التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

شأنه في الدنيا بالتوفيق والهداية الى الخير ، وفي الآخرة بإدخاله الجنة (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ). ذلك اشارة الى ثواب الصالحين ، وعقاب المجرمين ، والمعنى ان للحق أهلا ، وللباطل أهلا ، والله سبحانه يوفي كلا منهما أعمالهم انه بما يعملون خبير (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ). فيبين للصالح ثواب أمثاله من الصالحين ليكون على يقين من صلاحه وهدايته ، ويبين للمجرم عقاب المجرمين من أمثاله لعله يهتدي ويرتدع.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها). هذه الآية من أمهات الآيات ومحكماتها ، وموضوعها هام ، وهو القتال ، لذا نبدأ بتفسير مفرداتها ، ثم نبين المعنى المحصل منها ... والمراد باللقاء هنا مواجهة أعداء الإسلام والمسلمين في جبهة الحرب والقتال. وضرب الرقاب كناية عن القتل سواء أكان بضرب الرقبة أم بغيره ، وانما خص سبحانه الرقاب بالذكر لأنها من الأعضاء الرئيسية. وأثخنتموهم أكثرتم فيهم القتلى حتى ظفرتم بهم وتمكنتم منهم. فشدوا الوثاق أحكموا وثاق الأسير منهم بقيد أو حبل أو سجن كيلا يفر ويعيد الكرة عليكم. فإما منا اي أن تمنوا بالصفح على الأسير من غير عوض. وأما فداء أن تطلقوا سراحه بعوض. وحتى تضع الحرب أوزارها أي حتى يستسلم العدو ويلقي السلاح لأن أوزار الحرب سلاحها.

ومعنى الآية بمجموعها ان أعداء دين الله إذا أصروا على الكفر ، والتقيتم بهم أيها المسلمون في ساحة القتال فاقتلوهم ، ولا تأخذكم بهم رأفة في دين الله ، واصمدوا لهم ، وامضوا في قتلهم وقتالهم حتى تتمكنوا منهم ، وعندئذ أحكموا أسر من بقي منهم كيلا يفلت ، ويعيد الكرة عليكم ، ومتى تم ذلك كان الخيار للنبي أو نائبه في اطلاق الأسير بفداء أو من غير فداء حسبما تقتضيه المصلحة ... وتجدر الاشارة الى ان معنى هذه الآية والآية ٦٧ من سورة الأنفال : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ج ٣ ص ٥٠٧ ان معنى الآيتين واحد ، وهو لا أسر إلا بعد الإثخان.

(ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ). ذلك اشارة

٦١

الى ما بيّنه سبحانه من قتل أعداء الله وأسرهم في ساحة الحرب ، والمعنى انه جل وعز لو أراد أن ينتقم من أعدائه في الدنيا من غير قتال لأهلكهم بما لديه من جنود السموات والأرض ، ولكنه تعالى أمر المؤمنين بالجهاد وابتلاهم بالكافرين لتظهر الأفعال التي يستحق بها الثواب والعقاب.

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ). ان الله يقاتل من عصاه بمن أطاعه ، وإذا قتل المطيع فلن يذهب دمه سدى ... كيف؟ وقد استشهد في سبيل الله ومن أجل الله ... ومن أوفى من الله لمن أخلص له وعمل من أجله؟ وقد بيّن سبحانه أجر العاملين من أجله ، بينه بقوله : (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) بل تعود عليهم بالخير ، وذلك بأنه تعالى (سَيَهْدِيهِمْ) الى منازلهم في الجنة تماما كما كانوا يهتدون الى منازلهم في الدنيا (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) أي شأنهم في يوم يفر المرء من أخيه وأمه وبنيه (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي بينها لهم بأنهارها وأثمارها ، وقصورها وحورها ، وما إلى ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.

ان تنصروا الله ينصركم الآية ٧ ـ ١٤ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ

٦٢

مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤))

اللغة :

تعسا لهم هلاكا لهم. والمثوى المقر.

الإعراب :

والذين كفروا مبتدأ والخبر فعل مضمر أي فأتعسناهم تعسا. وكأيّن بمعنى كم ، ومحلها الرفع بالابتداء وجملة أهلكناهم خبر. وضمير الغائب في أهلكناهم يعود الى أهل القرية. أفمن مبتدأ وكمن خبر.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ). وتثبيت الأقدام كناية عن الصلابة والثبات. والآية واضحة الدلالة على ان الله سبحانه مع أهل الحق والعدل ينصرهم ويأخذ بأيديهم ، وفي معناها كثير من الآيات ، كالآية ١٢٨ من سورة النحل (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) والآية ٣٨ من سورة الحج (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) والآية ٤٠ منها (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) والآية ٥٧ من سورة المائدة (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ).

والنصر من الله سبحانه على أنواع ، منها النصر على الأعداء بالقتال وقوة السلاح ، كانتصار الرسول الأعظم (ص) على عتاة الكفر والظلم من قريش وغيرهم ، ومنها النصر بعذاب من السماء كالخسف والطوفان والريح العاتية ، ومنها النصر

٦٣

بقوة الحجة والبرهان عند نقاش الخصم وجداله ، ومنها النصر بعلو الشأن وخلود الذكر في الدنيا ، ومنها النصر في الآخرة يوم تسودّ وجوه وتبيضّ وجوه (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) ـ ٤٩ ابراهيم.

وإذا تبين معنا ان النصر من الله على أنواع ، وان قوله تعالى : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) مطلق غير مقيد بنوع من أنواع النصر ، ولا مقرون بصفة من صفاته ، إذا تبين هذا علمنا ان المراد من النصر في الآية أي نصر كان .. وليس من شك انه كائن لا محالة ، ولو في اليوم الآخر الذي لا ريب فيه ، وعليه فلا وجه للاعتراض أو السؤال : كيف وعد الله سبحانه المحقين بنصره مع ان تاريخ البشرية متخم بأخطر المظالم والاعتداءات على الطيبين والمخلصين؟. وسبق الكلام عن هذا الموضوع مفصلا عند تفسير الآية ٣٨ من سورة الحج ج ٥ ص ٣٣١ فقرة «لا يخلو المؤمن من ناصر».

الدولة الاسلامية :

ونشير بهذه المناسبة الى ان بعض الفئات تدعو الآن الى قيام دولة اسلامية ، وأي مسلم يخلص لله فيما يدين يأبى أن يكون للإسلام سلطان ينفذ أحكام القرآن ، وللمسلمين ما يوحد كلمتهم ويجمع قوتهم ، وينقذها من التفتيت والتشتيت؟.

ولكن نسأل : هل توجد هذه الدولة بمجرد رفع الشعارات واذاعة البيانات ، أو بتكثير العمائم على رؤوس الجهلاء والدخلاء؟ وهل من الممكن أن تنبثق عن ٧٠٠ مليون مسلم منتشرين في شرق الأرض وغربها ، ولهم قوميات متعددة ، ومذاهب سياسية مختلفة ، وفرق متباينة ، وبعضهم يخضع لدول اشتراكية ، وبعضهم لدول رأسمالية ، وآخرون لهم كيان مستقل أو شبه مستقل. وإذا تكونت هذه الدولة من المسلمين العرب أو غير العرب فهل تستطيع أن تواجه مسؤولياتها ، وتنجح في حل مشاكل المسلمين في الأقطار الأخرى؟ ثم هل تكون هذه الدولة سنية أو شيعية أو منهما؟ ونترك الجواب عن هذه التساؤلات للمخلصين من ذوي الاختصاص.

٦٤

لقد عانى المسلمون الكثير من الهزائم والاذلال ، وكفى بهزيمة ٥ حزيران وهنا وإذلالا ، والسبب الأول والأخير هو التمزق والتفرق ، والعلاج معروف عند الجميع وهو الوقوف صفا واحدا ضد العدو المشترك الذي حددته حرب حزيران ، وأبرزته واضحا للعيان ، فمن أخلص لله وأراد النصح للإسلام والمسلمين حقا وصدقا فعليه أن يحصر جهوده كلها في العمل من أجل تعاون المسلمين على الخلاص والتحرر من القوى الفاسدة الداخلية والخارجية ، ومتى تمت التصفية وتحققت الحرية الكاملة فكّر المخلصون في دولة إسلامية أو غيرها مما فيه لله رضا ، وللمسلمين صلاح.

وخير ما نؤيد به إشارتنا هذه قول الإمام أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة : «ان المبتدعات المشتبهات هن المهلكات .. وان في سلطان الله عصمة لأمركم ، فأعطوه طاعتكم ... أو لينقلن الله عنكم سلطان الإسلام». وإذا انتقل سلطان الإسلام عن السلف لتفرق أهوائهم وشتات كلمتهم فهل يعود إلينا ونحن أكثر تفرقا وشتاتا؟.

وتسأل : أصحيح ما يقال : ان المصدر لفكرة الدولة الاسلامية هو الصهيونية لتبرر بها دولتها الدينية العنصرية ، وتقول لمن عاب عليها ذلك : ان المسلمين يطالبون أيضا بدولة دينية؟.

الجواب : ان دين اليهود عدو الحياة والانسانية ، لأن الله في عقيدتهم إله قبلي لا يعنيه من العالم أحد سوى إسرائيل وحدها ، وان جميع الناس خلقهم الله عبيدا لهم كما جاء في كتاب «الكنز المرصود» للدكتور يوسف حنا نصر الله ، وكتاب «البقاء اليهودي» للصهيونية روز مارين.

أما الإسلام فهو دين الحياة والرحمة والانسانية جمعاء ، ولا شيء أدل على ذلك من الآيات والأحاديث التي أعلنت بأن الإسلام يهدي للتي هي أقوم ، وانه يرتكز على العقل والفطرة ، وان دعوة الله والرسول انما تجب تلبيتها لأنها تدعو الى حياة أفضل ، ومعنى هذا ان الإسلام علماني عقلاني أي يهتم بالإنسان بما هو انسان أيا كان ولو يهوديا ، شريطة أن لا يعتدي على أخيه الإنسان ... وأين هذا من دين اليهود الذين أسموا أنفسهم شعب الله الخاص؟.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) لا يرون غير الخزي والهلاك (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ)

٦٥

فلا تعود عليهم بخير (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ). كرهوا الرسول (ص) والقرآن الذي نزل عليه لا لشيء إلا لأنه أرادهم للحق وهم له كارهون ، فكانوا من الأخسرين أعمالا. والإضلال والإحباط بمعنى واحد ، وهو الضياع وعدم الجدوى من العمل ، وكرر سبحانه ليشير إلى أن ضياع العمل لا ينفك عن الكفر بالقرآن وكراهيته.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). كيف كذّب المشركون برسالة محمد (ص) وهم ينظرون في الأرض آثار الماضين ، ويسمعون بأن الله أنتقم منهم لما كذبوا الرسل؟ وتقدم مثله بالحرف الواحد في العديد من الآيات (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أهلكهم بأولادهم وأزواجهم وأموالهم (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها). ان حكم الله في الطغاة واحد ، فإذا دمر على الأوائل لطغيانهم فهو يدمر أيضا على الأواخر لنفس السبب.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ). ذلك إشارة إلى التدمير والتحطيم ، والمعنى ان الله أهلك الكافرين حيث لا ناصر لهم من دون الله ولا شفيع ، أما المؤمنون فالله يتولى أمورهم ويدافع عنهم وينعم عليهم (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). المعنى واضح ، وتقدم في كثير من الآيات (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ). انهم تماما كالبهائم يأكلون ولا يفكرون في شيء ، فكان مصيرهم جهنم يصلونها وبئس القرار ، قال الإمام علي (ع) : «فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها ، أو المرسلة شغلها تقممها ـ أي التقاط القمامة ـ تكرش من أعلافها وتلهو عما يراد بها».

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ). هذا تهديد للذين تآمروا على اغتيال الرسول الأعظم (ص) واضطروه الى الهجرة من بلده مكة الى المدينة. انظر تفسير الآية ٣٠ من سورة الانفال ج ٣ ص ٤٧٢. وفي تفسير الطبري عن ابن عباس ان النبي (ص) لما خرج من مكة قال : أنت أحب بلاد الله الى الله ، وأنت أحب بلاد الله إلي ، فلو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك ، فأعتى أعداء الله من عتا على الله في حرمه أو قتل

٦٦

غير قاتله. فأنزل الله سبحانه الآية. (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ). ليس سواء عند الله من أخذ الحق من معدنه ، وكان على بصيرة من أمره ، ومن قاس الحق والعدل بأهوائه وأغراضه ، ومع هذا يرى انه من أحسن الناس عملا.

صفة الجنة الآية ١٥ ـ ١٩ :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩))

اللغة :

آسن متغير. حميم شديد الحرارة. آنفا أي من أول وقت يقرب منا. وآتاهم

٦٧

تقواهم وفقهم اليها ، وأشراطها علاماتها ودلائلها. وذكراهم تذكرهم. متقلبكم ذهابكم ومجيئكم في أعمال الدنيا. مثواكم المراد بمثواكم مضاجعكم للنوم أو سكونكم ، وقيل : مصيركم في الآخرة.

الإعراب :

مثل الجنة مبتدأ أول وأنهار مبتدأ ثان وفيها خبره والجملة خبر الأول ، وقيل : خبر مثل الجنة محذوف تقديره ما أتلوه عليكم من أوصافها. ولهم فيها من كل الثمرات متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي أنواع من كل الثمرات. ومغفرة مبتدأ والخبر محذوف أي ولهم مغفرة ومن ربهم متعلق بمغفرة. كمن هو خالد في النار خبر لمبتدأ محذوف أي : أمن هو خالد في الجنة كمن هو خالد في النار. آنفا ظرف زمان عند الزمخشري وحال عند أبي حيان الأندلسي. أي قريبا. والمصدر من أن تأتيهم بدل اشتمال من الساعة. وبغتة في موضع الحال أي مباغتة أو صفة لمفعول مطلق محذوف. فأنّى لهم خبر مقدم وذكراهم مبتدأ مؤخر. وإذا جاءتهم جملة معترضة ، وفي جاء ضمير مستتر يعود الى الساعة ، والتقدير فانّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة.

المعنى :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ). المراد بمثل الجنة صفتها ، والمعنى ان الله أخبر عباده أن من أوصاف الجنة ، فيها أنهار من ماء باق على أصله وحقيقته لم يغيره شيء (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) ولا لونه ولا رائحته (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) تلذ في الفم ولا تذهب بالعقل (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) من الشمع وغيره (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ومنها ما لا يعرفون لها نظيرا في الدنيا. وفي بعض كتب الصوفية ان المراد بالماء هنا العلم ، وباللبن العمل ، وبالحمر لذة المحبة ، وبالعسل حلاوة المعرفة والقرب من الله.

٦٨

وسبق منا أكثر من مرة ان كل ما جاء في كتاب الله وجب العمل بظاهره حتى يثبت العكس من النقل أو العقل ، والعقل لا يأبى شيئا من أوصاف الجنة التي دل عليها ظاهر الآيات فوجب الأخذ به وابقاؤه على حقيقته ودلالته.

وتسأل : ان الله سبحانه ذكر في غير مكان من كتابه ان أهل الجنة يتنعمون فيها بلذة معنوية لا حسية ، كحب الله لهم ، ومرضاته عنهم ، وارتفاع شأنهم عنده ، من ذلك قوله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) آخر القمر. وقوله : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) ـ ٩٦ مريم. فما هو وجه الجمع بين ما دل من الآيات على ان نعيم الجنة يكون باللذة الحسية وما دل منها على انه يكون باللذة المعنوية؟.

الجواب : لا مانع من الجمع بين اللذتين والعمل بالدلالتين .. فأهل الجنة يتنعمون بحب الله وبعلو الشأن عنده ، وأيضا يتنعمون بالطيبات من المآكل والمشارب. قال الملا صدرا في الأسفار : «أما الجنة فهي كما دل عليه الكتاب والسنّة مطابقا للبرهان ... فلا موت فيها ولا هرم ولا غم ولا سقم ولا دثور ولا زوال ، وهي دار المقامة والكرامة لا يمس أهلها نصب ولا لغوب ، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وهم فيها خالدون ، وأهلها جيران الله وأولياؤه وأحباؤه ، وأهل كرامته ، وانهم على مراتب متفاضلة ، منهم المتنعمون بالتسبيح والتكبير ، ومنهم المتنعمون باللذات المحسوسة كأنواع المآكل والمشارب والفواكه والأرائك والحور العين واستخدام الولدان والجلوس على النمارق والزرابي ولبس السندس والحرير والإستبرق ، وكل منهم إنما يتلذذ بما يشتهي ويريد على حسب ما تعلقت به همته».

(وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ). الذين يتنعمون بملذات الدنيا وشهواتها يحاسبون عليها حسابا عسيرا : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) ـ ٥٦ المؤمنون. أما أهل الجنة فإنهم يتقلبون في نعيمها وهم في أمن وأمان من حساب الله وعقابه (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ). في الكلام حذف دل عليه السياق ، والتقدير أفمن هو خالد في الجنة كمن هو خالد في النار لا يستوون (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ). كيف يستوون ، وأصحاب الجنة

٦٩

يشربون الماء العذب واللبن والخمر والعسل المصفى ، وأصحاب النار يشربون حميما وصديدا يغلي في البطون؟.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً)؟. ضمير منهم يعود إلى الناس ، ومن للتبعيض ، والبعض المقصودون هم الكافرون أو المنافقون ، والخطاب في اليك للرسول (ص) ، والذين أوتوا العلم هم علماء أهل الكتاب ، والمعنى ان الذين يحضرون مجلسك يا محمد من الكافرين أو المنافقين يقولون ساخرين حين يخرجون من عندك وبعد أن استمعوا إلى كلام الله ، يقولون لمن حضر معهم من علماء أهل الكتاب : لم نفهم ما ذا قال محمد ونحن في مجلسه الذي فارقناه قريبا ، فهل فهمتم أنتم شيئا؟ .. وهذا ديدن من لا يعجبه شيء إلا ما يعبر عن نزواته وشهواته.

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ). وقوله سبحانه : اتبعوا أهواءهم : يشير إلى جواب عن سؤال مقدر ، وهو لما ذا طبع الله على قلوبهم؟ فأجاب لأن الأهواء رانت على قلوبهم حتى كأن الله قد ختم عليها أو خلقهم من غير قلوب ، وبتعبير الآية ٥ من سورة الصف : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ). (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً). طلب المؤمنون الهداية بصدق وإخلاص ، فكان الله دليلهم وكفيلهم ، وزادهم علما بالخيرات ، وشملهم بعنايته وتوفيقه إلى ما يعود عليهم بالخير دنيا وآخرة ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ).

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً). ضمير ينظرون يعود الى الذين قالوا ساخرين بالرسول الأعظم (ص) : ما ذا قال آنفا. قالوا هذا ذاهلين عن يوم القيامة الذي يأخذهم على الغرة ، ويقفون فيه أمام الله لنقاش الحساب وفصل الخطاب (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) الضمير للساعة ، والمراد بالاشراط هنا الدلائل والحجج القاطعة على البعث ، وقد جاءت في كتاب الله وعلى لسان محمد (ص) بشتى الأساليب ، ولم تدع عذرا لمنكر.

(فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ). في الكلام تقديم وتأخير ، والأصل فانّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة ، والمعنى لقد ذكرهم في الدنيا الرسول الأعظم فلم يتذكروا ، وحين بعثوا ورأوا العذاب تذكروا وندموا ، ولكن حيث لا ينتفعون

٧٠

بشيء (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) هو يحيي ويميت ويعاقب ويثيب .. وغير بعيد أن يكون معنى فاعلم انه لا إله إلا الله هنا ادع الى الله ووحدانيته (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ). والاستغفار من الذنب محبوب لله تعالى ، ومطلوب بالذات ، سواء أكان هناك ذنب أم لم يكن (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) في الأعمال (وَمَثْواكُمْ) مقركم حين تتركون العمل أو مصيركم في الآخرة كما قيل ، وأيا ما كان فإن الله سبحانه يعلم حال عباده في الدنيا والآخرة ، وحين يتحركون ويسكنون.

طاعة وقول معروف الآية ٢٠ ـ ٢٣ :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠))

اللغة :

محكمة واضحة بنصها. والمراد بالمرض هنا الشك والنفاق. وأولى تستعمل بمعنى أحق وأجدر وبمعنى الويل ، وهو المقصود من قوله تعالى : فأولى لهم. وعزم الأمر جد ولزم. والمراد بأن توليتم ولاية الحكم.

٧١

الإعراب :

لو لا بمعنى هلا. وسورة بالرفع مفعول لفعل لم يسمّ فاعله. ومن الموت على حذف مضاف أي من أجل نزول الموت. فأولى لهم مبتدأ وخبر. وطاعة مبتدأ وقول معروف عطف عليه والخبر محذوف أي خير لهم ، وهذا الاعراب نقله أبو حيان الأندلسي عن الخليل وسيبويه ، وقيل : طاعة خبر لمبتدأ محذوف أي أمرنا طاعة. واسم كان ضمير مستتر يعود الى الصدق المفهوم من قوله تعالى : صدقوا الله. والمصدر من أن تفسدوا خبر عسيتم. وان توليتم جملة معترضة.

المعنى :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ). ومن أجل استقامة الكلام لا بد من تقدير جار ومجرور متعلق بنزلت ، والتقدير لو لا نزلت سورة بالقتال ، أما الدليل على هذا المحذوف فقوله تعالى : (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) والنحاة يعبرون عن مثله بأنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه. ومحكمة واضحة بنصها على القتال ، والمعنى ان المؤمنين الخلص كانوا يتمنون أن يأمرهم القرآن بجهاد أهل الكفر والبغي ، ويتهافتون ـ إذا دعوا اليه ـ على بذل الأنفس في سبيل الله فرحين مستبشرين بلقاء الله وثوابه ، أما الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون فقد كانوا أشد الناس كراهية للجهاد والقتال ، وإذا نزلت فيه آية انهارت أعصابهم من الخوف ، ونظروا الى النبي (ص) نظرة الحنق والهلع تماما كالذي ينظر الى الموت وهو نازل به (فَأَوْلى لَهُمْ) قال كثير من المفسرين : معناه الويل لهم أي الموت والهلاك ، ويتفق هذا مع سياق الآية.

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ). هذه جملة مستأنفة ، ومعناها طاعة الله وقول يقبله الرسول من «المنافقين» خير لهم من شحن الصدور بالغيظ والنفاق ، والنظر إلى الرسول بحقد وخوف (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ). لو ان المنافقين أخلصوا لله واستجابوا لدعوة الرسول حين واجهوا الأمر الواقع

٧٢

بإعلان الجهاد ، وأصبح فرضا لازما ، لو فعلوا ذلك لكان خيرا لهم دنيا وآخرة ، ولكنهم أبوا إلا الفساد والضلال.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ). أظهرتم الإسلام أيها المنافقون كرها له وخوفا من قوته وسلطانه .. ولعلكم لو ملكتم القوة والسلطان لملأتم الأرض فسادا بعبادة الأصنام وسفك الدماء ونهب الأموال وقطع الأرحام (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) بالبعد عن رحمته (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ). لما تصاموا عن نداء الحق ، وتعاموا عن رؤيته أصم الله أسماعهم وأعمى أبصارهم ، وبكلمة سلكوا طريق الهلاك مختارين فأهلكهم الله. (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ـ ١٠١ هود.

أفلا يتدبرون القرآن الآية ٢٤ ـ ٣١ :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١))

٧٣

اللغة :

يتدبرون القرآن يتفكرون فيه ويتفهمون معانيه. وسوّل زين. وأملى طوّل لهم الأماني والآمال. والسيماء العلامة. ولحن القول فحواه ومغزاه.

الإعراب :

أم على قلوب «أم» منقطعة ومثلها أم حسب. الشيطان مبتدأ وجملة سول خبر ، والجملة من المبتدأ والخبر خبر ان الذين ارتدوا. فكيف خبر لمبتدأ محذوف أي فكيف حالهم. ان لن «ان» مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي انه لن. فلعرفتهم عطف على لأريناكهم واللام في لعرفتهم واقعة في جواب لو وكررت في المعطوف للتأكيد. واللام في لنعرفنهم في جواب قسم محذوف.

المعنى :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها). ضمير يتدبرون يعود الى المنافقين ، لأن هذه الآيات والتي قبلها تتحدث عنهم .. وكل ما جاء في القرآن من الدلائل في خلق السموات والأرض على وجود الخالق ، ومن الحجج البالغة على البعث ونبوة محمد (ص) ، وعلى قبح الشرك والظلم والفساد في الأرض ، كل ذلك وما اليه من العبر والعظات ظاهر الدلالة واضح المعنى ، لا غموض فيه ولا تعقيد ، بالاضافة الى ما يستثيره أسلوب القرآن في قلب القارئ والسامع من الخشوع والاحساس ـ اذن ـ فما بال الكافرين والمنافقين لم يتأثروا بهذا المعجز؟ هل فقدوا الأسماع والأبصار ، أم استغلقت على أفئدتهم أقفال العمى والرين؟.

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ). المرتد من آمن بالحق ثم كفر به ، وفي حكمه من عرف الحق بالدليل القاطع ولكن جحده لهوى في نفسه .. هو في حكم المرتد لأن علمه بالحق بمنزلة الايمان به ، وكراهيته له تماما كالارتداد عنه ، أما من أضمر الكفر وأظهر

٧٤

الايمان فهو منافق ومرتدّ أيضا ، منافق لأنه أظهر خلاف ما أضمر ، ومرتد لأنه يعامل في الدنيا معاملة المؤمنين ، وفي الآخرة معاملة الكافرين ، فكأنه مؤمن ومرتد في آن واحد .. ولفظ الآية يتناول الأصناف الثلاثة لأن الدلائل الظاهرة التي قامت على التوحيد والبعث ونبوة محمد (ص) هي الحجة عليهم التي أرادها الله بقوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) ولكن الشيطان أغراهم بالنفاق والارتداد عن الحق ومعاندته ، ووعدهم المواعيد الكاذبة ، ووسوس لهم بتحقيق الأماني والآمال.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ). ضمير قالوا للمنافقين ، والمراد بالذين كرهوا ما نزل الله اليهود الذين جاوروا الرسول (ص) لأن اليهود أشد الناس كراهية لكل ما أنزل وبخاصة القرآن ، والمعنى ان المنافقين قالوا لليهود : نحن معكم على محمد ونشارككم في عدائه ، ولكن ظروفنا الخاصة لا تسمح لنا بإعلان الكفر به ونصب العداء له ، فدعونا نتظاهر بالإسلام ونطيعكم في الكيد له والتآمر عليه (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي إسرار الطرفين اليهود والمنافقين لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ). تهربوا من الجهاد خوف القتل فهل يتهربون من الموت وضرباته ، والبعث وأهواله؟. (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) يعذبهم الله سبحانه عند الموت وبعده أيضا لأنهم آثروا سخطه على رضوانه (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) فلا تجديهم شيئا (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) أضمر المنافقون الحقد والعداء للنبي (ص) والصحابة ، وأظهروا لهم الحب والولاء ، وظنوا ان الله سبحانه لن يظهر ما تخفي صدورهم وتكن ضمائرهم من الكفر والأحقاد.

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ). قوله تعالى : لأريناكهم أي لعرفناك بهم ، وقوله : فلعرفتهم بسيماهم معناه متى عرفناك نحن بهم عرفتهم أنت بالعلامات الفارقة ، والغرض من هذا التفريع الذي يشبه التكرار هو التأكيد بأن النبي لا يغيب عنه شيء يخبره الله به ، أما غير النبي فيجوز أن يخطئ في فهمه .. ويدل ظاهر الآية على أنها نزلت قبل أن يعرف النبي (ص) المنافقين لأن «لو» للامتناع ، ولكن النبي (ص) قد عرف المنافقين بعد ذلك لقوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي

٧٥

لَحْنِ الْقَوْلِ). ولحن القول فحواه ومغزاه ، كالاعتذارات الكاذبة التي كان يعتذر بها المنافقون ، ونيلهم من الأخيار ، وثنائهم على الأشرار ، وغير ذلك من فلتات اللسان التي تعكس الرياء والنفاق. وعن أنس : لم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله (ص). وأيضا كان النبي (ص) يعرف المنافقين بأفعالهم ، فلقد كانوا يتهربون من الجهاد ، ويتثاقلون عند البذل في سبيل الله.

(وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ). هذا تهديد لكل من يظهر الخير ، ويضمر الشر (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ). الله يعلم المجاهدين والصابرين قبل أن يختبرهم ، ولكنه يعامل الناس معاملة المختبر بالأمر والنهي ليظهر علمه للعيان ويتميز الخبيث من الطيب بالأفعال التي يستحق عليها الثواب والعقاب ، ويأخذ عباده بالحجة كما هو شأن العادل الحكيم. وفي نهج البلاغة : ان الله استنصركم وله جنود السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ، واستقرضكم وله خزائن السموات والأرض وهو الغني الحميد ... أراد أن يبلوكم أيكم أحسن عملا ، فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره.

ولا تبطلوا أعمالكم الآية ٣٢ ـ ٣٨ :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ

٧٦

وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

اللغة :

شاقوا خالفوا وعاندوا. يتركم من وتره إذا نقصه : والمراد ان الله لا يظلمكم أعمالكم. فيحفكم من الإحفاء ، وهو الإلحاح في السؤال.

الإعراب :

فلن يغفر الله لهم خبر ان الذين كفروا. وتدعوا عطف على فلا تهنوا. والأعلون جمع الأعلى. ها أنتم «ها» للتنبيه وأنتم مبتدأ وهؤلاء بدل منه وجملة تدعون خبر. فمنكم من يبخل «من» اسم موصول مبتدأ. ومن يبخل «من» اسم شرط. ويبخل عن نفسه أي يمسك عن نفسه ، ولذا عدي الفعل بعن لا بعلى.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ). دعا الرسول الأعظم (ص) الى الإسلام بالدلائل والبينات ، فكفر به أرباب المصالح والأهداف ، ومنعوا الناس عنه بالقوة والمال والدعايات الكاذبة ، ولكن الله قد أعز نبيه وأظهر دينه ، وأبطل عمل الخائنين ..

٧٧

وحتى اليوم يعاني الإسلام والمسلمون الكثير من قوى الشر ، وأخطرها بعض الدول والهياكل التي تحمل اسم الإسلام وتتعاون مع أعدى أعدائه الاستعمار والصهيونية ، وقد آن للمسلمين أن ينفضوا عنهم غبار الحقد والشقاق ، ويتحدوا ضد عدوهم المشترك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله والرسول واليوم الآخر (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي اعملوا بوحي من ايمانكم ، فقوله تعالى : أطيعوا الله بعد قوله : يا أيها الذين آمنوا مثل قوله : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) ١١٠ الكهف. (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) بالشرك والنفاق ولا بالمن والأذى ولا بالسيئات اللاتي يذهبن بالحسنات. قال تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) وفي الحديث : «لا يقبل عمل إلا بالتقوى».

وقال الإمام علي (ع) : كونوا على قبول العمل أشد عناية منكم على العمل.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) في الآخرة لأن الله سبحانه يحشر الإنسان على ما مات عليه ، ويحاسبه حسبما يختم به حياته من الكفر أو الايمان. وتقدم مثله في الآية ١٦١ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٤٨ والآية ٩١ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٠٦.

القرآن وسياسة الحرب :

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ). لقد أثبتت الحوادث ان من وهن أمام عدوه وتهيب سطوته ، وخاف مجابهته فقد زوده بالسلاح الذي يقتله به ويخضعه لأمره ، قال الإمام علي (ع) : قرنت الهيبة بالخيبة ، والحياء بالحرمان. أنظر ج ٦ ص ٢٤٠ فقرة «الحرب النفسية». والسياسة الحكيمة في الحرب عند قادتها وأهل الاختصاص ان لا ينهار الإنسان أمام عدوه ، وأيضا أن لا يستهين بقوته ، بل يعد له العدة ويجابهه بثبات مستهينا بكل ما يصيبه من مشاق وآلام ، وقد رسم القرآن الكريم هذه السياسة بقوله : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) أي لا تنهاروا أمام أعدائكم وتستسلموا لقوتهم وطغيانهم ، وبقوله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ـ ٦٠

٧٨

الأنفال أي لا تستهينوا بقوتهم واحشدوا لحربهم كل ما تملكون من طاقات بشرية واقتصادية.

(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) إذا كنتم صفا واحدا ، ويدا واحدة على عدو الله وعدوكم وإلا فشلتم وذهبت ريحكم كما نصت الآية ٤٦ من سورة الأنفال (وَاللهُ مَعَكُمْ) إذا لبيتم دعوته إلى الجهاد بالنفس والنفيس لتكون كلمة الحق هي العليا ، وكلمة الباطل هي السفلى ، أما من يؤثر الدعة والراحة ، ويستسلم للهوان وقوى الضلال والفساد فإن الله يتخلى عنه ، ويكله لمن استسلم له (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ). من أصيب بنفسه أو أهله أو ماله من أجل الدين أو الوطن أو أي حق كان ـ فإن تضحيته هذه لن تذهب سدى ، بل هي عز للدين وللوطن في الحياة الدنيا ، وذخر له في الآخرة عند الله.

وتسأل : ان قوله تعالى : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) يدل بصراحة على ان للقوي أن يبطش بعدوه الضعيف ، ولا يكترث بسلم ولا رحمة. وليس من شك ان هذا يناقض الانسانية والعدالة ، ولا يتفق مع قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) ـ ٢٠٨ البقرة.

الجواب : ان قوله تعالى : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) معناه إذا بليتم بعدو متوحش شرس لا يقيم وزنا للحق والعدالة ، ولا يلتزم بقانون ولا بميثاق ، ولا يفهم إلا بلغة العنف والقوة ، إذا بليتم بهذا العدو فاصمدوا له ولا تهابوه وابطشوا به ، ولا تأخذكم في الحق رأفة ولا هوادة ، فان القضاء عليه قضاء على الشر ، وخير للانسانية جمعاء.

ومن غريب الصدف أن أكتب هذه الكلمات في اليوم (١) الذي أغارت فيه إسرائيل بطائرات الفانتوم الأمريكية وقذائفها ـ على مدرسة بحر البقر الابتدائية بالجمهورية العربية المتحدة ، وقتلت ٤٧ طفلا تتراوح سنهم بين السادسة والثانية عشرة ، ما عدا الجرحى.

والولايات المتحدة الأمريكية هي المسئولة عن قتل وجرح أولئك الصغار ،

__________________

(١). ٨ نيسان سنة ١٩٧٠.

٧٩

وعن الغارة المماثلة على معمل أبي زعبل الأهلي التي راح ضحيتها ٣٣ عاملا بين قتيل وجريح ، هي المسئولة عن جرائم إسرائيل حيث أمدتها بالسلاح والمال ، وأمرتها أن تفعل في البلاد العربية ما تفعله هي في فيتنام .. فقد نقلت الصحف والاذاعات ان جنود الولايات المتحدة قتلوا أهل قرية بأكملهم في فيتنام ، ولم ينج منهم طفل ولا امرأة ، وما كان لهذه القرية ولا لمدرسة الأطفال أي شأن في الحرب .. فهل يجدي السلم شيئا مع هؤلاء السفاكين؟ اللهم إلا إذا كان معنى السلم الاستسلام للجور والطغيان.

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) لمن ركن اليها ، وخدع بأباطيلها بل هي شر على من أثار الحروب من أجلها ، وهي دار خير لمن اتعظ بها ، وتزود منها لآخرته (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ). وعطف التقوى على الايمان يدل على ان مجرد الاعتراف والتصديق لا أجر عليه عند الله ، بل لا بد من العمل مع الايمان ، وأوضح من هذه الآية في الدلالة على ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) ـ ٣٠ الكهف.

(وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) لا يسألكم أموالكم أي لا يطلب منكم أن تخرجوا من جميع أموالكم ، ولا أن تبذلوا الكثير منها الذي يضر بكم .. ويحفكم أي يلح عليكم ويجهدكم ، ومعنى الآية بمجموعها ان الله سبحانه جعل للفقراء نصيبا في أموال الأغنياء ، وراعى في تقدير هذا النصيب وتحديده مصلحة المحتاجين بما يسد خلتهم ، ومصلحة الباذلين بما لا يضر بهم ، ولا يمس بحاجة من حاجاتهم الضرورية ، ولو ان الله جلت حكمته سأل الأغنياء أكثر من هذا النصيب وألح عليهم في بذله لأمسكوا وحقدوا على الإسلام ونبي الإسلام.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ). قال جماعة من المفسرين : المراد بسبيل الله الجهاد .. والصحيح انه يشمل كل ما فيه لله رضا ، وللناس صلاح بجهة من الجهات (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ). بخل الشحيح بحق الله ، وادخره لنفسه عند حاجتها ، فجاءت النتيجة على العكس مما

٨٠