الحدائق الناضرة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة ـ نجف
المطبعة: مطبعة النّجف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (١) فقال : قد سأل رجل أبا الحسن عن ذلك فقال : ستكفيك ـ أو كفتك ـ سورة المائدة ، إلى ان قال : قلت : فإنه قال اغسلوا أيديكم إلى المرافق ، فكيف الغسل؟ قال : هكذا ان يأخذ الماء بيده اليمنى فيصبه في اليسرى ثم يفضه على المرفق ثم يمسح إلى الكف. قلت له : مرة واحدة؟ فقال : كان يفعل ذلك مرتين. قلت له : يرد الشعر؟ قال : إذا كان عنده آخر فعل وإلا فلا». وحسنة زرارة وبكير (٢) وروايتهما أيضا (٣).

ورواية الهيثم بن عروة التميمي عن الصادق (عليه‌السلام) (٤) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن قول الله عزوجل (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (٥) فقلت : هكذا ، ومسحت من ظهر كفي إلى المرفق؟ فقال : ليس هكذا تنزيلها. انما هي فاغسلوا وجوهكم وأيديكم من المرافق ، ثم أمر يده من مرفقه إلى أصابعه».

وأنت خبير بان ظاهر هذه الرواية كون التحديد للغسل دون المغسول ، لأن السائل لما توهم كون «الى» في الآية لانتهاء الغسل فمسح من ظفر كفه إلى المرفق ، لم يرد عليه الامام (عليه‌السلام) إلا بأنه ليس هكذا تنزيلها ، وظاهره تقريره على ما ذهب اليه من معنى الآية ، بأنه لو كان تنزيلها كما ذكرت لكان كذلك لكن تنزيلها إنما هو من المرافق بمن الابتدائية المقتضية لابتداء الغسل من المرفق ، ثم أمر يده (عليه‌السلام) تعليما له وتأكيدا لما قرره بقوله. هذا هو ظاهر الرواية المشار إليها وان حصل المخالفة فيها من جهة أخرى.

وكيف كان فهو ظاهر في الوجوب البتة. وكذلك سؤال صفوان في رواية العياشي عن كيفية الغسل ، وبيانه (عليه‌السلام) على ذلك الوجه ، وقوله في آخر

__________________

(١ و ٥) سورة المائدة. الآية ٦.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الوضوء.

٢٤١

الرواية : «قلت : يرد. إلخ» فإن الظاهر ان رد الشعر عبارة عن الغسل منكوسا ، وقوله : «إذا كان عنده آخر» الظاهر ان المراد ممن يتقيه ، فظاهر الخبر انه لا يغسل منكوسا إلا في مقام التقية. وكذلك حكاية غسله (عليه‌السلام) في حسنة زرارة وبكير (١) وروايتهما الأخرى (٢) ـ من كونه ابتدأ في غسله من المرفق لا يردها اليه ـ صريح في الوجوب.

وما يتناقل في أمثال هذه المقامات ـ من انه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال ـ فكلام شعري جدلي لا يعتمد عليه عند التحقيق ، فان مدار الاستدلال في جميع الموارد مع عدم النص على الظواهر. نعم ربما يخرج عنه إلى التأويل لضرورة الجمع بين الأدلة متى تعارضت على وجه لا يمكن تطبيقها إلا بارتكاب جادة التأويل.

واما إطلاق الآية هنا فهو مخصوص بهذه الأخبار ، كما هو القضية الجارية في جميع إطلاقات الكتاب وعموماته ومجملاته ، على انه لو ورد ما يخالف هذه الأخبار لوجب حمله على التقية ، لأن عمل المخالفين على الابتداء من الأصابع (٣).

(الثاني) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) في وجوب غسل المرفق هنا ، انما الخلاف في كونه أصالة أو من باب المقدمة ، وتظهر الفائدة في وجوب غسل جزء من العضد لو قطعت اليد من المرفق ، كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى.

وأنت خبير بان الظاهر انه لا دلالة في الآية هنا على شي‌ء من الدخول وعدمه ، لوقوع الخلاف في الغاية دخولا وخروجا وتفصيلا.

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) في تفسير مفاتيح الغيب للرازى ج ٣ ص ٣٧٠ جعل من السنة الابتداء من الأصابع ونسبه إلى جمهور الفقهاء ، وكذا في (الفقه على المذاهب الأربعة) ج ١ ص ٦٧ وفي بدائع الصنائع ج ١ ص ٢٢.

٢٤٢

والتحقيق ـ كما حققه بعض الفضلاء ـ ان كلا من الغاية الابتدائية والانتهائية قد تكون داخلة تارة ، كما في قوله سبحانه : «... من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ...» (١) وقولك : «حفظت القرآن من أوله إلى آخره» وقد تكون خارجة ، كقوله سبحانه : «... ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ...» (٢) وقوله : «... فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ...» (٣).

وما ذكره الشيخ (رحمه‌الله) ـ من ان «الى» في الآية بمعنى مع ، مدعيا في الخلاف ثبوت ذلك عن الأئمة (عليهم‌السلام) ـ

ففيه ان المفهوم من حسنة زرارة وبكير (٤) المشار إليها آنفا ، حيث قال (عليه‌السلام) فيها : «وأمر بغسل اليدين إلى المرفقين ، فليس له ان يدع شيئا من يديه إلى المرفقين إلا غسله ، لان الله تعالى يقول (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (٥). الحديث». فان قوله (عليه‌السلام) : «فليس له ان يدع» صريح في ان «إلى» في الآية غاية للمغسول ، فان التحديد له ، لأن «الى» في كلامه (عليه‌السلام) غاية لليد بلا اشكال وإيراده الآية مستدلا بها على ذلك يقتضي كون «الى» فيها مثلها في كلامه.

ويؤيده أيضا ان اليد لما كانت تطلق بإطلاقات متعددة ـ فإنها لغة وعرفا من الكتف إلى أطراف الأصابع ، وفي التيمم إلى الزند ، وفي قطع السرقة إلى أصول الأصابع ، وفي الوضوء إلى المرفق ـ كان الأهم في المقام والاولى لدفع الإيهام الحمل على التحديد وبيان الغاية.

وممن نص على عدم دلالة الآية على الدخول الشيخ الطبرسي (قدس‌سره) في جامع الجوامع ، حيث قال : «لا دليل في الآية على دخول المرافق في الوضوء ، إلا أن أكثر الفقهاء ذهبوا إلى وجوب غسلها ، وهو مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) انتهى

__________________

(١) سورة بني إسرائيل. الآية ٢.

(٢) سورة البقرة. الآية ١٨٧.

(٣) سورة البقرة. الآية ٢٨٠.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٥) سورة المائدة. الآية ٦.

٢٤٣

وبما حققناه يظهر ان من استدل من أصحابنا ـ على وجوب غسل المرفق بظاهر الأخبار التي قدمناها في الوضوء البياني واستند إلى ان ذلك أصالة ـ يرد عليه ما أورده على وجوب الابتداء بالأعلى في غسل الوجه ، فلا يتم له ذلك.

(الثالث) ـ مقطوع اليد اما ان يكون من تحت المرفق أو من فوقه أو منه.

فعلى الأول الظاهر انه لا خلاف في وجوب غسل الباقي ، ولعله الحجة وإلا فالأخبار المستدل بها في المقام لا تخلو من إجمال وإبهام.

فمما استدل به على ذلك صحيحة رفاعة برواية الشيخ عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الأقطع اليد والرجل كيف يتوضأ؟ قال : يغسل ذلك المكان الذي قطع منه».

وحسنته برواية الكليني (٢) قال «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الأقطع قال : يغسل ما قطع منه».

واحتمل بعض المحققين من متأخري المتأخرين أنهما واحد وان التغيير نشأ من النقل بالمعنى.

وصريح الاولى ـ كما ترى ـ غسل محل القطع خاصة ، مع عدم تعيين ذلك المحل فيها بأنه من المرفق أو من تحته أو فوقه ، والموصول في الثانية يحتمل وقوعه على المكان فتصير كالأولى ، وحينئذ ف «قطع» خال عن الضمير ونائب الفاعل هو الجار والمجرور ويحتمل وقوعه على العضو ، فيكون المعنى يغسل العضو الذي وقع القطع منه. وكيف كان فمحل القطع أيضا غير معلوم. ولعل الاستدلال بهما بناء على ان الأمر بالغسل ملزوم لكون القطع من تحت المرفق ، لعدم وجوب غسل ما فوقه. لكن يبقى فيه احتمال كونه من المرفق ، فإنه ـ كما سيأتي ـ يجب غسل الباقي.

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب الوضوء.

٢٤٤

ومما استدل به أيضا ان غسل الجميع واجب فقطع بعضه لا يسقط وجوب غسل الباقي.

وفيه ان هذا راجع إلى استصحاب الحكم السابق على القطع ، وهو ممنوع فيما نحن فيه ، فإنه انما يكون حجة عند القائل به فيما إذا لم تتجدد هناك حالة أخرى مغايرة لحالة تعلق الحكم ، كما صرحوا به في محله. ولا يخفى ان الأوامر الواردة بغسل اليد انما تعلقت بالمجموع من حيث هو مجموع لا باعتبار كل جزء جزء منها ، فبزوال الأمر المجموعي بالقطع يحتاج في غسل الجزء الباقي إلى دليل على حدة.

وعلى الثاني فالظاهر هو سقوط غسل الباقي وجوبا واستحبابا ، خلافا لجمع من الأصحاب : منهم ـ العلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى ، حيث صرحوا باستحباب غسله. وما استندوا إليه في الاستحباب ـ من صحيحة علي بن جعفر الآتية ـ فليس في محله كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى. نعم ربما يمكن الاستدلال لهم بصحيحة رفاعة وحسنته السابقتين (١) لشمول إطلاقهما لهذه الصورة.

ونقل عن الشيخ في المبسوط والعلامة في التذكرة استحباب مسح الباقي. ولم أقف لهما على مستند ان أريد بالمسح معناه حقيقة ، وان أريد به الغسل مجازا فيمكن الاستدلال عليه بما عرفت من روايتي رفاعة.

وعلى الثالث فالظاهر وجوب غسل الباقي من المرفق ، لصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن رجل قطعت يده من المرفق. قال يغسل ما بقي من عضده». بجعل الموصول للعهد أي الباقي من موضع الفرض ، و «من عضده» اما ظرف مستقر على انه حال مؤكدة ، أو لغو متعلق ب «يغسل» ومن ابتدائية أو تبعيضية.

وبما ذكرنا يظهر كون وجوب غسل المرفق أصالة لا من باب المقدمة. ويظهر

__________________

(١) ص ٢٤٤.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤٩ ـ من أبواب الوضوء.

٢٤٥

انه لا حاجة إلى ما تكلفه شيخنا الشهيد الثاني في الروض ـ بعد حمله الرواية على القطع من نفس المرفق وحكمه بوجوب غسل الباقي ـ من التجوز بإطلاق العضد على رأس العضد وانه لا ضرورة أيضا إلى الحمل على الندب واستحباب غسل العضد كملا ، بحمل الرواية على القطع من أعلى المرفق ، كما هو صريح الذكرى ، حتى انه لذلك ذهب إلى ان في الرواية إشارة إلى استحباب غسل العضد مع اليد ، ثم قال : «وبه استدلوا على مسح المقطوع باقي العضد» كما ذهب اليه جمع : منهم ـ السيد السند في المدارك والعلامة في المنتهى ، بحمل الموصول في كلا الفرضين على الاستغراق و «من» على البيانية ، فإنه لا ضرورة تلجئ اليه ، مع كون ما ذكرناه معنى صحيحا لا غبار عليه.

هذا. وعبارات الأصحاب في هذا المقام مختلفة النظام بعيدة الالتئام ، فعن الشيخ في المبسوط انه يغسل ما بقي ، والمحقق في المعتبر «سقط عنه غسلهما ويستحب مسح موضع القطع بالماء» وفي الشرائع ذكر سقوط فرض الغسل ولم يذكر استحباب المسح ، وابن الجنيد «غسل ما بقي من عضده» والعلامة في المنتهى «سقط غسلها لفوات محل الغسل» وفي التذكرة «فقد بقي من محل الفرض بقية وهو طرف عظم العضد ، لانه من جملة المرفق ، فان المرفق مجمع عظم العضد وعظم الذراع» وهذه العبارات المنقولة كلها جمل جزائية لشرط القطع من المرفق. والعلامة في المنتهى بعد ان ذكر ما نقلناه عنه نقل عن أصح وجهي الشافعي الوجوب ، لان غسل العظمين المتلاقيين من العضد والمرفق واجب ، فإذا زال أحدهما غسل الآخر. ثم رده بأنا إنما نوجب غسل طرف العضد توصلا إلى غسل المرفق ، ومع سقوط الأصل انتفى الوجوب. وهذا الكلام يشعر بان وجوب غسل المرفق عنده انما هو من باب المقدمة ، وهو خلاف ما عرفت من كلامه في التذكرة ، فإنه صريح في كون غسل المرفق عنده أصالة. ثم اعترض على نفسه في المنتهى بصحيحة علي بن جعفر المذكورة (١) وردها بأنها مخالفة للإجماع ، فان

__________________

(١) في الصحيفة ٢٤٥.

٢٤٦

أحدا لم يوجب غسل العضد ، فتحمل على الاستحباب. وتبعه على ذلك السيد السند. ومنشأ الوهم حمل الموصول على الاستغراق و «من» على انها بيانية كما تقدم. ولا يخفى ان عبارة ابن الجنيد مطابقة لعبارة الرواية ، فتحمل على ما حملنا عليه الرواية ، فلا يكون من مخالفة الإجماع المشار إليه في المنتهى في شي‌ء.

(الرابع) ـ الظاهر انه لا خلاف في وجوب غسل ما تحت المرفق مما زاد على أصل الخلقة من يد ولحم زائد وجلد متدل وإصبع زائدة ، نظرا إلى كونها اجزاء من اليد المأمور بغسلها كما علله البعض ، أو كالأجزاء كما في كلام آخر ، أو داخلة في محل الفرض فتكون تابعة له كما في كلام ثالث.

وكذا ما فوقه من يد غير متميزة عن الأصلية ، لدخولها في مفهوم اليد وصدق اليد عليهما بالسوية ، فتخصيص إحداهما بالغسل ترجيح من غير مرجح ، فوجب غسل الكل أصالة في إحداهما ومن باب المقدمة في الأخرى تحصيلا للامتثال.

وللمناقشة في الأول منهما مجال ، لمنع كون ما زاد على أصل الخلقة اجزاء حقيقية تنصرف إليها الأحكام الشرعية ، واولى بالمنع تعليلها بكونها كالأجزاء ، إذ ترتب الأحكام الشرعية لا يكفي فيه مجرد المشابهة لما ثبت تعلق الحكم به ، وأشد أولوية بالمنع التعليل الثالث. وبالجملة فظاهر الآية كون الإضافة في قوله سبحانه : «وَأَيْدِيَكُمْ» عهدية فيتعلق الحكم باليد المعهودة وما اشتملت عليه من الاجزاء المعهودة.

وحينئذ فالمعتمد في الاستدلال هو الوقوف على جادة الاحتياط وتحصيل اليقين في مقام الشك ، مؤيدا ذلك بالاتفاق المنقول.

اما اليد المتميزة فوق المرفق فقيل بوجوب غسلها ، لصدق اليد عليها ، وقيل بالعدم للأصل وعدم دليل مخرج عنه ، ويؤيده ما أشرنا إليه سابقا من ان الظاهر ان اضافة «وَأَيْدِيَكُمْ» عهدية ، فيتعلق الحكم بالمعهودة. ولو حملت الإضافة على العموم اندفع ما أوردناه سابقا ووجب غسل اليد المذكورة.

٢٤٧

قال بعض المحققين : «ولو لم يكن لليد الزائدة مرفق لم يجب غسلها قطعا» وهو جيد. إلا ان ظاهر عبارته بان ذلك محل وفاق وان محل الخلاف ما لو كان لها مرفق ، والظاهر من فرض الأصحاب اليد الزائدة فيما فوق المرفق المشعر باتحاد المرفق ان تميزها مع عدم وجود المرفق لها ، إذ لو كان لها مرفق لكانت دونه ووجب غسلها البتة ، إما لدخولها في حكم اليد فيما دون المرفق ، أو عدم امتيازها حينئذ عن الأصلية.

وبالجملة فالتحقيق في ذلك ان يقال : ان هذه اليد المفروضة اما ان تكون ذات مرفق أم لا ، وعلى الأول فاما ان تكون كالاصلية على وجه لا امتياز لها عنها أم لا.

والظاهر انه لا ريب في وجوب الغسل في الصورة الأولى ، لكونها يدا ذات مرفق مشتبهة باليد الأصلية. وفي الصورة الثانية توقف ، لان مجرد كون لها مرفق ـ مع تميزها عن الأصلية ، لضعف البطش بها مثلا ، أو نقص أصابعها ، ونحو ذلك ـ لا يوجب غسلها ، سيما مع اعتبار العهدية في الإضافة. وفي الصورة الثالثة الظاهر عدم وجوب الغسل ، حيث ان الشارع أمر بغسل اليد إلى المرفق ، وهذه لا مرفق لها. الا انه بموجب ذلك يلزم انه لو لم يكن له إلا يد واحدة لا مرفق لها فلا يجب غسلها حينئذ ، الا ان يتمسك بالإجماع هنا على وجوب الغسل.

(الخامس) ـ الظاهر انه لا خلاف في انه يجب تحريك ما يمنع وصول الماء إلى المغسول من دملج وسوار وخاتم ونحوها ، أو نزعه.

ويدل عليه صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) حيث «سأله عن المرأة يكون عليها السوار والدملج في بعض ذراعها ، لا تدري يجري الماء تحته أم لا ، كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال : تحركه حتى يدخل الماء تحته أو تنزعه ...».

وحسنة ابن أبي العلاء عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن الخاتم

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤١ ـ من أبواب الوضوء.

٢٤٨

إذا اغتسلت. قال : حوله من مكانه ، وقال في الوضوء تديره ...».

وصرح جملة من الأصحاب بأنه يجب تخليل الشعر النابت في اليد وان كثف لغسل ما تحته ، نظرا إلى أن المأمور به غسل اليد التي هي عبارة عن العضو المخصوص ، بخلاف النابت في الوجه ، لدخوله في مسماه ، فان الوجه اسم لما يواجه به ، والمواجهة تحصل بالشعر ، فيكفي غسله عما تحته.

وربما يناقش في الحكم المذكور بقوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة (١) : «كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد ان يطلبوه ولا يبحثوا عنه ، ولكن يجري عليه الماء». فإنه بعمومه شامل لما نحن فيه.

وربما يجاب بحمل الف ولام «الشعر» على العهد إشارة إلى شعر الوجه ، لتقدمه في صدر الرواية ، كما رواه في الفقيه (٢).

وفيه ان الظاهر انها رواية مستقلة مصدرة بقوله : «أرأيت ما أحاط به الشعر. إلخ» كما ذكره الشيخ في التهذيب (٣) وذكر صاحب الفقيه لها ـ على أثر صحيحة زرارة الواردة في تحديد الوجه ، كما هي عادته في سبك الأخبار ، بل جعل كلامه تارة بينها حتى يظن انه من جملة الخبر ـ لا يدل على انها من جملتها ، ولهذا انه في الوافي (٤) نقلها عن الفقيه منفصلة. وتخصيصها بالإجماع والأخبار على وجوب غسل البشرة في الغسل يوجب الاقتصار على ما خرج بالدليل ، وكيف كان فالعمل على ما عليه ظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم).

ثم ان ظاهر المشهور وجوب غسل الشعر هنا ، لدخوله في محل الفرض كما علله البعض ، أو انه من توابع اليد كما علله آخر. وقد عرفت ما فيه ، ومن ثم استظهر بعض

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) ج ١ ص ٢٨.

(٣) ج ١ في الوسائل في الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الوضوء ١٠٤.

(٤) ج ٤ ص ٤٥.

٢٤٩

محققي متأخري المتأخرين العدم هنا للأصل ان لم يكن إجماع. الا ان الحكم هنا ربما كان أقرب ، لعدم انفكاك اليد غالبا عن الشعر ، فيدخل في خطاب الحكم المتعلق بها ، بخلاف ذلك لندوره ، فلا ينصرف إليه الإطلاق. نعم لو قيل بعدم وجوب إيصال الماء إلى ما تحته انتقل حكم الوجوب اليه.

(السادس) ـ الظاهر انه لا خلاف في وجوب غسل الأظفار ما لم تخرج عن حد اليد. واما معه فقيل بالوجوب أيضا ، لجزئيتها من اليد عرفا ، وبالعدم كمسترسل اللحية ، للأصل وعدم دليل صالح للخروج عنه.

وكيف كان فالمشهور وجوب نزع ما تحتها من الوسخ متى كان مانعا من وصول الماء ، لكونه في حد الظاهر. واحتمل في المنتهى عدم الوجوب ، لكونه ساترا عادة وأيده المحدث الثقة الأمين الأسترآبادي (نور الله رمسه) بالروايات المتضمنة استحباب إطالة المرأة أظفار يديها ، قال : «فان فيها دلالة على عدم إخلال وسخها بالوضوء والغسل وجه الدلالة ان الإطالة مظنة اجتماع الوسخ وكان ما تحتها من البواطن. وأيضا اجتماع الوسخ عادي ومع ذلك لم يرد بإزالته قول أو فعل ، وهذا قرينة على عدم وجوب إزالته. والله أعلم» انتهى. وما ذكره (قدس‌سره) لا يخلو من قرب إلا ان الاحتياط في الإزالة.

وأيده بعض أيضا بصدق غسل اليد بدونه ، وعدم ثبوت أمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أعراب البادية وأمثالهم بذلك ، مع ان الظاهر عدم انفكاكهم عن ذلك.

وقيده بعض آخر بالوسخ المانع من وصول الماء إلى البشرة الظاهرة ، قال : «اما المانع من بشرة مستورة تحت الظفر بحيث لا تظهر للحس لو لا الوسخ ، فالظاهر عدم الوجوب».

هذا. والمفهوم من عبائر الأصحاب (رحمهم‌الله) في المقام ـ حيث صرحوا بوجوب إزالة الوسخ المذكور متى كان مانعا من وصول الماء ، فلو لم يمنع استحب إزالته

٢٥٠

ـ ان مجرد وصول الماء إلى ما تحت الوسخ كاف في صحة الغسل ، وهو مناف لما فسروا به الغسل من اشتراط الجريان في تحققه ، لان ما تحت الوسخ من جملة ما يجب غسله الذي لا يتحقق إلا بإجراء الماء عليه.

نعم يظهر من شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في بعض تحقيقاته الاكتفاء بذلك في تطهير ما تحت الوسخ من النجاسة الخبيثة ، بل ظاهره نقل الاتفاق على ذلك ، حيث أسنده إلى ظاهر النصوص والفتاوى ، قال (قدس‌سره) ـ بعد تقرير المسألة بأن دخول الماء في الوسخ الكائن تحت الظفر هل يكفي في طهارته إذا كان نجسا؟ من حيث انه لم يدخل فيه بقوة وجريان بل على وجه الترشح والسريان ـ ما لفظه : «الظاهر من النصوص والفتاوى طهارة ما أصابه الماء من ذلك وأمثاله وان لم يصل إليه بقوة ، بل يكفي مطلق وصوله اليه ونفوذ الماء في الاجزاء النجسة ، وعموم الأوامر بالغسل وإطلاقها يشمله ، والإجماع واقع على طهارة الثوب والجلد والحشايا التي تدخل النجاسة إلى أجزائها الداخلة بوصول الماء إليها ، مع عصر ما يمكن عصره كالثوب ، ودق الحشايا وتغميزها لإخراج الغسالة الداخلة في أعماقها. ولا شبهة في ان دخول الماء إلى هذه الأشياء انما هو على وجه الترشح والنفوذ اللطيف» ثم أطال في الاستدلال على ذلك بذكر النظائر لما ذكره ، ثم اعترض على الأصحاب فيما أطلقوه مما قدمنا نقله عن ظاهر كلامهم ، وقال بعد نقل شطر من عبائرهم في ذلك : «وظاهر هذه العبارات ـ كما ترى ـ الاكتفاء بمطلق وصول الماء إلى البشرة ، لكن لما عهد من الشارع في غسل الوضوء والغسل اعتبار الجريان ، فليكن هناك كذلك ، إلى ان قال : ولو فرض انهم يكتفون بمطلق وصول الماء فالأظهر عندنا انه لا يكفي ذلك ، لعدم الدليل على سقوط ما وجب فيه. ثم قال : وعلى هذا يحصل الفرق بين طهارة ما تحت الوسخ من الخبث ومن الحدث ، إذ المعتبر في طهارة الخبث مجرد وصول الماء إلى ما ذكر مع انفصال ما يمكن انفصاله عنه ، وفي الحدث الجريان على نفس البشرة» انتهى كلامه زيد إكرامه.

٢٥١

وما ذكره (قدس‌سره) ـ من الاكتفاء في طهارة الوسخ المذكور بمجرد وصول الماء إلى اجزاء الوسخ ولو على جهة الترشح والسريان ـ لا يخلو من قوة ، لما ذكره من الأدلة. إلا ان ما ذكره أخيرا ـ من الفرق في طهارة ما تحته من الخبث والحدث بالاكتفاء بمجرد وصول الماء في الأول ، واعتبار الجريان في الثاني ـ ليس بموجه ، فان الغسل متى اعتبر بالنسبة إلى البدن ونحوه من الأجسام الصلبة ، كان عبارة عندهم عما يدخل الجريان في مسماه ولا يتحقق بدونه ، سواء كان لازالة خبث أو حدث ، ومتى اعتبر بالنسبة إلى الثوب والحشايا ونحوها من الأجسام المنطبعة ، كان عبارة عن استيعاب المحل النجس مع انفصاله عنه ، ولهذا قابلوه في الأول بالمسح الذي لا يشترط فيه الجريان عندهم ، وفي الثاني بالرش والصب الذي لا يشترط فيه الكثرة ولا الانفصال ، وحينئذ فالغسل متى اعتبر في البدن لارالة حدث أو خبث ، فلا بد في تحققه وصدق اسمه عليه من الجريان عندهم ، إذ الواجب الغسل ، وهو شرعا بالنسبة إلى البدن ونحوه عبارة عن جري جزء من الماء على جزئين من البشرة بنفسه أو بمعاون ، واعتبار الاكتفاء بمجرد الوصول إلى اجزاء المتنجس ـ ولو على جهة الترشح والنفوذ ـ انما قام بالنسبة إلى غير البدن من الأجسام المنطبعة ، كما عرفت مما حققه هو وغيره في محله ، وحينئذ فحق الكلام بالنسبة إلى تطهير الوسخ تحت الظفر ـ بمقتضى قواعدهم وتحقيقاتهم ـ هو طهارة الوسخ بمجرد نفوذ الماء فيه ، وتوقف تطهير ما تحته على الجريان المعتبر في حقيقة الغسل عندهم متى تعلق بالبدن ونحوه. وانما أطلنا الكلام في هذا المقام لقلة دوران المسألة في كلام علمائنا الأعلام.

الركن الرابع ـ مسح الرأس

وتحقيق الحكم فيه يتوقف على أمور :

(الأول) ـ اختصاص المسح بمقدم الرأس ـ بشرة أو شعرا مختصا به ـ مما

٢٥٢

انعقد عليه الإجماع فتوى ، وهو الأشهر رواية :

فمن الأخبار في ذلك قوله (عليه‌السلام) في صحيحة محمد بن مسلم (١) : «مسح الرأس على مقدمه».

وقوله في حسنته بل صحيحته أيضا (٢) : «امسح على مقدم رأسك ...».

وقوله في صحيح زرارة (٣) : «... وتمسح ببلة يمناك ناصيتك ...».

الى غير ذلك من الأخبار.

وظاهر الآية وأكثر الأخبار وان تضمن مسح الرأس بقول مطلق إلا ان الواجب تقييده بالمقدم ، لما ذكرنا من الإجماع والأخبار ، حملا للمطلق على المقيد. وما دل على خلاف ذلك من الأخبار ـ كحسنتي الحسين بن أبي العلاء (٤) ورواية أبي بصير (٥) حيث تضمنت مسح المقدم والمؤخر ـ فخارج مخرج التقية (٦). وما ذكره بعض من الاحتياط بمسح المؤخر ضعيف.

__________________

(١ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) المروي في الوسائل في الباب ـ ١٥ و ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٣ ـ من أبواب الوضوء.

(٦) في شرح صحيح الترمذي لابن العربي المالكي ج ١ ص ٥١ «ان المشهور من أقوال مالك وجوب مسح جميع الرأس : يبدأ بيديه بالمقدم إلى القفا» وفي بداية المجتهد لابن رشد ج ١ ص ١٠ «ذهب مالك إلى ان الواجب مسح الرأس كله ، والشافعي وأبو حنيفة وبعض أصحاب مالك إلى ان الفرض مسح بعضه ، وحده أبو حنيفة بالربع وبعض أصحاب مالك بالثلث وبعضهم بالثلثين ، والشافعي لم يحد الماسح ولا الممسوح» وفي المغني لابن قدامة ج ١ ص ١٢٥ «روى عن احمد وجوب مسح جميعه في كل أحد ، وروى عنه اجزاء مسح بعضه ، الا ان الظاهر عنه وجوب الاستيعاب في حق الرجل ويجزئ المرأة مسح مقدم رأسها ، لأن عائشة كانت تمسحه» وفي الهداية لشيخ الإسلام الحنفي ج ١ ص ٤ «المفروض في مسح الرأس مقدار الناصية وهو ربع الرأس».

٢٥٣

ثم انه قد ذكر جملة من الأصحاب انه يشترط في شعر المقدم الذي يمسح عليه ان لا يخرج بمده عن حد المقدم ، فلو خرج عن الحد المذكور لم يجز المسح على الزائد ، لخروجه عن محل الفرض ، بل يمسح على أصوله وما زاد ما لم يخرج عن الحد المذكور.

بقي هنا شي‌ء أغفل الأصحاب (رضوان الله عليهم) تحقيقه ولم يلجوا مضيقة ، وهو ان المقدم الوارد في هذه الأخبار هل هو عبارة عما هو المتبادر من ظاهر اللفظ ، وهو ما كان من قبة الرأس إلى القصاص مما يلي الجبهة ، الذي هو كذلك إلى القصاص من خلف ، فبأي جزء من هذه المسافة مسح تأدى به الواجب ، أو هو عبارة عن الناصية وهي ما بين النزعتين كما فسرها به جماعة من الأصحاب : منهم ـ العلامة في التذكرة وغيره في غيره ، وحينئذ فيكون المقدم عبارة عما ارتفع من القصاص إلى ان يساوي أعلى النزعتين؟

لم أقف بعد التتبع على من كشف عن ذلك نقاب الإبهام بكلام صريح في المقام إلا ان عباراتهم عند التأمل في مضامينها ترجع إلى الأول.

وقد وقفت على رسالة لشيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني (نور الله تعالى ضريحه بأنوار جوده السبحاني) نقل فيها المعنى الأول عن بعض معاصريه من الفضلاء العظام. والظاهر انه الوالد (قدس الله نفسه ونور رمسه) ونقل عنه دعوى إجماع الطائفة عليه وعدم الخلاف ، ثم نسبه في دعوى ذلك إلى الوهم ، وقال : انه لم يصرح بهذه الدعوى الغريبة غير شيخنا الشهيد الثاني في الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ، وهو ظاهر كلامه في غيرها ، وربما يستفاد من إطلاق فحاوي كلام غيرهما أيضا ، لكن أكثر عبارات الأصحاب والأخبار وأهل اللغة ظاهرة بل صريحة في ان المقدم هو قصاص الشعر والناصية ، والمستفاد منها ان ذلك هو محل الفرض ، ويكفي مسماه ، وأفضله مقدار ثلاث أصابع مضمومة من قصاص الشعر إلى ما بلغت لا أزيد ، وانه لو مسح ما فوق ذلك

٢٥٤

بدون مسح الناصية لم يكفه وكان الوضوء باطلا ، لعدم الدليل الثابت على جواز التعبد به.

ثم أورد (قدس‌سره) مقامات ثلاثة تتضمن الاستدلال على ما ذهب اليه : ذكر في أولها الأخبار الواردة في المسألة ، وفي ثانيها كلام أهل اللغة في ذلك. وفي ثالثها عبارات الأصحاب الدالة على ما ذكره.

وحيث ان المسألة غير مكشوف عنها نقاب الإبهام في كلام علمائنا الاعلام مع كونها من المهام العظام ، فلا بد من إرخاء عنان القلم في تنقيحها وتمييز باطلها من صحيحها وبيان ما هو المستفاد من كلام الأصحاب في المقام واخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام) :

فنقول : الظاهر ان ما ذكره شيخنا المشار اليه ـ وادعى انه المفهوم من كلام أكثر علمائنا الأبرار ، وأخبار الأئمة الأطهار ، وكلام أهل اللغة الذي عليه المدار ـ ليس بذلك المقدار ، ومنشأ الشبهة عنده هي حسنة زرارة (١) الدالة على المسح على الناصية خاصة وها نحن نتكلم على المقامات الثلاثة بما يقشع غمام الإبهام ونشير إلى ما أورده (قدس‌سره) على الخصوص في كل مقام ، ليتبين للناظر ما هو الأوفق باخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام) والاربط بكلام علمائنا الأعلام :

فنقول : اما الأخبار الواردة في هذه المسألة فقد تضمن شطر منها ـ وهو أكثرها ـ المسح على الرأس ، وجلها في الوضوء البياني ، وشطر منها تضمن المسح على مقدم الرأس وشطر تضمن المسح على الناصية ، وهو صحيحة زرارة المتقدمة خاصة (٢).

والكلام في المعنى المراد من الأخبار انما يتضح بعد الوقوف على كلام الأصحاب وما ذكره أهل اللغة في هذا الباب :

فاما كلام الأصحاب فمنه ـ ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في شرح الألفية بعد قول المصنف : «الرابع ـ مسح مقدم شعر الرأس» حيث قال في ضبطه : «المقدم بضم الميم وتشديد الدال المفتوحة نقيض المؤخر بالتشديد» انتهى. وصراحة العبارة

__________________

(١) الآتية في الصحيفة ٢٥٦.

(٢) ص ٢٥٣.

٢٥٥

في المراد أظهر من ان يعتريها الإيراد.

وقال في الروض بعد قول المصنف : «ويجب مسح مقدم بشرة الرأس» ما لفظه : «دون وسطه أو خلفه أو أحد جانبيه».

وقريب منها عبارة الفاضل الخراساني في الذخيرة ، حيث قال بعد عبارة المصنف : «دون سائر جوانبه».

وقال المحقق الخوانساري في شرح الدروس بعد تقسيم ذكره سابقا : «وثانيها ـ اختصاصه بالمقدم ، فلو مسح المؤخر أو الوسط أو أحد جانبيه لم يجز».

وأنت خبير بان مقابلة الاختصاص بالمقدم في هذه العبائر ونحوها بهذه المواضع الثلاثة ـ من مؤخر الرأس ووسطه وجانبيه ـ تعطى انحصار المقدم فيما بين القصاص إلى الوسط ، وإلا لبقي فرد آخر مغفل في الكلام ، فلا يدل التفريع على الانحصار ، إذ لا يخفى ان الغرض من المقابلة ـ في أمثال هذه المقامات بعد إثبات الحكم لبعض الافراد بنفيه عن الافراد الأخر ـ إنما هو الحصر في ذلك الفرد ، كما لا يخفى على الفطن اللبيب العارف بالأساليب.

وقال المولى المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) : «ان ظاهر الآية وبعض الأخبار يدل على اجزاء مسح اي جزء كان من الرأس. ولعل الإجماع ـ مؤيدا بالوضوء البياني ، وبصحيحة محمد بن مسلم (١) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : امسح الرأس على مقدمه». وبحسنة زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٢) «وتمسح ببلة يمناك ناصيتك». ـ دال على ان المراد جزء من مقدم الرأس لا اي جزء كان ، ولعل المراد بالناصية في الخبر هو مقدم الرأس ، لأنه أقرب إلى الناصية المشهورة أو اسم له حقيقة» انتهى.

وحاصل كلامه ان ظاهر الآية وبعض الأخبار دل على اجزاء مسح اي جزء

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ و ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

٢٥٦

من الرأس ، ولما عارضه الإجماع والأخبار الدالة على خصوص مسح المقدم دل على تخصيص الرأس بالمقدم ، لكن لما كان من تلك الأخبار المخصصة حسنة زرارة الدالة على الناصية التي هي أخص من المقدم ، أراد الجمع بينها وبين اخبار المقدم بحمل الناصية على المقدم ، مجازا لقرينة المجاورة ، أو حقيقة شرعية.

ثم ان أكثر عبائر الأصحاب في هذا المقام قد اشتملت على التعبير بالمقدم مفردا أو مضافا إلى الرأس ، ومن الظاهر البين ان كل أحد لا يفهم من لفظ المقدم المضاف إلى الرأس أو غيره متى أطلق إلا ما قابل المؤخر ، وسيأتي لك أيضا ما يعضده من كلام أهل اللغة. وبذلك يعلم أيضا انه لا يطلق مجردا عن القرينة الأعلى ذلك المعنى.

وبذلك أيضا اعترف شيخنا المذكور في آخر رسالته حيث قال : «لا يقال : ان إطلاق الدليل من الآية يقتضي جواز المسح على الرأس ، وحيث قد جاءت السنة مخصصة له بالمقدم وهو يطلق على ضد المؤخر ، كانت مقيدة لإطلاق الكتاب ، فيبقى ما صدق عليه المقدم سالما من التقييد ، فيكون كله صالحا للمسح. لأنا نقول : الأمر كما ذكرتم لكن نحن لا نسلم إطلاق المقدم هنا على ما ادعيتموه بعد تفسير أهل اللغة له بالناصية وورود الحديث الصحيح بكون الباء للتبعيض ، فهو وان سلمنا ما هو أعم منها فلا أقل ان يكون من باب حمل المطلق على المقيد» انتهى.

وسيظهر لك الجواب عما أورده هنا. وبذلك يظهر لك ما في استدلاله بعبارات جملة من الأصحاب ، فإن جلها من هذا الباب :

فمما نقله (قدس‌سره) كلام الصدوق (رحمه‌الله) في الفقيه حيث قال : «وحد مسح الرأس ان تمسح بثلاث أصابع مضمومة من مقدم الرأس» ومثله عبارته في الهداية إلا انه قال : «أربع أصابع».

وأنت لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما حررناه انه لا دلالة فيها على شي‌ء مما ادعاه لانه حكم بوجوب مسح هذا المقدار المعين من المقدم ، وقد عرفت المعنى المتبادر من المقدم

٢٥٧

وسيأتي أيضا ما يؤكده ، فيكون معناه وجوب مسح هذا المقدار من اي جزء من اجزاء هذه المسافة ، واي دليل له في ذلك؟ بل هو بالدلالة على خلاف مدعاه ـ بتقريب ما حققناه ـ أشبه.

ثم نقل عن الشيخ المفيد في المقنعة انه قال : «يمسح من مقدم رأسه مقدار ثلاث أصابع مضمومة من ناصيته إلى قصاص شعره مرة واحدة» وعبارة الشيخ في النهاية «ثم يمسح بباقي نداوة يده من قصاص شعر رأسه مقدار ثلاث أصابع مضمومة» وهاتان العبارتان وان دلتا على كون المسح في هذا المكان الذي يدعيه. لكن لا دلالة لهما على الانحصار فيه وعدم اجزاء ما سواه كما هو المدعى. وصدر عبارة الشيخ المفيد ظاهر الدلالة على ان مقدم الرأس عبارة عما ادعيناه.

ثم نقل كلام السيد المرتضى في المسائل الناصرية ، فقال : «قال الناصر في المسائل الناصرية : فرض المسح متيقن بمقدم الرأس والعامة إلى الناصية. فكتب السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في جوابه : هذا صحيح وهو مذهبنا ، وبعض الفقهاء يخالفون في ذلك ويجوزون المسح على اي بعض كان من الرأس. والدليل على صحة مذهبنا الإجماع المتقدم ذكره. وأيضا فلا خلاف بين الفقهاء في ان من مسح على مقدم الرأس فقد ادى الفرض ، وليس كذلك من مسح مؤخر الرأس ، فما عليه الإجماع أولى» انتهى والعجب منه (قدس‌سره) في إيراد هذه العبارة واستناده إليها وهي ـ كما ترى ـ صريحة الدلالة في خلاف مدعاه ، اما في كلام الناصر فظاهر ، واما في كلام السيد (رحمه‌الله) فلجوابه بأنه مذهبنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، وكأنه (قدس‌سره) أوردها بطريق الاستعجال أو مع تشويش في البال.

ثم أورد عبارة المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في الانتصار ، وهو قوله : «ومما انفردت به الإمامية القول بان الفرض مسح مقدم الرأس دون سائر أبعاضه ، والفقهاء

٢٥٨

كلهم مخالفون في هذه الكيفية ولا يوجبونها ، ولا شبهة في ان الفرض عند الإمامية متعلق بمقدم الرأس دون سائر أبعاضه» انتهى.

ثم نقل شطرا من عبائر المتأخرين المشتلمة على التعبير بمقدم الرأس.

وأنت خبير بعد الإحاطة بما أسلفناه انه لا اشعار فيها بما ذكره ولا إيناس ، بل هي في الدلالة على خلاف ما يدعيه عارية عن الإبهام والالتباس ، وحينئذ فما ذكره (رحمه‌الله) بعد ذلك ـ من قوله : «فان كان مراد هؤلاء المتأخرين بالمقدم الناصية ، وبالناصية قصاص الشعر وما فوقه بيسير وهو ما بين النزعتين فلا كلام ، وان كان المراد ما هو أعم فالبحث أيضا جار معهم ، لانه خلاف فتوى المتقدمين من الأصحاب والنصوص واللغة» انتهى ـ فهو تطويل بغير طائل. واعادة الكلام عليه بعد تحقيق ما أسلفناه تحصيل الحاصل.

واما كلام أهل اللغة فمما استند اليه وأورده كلام القاموس ، حيث قال : «... ومقدمة الجيش ـ وعن ثعلب فتح دالة ـ متقدموه ، وكذا قادمته وقداماه ، ومن الإبل أول ما ينتج ويلقح ، ومن كل شي‌ء اوله ، والناصية ، والجبهة» ثم قال (قدس‌سره) بعده «وهو صريح في كون المقدم هو الناصية» انتهى.

وأنت خبير بان الظاهر من هذه العبارة بالنسبة إلى ما نحن فيه إطلاق المقدم على ثلاثة معان : (أحدها) ـ أول الشي‌ء ، فإذا أضيف المقدم إلى الرأس يكون بمعنى اوله. و (الثاني) ـ الناصية. و (الثالث) ـ الجبهة.

والأول منها هو الذي اتفقت عليه كلمة أهل العرف ، وعليه أيضا اتفقت كلمة أهل اللغة :

فمنها ـ ما ذكره هنا ، فان المراد من الأول في عبارته ما قابل الآخر ، كما ذكره في مادة (أخر) حيث قال : «والآخر خلاف الأول» ومن المعلوم ان الأول بالنسبة إلى الرأس هو المقدم كما ان الآخر هو المؤخر.

٢٥٩

ومن ذلك ـ ما صرح به في كتاب مجمع البحرين حيث قال : «والمقدم بفتح الدال والتشديد نقيض المؤخر ، ومنه مسح مقدم رأسه» انتهى. وفيه دلالة واضحة على انه المراد شرعا.

وقال في الصحاح : «ومؤخر الشي‌ء نقيض مقدمه».

وقال في المصباح : «ومؤخر كل شي‌ء بالتثقيل والفتح خلاف مقدمه».

واما المعنى الثاني وهو إطلاقه على الناصية فلا دليل فيه على ما ادعاه (طاب ثراه) فإن الناصية عند أهل اللغة إنما هي عبارة عن القصاص الذي هو لغة وشرعا آخر منابت شعر الرأس ، قال في القاموس : «الناصية قصاص الشعر» ومثله في المصباح. وفي مجمع البحرين : «الناصية قصاص الشعر فوق الجبهة» والناصية عند الفقهاء ـ كما تقدم في كلام العلامة في التذكرة ، وهو الذي يدعيه شيخنا المزبور ويخص موضع المسح به ـ هو ما ارتفع عن القصاص حتى يسامت أعلى النزعتين ، وحينئذ فإطلاق المقدم على الناصية في عبارة القاموس ـ مع ما عرفت من معناها لغة ـ لا دليل فيه على ما ادعاه. ومع تسليم ان المراد بها ما ادعاه ، ففيه انه قد أطلق فيه أيضا على ما ادعيناه ، وهو المعنى الأول فالتخصيص بما ادعاه ترجيح من غير مرجح ، بل المرجح في جانب المعنى الذي ادعيناه حيث انه مما اتفقت عليه كلمة العرف واللغة كما عرفت ، فحمل الأخبار عليه أظهر البتة. على ان هذا المعنى الذي ذكره لم نجده في شي‌ء من كتب اللغة بعد الفحص سوى القاموس. وكيف كان فلا ريب في رجحان مقابله.

ومما نقله أيضا في رسالته عبارة المصباح المنير ، حيث قال فيه : «الناصية قصاص الشعر وجمعها النواصي. ونصوت فلانا نصوا من باب قتل : قبضت على ناصيته. وقول أهل اللغة ـ : النزعتان هما البياضان اللذان يكتنفان الناصية ، والقفا مؤخر الرأس والجانبان ما بين النزعتين والقفا ، والوسط ما أحاط به ذلك. وتسميتهم كل موضع باسم يخصه ـ كالصريح في ان الناصية مقدم الرأس ، فكيف يستقيم على هذا تقدير الناصية بربع

٢٦٠