : «والزائد عن إصبع من الثلاث مستحب»

وهو ظاهره في البيان ، حيث قال : «والواجب مسماه ولو بإصبع» ثم نقل الثلاث عن النهاية وحمله على الاستحباب.

بل هو ظاهره في الذكرى حيث قال : «الثانية ـ الواجب في المقدم مسمى المسح ، لإطلاق الأمر بالمسح الكلي ، فلا يتقيد بجزئي بعينه. ثم قال : الثالثة ـ لا يجزئ أقل من إصبع ، قاله الراوندي في أحكام القرآن» ثم نقل عن المختلف ان المشهور الاكتفاء به ، ثم نقل العبارات المتعلقة بالثلاث.

فان ظاهر هذا الكلام بمعونة صريح الدروس وظاهر البيان هو القول بالمسمى وحمله على الإصبع ، ولا ينافي ذلك نقله له عن الراوندي.

وهو ظاهره أيضا في الرسالة ، حيث قال : «الرابع ـ مسح مقدم الرأس

__________________

(١) سورة المائدة. الآية ٦.

٢٦٤

حقيقة أو حكما ببقية البلل ولو بإصبع» نظرا إلى جعله الإصبع المرتبة الدنيا للاجزاء مبالغة.

وشيخنا الشهيد الثاني في شرحها تمحل في صرفها عن ظاهرها ، فقال بعد ذكر العبارة : «يعني الاكتفاء بكون الإصبع آلة للمسح بحيث يحصل بها مسماه لا كونه بقدر الإصبع عرضا» انتهى. بل تمحل ذلك في شرح الإرشاد بإجراء هذا التأويل في جملة العبارات المشتملة على التحديد بالإصبع.

وأنت خبير بعدم انطباق هذا التأويل على عبارة الدروس ، فإنها صريحة في ان المراد وجوب مقدار الإصبع. وأصرح منها كلام الشيخ في التهذيب. وتكلفه فيما عداهما على غاية من البعد.

وقال الصدوق في الفقيه : «وحد مسح الرأس أن تمسح بثلاث أصابع مضمومة من مقدم الرأس».

وبه صرح الشيخ في النهاية لكن خصه بحال الاختيار ، فقال : «لا يجوز أقل من ثلاث أصابع مضمومة مع الاختيار ، فان خاف البرد من كشف الرأس أجزأه مقدار إصبع واحدة».

ونسب ذلك أيضا إلى المرتضى في مسائل الخلاف ، وإلى هذا القول يميل كلام المحدث الأمين الأسترآبادي ، وهو ظاهر المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر في كتاب الوسائل ، حيث قال : «باب أقل ما يجزئ من المسح» (١) ثم أورد روايات الإصبع وروايات الثلاث أصابع.

ويدل على الأول ظاهر الآية (٢) لإطلاق الأمر فيها بالمسح فلا يتقيد بجزئي بعينه ، والباء فيها للتبعيض بدلالة النص الصحيح (٣).

__________________

(١) وهو الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) سورة المائدة. الآية ٦.

(٣) وهو صحيح زرارة المروي في الوسائل في الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الوضوء.

٢٦٥

وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة الأخوين (١) : «... وإذا مسحت بشي‌ء من رأسك أو بشي‌ء من قدميك ...».

وفي صحيحة أخرى لهما أيضا (٢) «... فإذا مسح بشي‌ء من رأسه أو بشي‌ء من رجليه ...».

ويدل على الثاني صحيحة حماد عن بعض أصحابه عن أحدهما (عليهما‌السلام) (٣) «في الرجل يتوضأ وعليه العمامة؟ قال : يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه. فيمسح على مقدم رأسه».

ورواية الحسين بن عبد الله (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يمسح رأسه من خلفه ـ وعليه عمامة ـ بإصبعه ، أيجزيه ذلك؟ فقال : نعم».

ويدل على القول الثالث صحيحة زرارة (٥) قال : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) المرأة يجزيها من مسح الرأس ان تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع ولا تلقى عنها خمارها».

فان لفظ الاجزاء إنما يستعمل في أقل الواجب.

وما رواه الكشي في رجاله عن محمد بن نصير عن محمد بن عيسى عن يونس (٦) قال : «قلت لحريز يوما : يا أبا عبد الله كم يجزيك ان تمسح من شعر رأسك في وضوئك للصلاة؟ قال : بقدر ثلاث أصابع ، وأومأ بالسبابة والوسطى والثالثة ، وكان يونس يذكر عنه فقها كثيرا». وظاهره ان حريز كان يرى المسح بقدر ثلاث.

ورواية معمر بن عمر عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٧) قال : «يجزئ من المسح

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الوضوء.

(٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الوضوء.

(٥ و ٧) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الوضوء.

(٦) في الصحيفة ٢٤٤ وفي مستدرك الوسائل في الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الوضوء.

٢٦٦

على الرأس موضع ثلاث أصابع ، وكذلك الرجل».

ونقل في الذكرى عن ابن الجنيد تخصيص اعتبار الثلاث بالمرأة دون الرجل ، وتخصيص الرجل بالإصبع الواحدة ، حيث قال : «يجزئ الرجل في المقدم إصبع والمرأة ثلاث أصابع» ولعله استند إلى صحيحة زرارة المتقدمة ، ولعل من استند إليها مطلقا بنى على عدم وجود القائل بالفرق ولم يعتبر بخلاف ابن الجنيد ، مؤيدا ذلك برواية معمر بن عمر.

ثم انه لا يخفى عليك ان أقصى ما يستفاد من أدلة القول الأول وجوب مسح بعض من الرأس بمقتضى الآية وشي‌ء منه بمقتضى الأخبار ، ومن الظاهر المتفق عليه انه ليس المراد بعضا ما من الأبعاض ولا شيئا ما من الأشياء ، بل بعضا معينا من أبعاض الرأس وشيئا معينا من اجزائه. فلا بد من الرجوع إلى دليل معين لذلك البعض المراد ، وليس إلا هذه الأخبار الدالة على الإصبع أو الثلاث ، فكما انه بالنسبة إلى تعيين محل المسح من إطلاق الآية والأخبار المطلقة ، أوجبوا الرجوع إلى أخبار المقدم فخصوا إطلاقها به ، ولم يجوزوا المسح على غير المقدم من اجزاء الرأس ، فكذلك يجب ان يكون بالنسبة إلى مقدار المسح ، فيجب الرجوع إلى ما دل عليه من الأخبار ، وتخصيص الآية وجملة الأخبار الموافقة لها في الإطلاق به.

وبالجملة فالروايات في هذه المسألة ما بين مطلق ومقيد أو مجمل ومفصل ، والمقيد يحكم على المطلق والمفصل على المجمل ، فالعمل بالمفصل والمقيد متعين ما لم يظهر خلافه.

ورجح السيد السند في المدارك حمل الأخبار المقيدة على الاستحباب كما هو المشهور ، بعد ان احتمل ما ذكرناه من تقييد مطلق أخبار المسألة بمقيدها.

وأنت خبير بما فيه بعد ما ذكرناه ، فإنها عند التحقيق غير دالة على ما ذكروه من المسمى كما عرفت.

٢٦٧

نعم يبقى الكلام في التوفيق بين روايات الإصبع والثلاث ، ويمكن ذلك بأحد وجوه :

(منها) ـ حمل روايات الإصبع ـ حيث انها قد اتفقت على المسح بها تحت العمامة ـ على الضرورة ، لما في رواية حماد عن الحسين (١) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : رجل توضأ وهو معتم فثقل عليه نزع العمامة لمكان البرد؟ فقال ليدخل إصبعه». وهذا هو ظاهر الشيخ في النهاية كما سلف في عبارته.

و (منها) ـ حمل الإصبع على أقل الواجب والثلاث على الاستحباب ، كما هو ظاهر المقنعة ، وصريح الدروس ، وظاهر غيره أيضا كما مر.

و (منها) ـ حمل روايات الثلاث على مسح هذا المقدار في عرض الرأس والإصبع الواحدة على كونه في الطول ، فان ظاهر روايات الثلاث اعتبار مسح هذا المقدار لا وجوب كونه بثلاث أصابع ، وان كان ظاهر عبارة الصدوق تعين كونه بثلاث أصابع ، الا انه خلاف ظاهر الأخبار ، فيجب تأويله ورده إليها.

وأكثر الأصحاب حملوا روايات الإصبع والثلاث على هذا الوجه ، لكن القائلين منهم بالاكتفاء بالمسمى ولو بجزء من إصبع يجعلون ذلك على جهة الاستحباب ، قال شيخنا المحقق الثاني في شرح القواعد : «اعلم ان المراد بمقدار ثلاث أصابع في عرض الرأس ، اما في طوله فمقداره ما يسمى ماسحا ، ويتأدى الفضل بمسح المقدار المذكور ولو بإصبع» انتهى.

واما ما احتمله بعض متأخري المتأخرين من جواز ان يكون الأمر بإدخال الإصبع في تلك الأخبار لأن يكون آلة للمسح ـ بناء على ما قدمناه من كلام شيخنا الشهيد الثاني ـ فبعيد جدا.

وما ذكره بعض مشايخنا المحققين ـ من ان استناد الشيخ في وجوب مسح

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الوضوء.

٢٦٨

مقدار الثلاث إلى صحيحة زرارة ورواية معمر المتقدمتين (١) ضعيف ، إذ لا يلزم من اجزاء قدر عدم اجزاء ما دونه إلا بالمفهوم الضعيف ، ولو سلم دلالته عرفا فلا يعارض ظاهر الكتاب ومنطوق الخبر الصحيح ـ

ففيه ان الاستدلال بهما ليس باعتبار دلالة مفهوم اللقب الضعيف ، وانما هو باعتبار الدلالة العرفية المسلمة بينهم في غير موضع كما ذكره هو وغيره ، واما ما ذكره من معارضة الكتاب والنص الصحيح فليس بشي‌ء بعد ما عرفت ، لعدم المعارضة بين المطلق والمقيد والمجمل والمبين ، إذ يجب بمقتضى القاعدة المسلمة فيما بينهم في غير موضع حمل الأول منهما على الثاني.

ثم اعلم ان الروايات بمسح قدر الثلاث والمسح بإصبع ليس في شي‌ء منها تقييد بكونه في جهة العرض أو الطول. لكن جملة من الأصحاب ـ كما عرفت ـ قيدوا روايات الثلاث بكون ذلك المقدار في جهة العرض كما تقدم في كلام ثاني المحققين ، ومثله أيضا كلام ثاني الشهيدين في شرح الشرائع ، حيث قال ـ بعد قول المصنف : «والمندوب مقدار ثلاث أصابع عرضا» ـ ما لفظه : «عرضا حال من الأصابع أو بنزع الخافض ، والمراد مرور الماسح على الرأس بهذا المقدار وان كان بإصبع لا كون آلة المسح ثلاث أصابع» انتهى.

والمفهوم من عبارة الشيخ المفيد المتقدمة ان أقل الواجب مقدار إصبع يضعها عليه عرضا. فان كان مستنده (رحمه‌الله) حمل روايات الإصبع على مقدارها عرضا وإلا فهو خال من المستند مع كون حمل تلك الروايات على ذلك في غاية البعد من حاق لفظها فإنها ظاهرة الصراحة في كون المسح بالإصبع ، فهو في التحقيق خال عن المستند. اللهم الا ان تحمل اخبار قدر الثلاث على كونه طولا ، وهي تقرب من الواحدة عرضا ، وإلى هذا الحمل مال المحقق المحدث الأسترآبادي (قدس‌سره) حيث قال ـ بعد نقل كلام ثاني

__________________

(١) في الصحيفة ٢٦٦.

٢٦٩

المحققين وثاني الشهيدين المتقدم الدال على حمل روايات قدر الثلاث على كونه في جهة العرض ـ ما هذا لفظه : «الظاهر من الروايات ان يكون الممسوح من عرض الرأس بقدر طول إصبع ومن طوله بقدر ثلاث أصابع مضمومة. ومن الروايات المشار إليها صحيحة زرارة (١) المشتملة على قوله (عليه‌السلام): «وتمسح ببلة يمناك ناصيتك». لان المتبادر منها مسح كلها ، وصحيحته الأخرى (٢) قال : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) : المرأة يجزيها من مسح الرأس ان تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع ولا تلقى عنها خمارها». ورواية معمر عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٣) قال : «يجزئ من المسح على الرأس موضع ثلاث أصابع ، وكذلك الرجل». والناصية في غالب الناس عرضها قدر طول إصبع وطولها قدر ثلاث أصابع مضمومة» انتهى.

وقال صاحب رياض المسائل وحياض الدلائل بعد كلام في المقام : «والحاصل انا لم نظفر بما تضمن المسح بالثلاث ، بل المسح بالإصبع ، أو مسح موضع الثلاث ومقدارها ، من غير تقييد المسح بكونه في طول الرأس أو عرضه ، ولا لموضع الثلاث بكونه مأخوذا من أحدهما أو كليهما حالة وضع الثلاث على الرأس ، منطبقا كل من خطيها الطولي والعرضي على مثله من خطئه أو على مقابله ، فالإعراض عنه ـ من باب «اسكتوا عما سكت الله عنه» (٤). اولى» انتهى.

وفيه ان الظاهر من الأخبار ـ بعد ضم بعضها إلى بعض ـ هو ما ذكره المحدث الأمين (قدس‌سره).

(الثالث) ـ المفهوم من كلام القائلين بالمسمى أو الإصبع ان غاية ما يستحب الزيادة عليه بلوغ قدر ثلاث أصابع مضمومة ، واما ما زاد على ذلك المقدار ، فهل يكون

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ و ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الوضوء.

(٤) تقدم الكلام فيه في الصحيفة ١٥٦ من الجزء الأول.

٢٧٠

محرما أو جائزا ، أو يفرق فيه بين استيعاب الرأس وعدمه؟ أقوال :

قال شيخنا الشهيد الثاني في شرح الرسالة : «وغاية المؤكد ثلاث أصابع ، ويجوز الزيادة عليها ما لم يستوعب جميع الرأس ، فيكره على الأصح ، الا ان يعتقد شرعيته فيأثم خاصة. وقيل يبطل المسح. وقد أغرب الشارح المحقق (رحمة الله) حيث جعل الزائد على الثلاث أصابع غير مشروع» انتهى.

وممن صرح بكراهة الاستيعاب الشهيد في الذكرى والدروس ، معللا له في الذكرى بأنه تكلف ما لا يحتاج اليه. وفيه ضعف.

ونقل عن ابن حمزة تحريمه. لانه مخالف للمشروع. وظاهره عدم الفرق بين اعتقاد المشروعية وعدمه.

وفي الخلاف ادعى الإجماع على بدعيته فيجب نفيه.

وابن الجنيد حرمه مع اعتقاد المشروعية ، وأبطل به الوضوء. ورده جملة من المحققين باشتمال مسح الرأس على الواجب فلا يؤثر الاعتقاد في الزائد. نعم يأثم بذلك.

وأبو الصلاح أبطل الوضوء لو تدين بالزيادة في الغسل أو المسح. ورد بما رد به سابقه.

أقول : والذي يقرب عندي انه متى مسح أو غسل ما زاد على القدر الموظف شرعا ، فان كان مع عدم اعتقاد المشروعية فالظاهر انه لا تحريم ولا كراهة ، لعدم الدليل على ذلك ، وان كان مع اعتقاد المشروعية فالظاهر بطلان الوضوء لوجوه :

(أما أولا) ـ فلان العبادات تابعة للقصود والنيات صحة وإبطالا ، بل وجودا وعدما كما تقدم تحقيقه ، ومجرد حصول المأمور به شرعا ـ مع عدم كونه مقصودا بخصوصه كما أمر به الشارع ـ لا يعتد به ، لأنه في الحقيقة واقع بغير نية ، وإلا لصحت صلاة من أتم عالما عامدا في السفر بناء على استحباب التسليم ، فإنها قد اشتملت على الواجب واقعا ، مع ان الإجماع نصا وفتوى على خلافه. واولى منه صحة صلاة التمام

٢٧١

في مواضع التخيير ثم أحدث عمدا أو قطع الصلاة بأحد القواطع في أثناء الركعتين الأخيرتين ، بناء على استحباب التسليم ، وعدم قصد العدول إلى المقصورة ، فإنه لا يجب عليه الإعادة ، لاشتمال صلاته هذه على الصلاة المقصورة التي هي أحد الفردين في هذا المقام

و (اما ثانيا) ـ فلانه تشريع وإدخال في العبادة ما ليس منها فيكون مبطلا.

و (اما ثالثا) ـ فلان جملة من المحققين صرحوا في مسألة الفرق بين الغسل والمسح بأن النسبة بينهما العموم من وجه وجوزوا المسح بما اشتمل على الجريان بشرط قصد المسح به ، وهو دال ـ كما هو الواقع ـ على ان القصد مما له مدخل في الصحة والابطال ، وإلا فلو اجرى المكلف الماء بيده على رجله كلها ورأسه كملا مع اعتقاده الغسل به ، لزم صحة وضوئه ، لاشتماله على المسح شرعا بناء على ذلك القول وان كان غير مقصود له ، وعدم الضرر باعتقاده كون ذلك غسلا ، وزيادته على ما هو الواجب واقعا. والآية والنصوص ترده.

و (اما رابعا) ـ فلأنهم صرحوا ـ الا الشاذ منهم ـ بتحريم الغسلة الثالثة في الوضوء. واما الإبطال بها فهو مذهب أبي الصلاح وظاهر الكليني والصدوق ، وهو أحد الأقوال في المسألة ، وهو أظهرها دليلا :

لقول الصادق (عليه‌السلام) في حديث داود الرقي المروي في كتاب رجال الكشي (١) «... ومن توضأ ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له».

وقوله (عليه‌السلام) في الحديث المذكور (٢) لداود بن زربي : «توضأ مثنى مثنى ولا تزدن عليه ، فإنك ان زدت عليه ، فلا صلاة لك».

وما رواه في الفقيه (٣) مرسلا في باب صفة وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «قال (عليه‌السلام) : من تعدى في وضوئه كان كناقضه». وسيأتي تحقيق ذلك في محله.

__________________

(١ و ٢) في الصحيفة ٢٠٠ وفي الوسائل في الباب ـ ٣٢ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) ج ١ ص ٢٥. وفي الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

٢٧٢

(الرابع) ـ المفهوم من ظاهر كلام الصدوق في الفقيه ، والشيخين في المقنعة والمبسوط والنهاية ، انه يجب على المرأة وضع القناع في الصبح والمغرب لأجل المسح.

وصرح في المقنعة بأنها تمسح هنا بثلاث أصابع من رأسها حتى تكون مسبغة ، وانه يرخص لها في باقي الصلوات المسح تحت الخمار ، بان تكتفي بإدخال إصبع تحت خمارها ، قال في المقنعة : «وتدخل إصبعها تحت قناعها فتمسح على شعرها ولو كان ذلك مقدار أنملة».

وصرح المحقق والعلامة وجملة من المحققين باستحباب وضع الخمار مطلقا ، وتأكده في صلاة الغداة والمغرب.

وبعضهم اقتصر على الغداة خاصة ، لعدم وقوفه على نص يتضمن اضافة المغرب إليها في ذلك.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة رواية الحسين بن زيد بن علي ابن الحسين (عليهما‌السلام) عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «لا تمسح المرأة بالرأس كما يمسح الرجال ، إنما المرأة إذا أصبحت مسحت رأسها وتضع الخمار عنها ، فإذا كان الظهر والعصر والمغرب والعشاء تمسح بناصيتها».

وما رواه الصدوق في الخصال (٢) بسنده فيه عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «المرأة لا تمسح كما يمسح الرجال ، بل عليها ان تلقي الخمار عن موضع مسح رأسها في صلاة الغداة والمغرب وتمسح عليه ، وفي سائر الصلوات تدخل إصبعها فتمسح على رأسها من غير ان تلقي عنها خمارها».

وطعن بعض متأخري المتأخرين بعد ذكر الرواية الأولى فيها بضعف السند والدلالة.

وفيه ان ضعف سندها باصطلاح متأخري أصحابنا لا يقوم حجة على من لم يقل

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) ج ٢ ص ١٤٢ وفي مستدرك الوسائل في الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الوضوء.

٢٧٣

بذلك الاصطلاح سيما المتقدمين. والاولى من الروايتين دالة على وجوب وضع الخمار بالجملة الخبرية الظاهرة في الوجوب كالأمر ، وان كان جملة من متأخري متأخرينا يمنعونه في الأمر فضلا عنها. والرواية الثانية دالة على ذلك بقوله : «عليها ان تلقي» الدال بظاهره على وجوب الإلقاء وتحتمه.

والرواية الثانية قد تضمنت اضافة المغرب إلى الصبح في وضع الخمار ، فما اعترض به جملة من متأخري المتأخرين على المشايخ المتقدمين في إضافة المغرب في عبائرهم ناشى‌ء عن قصور التتبع. وكم وقع لهم مثله في غير موضع.

ثم ان ظاهر هذه الرخصة للمرأة في المسح تحت القناع ـ بإدخال الإصبع ومسح ما نالته من رأسها ولو بقدر الأنملة ، كما في كلام الشيخ المفيد ، وانها ليست كالرجال في ذلك ـ اختصاص هذا الحكم بها في ذلك الوقت المخصوص ، وعدم اجزائه لها في غيره وعدم اجزائه للرجال أيضا ، وهو مما يبطل القول بالمسمى كما هو المشهور ، ويؤيد ما ذهب اليه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مضاجعهم) من وجوب المقدار الذي تقدم تحقيقه في هذا البحث. لكن قد تقدم في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (١) انه قال : «المرأة يجزيها من مسح الرأس ان تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع ولا تلقى عنها خمارها». وهو مناف لما دلت عليه هاتان الروايتان ، من تخصيص المسح بقدر ثلاث أصابع ببعض الصلوات والأوقات ، ومن وجوب إلقاء الخمار أو استحبابه في موضع المسح لان ظاهر قوله : «ولا تلقى عنها خمارها» اما نهى على بعض اللغات ، أو خبر في معنى النهي. ويمكن الجواب عن الأول بأن إطلاقها مخصوص بذينك الخبرين. وعن الثاني بأن قوله : «ولا تلقى» بالنصب عطف على «تمسح» وحاصل المعنى حينئذ انه يجزيها المسح بمقدار ثلاث أصابع ، وعدم إلقاء الخمار في ذلك الوقت الذي يجب أو يستحب فيه الإلقاء ، وهو رخصة لها ، إذ الظاهر ان حكمة إلقاء الخمار في موضع الأمر به في تلك

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٤ ـ من أبواب الوضوء.

٢٧٤

الأخبار إنما هو لأجل الاستظهار في المسح بذلك المقدار ، فهي مكلفة في ذلك الوقت بشيئين : المسح بقدر الثلاث ، والإلقاء ، وهذه الرواية دلت على اجزاء أحدهما ، وهو الأهم والمقصود بالذات الذي هو المسح بالثلاث دون الإلقاء. ويمكن أن يستنبط منه بمعونة ما ذكرنا ان ما يستحب أو يجب مسحه من موضع المسح ثلاث أصابع ليس في عرض الرأس بعرض الأصابع ، لعدم توقف ذلك على إلقاء الخمار.

(الخامس) ـ لا ريب انه إذا اقتصر المكلف على الفرد الأنقص من المسح فقد تأدى الواجب به ، ولو اتى بالفرد الأكمل فقد صرحوا بان ما زاد منه على القدر المجزئ مستحب عينا اتفاقا ، لكن هل يوصف مع ذلك بالوجوب أم لا؟ قولان :

اختار أولهما المحقق الشيخ علي في شرح القواعد ، قال : «ولا يضر ترك الزائد ، لأن الواجب هو الكلي ، وأفراده مختلفة بالشدة والضعف ، فأي فرد اتى به تحقق الامتثال به ، لان الواجب يتحقق به» انتهى.

واختار ثانيهما العلامة ، نظرا إلى انه يجوز تركه لا إلى بدل ولا شي‌ء من الواجب كذلك ، فلا شي‌ء من الزائد واجب. وبان الكلي قد وجد فخرج به المكلف عن العهدة ولم يبق شي‌ء مطلوب منه حتى يوصف بالوجوب.

وفيه ان جواز تركه هنا انما هو إلى بدل ، وهو الفرد الناقص الذي اتى به في ضمن هذا المسح ، وحينئذ فيكون من قبيل افراد الواجبات الكلية كأفراد الواجب المخير ، بمعنى ان مقولية الواجب هنا على هذا الفرد الزائد والناقص كمقولية الكلي على أفراده المختلفة قوة وضعفا ، وحصول البراءة بالفرد الناقص لا من حيث هو جزء الزائد ، بل من حيث انه أحد أفراد الكلي وان كان ناقصا.

هذا كله مع وقوع المسح دفعة واحدة ، اما إذا وقع تدريجا فقد صرح الشهيدان في الذكرى والروض بأن الزائد مستحب قطعا ، قال في الروض بعد نقل كلام

٢٧٥

الذكرى المتضمن للتفصيل بين الدفعة والتدريج : «وهذا التفصيل حسن ، لانه مع التدريج يتأدى الواجب بمسح جزء فيحتاج إيجاب الباقي إلى دليل ، والأصل يقتضي عدم الوجوب ، بخلاف ما لو مسحه دفعة ، إذ لم يتحقق فعل الفرد الواجب إلا بالجميع» انتهى والسيد السند في المدارك جعل مطرح الخلاف في المسألة هو المسح تدريجا.

ولا يخفى ـ على المتأمل بعين التحقيق والناظر بالفكر الصائب الدقيق ـ ان كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذه المسألة ونظائرها على غاية من الإجمال.

وتحقيق المقام ـ بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر (عليهم‌السلام) ـ ان يقال : لا ريب ان منشأ التخيير في هذا المقام هو إطلاق الأمر بالمسح الصادق بجزء من إصبع ـ مثلا ـ الى بلوغ قدر ثلاث أصابع مضمومة التي هي أعلى المراتب ، فالواجب الكلي هو المسح المطلق وأفراده هي كل مسحة قصدها المكلف وأوقعها ، قليلة كانت أو كثيرة ، فكل فرد منها اتى به تأدى به الواجب ، وكل فرد ناقص منها فهو مفضول بالنسبة إلى ما هو أزيد منه ، وكل واحد من الافراد المشتملة على الزيادة يوصف في حد ذاته بالوجوب لكونه أحد أفراد الواجب الكلي ، وبالاستحباب لكونه أكمل مما دونه ، وهذا معنى قولهم في الفرد الأكمل من افراد الواجب التخييري : انه مستحب ذاتي واجب تخييري ، وحينئذ فمتى مسح المكلف القدر الأكمل دفعة أو تدريجا ، بمعنى انه قطع على جزء في أثناء مسحه ثم تجاوزه ، فان كان قصده ونيته الامتثال بذلك القدر الأكمل ، فمن الظاهر ان الزائد على القدر المجزئ ـ وهو المسمى ، أو القدر الذي قطع عليه أولا ـ واجب. إذ الواجب هو مجموع ما قصده ، وما اتى به من القدر المجزئ ضمن هذا المسح أو قطع عليه لا يخرج به عن العهدة ، لعدم قصد الامتثال به خاصة بل به وما زاد ، إلا ان يعدل إلى قصده ، ولو أجزأ من غير قصد يتعلق به للزم إجزاء عبادة من غير نية ، وقد عرفت غير مرة ان الأفعال عبادة وغيرها لا تميز لها وجودا وعدما ـ ولا اثر يترتب عليها صحة وبطلانا وثوابا وعقابا ـ إلا بالقصود والنيات ،

٢٧٦

فكما ان الركعتين في صورة التخيير غير مجزئة ما دام القصد متعلقا بالإتمام فيجب ضم الأخيرتين ، كذلك هنا لا يجزئ ذلك القدر الأقل ما لم يقصد الامتثال به. وان كان قصده الامتثال بالقدر الذي قطع عليه في صورة التدريج أو أقل ما يحصل به المسمى ، فالظاهر ان الزائد عليه لا يتصف بوجوب ولا باستحباب ، اما عدم الوجوب فلان الواجب الكلي قد حصل في ضمن هذا الفرد الذي تعلق به القصد ، واما عدم الاستحباب فلعدم الدليل عليه ، ولأن الاستحباب الملحوظ في هذا المقام انما هو باعتبار أفضلية أحد أفراد الواجب التخييري على غيره من سائر الافراد ، وهو غير حاصل هنا. وأيضا فهو ملازم لوصف الوجوب كما عرفت ، فبانتفاء الوجوب عنه ينتفي الاستحباب ، ولا دليل على الاستحباب بغير هذا المعنى ، بل الظاهر دخوله حينئذ في التكرار المنهي عنه في المسح نعم لو أريد بالزائد في كلامهم يعنى فردا أكمل من هذا الفرد الذي تعلق به قصد المكلف لا بمعنى الباقي الذي هو ظاهر مطرح الكلام ، فإنه يتصف بالوجوب والاستحباب في حد ذاته كما قدمنا بيانه ، فان اختيار المكلف فردا ناقصا من افراد الواجب التخييري لا ينفي وصف الوجوب والاستحباب عن الفرد الأكمل منها في حد ذاته. واما ان الباقي من المسافة الممسوحة بعد قصد الامتثال بجزء منها خاصة يتصف مسحه بالاستحباب ويترتب ثواب المستحب عليه كما هو أحد القولين ، أو الوجوب كما هو القول الآخر كما هو ظاهر كلامهم ، فلا اعرف له وجها. فإنه كما ان المكلف لو قصد الصلاة المقصورة في موضع التخيير ثم صلى والحال كذلك أربعا. فإن الركعتين الأخيرتين ان لم تكن مبطلة للصلاة لا أقل ان تكون باطلة ، ولا يصح وصفها بالاستحباب فضلا عن الوجوب وقاصد التسبيح بأربع تسبيحات في الركعتين الأخيرتين ثم تجاوزها إلى بعض الصور الزائدة من غير عدول إليها. فإنه لا يتصف بالاستحباب من حيث التوظيف في هذا المقام وان احتمل الاستحباب من حيث كونه ذكرا. فكذلك فيما نحن فيه ، على انه يلزم هنا خلو ذلك الزائد من النية والقصد ، فكيف يتصف بوجوب أو استحباب مع كونه خاليا

٢٧٧

من النية والقصد بالكلية؟ فإن المكلف إنما قصد أداء الواجب بذلك الجزء الذي ذكرناه وبالجملة فالاستحباب الذاتي

اللازم للوجوب التخييري في هذا المقام انما يتعلق بمجموع الصورة الكاملة لا بهذا الجزء الزائد ، وكلام الأصحاب في جميع صور هذه المسألة في غاية الإجمال كما ذكرنا ، وذلك فإنهم في جميع صور هذه المسألة يجعلون محل الخلاف ما زاد على الفرد الناقص بعد تأدى الواجب بذلك الفرد الناقص ، وانه هل يصف بالوجوب أو الاستحباب؟ وهو ظاهر في كون المراد به ما بين الفرد الذي قصده وتأدى به الواجب إلى نهاية ما اقتصر عليه من الفرد الكامل ، ثم انهم في مقام الاستدلال على وجوبه ودفع القول بالاستحباب يقولون انه أحد أفراد الواجب الكلي وانها قابلة للشدة والضعف ، فهذا الزائد مستحب لكونه أكمل الافراد ، وهو واجب لكونه أحد أفراد الواجب الكلى. وجواز تركه انما جاز إلى بدل وهو الفرد الأنقص وأنت خبير بان هذه التعليلات انما تنطبق على نفس الفرد الأكمل لا على ذلك البعض الذي عرفته. وأيضا فإنهم ـ على تقدير القول بالوجوب في ذلك الزائد الذي جعلوه مطرح النزاع ـ أوردوا إشكالا في انه يلزم اتصاف شي‌ء واحد بالوجوب والاستحباب ، ثم أجابوا عنه بأن إطلاق الاستحباب على الفرد الزائد محمول على استحبابه عينا ، بمعنى انه أفضل الفردين الواجبين ، وذلك لا ينافي وجوبه تخييرا من جهة تأدي الواجب به وحصول الامتثال ، كذا قرره في الروض في مسألة التسبيح في الأخيرتين. وهذا الجواب ـ كما ترى ـ لا ينطبق الأعلى نفس الفرد الأكمل ، كما هو صريح العبارة حيث أطلق عليه الفرد الزائد ، لا على نفس الزيادة خاصة كما هو مورد الاشكال. وربما كان مبنى كلام القوم على اعتبار الأمر الكلي من حيث هو من غير ملاحظة شي‌ء من الخصوصيتين فيكون من قبيل الماهية لا بشرط شي‌ء ، فإنه يتجه حينئذ صدق أداء الواجب بالمسمى ويصح وصف الزائد ـ من حيث كونه جزء من هذا المجموع ـ بكل من وصفي الوجوب والاستحباب ، لاتصاف المجموع بهما حسبما قررنا آنفا ، لكن يبقى الإشكال في صورة

٢٧٨

القطع ، لصدق أداء الواجب بما قطع عليه وانتفاء المجموعية الموجبة للوصف بالوجوب والاستحباب للزائد. والاستحباب بغير المعنى المذكور آنفا لا مجال له في هذا المقام. والله العالم.

(السادس) ـ الظاهر ـ كما هو المشهور ـ جواز النكس هنا ، لإطلاق الآية وخصوص صحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا».

خلافا للمرتضى والشيخ في النهاية والخلاف وظاهر ابن بابويه ، محتجا عليه في الخلاف ـ ومثله في الانتصار ـ بان مسح الرأس من غير استقبال رافع للحدث إجماعا بخلاف مسح الرأس مستقبلا ، فيجب فعل المتيقن. ونقل أيضا عن الشيخ في كتابي الأخبار ذلك ، نظرا إلى تخصيص الصحيحة المشار إليها بفحوى قول أبي الحسن (عليه‌السلام) في رواية يونس (٢) : «الأمر في مسح الرجلين موسع ...». ولا يخفى ما في هذه الأدلة من الوهن.

والعجب من السيد (رحمه‌الله) في تجويزه النكس في الوجه واليدين لإطلاق الآية ، ومنعه هنا ، مع جريان دليله فيه ، واعتضاده بالرواية.

وذكر جماعة من الأصحاب كراهية النكس هنا ، وعلله في المعتبر بالتفصي من الخلاف.

ورد بأن المقتضي للكراهة ينبغي أن يكون دليل المخالف لا نفس الخلاف وهو كذلك.

(السابع) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) في وجوب المسح بنداوة الوضوء ما وجد بللها في اليد ، والمشهور انه مع جفاف اليد يأخذ من شعر لحيته أو حاجبيه ، ومع جفاف الجميع ، فان كان لضرورة إفراط الحر

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الوضوء.

٢٧٩

أو قلة الماء جاز الاستئناف وإلا أعاد الوضوء.

وظاهر الشيخ في الخلاف ـ حيث نسب وجوب المسح بنداوة الوضوء إلى الأكثر ـ وجود المخالف في المسألة ، ولعله ابن الجنيد على ما نقله عنه العلامة في المختلف ، فإنه قال : «إذا كان بيد المتطهر نداوة يستبقيها من غسل يديه ، مسح بيمينه رأسه ورجله اليمنى وبنداوة اليسرى رجله اليسرى ، وان لم يستبق ذلك أخذ ماء جديدا لرأسه ورجليه» وهو بإطلاقه شامل لما لو كان عدم الاستبقاء لعدم إمكانه أو لتفريط من المكلف ، ولما لو فقد النداوة من الوجه وعدمه (١) وبذلك يظهر لك ما في كلام بعض الأصحاب ، حيث خص خلافه بجفاف جميع الأعضاء وقال : ان لفظ اليد في كلامه انما هو على سبيل التمثيل ، فيكون موافقا للمشهور ويرتفع الخلاف. فإنه على غاية من البعد عن سوق العبارة المذكورة.

ومما يدل على المشهور روايات الوضوء البياني ، فإنها قد اشتملت جميعا على المسح بالبلة. وما ذكره جملة من متأخري المتأخرين ـ من المناقشة فيها مما تقدم ذكره في وجوب الابتداء بأعلى الوجه والابتداء بالمرفقين ـ فقد مر ما فيه مما يكشف عن ضعف باطنه وخافية ، سيما حسنة الأخوين (٢) المتضمنة انه «مسح رأسه وقدميه ببل كفه لم يحدث لهما ماء جديدا». وصحيحة زرارة (٣) «... ثم مسح بما بقي في يديه رأسه ورجليه ولم يعدهما في الإناء».

ويدل عليه أيضا الأخبار المستفيضة بأنه من ذكر انه لم يمسح حتى انصرف

__________________

(١) الذي يظهر من كلام جملة من أصحابنا ان خلاف ابن الجنيد في هذه المسألة شامل لما لو كان في يد المتوضئ بلة من ماء الوضوء ، فإنه يجوز الاستئناف أيضا ، وعبارة ابن الجنيد المنقولة ـ كما ترى ـ بخلافه ، فإنه جوز الاستئناف مع فقد البلة وان كان بتفريط (منه قدس‌سره).

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

٢٨٠