الحدائق الناضرة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة ـ نجف
المطبعة: مطبعة النّجف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

ولعل مستنده في ذلك ان غاية ما يستفاد من الآية والاخبار الواردة في المقام عدم القبول الموجب لعدم استحقاق الثواب ، وهو غير مناف للصحة بمعنى عدم وجوب الإعادة.

وربما أيد ذلك بكثير من ظواهر الكتاب والسنة كقوله تعالى : «... إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)» (١) «... و لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ...» (٢).

وكما ورد في الاخبار الصحيحة (٣) : «ان صلاة شارب الخمر إذا سكر لا تقبل أربعين صباحا أو أربعين يوما أو ليلة».

مع عدم القول بفساد شي‌ء من ذلك ووجوب إعادته من تلك الجهة.

وأنت خبير بان الكلام هنا يرجع إلى بيان معنى الصحة في العبادات ، هل هي عبارة عن موافقة الأمر وحصول ما يستلزم الثواب ، أو انها عبارة عما يوجب سقوط العقاب وان لم يستلزم الثواب ، وإنما يستلزمه القبول وهو أمر زائد على الاجزاء والصحة ومرجع ذلك إلى كونها عبارة عما يسقط القضاء خاصة؟ المشهور الأول والمرتضى على الثاني

والظاهر هو المشهور من ان الصحة إنما هي عبارة عن موافقة الأمر وامتثاله ، وان ذلك موجب للقبول وترتب الثواب :

(أما أولا) ـ فلانه لا خلاف بين كافة العقلاء في ان السيد إذا أمر عبده أمرا إيجابيا بفعل ووعده الأجر عليه ، فاتى العبد بالفعل حسبما أمر به السيد ، ثم ان السيد رده عليه ولم يقبله منه ومنعه الأجر الذي وعده ، مع انه لم يخالف شيئا مما امره به فان العقلاء لا يختلفون في لوم السيد ونسبته إلى خلاف العدل ، سيما إذا كان السيد ممن يصف نفسه بالعدل ويتمدح بالفضل والكرم.

و (اما ثانيا) ـ فلان تفسير الصحة بأنها عبارة عما أسقط القضاء مستلزم للقول

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٢٧.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٦٤.

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب الأشربة المحرمة.

١٨١

بترتب القضاء على الأداء ، وهو خلاف ما عليه محققو الأصحاب ، وخلاف ما يستفاد من الأدلة من ان القضاء موقوف على أمر جديد ولا ترتب له على الأداء.

ولو قيل : ان الاخبار قد صرحت بأن الصلاة لا يقبل منها إلا ما اقبل عليه وربما قبل نصفها وربما قبل ثلثها وهكذا ، مع انها صحيحة إجماعا ، فالصحة حينئذ غير القبول.

قلنا : فيه ـ بعد ما عرفت ـ ان الأمر بالإقبال في العبادة انما هو أمر استحبابي وهو ما يوجب امتثاله مزيد الفضل والأجر ، لا أمر إيجابي ليكون تركه موجبا لترك الأجر بالكلية وعدم القبول بالمرة ، وحينئذ فتحمل هذه الاخبار على القبول الكامل كما لا يخفى.

على ان ثبوت الصحة فيما نحن فيه من عبادة الرياء على القول الآخر ممنوع :

(أما أولا) ـ فلان سقوط ما وجب في الذمة بيقين فرع وجود المسقط يقينا والمسقط هنا غير معلوم حينئذ ، إذ لا تسقط العبادة بغير جنسها وان تحلى بجنس صورتها ولا تتأدى الطاعة بجعلها لباسا وقالبا لضرتها.

ويرشد إلى ذلك. ما رواه أبو بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن حد العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤديا. قال : حسن النية بالطاعة».

ومع هذا فكيف يمكن ان يقال ان العبادة الواقعة على وجه الرياء صحيحة بمعنى مسقطة للقضاء؟

و (اما ثانيا) ـ فلأنك قد عرفت ـ مما تقدم من الآيات والاخبار الدالة على جعل مناط الصحة هو الإخلاص وان الرياء شرك ـ ما هو صريح في البطلان ولزوم العقاب بالمخالفة ، فكيف يتم القول بالصحة الموجبة لسقوط العقاب؟

واما ما ذكر من الظواهر فالظاهر ان المراد بعدم القبول فيها يعنى القبول الكامل ، بمعنى عدم ترتب الثواب المضاعف الموعود به. على انه قد ورد في تفسير الآية الأولى عن أهل

__________________

(١) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ ٦ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

١٨٢

العصمة (عليهم‌السلام) ان المراد بالمتقين الشيعة.

(المقام الخامس) ـ صرح جملة من أصحابنا بوجوب اشتمال النية ـ سيما في الطهارة والصلاة ـ على جملة من القيود ، واختلفوا فيها كمية وكيفية ، واستدلوا على ذلك بوجوه عقلية واعتبارات غير مرضية لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ، قد نقلها جماعة من متأخري المتأخرين في كتبهم الاستدلالية وأجابوا عنها ، ولا حاجة بنا إلى الإطالة بنقلها ونقل أجوبتها ، فإنا قد التزمنا في هذا الكتاب ان لا نطول البحث غالبا إلا فيما أغفلوا تحقيقه ولم يلجوا مضيقة.

وقصارى ما يستفاد من الأدلة الشرعية مما يتعلق بأمر النية هو قصد القربة كما تقدم تحقيقه ، ولولاه لكان الأولى الاعراض عن البحث في ذلك من باب «اسكتوا عما سكت الله عنه». «وأبهموا ما أبهم الله» (١).

نعم لو كان الفعل المقصود غير متعين في الواقع فلا بد في تعلق قصد المكلف به الى إصداره من قيد يشخصه لينصرف القصد اليه ، لما عرفت سابقا من انه لا تميز بين افراد الماهية عند القصد إلى إيجاد بعضها إلا بقصده ، كما لو اشتغلت ذمة المكلف بفائت الظهر مثلا ، فبعد دخول وقت الظهر ـ بناء على القول بالمواسعة المحضة في القضاء ـ لا يتعين ما يأتي به منها إلا بالقصد اليه بخصوصه ، فلا بد في هذه الصورة من تعيين الأداء ان قصده والقضاء كذلك.

وما عدا ذلك فلا يجب فيه التعيين ، لتعينه واقعا وان لم يتعين في نظر المكلف أيضا ، كما لو قصد إيقاع غسل الجمعة مع تعارض الاخبار عنده في الوجوب والاستحباب وعدم طريق إلى العلم بذلك ، فإنه لا يتعين عليه قصد أحدهما ، للزوم التكليف بما لا يطاق ، بل ولو امكنه العلم بذلك أيضا لعدم الدليل عليه وأصالة عدمه ، بل متى علم

__________________

(١) تقدم في التعليقة ٢ من الصحيفة ٦٠ ، وفي الصحيفة ١٥٦ من الجزء الأول ما يتعلق بذلك.

١٨٣

رجحان الفعل شرعا وقصد إلى إيقاعه لوجه الله سبحانه ، كفى من غير تعرض فيه لقصد وجوب أو استحباب.

(المقام السادس) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) جواز تقديم النية في الوضوء والغسل عند غسل اليدين المستحب ، بل حكم العلامة في المنتهى بالاستحباب ، وجوزه ابن إدريس في الغسل دون الوضوء ، فخص الجواز فيه بالمضمضة والاستنشاق ، ومنع صاحب البشرى من ذلك مطلقا ، وأوجب التأخير إلى أول الأفعال الواجبة ، نظرا إلى عدم دخول ما تقدم في مسمى الوضوء أو الغسل حقيقة ، وأيده بعضهم بأنه كيف ينوي الوجوب ويقارن به ما ليس بواجب ويجعله داخلا فيه؟ ولهذا لم يجوزوا تقديمها ومقارنتها لسائر المندوبات مثل السواك والتسمية إجماعا.

أقول : ويؤيده أيضا انه لو ساغ ذلك لجاز مثله في الصلاة أيضا ، فيقدم النية في أول الإقامة رخصة مع انهم لا يجوزونه ، والفرق بين الموضعين غير ظاهر.

وبالجملة فحيث كانت المسألة خالية من النص فالواجب الوقوف فيها على ساحل الاحتياط. وخبر ـ «إنما الأعمال بالنيات». و «لا عمل إلا بنية» (١). مع تسليم حمل النية فيه على المعنى الشرعي ، باعتبار احتمال الباء فيه للمصاحبة فيمتنع التقديم ، أو الملابسة المطلقة فيجوز ، أو السببية التي هي أعم من الناقصة والتامة فيحتملهما ـ فيه ـ كما ترى ـ من الإجمال والاحتمال ما يخرج به عن حيز الاستدلال.

وأنت خبير بان الظاهر ان الأمر في هذه المسألة بناء على ما حققناه من معنى النية هين ، فان القصد إلى إيقاع الفعل لما كان مما لا يمكن الانفكاك عنه ولا الإصدار بدونه ، وان المقارنة التي أدعوها لا دليل عليها ، فمن المعلوم ان المكلف متى جلس للوضوء عالما بكيفيته شرعا والغرض منه ، فلا يكون البتة إلا عن قصد إلى إيقاع هذه الكيفية متقربا بها ، وحينئذ فلا معنى لتقديم النية وتأخيرها ، أو افراد كل من مستحباته

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

١٨٤

وواجباته بنية على حياله. نعم ذلك إنما يتمشى على مذاق القوم من جعل النية عبارة عن ذلك الحديث النفسي ، ووجوب المقارنة به لأول الأفعال كما ذكروا. وقد عرفت ما فيه

(المقام السابع) ـ قد صرح غير واحد من أصحابنا (رضوان الله عليهم) بان من جملة واجبات النية استدامتها حكما إلى الفراغ ، ووجهه انه لما كانت النية عبارة عن القصد إلى إيقاع الفعل بعد تصوره وتصور غايته الباعثة على الإتيان به ، وانه بعد التلبس بالفعل على الوجه المذكور كثيرا ما تحصل الغفلة ويحصل السهو والنسيان الذي هو كالطبيعة الثانية للإنسان عن ذلك القصد والتصور المذكورين مع الاستمرار على الفعل لكن يكون بحيث لو رجع إلى نفسه لاستشعر ما قصده وتصوره أولا ، اقتضت الحكمة الربانية والشريعة السمحة المحمدية الجري على مقتضى النية السابقة ما لم يعرض هناك قصد أخر ناشى‌ء عن غاية أخرى باعثة عليه مرتبا للفعل عليها ، فان الفعل حينئذ يخرج بذلك عما هو عليه أولا ، لما عرفت من دوران المغايرة بين الأفعال مدار القصود والنيات.

ولك ان تقول ـ كما حققه بعض المحققين من متأخري المتأخرين ـ انه لما كانت النية عبارة عن القصد إلى الفعل بعد تصور الداعي له والحامل عليه ، والضرورة قاضية ـ كما نجده في سائر أفعالنا ـ بأنه قد يعرض لنا مع الاشتغال بالفعل الغفلة عن ذلك القصد والداعي في أثناء الفعل ، بحيث انا لو رجعنا إلى وجداننا لرأينا النفس باقية على ذلك القصد الأول ، ومع ذلك لا نحكم على أنفسنا ولا يحكم علينا غيرنا بان ما فعلناه وقت الذهول والغفلة بغير قصد ونية ، بل من المعلوم أنه أثر ذلك القصد والداعي السابقين ، كان الحكم في العبادة كذلك ، إذ ليست العبادة إلا كغيرها من الأفعال الاختيارية للمكلف ، والنية ليست إلا عبارة عما ذكرنا.

ثم قال (قدس‌سره) : «انه كما يجوز صدور الفعل بالإرادة لغرض مع الذهول في أثنائه عن تصور الفعل والغرض مفصلا ، فكذلك يمكن صدوره بالإرادة لغرض مع الذهول عنها مفصلا في ابتداء الفعل أيضا ، إذا تصور الفعل والغرض في زمان سابق

١٨٥

عليه ، وكان ذلك باعثا على صدور الفعل في هذا الزمان ، والضرورة حاكمة أيضا بوقوع هذا الفرض عند ملاحظة حال الأفعال ، فحينئذ يجوز ان يصدر الوضوء لغرض الامتثال والقربة باعتبار تصوره وتصور ذلك الغرض في الزمان السابق ، فيلزم أن يكون ذلك الوضوء صحيحا أيضا ، لما عرفت من عدم لزوم شي‌ء على المكلف زائدا على هذا المعنى ، فبطل القول بمقارنة النية لأول الأفعال» انتهى.

وهو جيد رشيق ، وفيه تأكيد اكيد لما قدمناه في المقام الثاني من التحقيق.

وبالجملة فتجدد الذهول ـ بعد قصد الفعل أولا وتصور داعيه الباعث عليه ـ لا يخرج تلك الأفعال الواقعة حال الذهول عن كونها بذلك القصد السابق. نعم لو كان أصل الدخول في الفعل بغير قصد بالكلية سهوا وغفلة فهذا هو الذي لا يعتد به اتفاقا ، لما عرفت غير مرة من ان الفعل من حيث هو لا ينصرف إلى مادة ولا يحمل على فرد إلا بالقصد اليه.

هذا. وأنت إذا حققت النظر في المقام وسرحت بريد الفكر فيما ذكره الأقوام وجدت ان البحث في هذه المسألة ليس مما له مزيد فائدة سيما في الوضوء ، وذلك لأن مجرد النية الثانية لا يترتب عليها أثر في الإبطال عندهم.

وحينئذ فلا يخلو اما ان يأتي بشي‌ء من تلك الأفعال بالنية الثانية أولا ، وعلى الثاني فاما ان يرجع إلى مقتضى النية السابقة قبل فوات الموالاة أولا.

فعلى الأول يكون بطلان الفعل بما فعله بالنية الثانية ، ويدخل في مسألة من أبطل عمله بأحد المبطلات ، ولا خصوصية له بهذه المسألة.

وعلى الثالث يبطل الوضوء لفوات بعض واجباته التي هي الموالاة ، ويرجع ذلك الى مسألة الموالاة.

وعلى الثاني فإنه لا إشكال في الصحة عندهم ، لعدم ثبوت كون مثل ذلك قادحا فيها ، مع انها الأصل.

١٨٦

نعم لو اتفق ذلك في نية الصلاة بأن نوى الخروج أو فعل المنافي ولم يفعل ، فهل يبطل ذلك الصلاة أم لا؟ قولان :

المشهور الثاني استنادا إلى أصالة الصحة ، فالإبطال يتوقف على الدليل ، وليس فليس.

وقيل بالأول استنادا إلى ان الاستمرار على حكم النية السابقة واجب إجماعا ، ومع نية الخروج أو التردد أو نية فعل المنافي يرتفع الاستمرار.

وأورد عليه ان وجوب الاستدامة أمر خارج عن حقيقة الصلاة ، فلا يكون فواته مقتضيا لبطلانها ، إذ المعتبر وقوع الصلاة بأسرها مع النية كيف حصلت ، وقد اعترف الأصحاب بعدم بطلان ما مضى من الوضوء بنية القطع إذا جدد النية قبل فوات الموالاة ، والحكم في المسألتين واحد. والفرق بينهما ـ بأن الصلاة عبادة واحدة لا يصح تفريق النية على اجزائها بخلاف الوضوء ـ ضعيف ، فإنه دعوى مجردة عن الدليل. والمتجه تساويهما في الصحة مع تجديد النية لما بقي من الأفعال ، لكن يعتبر في الصلاة عدم الإتيان بشي‌ء من أفعالها الواجبة قبل تجديد النية ، لعدم الاعتداد به ، واستلزام إعادته الزيادة في الصلاة. هكذا حققه السيد السند (قدس‌سره) في المدارك.

وأنت خبير بأن المصلي متى كبر للإحرام ودخل في الصلاة فلا يخرج منها إلا بالتسليم أو التشهد ، فجميع حالاته ـ من قيامه وقعوده وركوعه وسجوده وتشهده وما بينها حال الانتقال من أحدها إلى الآخر ـ كله من اجزاء الصلاة ، فمع نية القطع والخروج أو نية فعل المنافي يلزم ـ البتة ـ وقوع جزء من اجزاء الصلاة بغير نية ، ويلزم الخروج عن مقتضى النية السابقة. وتجديد النية الأولى ـ بعد مضي شطر من اجزاء الصلاة خاليا منها بل على نية تنافيها ـ لا يوجب نفعا في المقام ولا دفعا لذلك الإلزام. ومن ذلك ظهر الفرق بين الصلاة والوضوء ، وبه يظهر رجحان القول الأول.

إلا أن لقائل أن يقول : ان المفهوم من الاخبار جواز إيقاع بعض الأفعال

١٨٧

الخارجة عن حقيقة الصلاة فيها وان استلزمت التقدم أو التأخر بما لا يستلزم الاستدبار كغسل دم الرعاف ، وقتل الحية ، وإرضاع الصبي ، ونحوها ، مع القطع بكونها ليست من أفعال الصلاة ، مع انها لا تبطل الصلاة بها ، فبالأولى ان يكون مجرد ترك النية ـ وان استلزم ان يكون الحال الذي نوى فيه القطع خاليا عن النية السابقة ـ غير موجب للبطلان وحينئذ يتوجه المنع إلى ان جميع حالاته من بعد التكبير إلى حين التسليم من اجزاء الصلاة. الا ان الحكم بعد لا يخلو من شوب الاشكال. وحيث كانت المسألة خالية من النص فالواجب الوقوف فيها على ساحل الاحتياط.

(المقام الثامن) ـ اختلف الأصحاب في حكم نية الضمائم اللازمة في النية.

فقيل بالصحة مطلقا ، والظاهر انه المشهور.

وقيل بالبطلان مطلقا ، وهو ظاهر جماعة : منهم ـ أول الشهيدين في بيانه ، وثانيهما في روضته ، والمولى الأردبيلي في شرح الإرشاد ، وغيرهم.

وقيل بالتفصيل بين ما إذا كانت راجحة فتصح وإلا فتبطل ، واختاره جماعة : منهم ـ السيد السند في المدارك ، وادعى انه مع الرجحان لا خلاف في الصحة ، وتبعه على هذه الدعوى بعض ممن تأخر عنه.

وفيه ان جملة من عبارات من قدمنا نقل القول بالإبطال عنهم ظاهرة في الحكم بذلك من غير تفصيل بالرجحان وعدمه ، ولا سيما كلام المولى الأردبيلي (رحمه‌الله) ، حيث قصر الحكم بالصحة على مجرد كون الفعل لله ، وحكم بان كل ما يضم اليه من لازم وغيره فهو مناف لذلك.

وقيل بتخصيص الصحة بما إذا كانت الضميمة راجحة ولا حظ المكلف رجحانها ، وهو الذي اختاره شيخنا أبو الحسن (قدس‌سره) في رسالة الصلاة ، وجزم به والدي (قدس‌سره).

وقيل بالتفصيل بأنه ان كان الباعث الأصلي هو القربة ثم طرأ قصد التبرد مثلا

١٨٨

عند الابتداء في الفعل لم يضر ، وان كان العكس أو كان الباعث مجموع الأمرين ، لم يجزئ ، وهذا القول ذكره في الذكرى احتمالا ، واليه ذهب بعض متأخري المتأخرين.

والظاهر ان مراد مشترط رجحان الضميمة هو ملاحظة رجحانها أيضا وقصده ، نظرا إلى ان التعليق على الوصف مشعر بالعلية ، فان مجرد رجحانها في الواقع من غير ملاحظة المكلف له لا يخرج الضميمة عن كونها مرجوحة أو متساوية الطرفين ، فإن العبادة إنما تصير عبادة يترتب عليها أثرها بنيتها وقصدها ، وحينئذ فيرجع القول الثالث والرابع الى واحد.

احتج من ذهب إلى الأول بعدم منافاة الضميمة لنية القربة ، وانه كنية الغازي للقربة والغنيمة ، وانها لكونها لازمة فنيتها لا تزيد على أصل حصولها.

وفيه ان ما ادعوه من عدم المنافاة فهو أول البحث. والتمثيل بالغازي لا ينهض حجة ، لمنع ذلك فيه أيضا. وقوله ـ : «ان نيتها لا تزيد على أصل حصولها» ـ ممنوع ، إذ لا يلزم من حصولها ضرورة جواز نية حصولها ، وهل الكلام إلا فيه؟ مع انه منتقض بالرياء وان رؤية الناس أيضا لازم ، فيجب ان يكون قصده غير مضر بالعبادة ، والخصم لا يقول به.

واحتج من ذهب إلى الثاني بمنافاة الضميمة للإخلاص له سبحانه.

وفيه انه مع عدم رجحان الضميمة مسلم ومع الرجحان ممنوع ، كما سيأتي بيانه.

احتج من ذهب إلى الثالث بما ورد في الاخبار من قصد الإمام بإظهار تكبيرة الإحرام الاعلام ، وضم الصائم إلى نية الصوم قصد الحمية ، ومخرج الزكاة علانية ـ بل سائر أفعال الخير ـ اقتداء الناس به ، ونحو ذلك.

ومن هذه الأدلة يعلم ان قصد المكلف هذه الضمائم إلى ما ضمت اليه إنما تعلق بها لرجحانها ، وإلا فلربما تطرق إليها احتمال الإبطال في بعضها من حيث دخوله في الرياء ، كالاعلان بالزكاة ونحوه.

١٨٩

وهذا القول هو الأقوى عندي ، لعدم الدليل على ما سواه كما عرفت ، واعتضاده بما عرفت من الأدلة (١) الا ان الظاهر انه لا اختصاص له بالضميمة اللازمة بل يجري في الخارجة أيضا ، فإن ما ذكر ـ من مثال مخرج الزكاة علانية لاقتداء الغير به ـ إنما هو من قبيل الضميمة الخارجة دون اللازمة ، إذ لا ملازمة بين إخراج الزكاة واقتداء الغير. ومثل ذلك أيضا ما ورد من استحباب إطالة الإمام ذكر الركوع لانتظار الداخل ، وإطالته القيام في صلاة الخوف لانتظار إتمام الفرقة الاولى ودخول الثانية ، وجهر المصلي بصلاة الليل في منزله ليوقظ جاره للصلاة ان كان ممن يعتادها ، ونحو ذلك.

(المقام التاسع) ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو نوى ببعض واجبات العبادة الندب عمدا أو جهلا بطلت ، ولو نوى ببعض مندوباتها الوجوب ، فان اتصف بالكثرة بطلت أيضا وإلا فلا ، وهو مبني على أمور :

(أحدها) ـ وجوب قصد الوجه من وجوب أو ندب في أصل العبادة ، وفيما يأتي به من الأفعال الواجبة أو المندوبة.

و (ثانيها) ـ عدم تداخل الواجب والندب ، فلا يجزئ أحدهما عن الثاني ، لتغاير الجهتين فيهما ، وحينئذ فلو خالف بان نوى بالواجب الندب عمدا أو جهلا بطلت الصلاة ، للإخلال بالواجب على ذلك الوجه اللازم منه عدم الإتيان بالمأمور به على وجهه ، فلم يطابق فعله ما في ذمته ، لاختلاف الوجه ، ويمتنع إعادته ، للزوم زيادة أفعال الصلاة عمدا ، فلم يبق إلا البطلان. ولو نوى بالمندوب الوجوب فان كان ذكرا بطلت أيضا ، للنهي المقتضي للفساد ، ولانه كلام في الصلاة ليس منها ولا مما استثنى منها ، وان

__________________

(١) أقول : ومن ذلك أيضا حديث حماد بن عيسى الدال على ان الصادق (عليه‌السلام) صلى تلك الركعتين اللتين صلاهما تعليما لرعيته ، ومثله الحديث الدال على العلة في استحباب التكبيرات الافتتاحية وان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كبرها لأجل أن يتابعه الحسين (عليه‌السلام) فيها حين ابطأ عن الكلام. وأمثال ذلك كثير يقف عليه المتتبع لموارد الأخبار (منه رحمه‌الله).

١٩٠

كان فعلا كالطمأنينة مثلا ، اعتبر في الحكم بإبطاله الكثرة التي تعتبر في الفعل الخارج عن الصلاة. واستقرب الشهيد في البيان الصحة في هذا القسم مطلقا ، لأن نية الوجوب إنما أفادت تأكيد الندب.

و (ثالثها) ـ وجوب العلم بواجبات الصلاة ومندوباتها ليقصد الوجه في كل منهما ، وعدم معذورية الجاهل في ذلك ، بل الواجب عليه العلم بذلك اجتهادا أو تقليدا وبدونه يبطل ما يأتي به من العبادة ، وانه لا معذورية للجاهل إلا في الموضعين المشهورين هكذا قرروا (رضوان الله عليهم).

وهو منظور فيه من وجوه : (أحدها) ـ ما أشرنا إليه آنفا ـ وبه صرح جملة من متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم) ـ من انه لم يقم لنا دليل يوجب المصير الى ما ذكروه من وجوب قصد الوجه في العبادة واستحبابه ، والأحكام الشرعية توقيفية لا يجوز الحكم فيها إلا بما قام الدليل الشرعي عليه ، وإلا كان من باب «اسكتوا عما سكت الله عنه». و «أبهموا ما أبهمه الله» كما ورد عنهم (عليهم‌السلام) (١).

وما ذكروه في مقام الاستدلال على ذلك مجرد اعتبارات عقلية ووجوه تخريجية لا تصلح للاعتماد عليها في الأحكام الشرعية.

وبذلك يظهر ان ما ذكروه من البطلان بنية الواجب ندبا ممنوع. قوله : للإخلال بالواجب ـ مردود بعدم قيام الدليل على وجوب ما أوجبه ، وكذلك قوله : لعدم مطابقة فعله ما في ذمته ، لعدم قيام الدليل على المطابقة المزبورة على الوجه الذي ذكره.

و (ثانيها) ان ما ذكر ـ من كون أحدهما لا يجزئ عن الآخر ـ مردود بوقوع ذلك في جملة من الموارد :

__________________

(١) تقدم في التعليقة (٢) من الصحيفة (٦٠) وفي الصحيفة ١٥٦ من الجزء الأول ما يتعلق بذلك.

١٩١

منها ـ صلاة الاحتياط المقصودة بنية الوجوب ، فإنها بعد ظهور الاستغناء عنها تكون نافلة اتفاقا نصا وفتوى.

ومنها ـ ما لو صام يوما قضاء عن شهر رمضان ثم تبين انه اتى به سابقا ، فان الظاهر ترتب الثواب على ما اتى به.

ومنها ـ ما لو شرع في نافلة ثم سهى في أثنائها فاتى ببعض الأفعال بقصد الوجوب ظنا منه انه في فريضة.

هذا في اجزاء الواجب عن الندب. واما بالعكس :

فمنه ـ ما لو صام يوم الشك بنية الندب فظهر انه من شهر رمضان.

ومنه ـ ما لو دخل في الفريضة فسهى في أثنائها واتى ببعض أفعالها على انها نافلة ومنه ـ ما لو توضأ للتجديد فظهر كونه محدثا.

ومنه ـ ما لو جلس للاستراحة فلما قام ظهر أنه نسي سجدة ، فإنه يسجد ويقوم الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع.

فان قيل : ان هذا كله خارج عن صورة العمد. قلنا : المدعى عندهم أعم وبه يلزم المطلوب.

و (ثالثها) ـ ان ما ذكره ـ من انه يمتنع إعادته للزوم زيادة أفعال الصلاة ـ مردود بان ما اتى به إنما قصد به الندب ، والعبادة ـ كما عرفت ـ تابعة للقصد ، وحينئذ فليس ما اتى به من أفعال الصلاة على هذا التقدير ، فيكون الواجب باقيا في ذمته ، فإنه لو قرأ الفاتحة ـ مثلا ـ بقصد الندب وانها قرآن ، وهو مستثنى عندهم في الصلاة اتفاقا ، أو اتى بأحد الأذكار الواجبة أيضا بقصد الندب ، مع استثناء ذلك أيضا عندهم في الصلاة اتفاقا ، ثم اتى بالواجب في الموضعين بقصد الوجوب ، فأي موجب للبطلان هنا؟

و (رابعها) ـ ان ما ذكره ـ من بطلان الصلاة بنية المندوب واجبا إذا كان

١٩٢

ذكرا ممنوع ، لأن النهي على تقدير تسليمه لم يتعلق بعين الصلاة ولا يجزئها ، فلا يلزم البطلان.

قوله : «ولانه كلام في الصلاة. إلخ» فيه ان المعلوم كونه مبطلا من الكلام هو ما لم يكن ذكرا ولا دعاء ، وما نحن فيه ليس كذلك.

ثم حكمه أيضا ـ بالإبطال في الفعل مع الكثرة ـ فيه انه متى كان الفعل ذكرا ممنوع ، إذ الظاهر من الدليل هو ما عداه.

و (خامسها) ـ ان ما ذكره ـ من وجوب العلم بواجبات الصلاة ومندوباتها عن اجتهاد أو تقليد ، وانه لا يعذر الجاهل بذلك ـ فيه انه ليس على إطلاقه.

والتحقيق ـ كما هو اختيار جمع من المحققين من متأخري المتأخرين ـ ان نقول : انه لا إشكال في وجوب التعلم على الجاهل ، وانه بالإخلال به يأثم ، لكن لو أوقع العبادة والحال كذلك ، واتفق مطابقتها للواقع حسبما أمر به الشارع وان لم يكن له معرفة بواجباتها ولا مندوباتها ، فلا نسلم بطلانها ووجوب قضائها كما ذهبوا إليه ، إذ لم يثبت من الشارع في التكليف بأمثال ذلك أمر وراء الإتيان بما أمر به ، من الكيفية المخصوصة وقصد التقرب به اليه ، والفرض ان المكلف قد أوقعه كذلك ، ولا ينافي ذلك ما تردد من أفعالها بين الوجوب والاستحباب باعتبار الخلاف فيه ، لان قصد القربة به لرجحانه شرعا آت عليه. نعم لو كان الفعل مما تردد بين الوجوب والتحريم مثلا ، فان قصد القربة لا يأتي عليه ، فلا بد من العلم حينئذ بأحد الأمرين اجتهادا أو تقليدا ، وإلا فيجب الوقوف حينئذ على صراط الاحتياط ، والمفهوم من الأخبار ـ كما أوضحناه في درة الجاهل بالأحكام الشرعية من كتاب الدرر النجفية ـ ان الاحتياط في مثل ذلك بالترك.

واما عدم معذورية الجاهل بالأحكام الشرعية مطلقا كما ذكروه. فقد عرفت

١٩٣

ما فيه في المقدمة الخامسة (١).

(المقام العاشر) ـ لو نوى بوضوئه صلاة نافلة ، فالظاهر انه لا خلاف في الدخول به في الفريضة ، واما إذا قصد به غير الصلاة ، فإن كان مما لا يستباح إلا به ، كمس خط المصحف على المشهور ، والطواف المندوب على القول به ، فالمشهور انه كذلك ونقل عن الشيخ في المبسوط المنع ، وهو ظاهر ابن إدريس أيضا ، وان كان مما يستباح بدونها ، كسائر ما يستحب له الوضوء مما لا يجامعه حدث أكبر ، فهل يصح الوضوء مطلقا ويرتفع به الحدث ويجوز الدخول به في الفريضة ، أو لا يرتفع به الحدث مطلقا ، أو يكون كالأول إلا فيما إذا نوى وضوء مطلقا ، أو التفصيل بين نية ما يستحب له الطهارة لأجل الحدث كقراءة القرآن ونية ما يستحب له لا لأجل الحدث كالتجديد ، فيرتفع الحدث به ويجوز الدخول به في الفريضة على الأول دون الثاني ، أو التفصيل بين ما يستحب له الطهارة لأجل الحدث ويقصد به الكمال فيصح ، أو لا يستحب له الطهارة أو يستحب ولكن لا مع قصد الكمال فيبطل ، أو الصحة ان قصد ما الطهارة مكملة له على الوجه الأكمل ، وكذا ان قصد به الكون على طهارة ، وعدم الصحة في غير هاتين الصورتين؟ أقوال : أظهرها ـ كما استظهره جماعة من متأخري أصحابنا ـ الأول.

ولنا عليه وجوه : (الأول) ـ ان الأخبار الواردة مستندا لتلك الوضوءات المعدودة كلها ـ إلا ما شد ـ بلفظ الطهر أو الطهور أو الطهارة ، ومن الظاهر البين اعتبار معنى الزوال والإزالة في لازم هذه المادة ومتعديها لغة وشرعا ، فلا معنى لكون الوضوء مطهرا أو طهورا أو نحوهما إلا كونه مزيلا للحدث الموجود قبله ، وإلا فلا معنى لهذه التسمية بالكلية ، ومن ثم صرحوا بأن الطهارة لغة : النظافة ، وشرعا حقيقة في رافع

__________________

(١) في الصحيفة ٨٢ من الجزء الأول.

١٩٤

الحدث. واما الوضوء المجامع للحدث الأكبر فقرينة التجوز فيه ظاهرة ، كإطلاق الصلاة على صلاة الجنازة.

(الثاني) ـ ان المفهوم من الأخبار الواردة في بيان علة الوضوء ان أصل مشروعيته انما هو للصلاة خاصة ، وقضية ذلك انه حيثما أمر به الشارع لا يكون إلا رافعا ـ إلا ما خرج بدليل ـ تحقيقا للجري على أصل المشروعية ، ويحقق ذلك ويوضحه ان الغاية الكلية للوضوء من حيث هو إنما هي الرفع ، وهذه الغايات إنما تترتب عليه ، إذ لا يخفى ان المتوضئ لأحد هذه الغايات لو لم يرتفع حدثه ، للزم اجتماع الطهارة والحدث في حالة واحدة ، مع انهما متقابلان ، على انه لو قصد في الوضوء لدخول المسجد مثلا عدم رفع الحدث ، لم نسلم صحته ، ولا ترتب أثره الذي قصد عليه.

وما قيل ـ من انه يجوز أن يكون الغرض من الوضوء وقوع تلك الغاية المترتبة عليه عقيبه وان لم يقع رافعا كما في الأغسال المندوبة عند الأكثر (١) ـ فيه (أولا) ـ ما قد عرفت في الوجه الأول والثاني.

و (ثانيا) ـ ان الإيراد بالأغسال إنما يتم لو اقتضى الدليل كونها كذلك ، ومجرد ذهاب الأكثر اليه ـ مع كونه خاليا من الدليل بل الدليل قائم على خلافه ـ لا يثمر نقضا كما لا يخفى.

(الثالث) ـ انا لا نعرف من الوضوء شرعا إلا هذه الأفعال المعهودة ، فمتى اتى بها المكلف متقربا صح وضوؤه ، ومتى صح وضوؤه جاز له الدخول به في الصلاة ، إذ الشرط فيها طهارة صحيحة وقد حصلت ، ومدعى الزيادة عليه إثباتها. وهذا كله ـ بحمد الله سبحانه ـ ظاهر لمن شرب من كأس الأخبار وجاس خلال تلك الديار.

واما ما استجوده السيد السند في المدارك ـ من الاستدلال بعموم ما دل على ان

__________________

(١) فيه إشارة إلى الرد بذلك على صاحب المدارك حيث انه القائل بذلك (منه قدس‌سره).

١٩٥

الوضوء لا ينقض إلا بالحدث ـ فقد أورد عليه بان عدم الانتقاض لا يقتضي ترتب جميع ما يترتب على كل وضوء ، بل يقتضي استصحاب ما ثبت ترتبه على ذلك الوضوء وهو متجه.

(المقام الحادي عشر) ـ اختلف الأصحاب (قدس الله أرواحهم) في تداخل الأغسال في النية على أقوال سيأتي تفصيلها ان شاء الله تعالى ، الا أنا قبل الشروع في ذلك نقدم من مجمل التحقيق ما يكون طريقا إلى الخروج من ذلك المضيق.

فنقول : الظاهر ان الحدث ـ الذي هو عبارة عن الحالة المسببة عن أحد الموجبات الممتنع الدخول معها في الصلاة ـ أمر كلي وان تعددت أسبابه من البول والغائط ونحوهما والجنابة والحيض ونحوهما ، ولا يتعدد بتعددها ، والمقصود من الطهارة بأنواعها رفع هذه الحالة ، وملاحظة خصوصية السبب كلا أو بعضا لا مدخل له في ذلك بصحة ولا إبطال فذكره كتركه ، وان الطهارة ـ وضوء كانت أو غسلا ـ لغاية من الغايات متى كانت خالية من المبطل ، صح ترتب ما عدا تلك الغاية من سائر الغايات المشاركة لها على تلك الطهارة وان لم تكن مقصودة حال الفعل ، وهذا في الوضوء واضح كما أسلفنا بيانه في سابق هذا المقام ، واما في الغسل فمبني على أصح القولين ـ وان لم يكن بأشهرهما ـ من رفع ما عدا غسل الجنابة من الأغسال واجبا كان أو مستحبا وعدم احتياجه إلى الوضوء كما ذهب اليه علم الهدى من المتقدمين ، ونهج على منواله طائفة من متأخري المتأخرين ، وعليه دلت أخبار أهل الذكر (سلام الله عليهم) واما على المشهور فيشكل الحكم ، لعدم الرفع ، ولهذا يوجب المانعون نية الأسباب في تداخل الأغسال المستحبة ، لعدم اشتراكها في موجب الرفع ، فلا تداخل بدونه ، وأشكل على بعضهم اندراج غسل الجنابة تحت ما عداه من الأغسال الواجبة ، لعدم رفعه إلا مع الوضوء ، لو نوى ما عدا الجنابة خاصة ، وأشكل على جملة منهم الحكم بالتداخل في الواجب والمستحب للتضاد بين وجهي الوجوب والاستحباب.

١٩٦

والمفهوم من اخبار التداخل ـ كما ستمر بك ان شاء الله تعالى ـ هو التداخل مطلقا ، واجباتها بعضها في بعض ، ومستحباتها كذلك ، وواجباتها ومستحباتها كل في الآخر ، أعم من ان يقصد شيئا من الأسباب الحاملة والغايات الباعثة أم لا ، بل الظاهر منها انه بملاحظة بعض تلك الأسباب والغايات يستباح به ما عداه مما لم تلحظ غايته ، وانه لا فرق في هذا المقام بين الوضوء والغسل.

وتفصيل هذه الجملة ـ على وجه يحيط بما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) في المقام ، والتنبيه على ما زلت به اقدام أقلام بعض الاعلام ـ

هو ان يقال : الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في عدم الافتقار إلى نية الحدث المتطهر منه في الوضوء ، أعم من ان يكون متحدا أو متعددا ، اما على تقدير الاكتفاء بمجرد القربة فظاهر ، واما على تقدير وجوب نية الرفع فالواجب هو قصد رفعه من حيث هو ، لكن لو قصد رفع حدث بعينه مع تعدد الأسباب ، فقد قطع أكثر الأصحاب بارتفاع الجميع أيضا ، لأن الحدث أمر كلي وان تعددت أسبابه ، فمن أجل ذلك ثبت لها التداخل باشتراكها في ذلك الأمر الكلي ، فبارتفاع أحدها يرتفع الجميع ، فمتى نوى أحدها وجب حصوله ، وحصوله يستلزم حصول الجميع لما عرفت.

وبذلك يظهر الجواب عما يقال : ان الأحداث لا تتجزأ وليس ثمة إلا أمر واحد كلي ، فمع عدم نيته لا يرتفع ، ونية خصوصية فرد منه لا تستلزم نيته.

ويمكن أيضا الجواب بالصحة وان وقع الخطأ في النية ، لصدق الامتثال بذلك ووقوع القيد لغوا.

واعترض آخر أيضا بمنع تداخل الأحداث عند تعدد أسبابها ، فقال : لم لا يجوز ان يحصل من كل منها حدث على حدة لا بد لنفيه من دليل؟

أقول : وكأنه لهذا احتمل العلامة في النهاية رفع ما نواه خاصة ، بناء

١٩٧

على انها أسباب متعددة ، قال : «فإن توضأ ثانيا لرفع آخر صح ، وهكذا إلى آخر الأحداث» انتهى.

وفيه ـ مع ما تقدم ـ ان المفهوم من الأخبار الواردة في تداخل الأغسال هو الاكتفاء بغسل واحد مع تعدد أسبابه كما سيأتي ان شاء الله تعالى. وهو دليل على عدم تعدد الأحداث وان تعددت الأسباب ، وإلا وجب لكل منها غسل ، والدليل على خلافه. والفرق بين حدثي الوضوء والغسل في ذلك غير معقول ، مع انه لا قائل به.

وكيف كان فالخطب عندنا بعد عدم ثبوت نية الرفع سهل. هذا في الوضوء.

واما الغسل فقد اختلف فيه على أقوال : (أحدها) ـ التداخل مطلقا و (ثانيها) ـ عدمه مطلقا. و (ثالثها) ـ التداخل مع انضمام الواجب لا بدونه و (رابعها) ـ التداخل لا مع انضمامه ، هكذا نقل عنهم بعض متأخري المتأخرين من مشايخنا المحققين ، إلا ان الظاهر من تتبع كلامهم في هذا المجال هو التفصيل في هذه الأقوال كما سنوضحه ـ ان شاء الله تعالى ـ على وجه يرفع الاشكال.

فنقول : انه مع اجتماع الأسباب المذكورة فلا يخلو اما ان يكون كلها واجبة أو كلها مستحبة أو مجتمعة منهما ، فههنا صور ثلاث : (الاولى) ـ ان تكون كلها واجبة ، والأظهر الأشهر الاكتفاء بغسل واحد مطلقا ، داخلها الجنابة أم لا ، عين الأسباب كلا أو بعضا أم لا ، اقتصر على نية القربة كما هو الأظهر غير الأشهر أو زاد عليها الرفع والاستباحة.

وذهب العلامة في جملة من كتبه إلى انه مع انضمام الجنابة إلى غيرها ، فان نوى الجنابة أجزأ عنها وعن غيرها ، وان نوى غيرها فظاهر كلامه في النهاية صحة الغسل ورفعه للحدث الذي نواه خاصة دون حدث الجنابة ، معللا بان رفع الأدون لا يستلزم رفع الأعلى ، هذا مع عدم اقترانه بالوضوء ، ومعه احتمل الرفع وعدمه. وظاهر كلامه في التذكرة الاستشكال في صحة الغسل من أصله ، من جهة عدم ارتفاع ما عدا الجنابة مع بقائها لعدم نيتها وعدم اندراجها تحت ما عداها ، ومن أنها طهارة قرنت بها

١٩٨

الاستباحة ، فإن صحت قرن بها الوضوء ، وحينئذ فالأقرب رفع حدث الجنابة بها. ولا يخفى عليك ما في هذه التعليلات العليلة سيما في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة.

(الصورة الثانية) ـ ان يكون بعضها واجبا وبعضها مستحبا ، والأظهر أيضا ـ كما استظهره جملة من أصحابنا (قدس الله أرواحهم) ـ هو الاكتفاء فيها بغسل واحد مطلقا حسبما قدمنا من التفصيل في الإطلاق.

وذهب الشيخ في خلافه ومبسوطه ـ والظاهر انه هو المشهور بينهم كما صرح به بعض المتأخرين ـ إلى انه ان نوى الجميع أو الجنابة أجزأ غسل واحد ، وان نوى غسل الجمعة مثلا لم يجزه ، لا عن غسل الجنابة ، لعدم نيته ، ولا عن الجمعة ، لأن المراد به التنظيف وهو لا يحصل مع بقاء الحدث.

واعترضه المحقق في الثاني بأنه يشكل باشتراط نية السبب في الغسل المستحب ، وفي الثالث بأنه يجزئ عن الجمعة خاصة ، إذ ليس المراد من المندوب رفع الحدث ، فيصح ان يجامعه الحدث كما يصح غسل الإحرام من الحائض.

وذهب العلامة في التذكرة إلى انه مع نيتهما معا يبطل الغسل ، ومع نية الجنابة خاصة يصح بالنسبة إليها خاصة ، وان نوى الجمعة صح عنها خاصة مع بقاء حدث الجنابة ، ولو اغتسل ولم ينو شيئا بطل. وههنا إشكال سيأتي التنبيه عليه ان شاء الله تعالى.

(الصورة الثالثة) ـ ان تكون كلها مستحبة ، والأظهر أيضا الصحة حسبما قدمنا وذهب المحقق في المعتبر إلى الصحة ان نوى الجميع ، واما إذا نوى بعضها اختص بما نواه ، قال : «لأنا قد بينا ان نية السبب في المندوب مطلوبة ، إذ لا يراد به رفع الحدث ، بخلاف الأغسال الواجبة ، لأن المراد بها الطهارة فتكفي نيتها وان لم ينو السبب» انتهى. وهو صريح العلامة في التذكرة وظاهر الشهيد في الذكرى.

وفي المنتهى قرب الاكتفاء بغسل واحد ولم يفصل ، وفي التحرير والقواعد والإرشاد حكم بعدم التداخل ولم يفصل ، وهو ظاهر الدروس ، حيث نسب القول

١٩٩

بالتداخل إلى قول مروي.

ونقل عن المحقق الشيخ علي في شرح القواعد انه رجح عدم التداخل في هذه الصورة ولو مع نية الأسباب ، متمسكا بعدم الدليل على التداخل.

هذا. والذي يدل على ما اخترناه ويؤيد ما رجحناه روايات مستفيضة :

(منها) ـ حسنة زرارة (١) قال : «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة ، وإذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك عنها غسل واحد ، ثم قال : وكذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها».

وهذه الرواية وان كانت مضمرة في الكافي إلا ان الإضمار الواقع في أخبارنا ، سيما إذا كان المضمر من أجلاء الرواة وأعيانهم ـ كما حققناه في موضع آخر ، وصرح به جملة من أصحابنا المتأخرين ـ غير مضر ، مع ان هذه الرواية مسندة في التهذيب عن أحدهما (عليهما‌السلام) وان كان في طريقها علي بن السندي وهو مجهول ، وقد رواها ابن إدريس (رحمه‌الله) في مستطرفات السرائر ، ونقل انه مما انتزعه من كتاب حريز ، فرواها عنه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) وكتاب حريز أصل معتمد وكيف كان فالرواية صحيحة ، وهي صريحة في المطلوب.

و (منها) ـ مرسلة جميل عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٢) قال : «إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأه ذلك الغسل من كل غسل يلزمه في ذلك اليوم».

وفي جملة من الاخبار ما يدل على التداخل في خصوص بعض الأغسال :

كصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (٣) : قال :

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة. والرواية ـ كما في الكافي ج ١ ص ١٤ وسائر كتب الحديث ـ عن أحدهما (عليهما‌السلام).

(٣) المروية في الوسائل في الباب ـ ٤٣ ـ من أبواب الجنابة.

٢٠٠