الحدائق الناضرة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة ـ نجف
المطبعة: مطبعة النّجف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

لمتعلق التكليف يتوقف الامتثال على تعيين فرد منها بالنية ، بل يكفي في حصول المطلوب شرعا مجرد الترك وان كان لا عن قصد ، وفي حكمها الأفعال المطلوب بها ترك شي‌ء آخر كمحل البحث ، فإن إزالة النجاسة لما كان المطلوب بها ترك النجاسة كانت ملحقة بالتروك

وأورد عليهم الانتقاض بالصوم والإحرام ، فان كلا منهما مفسر بترك الأشياء المعينة.

أجابوا بأن الترك هنا كالفعل في وجوب النية ، قالوا : ان متعلق التكليف اما فعل محض أو ترك كالفعل ، وكل منهما مما تجب فيه النية ، أو ترك محض أو فعل كالترك ، وهما مما لا تجب فيه النية.

ولا يخفى ما في الجواب المذكور من القصور ، كما أشار إليه السيد السند (قدس‌سره) والتحقيق في هذا المقام ما افاده المحدث الأمين الأسترآبادي في تعليقاته على المدارك ، حيث قال ـ بعد نقل عبارة الكتاب ـ «قلت : تحقيق المقام ان المطلوب من العبد قد يكون إيجاد أثر في الخارج ، كالقراءة والركوع والسجود ، وقد يكون إيجاد أثر في الذهن ، كعزمه ان لا يتعمد شيئا من المفطرات من طلوع الفجر إلى المغرب بشرط ان لا يقع منه ما ينافيه. وحقيقة الصوم هو هذا العزم المقيد بالشرط المذكور ، ولذا لو نوى وأخذه النوم إلى المغرب صح صومه ، ولو لم ينو واجتنب المفطرات لم يصح صومه كما تقرر. فان كانت حقيقة الإحرام عزمه على ان لا يتعمد شيئا من الأمور المعينة من حين التلبية إلى وقت الحلق والتقصير بشرط الإتيان بالتلبية ، فهو من الباب الثاني وان كانت حقيقته الحالة المترتبة على نية الحج والعمرة والإتيان بأول جزء منه وهو التلبية ـ كما هو الظاهر عندي من الروايات ـ فليس من الباب الثاني ، بل هو من الأحكام المترتبة على مجموع النية والإتيان بجزء من المنوي ، نظير حرمة منافيات الصلاة على المصلي بسبب نية الصلاة وتكبيرة الإحرام. وقد يكون وجود حالة كطهارة ثوبه حال صلاته ،

٢٢١

ففي الصورة الأولى تتميز العبادة عن غيرها كاللعب بالنية. وفي الصورة الثانية العبادة المطلوبة نفس العزم المقيد بقيد ، فلا حاجة لها إلى عزم وارادة أخرى ، وهو واضح. واما الصورة الثالثة فليس المطلوب فيها إيجاد أثر ، ولذا لو كانت طهارة الثوب حالة اصلية مستصحبة أو حاصلة بفعل الغير أو بغير فعل أحد كأن يقع في النهر أو يصيبه السيل ، لكفت. وفي الصورة الأولى لما كان المطلوب إيجاد اثر لم يجز ان يغسله غيره أو يوضئه ، ومع الاضطرار لا يصح ذلك أيضا إلا بإرادته كما قرر في موضعه» انتهى كلامه. وهو جيد متين.

الركن الثاني ـ غسل الوجه

وفيه مسائل (الأولى) ـ هل الواجب في الغسل ما يجري فيه جزء من الماء على جزءين من البشرة بنفسه أو معاون ، أو يرجع فيه إلى العرف ، أو يكفي الدهن؟ وعلى الثالث فهل يخص بالضرورة ، أو مطلقا؟ أقوال : المشهور الأول ، وبالثاني قال جماعة من متأخري المتأخرين ، والتخصيص بالضرورة في الثالث نقله في الذكرى عن الشيخين.

ويدل على اعتبار الجريان في الغسل ـ بأي من المعنيين الأولين ـ انه المتبادر من معنى الغسل لغة وعرفا.

ومن الأخبار قوله (عليه‌السلام) في حسنة زرارة (١) : «الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره فقد أجزأه». ولا قائل بالفرق بين الغسل والوضوء.

وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة (٢) : «كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد ان يغسلوه ولا يبحثوا عنه ، ولكن يجري عليه الماء».

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الجنابة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الوضوء.

٢٢٢

وقوله (عليه‌السلام) في رواية محمد بن مروان (١) : «يأتي على الرجل ستون سنة أو سبعون سنة ما قبل الله منه صلاة. قلت : وكيف ذلك؟ قال : لانه يغسل ما أمر الله بمسحه».

وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة (٢) : «لو أنك توضأت فجعلت مسح الرجلين غسلا ثم أضمرت ان ذلك هو المفترض ، لم يكن ذلك بوضوء ...».

والتقريب في هذين الخبرين الأخيرين انه لو لا اعتبار الجريان في مسمى الغسل لما حصل الفرق بينه وبين المسح المقابل له بظاهر الآية.

ويؤيده أيضا ما اشتملت عليه اخبار الوضوء البياني من الصب والإفاضة والإسدال والغرفة لكل عضو.

ويدل على الثالث مطلقا اخبار عديدة : منها ـ قوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (٣) : «انما الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه ، وان المؤمن لا ينجسه شي‌ء. إنما يكفيه مثل الدهن».

وقوله (عليه‌السلام) في رواية محمد بن مسلم (٤) : «يأخذ أحدكم الراحة من الدهن فيملأ بها جسده ، والماء أوسع من ذلك».

وقوله في صحيحة زرارة (٥) : «... إذا مس جلدك الماء فحسبك ...».

وقوله في الغسل (٦) : «وكل شي‌ء أمسسته الماء فقد أنقيته».

وقوله في الغسل والوضوء (٧) : «يجزي منه ما أجزأ من الدهن الذي يبل الجسد».

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٣ و ٥ و ٧) المروية في الوسائل في الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب الوضوء.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٦) المروي في الوسائل في الباب ـ ٢٦ ـ من أبواب الجنابة.

٢٢٣

وقوله (عليه‌السلام) (١) : «يجزئك في الغسل والاستنجاء ما بلت يدك».

والدهن كما يحتمل انه من الأدهان اي الإطلاء من الدهن كما هو صريح بعضها ، يحتمل أيضا انه من دهن المطر الأرض إذا بلها بلا يسيرا ، وعلى التقديرين فلا جريان فيه قطعا على الأول وظاهرا على الثاني.

وربما تحمل الأخبار كملا على المعنى الأول ويقيد مطلقها بمقيدها.

والأكثر حملوا هذه الأخبار على المبالغة في أقل الجريان ، وظواهرها ـ كما ترى ـ لا تقبله.

وأنت خبير بان ما اشتمل من الأخبار المتقدمة على الجريان صريحا أو مفهوما لا دلالة فيه على الانحصار في هذا الفرد وعدم اجزاء ما عداه ، ولا في شي‌ء من الأخبار الأخيرة على الانحصار فيه وعدم جواز ما زاد عليه ، حتى تثبت المنافاة بين اخبار الطرفين ويرتكب الحمل في أحد الجانبين ، بل ربما دل لفظ الاجزاء في بعض الأخبار الأخيرة على انه أقل المجزي المستلزم لثبوت مرتبة فوقه.

فلم يبق حينئذ إلا دعوى اعتبار الجريان في مسمى الغسل.

وفيه ان المفهوم من كلام شيخنا الشهيد الثاني في بعض تحقيقاته ان ذلك غير مفهوم من كلام أهل اللغة ، قال : «لعدم تصريحهم باشتراط جريان الماء في تحققه ، وان العرف دال على ما هو أعم منه ، الا انه المعروف من الفقهاء سيما المتأخرين ، والمصرح به في عباراتهم» انتهى.

ويؤيده ما صرح به السيد السند في المدارك ، حيث قال ـ بعد ان نقل القول باشتراط الجريان في مسمى الغسل ـ ما لفظه : «وفي دلالة العرف على ذلك نظر» ثم قال ـ بعد ان نقل عن الشارح حمل اخبار الدهن على المبالغة ـ ما صورته : «وقد

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ـ ١٣ ـ من أحكام الخلوة ، وفي الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الجنابة.

٢٢٤

يقال : لا مانع من كونه على سبيل الحقيقة لوروده في الأخبار المعتمدة» ثم ساق جملة من الأخبار المتقدمة.

وحينئذ فمجرد شهرة ذلك بينهم ـ من غير دلالة نص عليه من آية أو رواية ، بل وجود الروايات المستفيضة ـ كما تري ـ بخلافه ـ لا يوجب المصير اليه. وبالجملة فالمسألة لذلك محل اشكال.

وصار بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين ـ بعد ان صرح بأن المسألة محل تأمل ، ينشأ من تعارض الظاهرين ، وقبول التأويل من الطرفين ـ إلى تخصيص ذلك بالضرورة وتقديمه على التراب ، كعوز الماء وانجماده على وجه لا يمكن إذابته ، كما هو المنقول آنفا عن الشيخين (رحمهما‌الله) استنادا إلى بعض الأخبار المصرحة بجواز ذلك ضرورة ، كقول الكاظم (عليه‌السلام) في صحيحة أخيه علي (١) حيث «سأله عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع ، أيغتسل منه للجنابة أو يتوضأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره ، والماء لا يبلغ صاعا للجنابة ولا مدا للوضوء وهو متفرق؟ فكيف يصنع؟ فقال : إذا كانت يده نظيفة ، إلى ان قال : فإن خشي ان لا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرات ثم مسح جلده بيده ، وان كان الوضوء غسل وجهه ومسح يده على ذراعيه ورأسه ورجليه ...».

وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة أخيه الثانية (٢) حين «سأله عن الرجل الجنب أو على غير وضوء لا يكون معه ماء وهو يصيب ثلجا وصعيدا ، أيهما أفضل : أيتيمم أم يتمسح بالثلج؟ قال : الثلج إذا بل رأسه وجسده أفضل ، فان لم يقدر على ان يغتسل به فليتيمم». ونحوها رواية معاوية بن شريح (٣).

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٠ ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٠ ـ من أبواب التيمم.

٢٢٥

وما رواه في الكافي (١) مرسلا مضمرا : «في رجل كان معه من الماء مقدار كف وحضرت الصلاة؟ قال : فقال : يقسمه أثلاثا : ثلث للوجه وثلث لليد اليمنى وثلث لليسرى ، ويمسح بالبلة رأسه ورجليه».

وعد من ذلك أيضاقول الصادق (عليه‌السلام) في صحيحة الحلبي (٢) : «أسبغ الوضوء ان وجدت ماء ، وإلا فإنه يكفيك اليسير». وظني انها ليست منه ، لان مقابلة اليسير بما يحصل به الإسباغ قرينة على وجود ما يحصل به الجريان ولو في الجملة.

وحينئذ فالأظهر حمل روايات الدهن على هذه الأخبار دون الحمل على المبالغة. إلا انه بعد لا يخلو من شوب نظر.

(المسألة الثانية) ـ الظاهر انه لا خلاف في أن الوجه الواجب غسله في الوضوء هو ما كان من قصاص الشعر ـ مثلث القاف والضم أعلى ، كما ذكره الجوهري ، وهو حيث ينتهي نبت الشعر من مقدم الرأس ومؤخره ، والمراد هنا المقدم ـ الى طرف الذقن بالتحريك ، وهو مجمع اللحيين الذين تنبت عليهما الأسنان السفلى ، طولا ، وما دارت عليه الإبهام والوسطى من مستوي الخلقة عرضا ، لما في صحيح زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (٣) حيث قال : «أخبرني عن حد الوجه الذي ينبغي أن يوضأ ، الذي قال الله تعالى. فقال : الوجه الذي أمر الله بغسله ـ الذي لا ينبغي لأحد ان يزيد عليه ولا ينقص منه ، ان زاد عليه لم يؤجر وان نقص منه اثم ـ ما دارت عليه الوسطى والإبهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن وما جرت عليه الإصبعان من الوجه مستديرا فهو من الوجه ، وما سوى ذلك فليس من الوجه. قلت : الصدغ من الوجه؟ قال : لا».

__________________

(١) ج ١ ص ٩ وفي الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٥٢ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٧ ـ من أبواب الوضوء.

٢٢٦

وأنت خبير بان تطبيق الرواية المذكورة على مدعى الأصحاب لا يخلو من عسر وما وجهه بعضهم ـ من ان قوله (عليه‌السلام) : «ما دارت عليه الوسطى والإبهام» بيان لعرض الوجه ، وقوله : «من قصاص شعر الرأس إلى الذقن» لطوله ، وقوله : «ما جرت عليه الإصبعان» كأنه تأكيد لبيان العرض ـ فلا يخفى ما فيه من التكلف وعدم الارتباط.

وأورد شيخنا البهائي (عطر الله مرقده) على الأصحاب ـ في استنباط ما ذهبوا اليه من الخبر المذكور ـ انه متى جعل الحد الطولى من القصاص الذي هو عبارة عن منابت الشعر من المقدم ـ والحال ان منتهى منابت الشعر يأخذ من كل جانب من الناصية ويرتفع عن النزعة ثم ينحدر إلى مواضع التحذيف ويمر فوق الصدغ حتى يتصل بالعذار ـ لزم دخول النزعتين والصدغين في التحديد المذكور مع انهم لا يقولون به ، وخروج العذارين مع ان بعضهم ادخله ، وكيف يصدر مثل هذا التحديد الظاهر القصور الموجب لهذا الاختلاف عنهم (عليهم‌السلام

ثم وجه للرواية معنى آخر ، وهو ان كلا من طول الوجه وعرضه هو ما اشتمل عليه الإبهام والوسطى ، بمعنى ان الخط الواصل من القصاص إلى طرف الذقن وهو مقدار ما بين الإصبعين غالبا ، إذا فرض إثبات وسطه وأدير على نفسه ليحصل شبه دائرة ، فذلك القدر هو الوجه الذي يجب غسله ، وذلك لأن الجار والمجرور في قوله (عليه‌السلام) : «من قصاص شعر الرأس» اما متعلق بقوله : «دارت» أو صفة مصدر محذوف ، والمعنى ان الدوران يبتدئ من القصاص منتهيا إلى الذقن ، واما حال من الموصول الواقع خبرا عن الوجه وهو لفظ «ما» ان جوزنا الحال عن الخبر ، والمعنى ان الوجه هو القدر الذي دارت عليه الإصبعان حال كونه من القصاص إلى الذقن ، إلى ان قال : «وبهذا يظهر ان كلا من طول الوجه وعرضه قطر من أقطار تلك الدائرة من غير تفاوت ، ويتضح خروج النزعتين والصدغين عن الوجه وعدم دخولهما في التحديد

٢٢٧

فإن أغلب الناس إذا طبق انفراج الإصبعين على ما بين قصاص الناصية إلى طرف ذقنه وادارهما على ما قلناه ليحصل شبه دائرة وقعت النزعتان والصدغان خارجة عنهما ، وكذلك يقع العذران ومواضع التحذيف ، كما يشهد به الاستقراء والتتبع. واما العارضان فيقع بعضهما داخلا والبعض خارجا ، فيغسل ما دخل ويترك ما خرج على ما يستفاد من الرواية» انتهى كلامه زيد مقامه.

وهو بمحل من القبول ، وقد تلقاه بالتسليم جملة ممن تأخر عنه من الفحول.

الا انه يمكن الجواب عما أورده على القول المشهور ونسبه اليه من القصور : اما عن دخول النزعتين فبأنهما وان دخلا في التحديد بالقصاص على ما هو معناه لغة ، إلا أنهما لما كانتا محاذيتين للناصية التي هي من الرأس قطعا دون الوجه ، وخارجتين عن التسطيح الذي ينفصل به الوجه عن الرأس ، وداخلتين في التدوير المختص ، وجب حمل القصاص في الخبر على منتهى الناصية وما يحاذيه من جانبيه كما عليه الأصحاب ، وما هو إلا من قبيل العام المخصوص أو المطلق المقيد ، وكم مثله في الأخبار.

واما عن الصدغين فإنهما وان فسرا في كلام أهل اللغة بما بين العين والاذن تارة ، وبالشعر المتدلي على هذا الموضع اخرى ، كما في عبارة القاموس ونقل أيضا عن الصحاح والنهاية ، الا أن العلامة في المنتهى فسره بالشعر الذي بعد انتهاء العذار المحاذي لرأس الاذن وينزل عن رأسها قليلا ، وفي الذكرى ما حاذى العذار فوقه ، وحينئذ فيمكن حمل الصدغ في الخبر على هذا المعنى الثاني ، وهو أحد معنييه لغة أيضا كما عرفت ، ولا يشمل شيئا منه الإصبعان ، على انه متى حمل على المعنى الأول فلا ريب انه يدخل بعضه في الإدارة التي اعتبرها (قدس‌سره) وما ذكره (قدس‌سره) من خروجه كملا مما تمنعه المشاهدة.

واما العذاران فالمشهور عندهم خروجه ، فلا يرد الاشكال به إلا عند من أدخله

إذا عرفت هذا فاعلم أن ههنا مواضع قد وقع الخلاف فيها في البين :

٢٢٨

(أحدها) ـ الصدغ ، وقد تقدم معناه. فادخله الراوندي في الوجه ، والمشهور خروجه كما تدل عليه الرواية (١) ويمكن حمل كلام الراوندي على البعض الذي لا شعر فيه كما عرفت من كلام أهل اللغة ، وحمل الرواية على ما ذكرناه آنفا ، فترتفع المنافاة.

و (ثانيها) ـ العذار ، وهو الشعر النابت على العظم الذي على سمعت الصماخ ، يتصل أعلاه بالصدغ وأسفله بالعارض ، والمشهور بين الأصحاب خروجه ، لعدم شمول الإصبعين له غالبا ، ولاتصاله بالصدغين. ونقل عن ظاهر كلام الشيخ في المبسوط والخلاف وابن الجنيد دخوله ، وبه صرح ثاني المحققين وثاني الشهيدين. وجمع بعض المحققين بين القولين بما يكون به النزاع لفظيا في البين ، فقال : «انه لا نزاع في الحقيقة بل القائلون بالدخول إنما يريدون به دخول بعضه مما يشمله الإصبعان ، والقائلون بالخروج يريدون خروج البعض الآخر كما يشعر به تتبع كلماتهم» انتهى.

و (ثالثها) ـ مواضع التحذيف بالذال المعجمة ، وهي ما بين الصدغ والنزعة ، وفسرها بعضهم بما بين منتهى العذار والنزعة. وأنت خبير بما فيه ، فان العذار أعلاه يتصل بالصدغ كما تقدم ، فالصدغ فوقه. وقد قطع العلامة في المنتهى والتذكرة بخروجها وجملة من الأصحاب حكموا بدخولها احتياطا.

و (رابعها) ـ العارض ، وهو الشعر المنحط عن محاذاة الأذن ، يتصل أسفله بما يقرب من الذقن وأعلاه بالعذار. وقد قطع العلامة في المنتهى بخروجه والشهيدان بدخوله ، بل ادعى ثانيهما الإجماع على ذلك. وفصل في النهاية بين ما خرج عن حد الإصبعين فيخرج ، ودخل فيهما فيدخل. وهو الأقرب ، لما دلت عليه الرواية (٢).

وما أورده السيد السند في المدارك ـ من ان الاستدلال على الوجوب ببلوغ الإبهام والوسطى ضعيف ، فان ذلك إنما يعتبر في وسط التدوير من الوجه خاصة ، وإلا لوجب غسل ما نالته الإبهام والوسطى وان تجاوز العارض ، وهو باطل إجماعا ـ

__________________

(١) وهي صحيحة زرارة المتقدمة في الصحيفة ٢٢٦.

(٢) وهي صحيحة زرارة المتقدمة في الصحيفة ٢٢٦.

٢٢٩

مردود (أولا) ـ بأن التخصيص بما ذكره لا دليل عليه.

و (ثانيا) ـ بان خروج بعض الافراد بدليل خاص لا يقدح في الدلالة على ما لا معارض له ، فان ما تجاوز العارض خارج عن الوجه بالإجماع.

(المسألة الثالثة) ـ اختلف الأصحاب (نور الله مراقدهم) في وجوب الابتداء بالأعلى في غسل الوجه ، فالمشهور الوجوب ، وذهب المرتضى وابن إدريس إلى جواز النكس ، واختاره جمع من المتأخرين ومتأخريهم.

ويدل على المشهور صحيحة زرارة (١) قال : «حكى لنا أبو جعفر (عليه‌السلام) وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فدعى بقدح من ماء فادخل يده اليمنى فأخذ كفا من ماء فأسدله على وجهه من أعلى الوجه. الحديث». وفعله إذا كان بيانا للمجمل وجب اتباعه فيه.

وأجيب بأنه من الجائز ان يكون ابتداؤه (عليه‌السلام) بالأعلى لكونه أحد جزئيات مطلق الغسل المأمور به لا لوجوبه بخصوصه ، فان امتثال الأمر الكلي إنما يتحقق بفعل جزئي من جزئياته. وقوله ـ : «ان فعله إذا وقع بيانا للمجمل وجب اتباعه فيه» ـ مسلم ، الا انه لا إجمال في غسل الوجه حتى يحتاج إلى البيان ، مع ان أكثر الأخبار الواردة في وصف وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خالية من ذلك ، هكذا ذكره السيد السند في مداركه ، وتبعه فيه جمع ممن تأخر عنه.

وفيه نظر من وجوه : (الأول) ـ ان الأوامر والأحكام القرآنية كلها إلا ما شذ لا تخلو من إطلاق أو عموم أو إجمال أو نسخ أو نحو ذلك ، وقد استفاضت الأخبار عن أهل الذكر (صلوات الله عليهم) بالرجوع إليهم في ذلك والنهي عن القول فيه بغير توقيف منهم ، وقد نقلنا شطرا وافرا من تلك الأخبار في كتاب الدرر النجفية ، وأظهرنا ما في المسألة من الكنوز الخفية ، وقد تقدمت الإشارة إلى شطر

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

٢٣٠

منها في المقدمة الثالثة (١) وحينئذ فإذا بينوا لنا شيئا من ذلك فالواجب قبوله والعمل عليه.

ومما يؤيد ذلك صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (٢) قالا : «قلنا لأبي جعفر (عليه‌السلام) : ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي؟ فقال : ان الله عزوجل يقول (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (٣). فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر. قالا : قلنا له انما قال الله عزوجل : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ، ولم يقل : افعلوا ، فكيف أوجب ذلك؟ فقال (عليه‌السلام) : أو ليس قد قال الله عزوجل في الصفا والمروة (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (٤). ألا ترون ان الطواف بهما واجب مفروض لأن الله عزوجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله)؟ وكذلك التقصير في السفر شي‌ء صنعه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وذكره الله في كتابه. الحديث».

فإنه ـ كما ترى ـ صريح الدلالة في ان فعله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما ذكره الله تعالى في كتابه وان كان غير صريح في الوجوب كنفي الجناح في الآيتين ، صار موجبا لذلك ، وما نحن فيه كذلك.

وبالجملة فإنا لو خلينا وظاهر الآية ولم يرد لنا عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كيفية بيان لذلك ، لكان الأمر كما ذهبوا اليه ، واما بعد ورود كيفية البيان فيجب الوقوف عليها والأخذ بها.

واعترض شيخنا البهائي (قدس‌سره) في حبله وأربعينه بأنه لو اقتضى البيان وجوب الابتداء بالأعلى للزم مثله في إمرار اليد ، لوروده كذلك في مقام البيان.

وفيه ان صحيحة علي بن جعفر ـ (٥) الدالة على الوضوء بالمطر بمجرد تساقطه

__________________

(١) ج ١ ص ٢٧.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٢ ـ من أبواب صلاة المسافر.

(٣) سورة النساء. الآية ١٠٢.

(٤) سورة البقرة. الآية ١٥٨.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ـ ٣٦ ـ من أبواب الوضوء.

٢٣١

وغسله الأعضاء ـ دليل على عدم وجوب إمرار اليد.

ولو قيل بان ما ذكرتموه يضعف باشتمال الوضوء البياني على جملة من المستحبات أيضا قلنا : خروج ما قام الدليل على استحبابه لا يوجب خروج ما لا دليل عليه.

(الثاني) ـ ان منعه الإجمال في غسل الوجه ممنوع بما ذكره المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) في حاشيته على المدارك ، من ان الإجمال قد ينشأ من نفس المعنى ، وذلك لأن بعض الماهيات الكلية تحته افراد تصلح عرفا لتعلق غرض الشارع ببعضها دون بعض ، كحج البيت وغسل الوجه في الوضوء ، ويقبح عند العقلاء اقدام مريد الامتثال على فرد مشكوك فيه من إفرادها من غير دلالة على ان المقصود بالذات هو الماهية الكلية من حيث هي. انتهى كلامه (زيد مقامه).

ومما يدل على وقوع الإجمال في الغسل هنا وقوع السؤال عن كيفية غسل اليدين في رواية صفوان (١) ورواية الهيثم (٢) الآتيتين في بيان وجوب الابتداء بالمرفق.

(الثالث) ـ ان خلو أكثر الأخبار الواردة في وصف وضوئه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الابتداء بالأعلى لا يستلزم حمل هذه على الاستحباب ، بل الطريقة الشائعة في مثله حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص ، على ان بعض الأخبار ظاهر الدلالة في مطابقة هذه الصحيحة :

كصحيحة زرارة الأخرى عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٣) في حكاية الوضوء أيضا قال : «ثم غرف فملأها ماء فوضعها على جبينه ، ثم قال : بسم الله ، وسدله على أطراف لحيته ، ثم أمر يده على وجهه. الحديث».

__________________

(١) المروية في مستدرك الوسائل في الباب ـ ١٨ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

٢٣٢

وروى الحميري في كتاب قرب الاسناد (١) عن احمد بن محمد عن ابن محبوب عن أبي جرير الرقاشي قال : «قلت لأبي الحسن موسى (عليه‌السلام) : كيف أتوضأ للصلاة؟ الى ان قال : ولا تلطم وجهك بالماء لطما ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله بالماء مسحا. الحديث».

والكتاب المذكور من الأصول المعتبرة المشهورة فلا يضر ضعف الراوي ، وهو صريح في المطلوب ، للأمر فيه بالغسل من الأعلى ، وهو حقيقة في الوجوب عندهم.

وروى العياشي في تفسيره عن زرارة وبكير ابني أعين (٢) قالا : «سألنا أبا جعفر (عليه‌السلام) عن وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فدعا بطشت أو تور فيه ماء فغمس كفه اليمنى فغرف بها غرفة فصبها على جبهته فغسل وجهه بها. الحديث».

(الرابع) ـ ان الوضوء على غير هذا الوجه لا أقل ان يكون مشكوكا في صحته ، لوقوعه على خلاف ما بينه صاحب الشرع ، والشك في صحته يقتضي الشك في رفعه ، ويقين الحدث لا يرتفع إلا بيقين الطهارة ، للحديث الصحيح المتفق على العمل بمضمونه (٣) : «ليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا».

وما افاده بعض المحققين من متأخري المتأخرين ـ من ان القدر المعلوم من هذا الخبر إنما هو عدم النقض بالشك في وجود الناقض ، دون الشك في فردية بعض الافراد للناقض ، بمعنى ان تيقن الحدث فيما نحن فيه لا يزول بالشك في وجود الرافع ، واما كونه لا يزول بوجود بعض الافراد المشكوك في فرديتها للرافع فلا دلالة للحديث عليه ـ ففيه ما قدمنا ذكره في المقدمة الحادية عشرة (٤) وحينئذ فالواجب تحصيل يقين البراءة

__________________

(١) في الصحيفة ١٢٩ وفي الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) رواها في مستدرك الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) وهو صحيح زرارة المروي في الوسائل في الباب ـ ٣٧ و ٤١ و ٤٤ ـ من أبواب النجاسات.

(٤) في الصحيفة ١٤٥ من الجزء الأول.

٢٣٣

من التكليف الثابت بيقين ، وهو لا يتم الا بالغسل من الأعلى.

وما ذكره البعض ـ من ان تحصيل يقين البراءة إنما هو من الاحتياط المستحب وليس بواجب ـ فليس على إطلاقه ، وذلك فان تحصيل يقين البراءة اما ان يكون بعد ثبوت الحكم شرعا بإرادة المطابقة لما هو الحكم واقعا والخروج من جميع الاحتمالات المنافية للمطابقة ، وهذا هو المستحب ، كالتنزه عن جوائز الظالم ونحوه ، ونكاح من علم ارتضاعها معه لكن لم يعلم حصول القدر المحرم ولا عدمه ، ونحو ذلك ، واما ان يكون مع عدم ثبوت الحكم شرعا ، فيكون الغرض من الاحتياط تحصيله ، وهذا هو الواجب ، ولا يخفى ان ما نحن فيه من قبيل الثاني دون الأول ، فإن عدم ثبوت الحكم ومعلوميته أعم من ان يكون لعدم الدليل بالكلية ، أو لتعارض الأدلة ، أو لاشتباه الحكم منها ، أو نحو ذلك ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لتعارض ظاهر الآية والأخبار. والجمع الذي ذكروه بينهما لا يتعين المصير اليه ، لاحتمال غيره بل رجحانه عليه ، فيبقى الحكم في قالب الاشتباه.

وتوهم استحباب الاحتياط في مثل ذلك مردود بالأخبار المستفيضة الدالة على الأمر بالوقوف على جادة الاحتياط مع الشك والاشتباه ، كما تقدم لك بيانه في المقدمة الرابعة.

ومن ذلك ما ورد عن الصادق (عليه‌السلام) في جملة من الأخبار في كلامه مع بعض الزنادقة المنكرين للصانع (١) حيث قال (عليه‌السلام): «ان يكن الأمر كما نقول ـ وهو كما نقول ـ فقد نجونا وهلكتم ، وان يكن الأمر كما تقولون ـ وليس كما تقولون ـ فنحن وأنتم سواء ، ولن يضرنا ما صلينا وصمنا. الحديث».

وفيه دلالة على وجوب سلوك ما فيه النجاة ودفع الضرر عند الاشتباه ، وهو بعينه ما ذكروه من الدليل العقلي على وجوب معرفة الصانع ، من انها لدفع الضرر ، وهو واجب. وكما يجب دفع الضر المحقق فكذا دفع الضرر المشتبه ، فان من عرض

__________________

(١) المروية في الكافي في باب (حدوث العالم وإثبات المحدث) من كتاب التوحيد.

٢٣٤

عليه طعام محتمل لأن يكون غذاء نافعا ولأن يكون سما قاتلا ، فان المخاطر بنفسه في أكله خارج عن ربقة العقلاء ، فان كان هذا في الأمور الدنيوية ففي الدينية بطريق أولى ، لشدة خطرها وزيادة ضررها ، فالاحتياط فيها أوجب ، وحينئذ فالحديث المذكور دليل نقلي عقلي.

وهذا الدليل وما قبله مما تلجئ إليه الحاجة في جملة من الأحكام ، فاحتفظ بهما فإنهما أقوى دليل في مقام الخصام.

(الخامس) ـ ما افاده المحدث الأمين (قدس‌سره) في حاشية المدارك أيضا ، من ان الأمر بالوضوء وبالطهور ورد في اخبار كثيرة ، واللفظان من المجملات ، فلا تبرأ الذمة إلا برعاية الاحتياط ، وهو الإتيان بفرد لم يشك في اجزائه. لا يقال : الآية الشريفة بيان لهما. لأنا نقول : الآية الشريفة إنما تدل على وجوب كذا وكذا ولا تدل على كفاية ذلك القدر في الصلاة. لا يقال : لو وجب قيد زائد لذكره سبحانه وتعالى. لأنا نقول : هذا منقوض بصور كثيرة. وأيضا إنما تتجه تلك المقدمة لو لم يكن البيان مرجوعا اليه وإلى أهل بيته (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

(السادس) ـ ما أفاده أيضا (قدس‌سره) من انا إذا لاحظنا ما روى عن الصادق (عليه‌السلام): «الوضوء غسلتان ومسحتان» (١). وسائر الروايات المتضمنة لمضمونها ، مع صحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٢) قال : «لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا». تبادر إلى ذهننا بمعونة قرينة المقام وجود البأس في غسل الوضوء مدبرا.

ثم اعلم ان شيخنا البهائي (قدس‌سره) في حبله وأربعينه ـ بعد ان طعن في دليل المشهور بما قدمنا نقله عن المدارك ـ قال : «وظني انه لو استدل على هذا المطلب بان المطلق ينصرف إلى الفرد الشائع المتعارف ، والشائع المتعارف في غسل الوجه غسله

__________________

(١) لم نقف على حديث بهذا النص عن الصادق (عليه‌السلام) ولعل نظره إلى ما يفيد هذا المضمون.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٢٠ ـ من أبواب الوضوء.

٢٣٥

من فوق إلى أسفل ، فينصرف في قوله تعالى : «... فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...» (١) اليه لم يكن بعيدا» انتهى.

وفيه (أولا) ـ انه لو تم لزم عدم اجزاء غمس الوجه واليد في الماء ، وهو لا يقول به ، وكذا عدم وجوب غسل الإصبع الزائدة ، مع انهم اتفقوا على الوجوب.

و (ثانيا) ـ ما حققه بعض المحققين (طيب الله مرقده) من ان المتبادر بحسب التصور والتخيل غير ملزوم للمتبادر بحسب التصديق بأنه مراد ، كما في إطلاق اللفظ المشترك من غير قرينة. وتحقق الثاني هنا على وجه بين واضح محل التردد ، والتمسك به مشكل. انتهى.

واما الاستدلال بما رواه في الفقيه (٢) مرسلا ـ من قوله : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به». ـ ففيه من الإجمال ـ مضافا إلى ما هو عليه من الإرسال ، وبسط جملة من متأخري أصحابنا في رده لسان المقال ـ ما يوجب الاعراض عنه في هذا المجال ، مع ان الأدلة ـ بحمد الله تعالى ـ على ما اخترناه واضحة المنار ساطعة الأنوار ، كما تلوناه عليك وأوضحناه لديك.

فائدة

قال السيد السند في المدارك : «واعلم ان أقصى ما يستفاد من الأخبار وكلام الأصحاب وجوب البدأة بالأعلى ، بمعنى صب الماء على أعلى الوجه ثم اتباعه بغسل الباقي واما ما تخيله بعض القاصرين ـ من عدم جواز غسل شي‌ء من الأسفل قبل غسل الأعلى وان لم يكن في سمته ـ فهو من الخرافات الباردة والأوهام الفاسدة» انتهى. ونسج على منواله في هذه المقالة جملة ممن تأخر عنه.

__________________

(١) سورة المائدة. الآية ٦.

(٢) ج ١ ص ٢٥ ، وفي الوسائل في الباب ـ ٣١ ـ من أبواب الوضوء.

٢٣٦

ونسبة السيد السند (قدس‌سره) ذلك إلى خيال بعض القاصرين ـ مع ان جده من جملة القائلين ـ غفلة منه ، فإنه صرح في شرح الرسالة بأن المعتبر في غسل الوجه الأعلى فالأعلى ، لكن لا حقيقة لتعسره أو تعذره بل عرفا ، فلا تعتبر المخالفة اليسيرة التي لا يخرج بها في العرف عن كونه غسل الأعلى فالأعلى. ثم قال : «وفي الاكتفاء ـ بكون كل جزء من العضو لا يغسل قبل ما فوقه على خطه وان غسل ذلك الجزء قبل الأعلى من غير جهته ـ وجه وجيه» انتهى.

بل هو ظاهر العلامة في مسألة ما لو أغفل لمعة من غسل أعضاء وضوئه ، حيث قال ـ بعد ان نقل عن ابن الجنيد التفصيل بأنها ان كانت دون سعة الدرهم بلها وصلى ـ ما صورته : «ولا أوجب غسل جميع ذلك العضو ، بل من الموضع المتروك إلى آخره ان أوجبنا الابتداء من موضع بعينه ، والموضع خاصة ان سوغنا النكس» انتهى.

وأنت خبير بان هذا هو الظاهر من الأخبار المشتملة على الوضوء البياني وغيرها

ففي صحيحة زرارة (١) «ثم غرف فملأها ماء فوضعها على جبينه ، ثم قال بسم الله وسدله على أطراف لحيته ، ثم أمر يده على وجهه وظاهر جبينه مرة واحدة ، ثم غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها ، ثم وضعه على مرفقه اليمنى وأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ، ثم ذكر في غسل اليسرى مثله».

وفي حسنة زرارة وبكير (٢) «فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى ، فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكف لا يردها إلى المرفق ، ثم ذكر مثله في غسل اليسرى».

ومثله أيضا في رواية أخرى لهما أيضا (٣) صرح بأنه غسل اليدين من المرفق إلى الكف لا يردها إلى المرفق.

وفي صحيحة صفوان المروية في تفسير العياشي (٤) «ثم يفضه على المرفق ثم يمسح إلى الكف ...».

وأمثال ذلك.

__________________

(١ و ٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٤) المروية في مستدرك الوسائل في الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الوضوء.

٢٣٧

وظاهر ذلك ـ كما ترى ـ انه ـ بعد الابتداء في الوجه بالأعلى وفي اليدين بالمرفقين ـ يستمر في إجراء الماء المغسول به إلى آخر العضو ، وهو صريح في الترتيب في نفس العضو على الوجه المذكور في كلام شيخنا الشهيد الثاني. ولزوم الحرج في ذلك ـ كما أورده شيخنا الشهيد الأول في الذكرى على العلامة بعد نقله عنه ما نقلناه هنا ـ غير واضح. وليس في شي‌ء من الأخبار ما يدل على ما ذكروه من وقوع غسل بعض الأجزاء السافلة قبل العالية سواء كانت في سمتها أم لا ، بل غاية بعضها ان يكون مطلقا والبعض الآخر كما عرفت من الظهور في الترتيب ، والقاعدة تقتضي حمل المطلق على المقيد. وبذلك يظهر ضعف ما ذهب اليه السيد السند (قدس‌سره) ومن تبعه.

(المسألة الرابعة) ـ قد اشتهر في كلام جملة من الأصحاب ـ منهم : العلامة في بعض كتبه ، بل ربما كان هو أولهم ، وتبعه عليه جمع ممن تأخر عنه ـ إثبات الخلاف في وجوب تخليل اللحية الخفيفة وعدمه ، فنقلوا عن الشيخ في المبسوط والمحقق في المعتبر وجماعة ممن تبعهما عدم الوجوب ، وعن المرتضى وابن الجنيد وجوب ذلك. واختار العلامة في المنتهى والإرشاد الأول وفي المختلف والتذكرة الثاني.

والتحقيق عند التأمل في كلام هؤلاء المنقول عنهم انه لا خلاف في البين ولا نزاع بين الفريقين ، فان كلام ابن الجنيد ينادي بصريحه على عدم وجوب غسل ما ستره الشعر من البشرة ووجوب غسل ما لم تستره ، حيث قال : «إذا خرجت اللحية فلم تكثر فتوارى بنباتها البشرة من الوجه ، فعلى المتوضئ غسل الوجه كما كان قبل ان ينبت الشعر حتى يستيقن وصول الماء إلى بشرته التي يقع عليها حس البصر اما بالتخليل أو غيره ، لان الشعر إذا ستر البشرة قام مقامها ، وإذا لم يسترها كان على المتوضئ إيصال الماء إليها» ولا أراك في شك مما ذكرنا بعد ما تلونا عليك من عبارته ، ونحوها عبارة السيد المرتضى في المسائل الناصرية ، وكذا في مسائل الخلاف. وقال الشيخ في المبسوط : «لا يجب تخليل شعر اللحية سواء كانت خفيفة أو كثيفة ، أو بعضها

٢٣٨

كثيفة وبعضها خفيفة» وقال المحقق في المعتبر : لا يلزم تخليل شعر اللحية كثيفا كان الشعر أو خفيفا ، بل لا يستحب ، وأطبق الجمهور على الاستحباب (١) ثم نقل خبرا من طريق الجمهور ، وقال بعده : ولأن الوجه اسم لما ظهر فلا يتبع المغابن ، ثم استدل بصحيحة زرارة (٢) الدالة على نفي وجوب طلب ما أحاط به الشعر. انتهى.

وأنت خبير بأن عبارة الشيخ وان أوهمت ما ادعوه إلا ان عبارة المحقق ـ بمعونة التعليلين المذكورين ـ ظاهرة في وجوب غسل ما ظهر وعدم وجوب غسل ما ستره الشعر ، لتخصيص الوجه بما ظهر ودخول ما ستر الشعر في المغابن ، ولنفي وجوب طلب ما أحاط به الشعر.

وبالجملة فمن لاحظ معنى التخليل ـ وانه عبارة عن إيصال الماء إلى البشرة المستورة ، إذ الظاهر ان إيصاله إلى الظاهرة لا يسمى تخليلا ، فمعنى عدم وجوب التخليل هو بعينه ما صرحت به صحيحة زرارة (٣) من نفي وجوب الطلب والبحث عما أحاط به الشعر ، وصحيحة محمد بن مسلم (٤) من نفي وجوب التبطين ـ لا يرتاب في اشتراك القولين في الدلالة على عدم وجوب إيصال الماء إلى البشرة المستورة بالشعر من كل اللحية كانت أو من بعضها. وبه يظهر ان ما ذكره البعض ـ من ان مطرح النزاع وجوب غسل ما ستره الشعر من اللحية الخفيفة وعدمه ـ ليس في محله ، كذلك لا يرتاب أيضا في اشتراكهما في وجوب إيصاله إلى البشرة الظاهرة التي يقع عليها حس البصر في مجلس التخاطب. وبه يظهر أيضا ضعف قول من عكس فجعل محل النزاع وجوب غسل البشرة الظاهرة دون المستورة ، مدعيا الاتفاق على عدم غسل المستورة.

__________________

(١) كما في المهذب للشيرازي ج ١ ص ١٨ والوجيز للغزالي ج ١ ص ٨ والمغني لابن قدامة ج ١ ص ١٠٥ ورد المحتار لابن عابدين ج ١ ص ٨٦.

(٢ و ٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤٦ ـ من أبواب الوضوء.

٢٣٩

الركن الثالث ـ غسل اليدين

والكلام فيه يقع في مواضع (الأول) ـ اختلف الأصحاب (نور الله تعالى مراقدهم) في وجوب الابتداء بالمرفق كمنبر ومجلس : المفصل ، وهو عبارة عن رأس عظمي الذراع والعضد كما هو المشهور ، أو مجمع عظمي الذراع والعضد ، فعلى هذا شي‌ء منه داخل في العضد وشي‌ء منه في الذراع :

فالمشهور وجوبه ، وذهب المرتضى وابن إدريس إلى الاستحباب وجواز النكس على كراهية ، تمسكا بإطلاق الآية (١) وإلى هذا القول مال أولئك الفضلاء المشار إليهم في المسألة الثالثة من الركن المتقدم.

والأظهر هو القول المشهور ، لما عرفت من الأدلة السابقة وانهم (صلوات الله عليهم) قد غسلوا كذلك ، فيقين البراءة لا يحصل إلا بمتابعتهم والعمل بما عملوه ، وخلاف ذلك ان لم يكن مرجوح الصحة فلا أقل من ان يكون مشكوكا فيها وموجبا لاحتمال البقاء تحت العهدة. والأخبار هنا قد اشتملت ـ الا النادر منها ـ على الابتداء بالمرفق :

و (منها) ـ صحيحة زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (٢) في حكاية الوضوء البياني ، قال فيها : «ثم غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها ثم وضعه على مرفقه اليمنى ، وأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ، ثم غرف بيمينه ملأها فوضعه على مرفقه اليسرى وأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ...».

و (منها) ـ ما رواه العياشي في تفسيره عن صفوان (٣) قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) عن قول الله : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ

__________________

(١) سورة المائدة. الآية ٦.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) المروية في مستدرك الوسائل في الباب ـ ١٩ ـ من أبواب الوضوء.

٢٤٠