الحدائق الناضرة - ج ٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة ـ نجف
المطبعة: مطبعة النّجف
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

والعمل بما اشتملت عليه ـ مما لا يتجشم إنكاره ، وقد رواها البرقي في المحاسن (١) أيضا وهو مؤيد لما قلنا.

و (ثالثا) ـ ان ما ذكره ـ من انه لم يعلم من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ولا من أهل بيته (عليهم‌السلام) توظيفهما في الوضوء ـ معارض بأنه لم يعلم منهم أيضا الإتيان بهما في غير حال الوضوء ، فإن التجأ إلى إطلاق الاخبار بأنهما من السنة ، قلنا : العام لا دلالة له على الخاص. وان قيل : الفرض نفي استحبابهما في الوضوء ، قلنا : الاستحباب قد ثبت بجملة من الاخبار المذكورة آنفا كرواية عبد الرحمن المذكورة (٢) ورواية العهد (٣) ورواية عمرو بن خالد (٤) واشتمال آخر الأخيرة على ما يشعر بالتقية لا يقتضي بطلان الاستدلال بها على ما عدا موضع التقية ، إذ سبيلها فيما لا معارض له سبيل العام المخصوص في غير موضع التخصيص ، سيما مع الاعتضاد بما ذكرنا من الاخبار ، وهي موثقة أبي بصير وظاهر موثقة سماعة ، فإن قوله فيها : «هما من السنة» وان كان أعم من كونه في الوضوء أم لا إلا ان قوله : «فان نسيتهما. إلخ» يعين ما قلناه ، إذ لا ارتباط بين استحبابهما مطلقا وبين توهم الإعادة لهما.

وحينئذ فما عدا ما ذكرنا من الأخبار مما كان مطلقا فسبيله الحمل على المقيد رعاية للقاعدة المقررة ، وما كان متضمنا للنفي فوجهه الحمل على نفي الوجوب كما قدمنا. وعلى ذلك تنتظم الاخبار ويزول عنها غبار الغيار.

وما نقله في المختلف عن ابن أبي عقيل هو بعينه مضمون رواية زرارة المتقدمة (٥) لأن من شأنه (قدس‌سره) في كتابه ـ بل جملة المتقدمين ـ التعبير بمتون الاخبار ، وحينئذ فيحمل كلامه على ما تحمل عليه الرواية ، وبذلك يتبدل الاختلاف بالائتلاف كما لا يخفى على من نظر بعين الإنصاف.

__________________

(١) في الصحيفة ٤٥.

(٢) والآتية في الصحيفة ١٦٧.

(٣ و ٤ و ٥) في الصحيفة ١٥٧.

١٦١

فائدة

قد صرح جمع من المتأخرين باستحباب المضمضة والاستنشاق بثلاثة أكف ، وانه مع إعواز الماء يكفي الكف الواحد ، وانه يشترط تقديم المضمضة أولا ، وجوز العلامة في النهاية ان يتمضمض مرة ويستنشق مرة وهكذا ثلاثا ، سواء كان الجميع بغرفة أو غرفتين أو أزيد.

واعترضهم جمع من متأخريهم بعدم وجود المستند في شي‌ء من هذه التفاصيل سوى رواية عبد الرحمن بن كثير (١) فإنها دلت على تقديم المضمضة وعطف الاستنشاق عليه ب «ثم».

أقول : وقد دلت رواية العهد المتقدمة على التثليث أيضا ، لكن أعم من ان يكون بثلاثة أكف في كل منهما أو أقل وان كان الظاهر الأول ، فيحصل من كلتا الروايتين استحباب تقديم المضمضة على الاستنشاق وتثليثهما.

و (منها) ـ الدعاء حالة المضمضة والاستنشاق بما ورد عن الأمير (صلوات الله عليه) في رواية عبد الرحمن بن كثير (٢) حيث قال : «... ثم تمضمض فقال : اللهم لقني حجتي يوم ألقاك ، وأطلق لساني بذكرك ، ثم استنشق فقال : اللهم لا تحرم علي ريح الجنة واجعلني ممن يشم ريحها وروحها وطيبها ...».

و (منها) ـ كون الوضوء بمد إجماعا نصا وفتوى ، ومن الاخبار في ذلك صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (٣) قال : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يتوضأ بمد من ماء ويغتسل بصاع». ومثله في صحيحة زرارة (٤) وزاد فيها «والمد رطل ونصف ، والصاع ستة أرطال».

__________________

(١ و ٢) الآتية في الصحيفة ١٦٧.

(٣ و ٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب الوضوء.

١٦٢

ورواية أبي بصير (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الوضوء. فقال : كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يتوضأ بمد ويغتسل بصاع».

وما رواه في الفقيه (٢) مرسلا قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): الوضوء مد والغسل صاع ، وسيأتي أقوام من بعدي يستقلون ذلك ، فأولئك على خلاف سنتي ، والثابت على سنتي معي في حظيرة القدس». الى غير ذلك من الاخبار.

ومما يدل على ان ذلك على جهة الاستحباب دون الوجوب إجماع الفرقة الناجية على ذلك أولا ، واستفاضة الأخبار بإجزاء مثل الدهن ثانيا ، كما سيأتي في موضعه ان شاء الله تعالى.

وهل ماء الاستنجاء داخل في المذكور؟ ظاهر شيخنا الشهيد في الذكرى ذلك حيث قال : «المد لا يكاد يبلغه الوضوء ، فيمكن ان يدخل فيه ماء الاستنجاء ، كما تضمنته رواية ابن كثير عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) (٣)».

واستحسنه في المدارك ، قال : «وربما كان في صحيحة أبي عبيدة الحذاء (٤) اشعار بذلك أيضا ، فإنه قال : «وضأت أبا جعفر (عليه‌السلام) بجمع وقد بال ، فناولته ماء فاستنجى ، ثم صببت عليه كفا فغسل به وجهه. الحديث». ويؤيده دخول ماء الاستنجاء في صاع الغسل على ما سيجي‌ء بيانه» انتهى.

واعترض في كتاب الحبل المتين على كلام الذكرى ، فقال : «وظني ان كلامه هنا إنما يتمشى على القول بعدم استحباب الغسلة الثانية ، وعدم كون المضمضة والاستنشاق من أفعال الوضوء الكامل ، واما على القول بذلك ـ كما هو مختاره (قدس‌سره) ـ

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) ج ١ ص ٢٣ ، وفي الوسائل في الباب ـ ٥٠ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) الآتية في الصحيفة ١٦٧.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٥ ـ من أبواب الوضوء.

١٦٣

فلا ، فان المد على ما اعتبرناه لا يزيد على ربع المن التبريزي المتعارف في زماننا هذا بشي‌ء يعتد به ، وهذا المقدار إنما يفي بأصل الوضوء المسبغ ولا يفضل منه شي‌ء للاستنجاء فان ماء غسل اليدين كف أو كفان ، وماء كل من المضمضة والاستنشاق والغسلات الواجبة والمندوبة ثلاث أكف ، فهذه ثلاث عشرة أو أربع عشرة كفا ، وهذا ان اكتفى في غسل كل عضو بكف واحدة ، وإلا زادت على ذلك ، فأين ما يفضل للاستنجاء؟ وأيضا ففي كلامه (طاب ثراه) بحث آخر ، وهو انه ان أراد بماء الاستنجاء الذي حسبه من ماء الوضوء ماء الاستنجاء من البول وحده ، فهو شي‌ء قليل حتى قدر بمثلي ما على الحشفة ، وهو لا يؤثر في الزيادة والنقصان أثرا محسوسا ، وان أراد ماء الاستنجاء من الغائط أو منهما معا لم يتم استدلاله بالروايتين المذكورتين ، إذ ليس في شي‌ء منهما دلالة على ذلك ، بل في رواية الحذاء (١) ما يشعر بان الاستنجاء كان من البول وحده ، فلا تغفل» انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

واما تحقيق قدر المد فسيأتي ان شاء الله تعالى منقحا في باب غسل الجنابة.

و (منها) ـ ان يبدأ الرجل في غسل ذراعيه في الوضوء بظاهرهما والمرأة بباطنهما ، لما رواه المشايخ الثلاثة عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليه‌السلام) (٢) قال : «فرض الله على النساء في الوضوء ان يبدأن بباطن أذرعهن وفي الرجال بظاهر الذراع».

ومثله روى الصدوق في الخصال (٣) بسنده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «المرأة تبدأ في الوضوء بباطن الذراع والرجل بظاهره. الحديث».

والمشهور بين متأخري الأصحاب التفصيل في ذلك بين الغسلة الاولى والثانية ،

__________________

(١) المتقدمة في الصحيفة ١٦٣.

(٢) رواها صاحب الوسائل في الباب ـ ٤٠ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) ج ٢ ص ١٤٢.

١٦٤

بأن يبدأ الرجل في الغسلة الأولى بظاهر ذراعيه وفي الثانية بباطنهما والمرأة بالعكس. ولم أقف له على مستند.

و (منها) ـ فتح العينين عند الوضوء ، رواه الصدوق (قدس‌سره) في الفقيه (١) مرسلا وفي كتابي العلل وثواب الأعمال مسندا عن ابن عباس قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : افتحوا عيونكم عند الوضوء لعلها لا ترى نار جهنم».

وروى الراوندي في نوادره بإسناده عن الكاظم عن آبائه (عليهم‌السلام) (٢) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : اشربوا عيونكم للماء ، لعلها لا ترى نارا حامية».

وفي كتاب دعائم الإسلام مثله.

وعده الشهيد في الدروس من مستحبات الوضوء ناقلا له عن الصدوق ، ونقل عن الشيخ في الخلاف دعوى الإجماع منا على عدم وجوبه واستحبابه.

والظاهر ـ كما استظهره جملة من مشايخنا (قدس الله تعالى أرواحهم) ـ ان المراد باستحباب ذلك مجرد فتحهما استظهارا لغسل نواحيهما. دون غسلهما ، لما فيه من المشقة والمضرة ، حتى انه روى ان ابن عمر كان يفعله فعمي لذلك.

واحتمل بعض مشايخنا حمل الخبرين على التقية لما في سند الأول من جملة من رجال العامة ، حيث ان الصدوق في الكتابين المتقدمين رواه بسنده إلى السكوني عن ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس ، والثاني ضعيف السند أيضا قال : «والقول بالاستحباب

__________________

(١) ج ١ ص ٣١ وفي العلل ص ١٠٣ وفي ثواب الأعمال ص ١٠ وفي الوسائل في الباب ـ ٥٣ ـ من أبواب الوضوء.

(٢) رواه صاحب البحار عن النوادر للراوندي وعن دعائم الإسلام ج ١٨ ص ٨٠ من كتاب الطهارة ، ورواه صاحب المستدرك عن دعائم الإسلام في الباب ـ ٤٥ ـ من أبواب الوضوء.

١٦٥

منسوب للشافعي (١)» ولا يخلو من قرب.

و (منها) ـ صفق الوجه بالماء ، نقله جماعة من متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم) عن علي بن بابويه في رسالته.

وروى ابنه في الفقيه (٢) مرسلا وفي كتاب العلل مسندا في الموثق عن عبد الله ابن المغيرة عن رجل ، ومثله في التهذيب عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «إذا توضأ الرجل فليصفق وجهه بالماء ، فإنه ان كان ناعسا فزع واستيقظ ، وان كان البرد فزع فلم يجد البرد». وهو يشعر بموافقته لأبيه (طاب ثراهما).

لكن روى الكليني (٣) والشيخ عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لا تضربوا وجوهكم بالماء إذا توضأتم ، ولكن شنوا الماء شنا».

وروى الحميري في كتاب قرب الاسناد (٤) بسند صحيح عن أبي جرير الرقاشي

__________________

(١) في تذكرة العلامة (قده) انه أحد قولي الشافعي ، وفي خلاف الشيخ الطوسي (قده) ص ٦ قال أصحاب الشافعي انه مستحب ، وفي المهذب لأبي إسحاق الشيرازي الشافعي ج ١ ص ١٥ «ولا يغسل العينين. ومن أصحابنا من قال يستحب غسلهما لأن ابن عمر كان يغسل عينه حتى عمى ، والأول أصح لأنه لم ينقل ذلك عن رسول الله «ص» قولا ولا فعلا فدل على انه ليس بمسنون» وفي الأم للشافعي ج ١ ص ٢١ «وانما أكدت المضمضة والاستنشاق دون غسل العينين للسنة ، وان الفم يتغير وكذلك الأنف وان الماء يقطع من تغيرهما وليست كذلك العينان».

(٢) ج ١ ص ٣١ وفي العلل ص ١٠٣ وفي التهذيب ج ١ ص ١٠٢ وفي الوسائل في الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الوضوء.

(٣) رواه الكليني ج ١ ص ٩ والشيخ ج ١ ص ١٢ وفي الوسائل في الباب ـ ٣٠ ـ من أبواب الوضوء.

(٤) في الصحيفة ١٢٩ وفي الوسائل في الباب ـ ١٥ و ٣٠ ـ من أبواب الوضوء.

١٦٦

قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) : كيف أتوضأ للصلاة؟ قال : فقال : لا تعمق في الوضوء ، ولا تلطم وجهك بالماء لطما ، ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله. الحديث».

ويمكن الجمع بينهما بحمل الأول على الناعس والبردان كما هو مورد الخبر ، والأخيرين على ما عداهما ، أو الأول على الجواز والأخيرين على الكراهة.

واحتمل بعض الأصحاب انه يجوز ان لا يكون الصفق في الخبر الأول مرادا به غسل الوجه الذي هو جزء من الوضوء ، بل يكون فعلا آخر سابقا على الوضوء للغرض المذكور في الرواية. وليس بذلك البعيد.

و (منها) ـ الدعاء على كل من أفعال الوضوء ، وقد جمعته رواية عبد الرحمن ابن كثير المشار إليها آنفا عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «بينا أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ذات يوم جالس مع محمد بن الحنفية إذ قال : يا محمد ائتني بإناء من ماء أتوضأ للصلاة ، فأتاه محمد بالماء ، فأكفأ بيده اليمنى على يده اليسرى ، ثم قال : بسم الله والحمد لله الذي جعل الماء طهورا ولم يجعله نجسا ، قال : ثم استنجى فقال : اللهم حصن فرجي وأعفه واستر عورتي وحرمني على النار ، قال : ثم تمضمض فقال : اللهم لقني حجتي يوم ألقاك وأطلق لساني بذكرك ، ثم استنشق فقال : اللهم لا تحرم علي ريح الجنة واجعلني ممن يشم ريحها وروحها وطيبها ، قال : ثم غسل وجهه فقال : اللهم بيض وجهي يوم تسود فيه الوجوه ، ولا تسود وجهي يوم تبيض فيه الوجوه ، ثم غسل يده اليمنى فقال : اللهم أعطني كتابي بيميني والخلد في الجنان بيساري وحاسبني حسابا يسيرا ، ثم غسل يده اليسرى فقال : اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا تجعلها مغلولة إلى عنقي ، وأعوذ بك من مقطعات النيران ، ثم مسح رأسه فقال : اللهم غشني برحمتك وبركاتك ، ثم مسح رجليه فقال : اللهم ثبتني على الصراط يوم تزل فيه الاقدام ، واجعل سعيي فيما

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ـ ١٦ ـ من أبواب الوضوء.

١٦٧

يرضيك عني ، ثم رفع رأسه فنظر إلى محمد فقال : يا محمد من توضأ مثل وضوئي وقال مثل قولي خلق الله له من كل قطرة ملكا يقدسه ويسبحه ويكبره فيكتب الله له ثواب ذلك إلى يوم القيامة».

أقول : لا يخفى ان كتب الاخبار قد اختلفت في جملة من مواضع هذا الخبر (منها) ـ في تقديم المضمضة على الاستنشاق ، فان الموجود في الفقيه (١) والتهذيب (٢) كما هنا ، والموجود في الكافي (٣) ـ وهو الذي اعتمده صاحب الوافي ـ تقديم الاستنشاق.

و (منها) ـ قوله : «فأكفأ بيده اليمنى على يده اليسرى» فان الموجود في الفقيه والكافي كما هنا ، وفي التهذيب الموجود بأيدينا «فأكفأ بيده اليسرى على يده اليمنى». وهو الذي نقله بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين عن التهذيب أيضا ، الا ان شيخنا البهائي (عطر الله تعالى مرقده) في كتاب الأربعين نقل الحديث كما هنا ، وذكر انه نقله من التهذيب من نسخة معتمدة بخط والده (طاب ثراه) وهي التي قرأها عليه ، ووالده قرأها على شيخنا الشهيد الثاني (قدس الله تعالى أرواحهم جميعا)

و (منها) ـ قوله في دعاء الاستنجاء : «وحرمني على النار». ففي الفقيه والتهذيب كما هنا ، وفي الكافي «وحرمهما». بضمير التثنية ، وعلى ذلك يحتمل عوده الى الفرج والعورة ، نظرا إلى اختلاف اللفظين. وان قرئ «عورتي» بالتشديد على صيغة التثنية فلا اشكال.

و (منها) ـ في دعاء المضمضة ، ففي الفقيه والتهذيب كما ذكرنا ، وفي الكافي «اللهم أنطق لساني بذكرك ، واجعلني ممن ترضى عنه».

و (منها) ـ في دعاء الاستنشاق ، ففي الفقيه والتهذيب كما هنا ، وفي الكافي «اللهم لا تحرم علي ريح الجنة واجعلني ممن يشم ريحها وطيبها وريحانها». وفي بعض كتب

__________________

(١) ج ١ ص ٢٦.

(٢) ج ١ ص ١٥.

(٣) ج ١ ص ٢١.

١٦٨

الاخبار ـ كما نقله في كتاب الأربعين ـ «اللهم لا تحرمني طيبات الجنان واجعلني. إلخ». وفي أخره «ريحانها» بدل «طيبها» ، إلى غير ذلك من المواضع المعدودة في كتاب الأربعين والبحار.

ونحن قد اعتمدنا هنا في نقل الخبر المذكور على كلام شيخنا البهائي (رحمه‌الله) في أربعينه ، فنقلناه من الكتاب المذكور من نسخة معتمدة مقابلة على شيخنا العلامة أبي الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني (طيب الله تعالى مضجعه).

تتمة

روى شيخنا المجلسي في كتاب البحار (١) من كتاب الفقه الرضوي قال : «قال (عليه‌السلام) : أيما مؤمن قرأ في وضوئه «إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ...» خرج من ذنوبه كيوم ولدته امه».

وروى شيخنا المشار إليه ـ في الكتاب المذكور أيضا (٢) عن كتاب اختيار السيد ابن الباقي وكتاب البلد الأمين ـ ان «من قرأ بعد إسباغ الوضوء «إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ...» وقال : اللهم إني أسألك تمام الوضوء وتمام الصلاة وتمام رضوانك وتمام مغفرتك ، لم تمر بذنب قد أذنبه إلا محته».

وروى فيه (٣) أيضا عن كتاب الاختيار قال : «قال الباقر (عليه‌السلام) : من قرأ على أثر وضوئه آية الكرسي مرة ، أعطاه الله تعالى ثواب أربعين عاما ، ورفع له أربعين درجة ، وزوجه الله أربعين حوراء.

وقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): يا علي إذا توضأت فقل : بسم الله اللهم إني أسألك تمام الوضوء وتمام الصلاة وتمام رضوانك وتمام مغفرتك ، فهذا زكاة الوضوء».

__________________

(١) ج ١٨ ص ٧٥ من كتاب الطهارة.

(٢) ج ١٨ ص ٧٨ من كتاب الطهارة.

(٣) ج ١٨ ص ٧٦. والرواية في البحار عن جامع الاخبار.

١٦٩

أقول : قال في الفقيه (١) «زكاة الوضوء ان يقول المتوضئ : اللهم إني أسألك تمام الوضوء وتمام الصلاة وتمام رضوانك والجنة ، فهذا زكاة الوضوء».

ويحتمل أن يكون إطلاق الزكاة عليه اما باعتبار نمو التطهير فزيادته وكماله بسببه أو باعتبار انه سبب لقبول الوضوء كما ان الزكاة سبب لقبول الصلاة والصوم.

الفصل الثاني

في كيفية الوضوء الواجبة ، وهي تعتمد أركانا خمسة :

الركن الأول ـ النية

ولا ريب ان النية ـ في جملة أفعال العقلاء العارية عن السهو والنسيان ـ مما يجزم بتصورها بديهة الوجدان ، لارتكازها في الأذهان ، فهي في التحقيق غنية عن البيان ، فعدم التعرض لها أحرى بالدخول في حيز القبول ، ومن ثم خلا عن التعرض لها كلام متقدمي علمائنا الفحول ، وطوي البحث عنها في اخبار آل الرسول ، إلا انه لما انتشر الكلام فيها بين جملة من متأخري الأصحاب ، وكان بعضه لا يخلو من اشكال واضطراب ، أحببنا الولوج معهم في هذا الباب ، وتنقيح ما هو الحق عندنا والصواب جريا على وتيرتهم (رضوان الله عليهم) فيما قعدوا فيه وقاموا ، وأسامة لسرح اللحظ حيث اساموا. وقد أحببنا أن نأتي على جملة ما يتعلق بالنية من الأحكام بل كل ما له ارتباط بها في المقام ونحو ذلك مما يدخل في سلك هذا النظام على وجه لم يسبق اليه سابق من علمائنا الاعلام وفضلائنا العظام ، فنقول : البحث فيها يقع في مقامات :

(المقام الأول) ـ لا ريب في وجوب النية في الوضوء بل في جملة العبادات ، والوجه فيه انه لما كان الفعل من حيث هو ممكن الوقوع على أنحاء شتى ـ ولا يعقل انصرافه إلى شي‌ء منها إلا بالقصد إلى ذلك الشي‌ء بخصوصه ، ولا يترتب عليه أثره

__________________

(١) ج ١ ص ٣٢.

١٧٠

إلا بذلك ، مثلا ـ الدخول تحت الماء من حيث هو صالح لأن يقصد به التبرد أو التسخن تارة ، وازالة الوسخ اخرى والغسل مثلا ، وإخراج شي‌ء من الماء ونحو ذلك ، فلا ينصرف إلى واحد من هذه الأشياء أو أزيد إلا بنيته وقصده. ومثل ذلك لطمة اليتيم تأديبا وظلما وهكذا جميع أفعال العقلاء من عبادات وغيرها لا يمكن تجردها وخلوها من النية والقصد بالكلية ، وإلى ذلك يشير ما صرح به بعض فضلائنا واستحسنه آخرون ، من انه لو كلفنا الله العمل بلا نية لكان تكليفا بما لا يطاق ـ فالعبادة لا تكون عبادة يترتب عليها أثرها ويمتاز بعض أصنافها عن بعض إلا بالقصود والنيات ففي العبادة الواجبة تكون النية واجبة شرطا أو شطرا ، لعدم تعينها ـ كما عرفت ـ وتشخصها إلا بها ، وفي المندوبة تكون من شروط صحتها جزء كانت أو خارجة ، كغيرها من الأفعال التي لا تصح إلا بها. وعدم الاتصاف بالوجوب فيها ـ ولا في غيرها مما هو واجب في الفريضة وشرط في صحتها ـ انما هو من حيث انه لا يعقل وجوب الشرط أو الجزء مع ندبية المشروط أو الكل ، وربما عبروا عن مثل ذلك بالوجوب الشرطي.

ويدل على أصل ما قلناه ما رواه في التهذيب (١) مرسلا عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من قوله : «إنما الأعمال بالنيات». وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «انما لكل امرئ ما نوى». وقول علي بن الحسين (عليهما‌السلام) في حسنة الثمالي : «لا عمل إلا بنية» (٢). فإن الظاهر ان المراد بالنية هنا المعنى اللغوي. لأصالة عدم النقل ، بمعنى

__________________

(١) ج ١ ص ٦٣ ، وفي الوسائل في الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(٢) ومن الأخبار في ذلك صحيحة علي بن جعفر المروية في الفقيه والتهذيب عن أخيه موسى (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الأضحية يخطئ الذي يذبحها فيسمى غير صاحبها اتجزئ عن صاحب الأضحية؟ فقال : نعم ، انما له ما نوى». والظاهر ان المراد منه انما للذابح ما نواه أولا دون ما سماه حال الذبح غلطا. ويحتمل انما لصاحب الذبيحة ما نواه الذابح

١٧١

إنما الأعمال حاصلة بالقصود والنيات ، وانما لكل امرئ ما قصده ، وانه لا عمل حاصل إلا متلبسا بقصد ونية. فالأول والثالث صريحا الدلالة في عدم حصول العمل بالاختيار من النفس إلا بقصدها إلى إصداره ، والثاني صريح في ان المرء لا يستحق من جزاء عمله الاجزاء ما قصده ، كما يدل عليه السبب فيه ، وينادي به تتمته من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر اليه» (١). ومن هنا يعلم ان مدار الأعمال ـ وجودا وعدما واتحادا وتعددا وجزاءها ثوابا وعقابا ـ على القصود والنيات.

وبما ذكرنا ثبت ما ادعيناه من ضرورية النية في جميع الأعمال ، وعدم احتياجها الى تكلف واحتمال ، ووجوبها في جميع العبادات المترتب صحتها عليها ، فإن الأعمال كالاشباح والقصود لها كالارواح.

هذا وجملة من أصحابنا (رضوان الله عليهم) لما حكموا بوجوب النية في جميع العبادات وفسروها بالمعنى الشرعي ، أشكل عليهم الاستدلال على الوجوب :

فاستدل بعض ـ منهم : السيد السند في المدارك ـ على ذلك بما قدمنا من الاخبار ، واعترضه آخرون بمنع ذلك ، قالوا : لان الظاهر من الحصر في حديثي «إنما الأعمال بالنيات». و «لا عمل إلا بنية» (٢). انتفاء حقيقة العمل عند انتفاء النية ، وهو باطل ، فلما تعذر الحمل على الحقيقة فلا بد من المصير إلى أقرب المجازات. والتجوز بالحمل على نفي الصحة ـ كما يدعيه المستدل ـ ليس اولى من الحمل على نفي الثواب. ولو قيل :

__________________

سمى أو لم يسم. وصحيحة أخرى له أيضا عن أخيه (عليه‌السلام) «عن الرجل يحلف وينسى ما قال؟ قال : هو على ما نوى». (منه رحمه‌الله).

(١) رواه في الوافي ج ٣ ص ٧١ وفي المستدرك ج ١ ص ٨.

(٢) المرويين في الوسائل في الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

١٧٢

ان الأول أقرب إلى الحقيقة ، عورض بان حملهما عليه يستلزم التخصيص في الأعمال ، فإنها أعم من العبادات التي هي محل الاستدلال ، فيخرج كثير من الأعمال حينئذ من الحكم.

واما الحديث الثالث (١) فلا انطباق له على مدعاهم بالكلية ، لما أوضحناه سابقا مؤيدا بتتمته وعلته (٢).

نعم ربما يستدل لهم بما رواه الشيخ (رحمه‌الله) في كتاب الأمالي (٣) بسنده فيه عن أبي الصلت عن الرضا عن آبائه (عليهم‌السلام) عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «لا قول إلا بعمل ، ولا قول وعمل إلا بنية ، ولا قول وعمل ونية إلا بإصابة السنة».

وما رواه في كتاب بصائر الدرجات (٤) بسنده فيه عن علي (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لا قول الا بعمل ، ولا عمل إلا بنية ، ولا عمل ونية إلا بإصابة السنة».

فان الظاهر من سياق الخبرين ان المراد بالعمل فيهما العبادة ، وحينئذ فالنية عبارة عن المعنى الشرعي المشترط في صحة العبادة.

(المقام الثاني) ـ قد عرف جملة من أصحابنا النية شرعا بأنها القصد المقارن للفعل ، قالوا : فلو تقدمت ولم تقارن سمى ذلك عزما لا نية. وأصل هذا التعريف للمتكلمين ، فإنهم ـ على ما نقل عنهم ـ عرفوها بأنها الإرادة من الفاعل للفعل بالمقارنة له

وللأصحاب (رضوان الله عليهم) في بيان المقارنة في نية الصلاة اختلاف فاحش :

قال العلامة (رحمه‌الله) في التذكرة : «الواجب اقتران النية بالتكبير ، بان

__________________

(١) وهو قوله (ع) : «انما لكل امرئ ما نوى» المتقدم في الصحيفة ١٧١.

(٢) المتقدمة في الصحيفة ١٧٢.

(٣) في الصحيفة ٢١٥ ، وفي الوسائل عن غير الأمالي في الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العادات.

(٤) في الصحيفة ٣ ، وفي الوسائل في الباب ـ ٥ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

١٧٣

يأتي بكمال النية قبله ثم يبتدئ بالتكبير بلا فصل ، وهذا تصح صلاته إجماعا» قال : «ولو ابتدأ بالنية بالقلب حال ابتداء التكبير باللسان ثم فرغ منهما دفعة واحدة ، فالوجه الصحة».

ونقل الشهيد (رحمه‌الله) عن بعض الأصحاب انه أوجب إيقاع النية بأسرها بين الألف والراء ، قال : «وهو ـ مع العسر ـ مقتض لحصول أول التكبير بلا نية»

ونقل السيد السند في المدارك عن العلامة والشهيد انهما أوجبا استحضار النية إلى انتهاء التكبير ، لان الدخول في الصلاة إنما يتحقق بتمام التكبير.

ورده بلزوم العسر ، وان الأصل براءة الذمة عن هذا التكليف ، وان الدخول في الصلاة يتحقق بالشروع في التكبير ، لانه جزء من الصلاة بإجماعنا ، فإذا قارنت النية أوله فقد قارنت أول الصلاة ، لأن جزء الجزء جزء ، ولا ينافي ذلك توقف التحريم على انتهائه. انتهى.

وفي البال اني وقفت منذ مدة على كلام للعلامة (رضي‌الله‌عنه) الظاهر انه في أجوبة مسائل السيد مهنا بن سنان المدني في المقارنة ، قال (رحمه‌الله) حكاية عن نفسه : «انى أتصور الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها ثم اقصد إليها ، فاقارن بها النية» والكتاب لا يحضرني الآن لا حكي صورة عبارته ولكن في البال ان حاصله ذلك.

أقول : لا يخفى عليك ـ بعد تأمل معنى النية ومعرفة حقيقتها ـ ان جملة هذه الأقوال بعيدة عن جادة الاعتدال ، فإنها مبنية على ان النية عبارة عن هذا الحديث النفسي والتصوير الفكري ، وهو ما يترجمه قول المصلي ـ مثلا ـ : «أصلي فرض الظهر أداء لوجوبه قربة إلى الله» والمقارنة بها بان يحضر المكلف عند ارادة الدخول في الصلاة ذلك بباله وينظر اليه بفكره وخياله ، ثم يأتي ـ بعد الفراغ من تصويره بلا فصل ـ بالتكبير كما هو المجمع على صحته عندهم ، أو يبسط ذلك على التلفظ بالتكبير ويمده بامتداده كما هو القول الآخر ، أو يجعله بين الالف والراء كما هو القول الثالث. وكل

١٧٤

ذلك محض تكلف وشطط ، وغفلة عن معنى النية أوقع في الغلط ، فإنه لا يخفى على المتأمل انه ليست النية بالنسبة إلى الصلاة إلا كغيرها من سائر أفعال المكلف من قيامه وقعوده واكله وشربه وضربه ومغداه ومجيئه ونحو ذلك. ولا ريب ان كل عاقل غير غافل ولا ذاهل لا يصدر عنه فعل من هذه الأفعال إلا مع قصد ونية سابقة عليه ناشئة من تصور ما يترتب عليه من الأغراض الباعثة والأسباب الحاملة له على ذلك الفعل ، بل هو أمر طبيعي وخلق جبلي لو أراد الانفكاك عنه لم يتيسر له إلا بتحويل النفس عن تلك الدواعي الموجبة والأسباب الحاملة ، ولهذا قال بعض من عقل هذا المعنى من الأفاضل ـ كما قدمنا نقله عنه ـ : «لو كلفنا العمل بغير نية لكان تكليفا بما لا يطلق» ومع هذا لا نرى المكلف في حال ارادة فعل من هذه الأفعال يحصل له عسر في النية ولا اشكال ولا وسوسة ولا فكر ولا ملاحظة مقارنة ولا غير ذلك مما اعتبروه في ذلك المجال ، مع ان فعله واقع بنية وقصد مقارن البتة ، فإذا شرع في شي‌ء من العبادات اضطرب في أمرها وحار في فكرها ، وربما اعتراه في تلك الحال الجنون مع كونه في سائر أفعاله على غاية من الرزانة والسكون ، وهل فرق بين العبادة وغيرها إلا بقصد القربة والإخلاص فيها لذي الجلال؟ وهو غير محل البحث عندهم في ذلك المجال ، مع انه أيضا لا يوجب تشويشا في البال ولا اضطرابا في الخيال.

وان أردت مزيد إيضاح لما قلناه فانظر إلى نفسك ، إذا كنت جالسا في مجلسك ودخل عليك رجل عزيز حقيق بالقيام له والتواضع ، ففي حال دخوله قمت له إجلالا وإعظاما كما هو الجاري في رسم العادة ، فهل يجب عليك أن تتصور في بالك «أقوم تواضعا لفلان لاستحقاقه ذلك قربة إلى الله»؟ وإلا لكان قيامك له من غير هذا التصور خاليا من النية ، فلا يسمى تواضعا ولا يترتب عليه ثواب ولا مدح ، أم يكفي مجرد قيامك خاليا من هذا التصور ، وانه واقع بنية وقصد على جهة الإجلال والإعظام

١٧٥

الموجب للمدح والثواب ، ومن المقطوع به انك لو تكلفت تخيل ذلك بجنانك وذكرته على لسانك لكنت سخرية لكل سامع ومضحكة في المجامع ، وهذا شأن النية في الصلاة أيضا ، فإن المكلف إذا دخل عليه وقت الظهر مثلا وهو عالم بوجوب ذلك الفرض سابقا وعالم بكيفيته وكميته. وكان الغرض الحامل له على الإتيان به الامتثال لأمر الله سبحانه مثلا ، ثم قام عن مكانه وسارع إلى الوضوء ، ثم توجه إلى مسجده ووقف في مصلاه مستقبلا ، وأذن وأقام ثم كبر واستمر في صلاته ، فان صلاته صحيحة شرعية مشتملة على النية والقربة.

وان أردت مزيد إيضاح لمعنى النية فاعلم ان النية المعتبرة مطلقا إنما هي عبارة عن انبعاث النفس وميلها وتوجهها إلى ما فيه غرضها ومطلبها عاجلا أو آجلا ، وهذا الانبعاث والميل إذا لم يكن حاصلا لها قبل فلا يمكنها اختراعه واكتسابه بمجرد النطق باللسان أو تصوير تلك المعاني بالجنان هيهات هيهات ، بل ذلك من جملة الهذيان ، مثلا ـ إذا غلب على قلب المدرس أو المصلي حب الشهرة وحسن الصيت واستمالة القلوب اليه لكونه صاحب فضيلة أو كونه ملازم العبادة ، وكان ذلك هو الحامل له على تدريسه أو عبادته ، فإنه لا يتمكن من التدريس أو الصلاة بنية القربة أصلا وان قال بلسانه أو تصور بجنانه «أصلي أو أدرس قربة الى الله» وما دام لم يتحول عن تلك الأسباب الأولة وينتقل عن تلك الدواعي السابقة إلى غيرها مما يقتضي الإخلاص له تعالى ، فلا يتمكن من نية القربة بالكلية ، وحينئذ فإذا كانت النية إنما هي عبارة عن هذا القصد البسيط الذي لا تركيب فيه بوجه ، ولا يمكن مفارقته لصاحبه بعد تصور تلك الأسباب الحاملة على الفعل إلا بعد الدخول في الفعل ، فكيف يتم ما ذكروه من معاني المقارنة المقتضية للتركيب وحصول الابتداء فيه والانتهاء ، بامتداده بامتداد التكبير وانحصاره بين حاصرين من الهمزة والراء؟ الى غير ذلك من التخريجات العرية عن الدليل ، والتمحلات الخارجة عن نهج السبيل ، الموقعة للناس في تيه الحيرة والالتباس والوقوع في شباك الوسواس الخناس.

١٧٦

(المقام الثالث) ـ لما كانت النية ـ كما أشرنا آنفا ـ هي المعينة والمشخصة لخصوصية الفعل ـ كما دلت عليه تلك الأخبار ، وان مدار الأعمال ـ وجودا وعدما واتحادا وتعددا ومدار جزأيها ثوابا وعقابا ـ على القصود كما بيناه آنفا ، وانها للأعمال كالارواح للاشباح لا قوام لها بدونها إلا قواما صوريا ، وان المرء لا يستحق من جزاء عمله الاجزاء ما قصد ، فلا يستحق جزاء ما لم يتعلق به قصد ولا جزاء عمل قصد سواه ـ وجب تصحيح القصود في الأعمال على وجه يترتب عليه الثواب والنجاة من العقاب ، وهو لا يحصل في العبادات إلا بقصد الفعل خالصا له سبحانه ، لقوله عز شأنه : «وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ...» (١) وقوله : «واعبدوا الله مخلصين له الدين» (٢) وقوله : «قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي» (٣) الى غير ذلك من الآيات ، ويتلوها نحوها في ذلك من الروايات.

وهو يتحقق بأحد أمور : (منها) ـ قصد طاعة الله تعالى والتقرب اليه. و (منها) ـ قصد رضاه تعالى. و (منها) ـ قصد تحصيل الثواب ودفع العقاب أو أحدهما.

ولا خلاف ـ فيما أعلم ـ في صحة العبادة بهذه القصود إلا في الأخير ، فإن ظاهر المشهور بين الأصحاب ـ بل ادعى عليه الإجماع ـ بطلان العبادة به.

والذي اختاره جماعة من متأخري المتأخرين هو الصحة ، وهو المؤيد بالآيات والروايات :

كقوله سبحانه : «... يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ...» (٤) وقوله تعالى : «... وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ...» (٥).

__________________

(١) سورة البينة الآية ٥.

(٢) لم نعثر عليه بعد التتبع في المرشد.

(٣) سورة الزمر الآية ١٤.

(٤) سورة السجدة الآية ١٧.

(٥) سورة الأنبياء الآية ٩١.

١٧٧

وما روى في الحسن عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «العباد ثلاثة : قوم عبدوا الله عزوجل خوفا ، فتلك عبادة العبيد. وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب ، فتلك عبادة الاجراء وقوم عبدوا الله عزوجل حبا له ، فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة». فإن قضية أفعل التفضيل ان العبادة على الوجهين الأولين لا تخلو من فضل أيضا وان نقصت مرتبته.

وما روى عنهم (عليهم‌السلام) بطرق عديدة (٢) : «من بلغه شي‌ء من الثواب على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أو تيه وان لم يكن الحديث كما بلغه». فإنه يعطى ان ذلك العمل الحامل على فعله قصد تحصيل الثواب صحيح مثاب عليه.

وما ورد عنهم (عليهم‌السلام) من العبادات والأعمال المأمور بها للحاجة أو تحصيل الولد أو المال أو النكاح أو الشفاء أو الاستخارة أو نحو ذلك من المقاصد الدنيوية. الى غير ذلك من الوجوه التي يطول بنشرها الكلام.

واما ما ذكروه من ان قصد الثواب والخلاص من العقاب ينافي الإخلاص له سبحانه ، لأن قاصد ذلك إنما قصد جلب النفع إلى نفسه ودفع الضرر.

ففيه (أولا) ان الإخلاص بذلك المعنى الخاص لا يحصل إلا من خواص الخواص ، وهو درجة من قال : «ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» (٣). وطلب هذه المرتبة من غيرهم (عليهم‌السلام) قريب من التكليف بالمحال بل هو محال بلا اشكال.

قال بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين : «ومدعى هذه المرتبة إنما يصدق

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ـ ٩ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(٢) المروي في الوسائل في الباب ـ ١٨ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(٣) رواه صاحب الوافي عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في الجزء الثالث في باب نية العبادة ص ٧٠.

١٧٨

في دعواه إذا علم من نفسه انه لو أيقن ان الله يدخله بطاعته النار وبمعصيته الجنة يختار الطاعة ويترك المعصية تقربا اليه تعالى ، واين عامة الخلق من هذه الدرجة القصوى والمنزلة العليا؟» انتهى.

و (ثانيا) ـ ان العبادة الواقعة على ذلك النحو بأمره تعالى ، لما عرفت من الآيات والروايات ، وطالبها طالب لرضاه وهارب من سخطه ، فهو المقصود بها عند التحقيق.

و (ثالثا) ـ انه سبحانه قد ندب في غير موضع إلى التجارة عليه ووعد بالجزيل من ثوابه لمن قصد بذلك اليه.

فقال جل شأنه : «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً» (١)

«وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً» (٢).

«... لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» (٣).

وفي جملة من الاخبار (٤) ان الله تعالى قال : «ان من عبادي من يتصدق بشق تمرة فأربيها له كما يربي أحدكم فلوه وفصيله ، فيأتي يوم القيامة وهو مثل جبل أحد وأعظم من أحد».

الى غير ذلك من الآيات والروايات الدالة على وعده سبحانه بالثواب في مقابلة تلك الأعمال ترغيبا لهم.

ومن سرح بريد النظر في الكتاب والسنة وجدهما مملوءين من الترغيب في مقام الطاعات بالجنان المزخرفة بالحور الحسان والولدان ، والترهيب في مقام المخالفة والعصيان بأهوال الحساب وشدائد يوم المآب وعذاب النيران ، وسر ذلك انما هو كونهما باعثين على الفعل وجودا أو عدما ، ومتى كان كذلك كان قصدهما صحيحا

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٤٦.

(٢) سورة المزمل الآية ٢٠.

(٣) سورة إبراهيم الآية ٨.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ـ ٧ ـ من أبواب الصدقة.

١٧٩

البتة ، وفي بعض الاخبار (١) «ان العمل الخالص هو الذي لا تريد ان يحمدك عليه أحد سوى الله عزوجل». وهو مؤيد لما قلناه وموضح لما ادعيناه.

(المقام الرابع) ـ لا ريب ولا إشكال في الإبطال بقصد الرياء والسمعة في نية العبادة ، والوجه فيه انه لا ريب في ان قصد ذلك لما كان منافيا للإخلاص الذي هو مدار الصحة والبطلان في العبادة كما عرفت ، وجب الحكم ببطلانها باشتمالها عليه.

وقد استفاضت الروايات بالنهي عن ذلك ، كقول الصادق (عليه‌السلام) لعباد البصري (٢) : «ويلك يا عباد إياك والرياء ، فإنه من عمل لغير الله وكله الله الى من عمل له».

وقول الرضا (عليه‌السلام) لمحمد بن عرفة (٣) : «ويحك يا ابن عرفة اعملوا لغير رياء ولا سمعة ، فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل ...».

بل دلت الآيات على ان ذلك شرك ، كقوله سبحانه : «... وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (٤).

وفي بعض الاخبار في تفسير هذه الآية «ومن صلى مراءاة الناس فهو مشرك» (٥).

وفي آخر أيضا (٦) «الرجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه الله إنما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يسمع به الناس ، فهذا الذي أشرك بعبادة ربه ...». ونقل جملة من أصحابنا (رضوان الله عليهم) عن المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في الانتصار انه لو نوى الرياء بصلاته لم تجب إعادتها وان سقط الثواب عليها. ولا يخفى ان هذا الكلام يجري في جميع العبادات بل في غيرها بطريق أولى.

__________________

(١) المروي في الوسائل في الباب ـ ٨ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(٢ و ٣ و ٥) المروي في الوسائل في الباب ـ ١١ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(٤) سورة الكهف الآية ١١٠.

(٦) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ ١٢ ـ من أبواب مقدمة العبادات.

١٨٠