التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

يزعمون ان القرآن كتابهم ، وهم أبعد الناس عن الرجولة وصفاتها ، لقد كلمت أستاذا منهم يشار اليه بالبنان في منافع بعض العلوم كي تدرس في الأزهر فقال : «اذن يجب أن نعلم الطلبة ركوب الخيل أيضا». قال هذا ليفحمني ، فهل يتفق قوله مع الايمان بكتاب الله؟ أنصف ثم احكم.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ). هذا جواب القسم ، والكنود جاحد النعمة ، والحكم في الآية على الإنسان باعتبار الأغلب من أفراده ، والمعنى ان أكثر الناس ينسون الله عند النعم ، ويشكرونه عليها بالبذل منها في سبيله ، قال الرسول الأعظم (ص) : الكنود هو الذي يأكل وحده ، ويضرب عبده ، ويمنع رفده (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) أي ان أفعال الكنود تشهد عليه بلسان الحال انه كافر بأنعم الله .. وأشد أنواع الكفر بالله ونعمه ان يستظهر بها الإنسان على عباد الله وعياله.

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ). قال المفسرون : المراد بالخير هنا المال .. وليس من شك ان من اشتد حبه للمال فقد تجرد عن انسانيته وكفر بكل القيم إلا إذا كانت وسيلة لجمع المال .. ولو بحثنا عن الأسباب الموجبة لمآسي الانسانية وويلاتها لوجدناها تكمن في التنافس على الثروات وجمع المال. قال هربرت ماركيوز الذي عمل استاذا للفلسفة في جامعات كولومبيا ، وهارفارد ، وبرانديز في الولايات المتحدة قال في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد : «من أين يأتي الحير في عصر لا يخلق إلا الشر حيث سيطرت المادة بشكل جعل الإنسان هو العبد ، وهي السيد القوي المتحكم».

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ). الضمير المستتر في يعلم يعود الى الإنسان أو الى الكنود ، ومفعول يعلم محذوف أي أفلا يعلم الإنسان مآله ومصيره؟ وبعثر ما في القبور خرج منها الموتى للحساب والجزاء ، وحصّل ما في الصدور ظهر ما فيها من النبات والمخبآت ، وضمير بهم يعود الى المبعوثين من القبور ، وخبير اشارة الى انه تعالى محيط بمقاصدهم وأعمالهم ومجازيهم عليها بما يستحقون. والآية تهديد ووعيد لكل من كفر بأنعم الله وتطاول بها على عباده. وتقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية ٢٣٥ من سورة البقرة.

٦٠١

سورة القارعة

١١ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

الإعراب :

القارعة مبتدأ ، ما القارعة «ما» مبتدأ ثان والقارعة خبر والجملة خبر المبتدأ الأول. وما أدراك «ما» مبتدأ وجملة أدراك خبر. ما القارعة مبتدأ وخبر. يوم منصوب بفعل محذوف أي تحدث القارعة يوم يكون الخ. ماهية «ما» خبر مقدم وهي مبتدأ مؤخر والهاء للسكت. نار خبر لمبتدأ محذوف أي هي نار حامية.

المعنى :

(الْقارِعَةُ) من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بأهوالها ، ومثلها الحاقة والصاخة والطامة وما اليها (مَا الْقارِعَةُ) استفهام أريد به تعظيم شأنها (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) ما الذي جعلك بها داريا؟. انها فوق التصور (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ). هذا بيان لبعض ما يحدث فيها لا لبيان حقيقتها ، والفراش معلوم وهو الطير الصغير الذي يترامى ليلا على السراج ، والمبثوث المتفرق المنتشر ..

٦٠٢

شبّه سبحانه حال الخلق يوم القيامة بحال الفراش في الجهل والحيرة وتساقط أكثرها في النار (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ). العهن الصوف ، ونفشه ان تفرق شعراته بعضها عن بعض.

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ). والمراد به من طابت سريرته وصلح عمله (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي يرضاها ويهنأ بها (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ). والمراد به من خبثت سريرته وساء عمله. وتكلمنا مفصلا عن حقيقة الميزان يوم القيامة في ج ٥ ص ٢٨٠ فقرة «الميزان يوم القيامة وصاحب الأسفار» (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) المراد بأمه هنا ما يأويه ويحضنه ، وبالهاوية جهنم لأن المجرم يهوي بها ، وقد بينها سبحانه بقوله : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) هذا كل ما يمكن أن تعرفه عن جهنم ، أما إدراك حقيقتها فتعجز عنه الافهام لأن قعرها بعيد ، وعذابها جديد.

سورة التّكاثر

٨ آيات مكية وقيل مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

الإعراب :

كلا حرف ردع وزجر والثانية والثالثة تأكيد. لو تعلمون الجواب محذوف أي لما ألهاكم التكاثر. أو لارتدعتم عما أنتم فيه. وعلم اليقين مفعول مطلق وهو

٦٠٣

من باب إضافة الشيء الى نفسه مثل مسجد الجامع. لترونّ اللام في جواب القسم. لترونها تأكيد لترون. لتسألن اللام في جواب القسم. ويومئذ منصوب بتسألن.

المعنى :

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ). ألهاكم شغلكم وصرفكم عن الحق وصالح الأعمال ، والتكاثر التفاخر بكثرة الأموال وما إليها من قول المباهي : أنا أكثر منك مالا أو جاها (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ). مضيتم في الغفلة والضلال حتى أدرككم الموت. وللإمام علي (ع) كلام طويل قاله بعد تلاوة هذه الآية الكريمة ، وقد أدرج في نهج البلاغة ، ومنه «أبمصارع آبائهم يفخرون؟ أم بعديد الهلكى يتكاثرون؟ ولأن يكونوا عبرا أحق من أن يكونوا مفتخرا».

(كَلَّا) ارتدعوا عن التكاثر والتفاخر فإنه لا يجديكم نفعا (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما يحل بكم من العذاب (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ). هذا تأكيد للتهديد (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي لو كنتم تعلمون علما قاطعا مآل المتكاثرين لارتدعتم عن التكاثر والتفاخر ، وفيه إيماء الى ان العلم بلا عمل هو والجهل سواء ، وفي ذلك يقول الإمام (ع) : «العلم يهتف بالعمل ، فان أجابه وإلا ارتحل عنه». (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ). هذا تهديد لمن كذب بها أو آمن ولم يعمل بموجب إيمانه ، وقد كنّى سبحانه برؤية الجحيم عن الدخول فيها (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ). هذا تأكيد للعلم بها ، وانه علم العيان والمشاهدة ، وتجدر الاشارة الى ان أية نظرية لا تستند الى العيان والمشاهدة مباشرة أو بالواسطة فما هي من العلم في شيء ، فالعلم الحق هو ان ترى الشيء نفسه ، أو ترى آثاره التي تدل عليه ، ويسمى الأول علم العيان ، والثاني علم البرهان.

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ). المراد بالنعيم هنا الأموال التي يتكاثر ويتفاخر بها أربابها بلسان المقال أو الحال ، وهم مسؤولون عنها أمام الله : من أين اكتسبوها؟ وفي أي شيء أنفقوها؟ هل اكتسبوها من كد اليمين وعرق الجبين ، أو من السلب والتهب؟. وهل أنفقوها في حلال أو حرام؟ أما ما تدعو اليه الحاجة من المأكل والملبس والمسكن فليس من النعيم المقصود في هذه الآية.

٦٠٤

سورة العصر

٣ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))

المعنى :

(وَالْعَصْرِ). اختلفوا : ما هو المراد بالعصر ، وفي ذلك أقوال : الأول ان الله سبحانه أقسم بصلاة العصر لا بالعصر نفسه ، فهو من باب حذف المضاف وإقامة المضاف اليه مقامه ، أما الغرض من القسم بصلاة العصر فهو التنبيه على فضلها كما في الآية ٢٣٨ من سورة البقرة (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى). وهذا بعيد عن الفهم العام .. القول الثاني ان المراد بالعصر عهد الرسول (ص) .. وهذا أبعد من الأول .. القول الثالث ان المراد به الطرف الأخير من النهار ، وانه تعالى أقسم بآخر النهار في هذه الآية كما أقسم بأوله في الآية ١ من سورة الشمس (وَالشَّمْسِ وَضُحاها). وهذا القول غير بعيد عن دلالة اللفظ ، وأقرب منه القول الرابع وهو ان المراد بالعصر الدهر أي الزمن الذي تقع فيه الحوادث والأفعال ، والسياق يومئ الى ذلك فإن قوله تعالى بلا فصل : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) يشعر بأن الخاسر هو الإنسان وليس الزمان لأنه لا يعد شيئا في نفسه يخسر أو يربح ، ويذم أو يمدح! قال الشيخ محمد عبده : كان من عادة العرب ان يجتمعوا وقت العصر ويتذاكروا في شئونهم ، وقد يؤدي حديثهم الى ما يكرهون ، فيتوهم

٦٠٥

الناس ان هذا الوقت مذموم ، فأقسم الله به لينبه على ان الزمان لا يذم ، وانما هو ظرف للحسنات والسيئات ولشؤون الله الجليلة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال ، وانما يذم ما فيه من الأفعال الممقوتة.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). هذا جواب القسم ، والمراد بالإنسان من كان موضوعا للتكليف ومسؤولا عن أقواله وأفعاله ، وهذا الإنسان خائب خاسر بحكم القرآن وإن كان ثريا يملك الملايين ، وعالما يكشف أسرار الطبيعة ويسخرها لمصلحته ، وقويا يخضع الناس لسيطرته ، وبليغا يحسن صناعة الكلام والوعظ .. انه خائب خاسر إلا إذا آمن بالله وحلاله وحرامه وناره وجنته ، وانعكس هذا الايمان على أقواله وأفعاله ، وإلا فإن الايمان بلا عمل مجرد فكرة ونظرية .. ولقد قرأت فيما قرأت ان الطيارين الأمريكان الثلاثة الذين ألقوا القنبلة الذرية على هيروشيما في اليابان ، ومات وتشوّه بسببها مئات الألوف ، كان كل واحد منهم يحمل معه نسخة من «الكتاب المقدس» الى جانب قنبلة الفناء والدمار!! وتسأل : أليس قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) يدل بظاهره ان الإنسان خاسر بطبعه ، وان جميع أفراده في الخسر سواء ، وإذ كان الأمر كذلك فلا يصح تقسيم الإنسان الى صالح وطالح وخاسر ورابح لأن ما بالذات لا يتغير؟ وبالتالي فما هو المبرر لقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)؟.

الجواب ان الله سبحانه لم يحكم على طبيعة الإنسان بالخسر من حيث هو وباعتبار جميع أفراده .. كلا ، وانما حكم عليه باعتبار الأعم الأغلب من أفراده ، ومثله كثير في القرآن كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) وقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً). فالإنسان بطبعه لا يعد خاسرا ولا رابحا لأنه من هذه الحيثية يملك الأهلية والاستعداد لهما معا ، فالحكم عليه بأحدهما ترجيح بلا مرجح ، وانما يحكم عليه بأحد الوصفين بالنظر الى عقيدته واعماله ، لا بالنظر الى ذاته وطبعه ، فقد أشرنا فيما سبق أكثر من مرة ان الله سبحانه وهب الإنسان العقل والقدرة على الشر والخير وأمره بهذا ونهاه عن ذلك ، وخلى بينه وبين ما يختار ولم يفرض الدين والعمل عليه فرضا ويخلقهما فيه كما يخلق الكائنات ، ولو فعل لسلخ الانسانية عن الإنسان إذ لا انسانية بلا حرية وإرادة ، وعليه فلا يكون الإنسان خاسرا ولا رابحا إلا باعتبار عقيدته وأعماله ، فقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ

٦٠٦

آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) معناه ان الذين لم يؤمنوا أو آمنوا ولم يعملوا هم الخائبون الخاسرون ، أما الذين آمنوا وعملوا فهم الفائزون الرابحون.

(وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ). هذا عطف على آمنوا وعملوا ، والمعنى ان الفائزين غدا هم الذين آمنوا بالله وشريعته ، وعملوا بما يمليه هذا الايمان ، وأوصى بعضهم بعضا بالحق والصبر ، وعرّف الشيخ محمد عبده الحق بقوله : «ما ارشد اليه دليل قاطع أو عيان ومشاهدة». وهذا تعريف للحقيقة لا للحق ، والفرق بينهما ان الحقيقة بنت البرهان ، أما الحق فهو قائم بنفسه سواء أدلت عليه البينات أم لم تدل ، فإن كثيرا من الناس يعجزون عن اثبات حقهم بالدليل القاطع والعيان .. وعلى أية حال فإن كل عمل فيه لله رضى وللناس صلاح فهو حق وخير وعدل ، أما الصبر فالمراد به ان نثبت على الحق ، ونقول للمبطل : لا ، مهما كانت النتائج.

والخلاصة ان أعظم ما في الإنسان ، وأهم ما أنعم الله به على الإنسان هو انه تعالى أعطاه القدرة الكافية الوافية على أن يكون ملاكا أو شيطانا ، رابحا أو خاسرا ، وانه ، جلت حكمته ، جعل الحرية له وحده في أن يختار لنفسه ما يشاء من الشقاء والخسران ، والربح والسعادة ، وان الله يعامله بما يختاره لنفسه ربحا أو خسرانا بعد أن هداه النجدين .. وأي فضل أعظم من هذا الفضل ، وعدل أعظم من هذا العدل؟.

سورة الهمزة

٩ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))

الإعراب :

ويل مبتدأ ، وصح الابتداء بالنكرة لأنها مفيدة ومعناها الدعاء ، ولكل همزة

٦٠٧

خبر ، ولمزة بدل من همزة ، والتاء المضمومة فيهما للمبالغة. والذي جمع مالا بدل من همزة لمزة. وعدّده فعل ماض من العدد. كلا حرف ردع وزجر. ولينبذن اللام في جواب القسم والنون للتوكيد ، والضمير المستتر في الفعل يعود الى كل همزة لمزة جمع مالا وعدّده. وما أدراك «ما» مبتدأ وجملة أدراك خبر. ما الحطمة مبتدأ وخبر. ونار خبر لمبتدأ محذوف أي هي نار. والتي صفة لنار. وموصدة خبر انها. وعليهم متعلق به. وفي عمد متعلق بمحذوف صفة لموصدة. وممددة صفة لعمد.

المعنى :

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ). الويل الخزي والهوان. ويقال : رجل همزة لمزة أي عيّاب مغتاب ، وقيل : الهمز يكون بالعين والشدق واليد ، واللمز باللسان. وسواء أكان الوصفان بمعنى أم بمعنيين فان القاسم المشترك بينهما إيذاء الناس والطعن في أعراضهم بالقول أو بالفعل .. وهذا دأب الوضيع اللئيم الذي يحقد على كل نبيل لا لشيء إلا لشعوره النقص من نفسه ، فيحاول تغطيته بالنيل من كرامة الآخرين. قال الإمام علي : أسوأ الناس من لم يثق بأحد لسوء ظنه ، ولا يثق به أحد لسوء فعله. (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ). يجمع المال من حل وحرام ، ويحسبه ويعده آنا بعد آن شغفا به ، وهو الذي حمله ودفعه الى غمز الناس ولمزهم ذاهلا انه عما قليل يفارقه وتبقى عليه تبعته وحسابه.

(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ). أيظن ان هذا المال الذي جمعه وعدّده يدفع عنه الموت إذا نزل بساحته ، أو ينجيه من حساب الله وعذابه (كَلَّا) ان المال لا يدفع حتفه ، ولا يشفع به عند الله (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ). وهي جهنم تحطم وتدمر الطغاة المتغطرسين ، والنبذ يشعر بالازدراء والاحتقار (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) انها فوق التصور (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) هي نار الله لا نار الناس ، ونار الغضب لا نار الحطب (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ). المراد بتطلع هنا العلو والطلوع ، يقال : طلع الجبل وأطلع عليه إذا علاه. وقيل : المراد العلم والمعرفة .. وهذا بعيد عن الفهم العام ، والأفئدة كناية عن ان النار تعلو وتحرق كل عضو من أعضاء المجرمين ، وخص سبحانه الأفئدة بالذكر لأنها موطن الكفر واللؤم (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) مطبقة لا مفر لهم منها إلا اليها (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) هذا كناية عن شدة الاطباق والأحكام. وتقدم مثله في الآية ٢٠ من سورة البلد.

٦٠٨

سورة الفيل

٥ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

الإعراب :

كيف مفعول مطلق لفعل لأن المعنى أيّ فعل فعل ربك. وتر هنا معلقة عن العمل لوجود كيف التي لا يعمل ما قبلها فيما بعدها. وأبابيل صفة للطير ومعناه جماعات. وكعصف الكاف بمعنى مثل وهي مفعول ثان لجعل.

ملخص القصة :

هذه القصة حدثت في عام مولد الرسول الأعظم (ص) واختصارها ان الأحباش بعد أن تغلبوا على اليمن قصدوا مكة مزمعين أن يهدموا الكعبة ، فساروا يتقدمهم فيل أو أكثر حتى وصلوا الى مكان بالقرب من مكة يقال له «المغمّس» فنزلوا فيه ، وأرسل رئيسهم أبرهة ـ كما تسميه الرواة ـ الى قريش من يخبرهم بأنه لم يأت لحربهم ، وانما أتى لهدم البيت ، فإن لم يعرضوا له بحرب فلا حاجة له

٦٠٩

بدمائهم .. وما ان همّ أبرهة بهدم البيت حتى أرسل الله عليه وعلى جيشه أسرابا من الطير ترميهم بحصى صغيرة لا تصيب أحدا منهم إلا أصيب بمرض الجدري يتناثر منه اللحم ويتساقط ، فذعر الجيش وصاحبه ، ورحلوا هاربين ، وقد أصيب أبرهة بهذا الداء ، ومات في صنعاء.

وقال الدكتور طه حسين في كتاب «مرآة الإسلام» : «وفي هذه الموقعة أظهر عبد المطلب من الصبر والجلد ، ومن الشجاعة والثقة ما لم يظهره غيره من أشراف قريش ، ذلك انه قد أشار على قريش ان تخلي مكة ، فسمع له قومه ، وأقام هو بمكة لم يعتزلها ، وانما أقام عند الكعبة يدعو الله ويستنصره. ويقول الرواة : ان الجيش أغار على إبل قريش فاحتازها ، وجاء عبد المطلب الى أبرهة ، ولما دخل عليه لم يكلمه إلا في إبل له ، فصغر في نفس ابرهة ، وقال له : كنت أظن انك تكلمني في شأن مكة وشأن هذا البيت الذي تعظمونه. قال عبد المطلب : إني أكلمك في مالي الذي أملكه ، أما البيت فإن له ربّا يحميه إن شاء. فأرسل الله على ابرهة وجيشه من تلك الطير التي رمتهم بحجارة من سجيل فجعلتهم كعصف مأكول ، وعادت قريش الى مكة ، فازداد إكبارهم لعبد المطلب وشجاعته وثقته وثباته».

المعنى :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ)؟. الخطاب لرسول الله (ص) والاستفهام لتقرير الواقع أي انك تعلم يا محمد ما صنع الله بأصحاب الفيل ، وهم الأحباش الذين أشرنا الى قصتهم ، والقصد من هذا الخطاب هو تسلية الرسول بأن الذي أهلك أصحاب الفيل قادر على إهلاك المكذبين برسالة محمد (ص). (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ). الكيد والمكر بمعنى واحد ، وهو تدبير السوء في الخفاء ، والمراد بالتضليل هنا التضييع ، يقال : ضلل كيده إذا جعله ضائعا ، والمعنى ان الأحباش دبروا السوء لبيت الله الحرام ، ولكن الله سبحانه ضيع كيدهم وخيب سعيهم (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) أي جماعات ، قال المفسرون والرواة : جاءت طيور صغيرة من جهة البحر فوجا بعد فوج (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ)

٦١٠

وهو الطين المتحجر (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ). العصف ورق الشجر سمي بذلك لأن الريح تعصف به إذا قطع ، ومأكول أي كالذي تأكله الدواب.

وقال الشيخ محمد عبده : «فيجوز لك أن تعتقد ان هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض ، وان تكون هذه الحجارة من الطين المسموم الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات ، فإذا اتصل بحسد دخل في مسامه ، فأثار تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه».

ويلاحظ بأن قوله : «يجوز لك أن تعتقد ان هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب .. وان هذه الحجارة من الطين المسموم» ان هذا القول يفتقر الى الحجة لأن القطع لا يكون علما وحقا إلا إذا استند الى دليل قاطع أو عيان ومشاهدة على حد تعبير الشيخ محمد عبده ، ولو قال : يجوز لك أن تحتمل لكان أقرب الى الصواب .. أما نحن فنأخذ بظاهر النص كما فعل المسلمون الأولون ما دام العقل لا يأباه.

سورة قريش

٤ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))

٦١١

الإعراب :

من جعل هذه السورة وسورة الفيل واحدة قال : لإيلاف قريش يتعلق بقوله تعالى : «فجعلهم» ، في آخر السورة السابقة اي ان الله أهلك اصحاب الفيل لتطمئن قريش في بلدها ، ومن جعلها سورة مستقلة قال : لإيلاف قريش يتعلق بفليعبدوا ، او بمحذوف اي اعجبوا لإيلاف قريش. وإيلافهم بدل من إيلاف قريش. ورحلة مفعول إيلافهم. فليعبدوا مجزوم بلام الأمر. والذي أطعمهم صفة لرب هذا البيت.

المعنى :

اختلفوا : هل هذه السورة مستقلة عن سورة الفيل ، او هما سورة واحدة؟ قال الحافظ محمد بن احمد الكلبي في تفسير التسهيل : «ويؤيد القول بأنهما سورة واحدة انهما في مصحف أبي بن كعب كذلك لا فصل بينهما ، وقد قرأهما عمر في ركعة واحدة من المغرب». ويتفق هذا مع قول الشيعة الإمامية ، وقال صاحب الظلال : «هذه السورة تبدو امتدادا لسورة الفيل قبلها من ناحية موضوعها وجوّها».

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ). الإيلاف هو الإيناس ضد الايحاش ، وقريش اسم لقبائل عربية من ولد النضر بن كنانة ، وفي بعض التفاسير : إن قريشا تصغير قرش ، وهي التجارة ، سمّوا بذلك لأنهم كانوا يتجرون ، ويومئ إلى ذلك قوله تعالى : (إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ). كان سكان مكة في القرن السادس للمسيح ثلاث فئات : الأولى قريش ، ولها كل الحقوق. الثانية حلفاء قريش وهم أناس من العرب. الثالثة العبيد الذين لا يملكون شيئا حتى أنفسهم ، وكان لقريش رحلتان للتجارة : إحداهما الى اليمن في الشتاء ، والثانية إلى الشام في الصيف ، وكانوا يذهبون في تجارتهم آمنين ، ويعودون سالمين لا يمسهم أحد بأذى لأنهم سكان مكة وجيران بيت الله الحرام كما قال المفسرون ، أو كما نظن نحن من أن

٦١٢

العرب لا غنى لهم عن الحج إلى مكة ، فإذا تعرضوا لقوافل قريش اقتصوا منهم حين يحجون إلى بلدهم.

ويقول الرواة : ان محمدا (ص) ذهب ذات عام مع عمه أبي طالب في تجارة إلى الشام ، وكان في الثانية عشرة من عمره الشريف ، وان عمه لم يكد يبلغ مشارف الشام حتى عاد به مسرعا الى مكة ، لأن راهبا من رهبان النصارى أوصاه بأن يحرزه في مكة من مكر اليهود والنصارى .. وأيضا قال الرواة : ان محمدا (ص) خرج مع عمه الزبير الى اليمن في رحلة الشتاء ، وكان قد جاوز العشرين بقليل .. كان هذا قبل أن يخرج الى الشام بمال خديجة.

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) الضمير يعود الى قريش ، يأمرهم الله سبحانه بترك الأصنام وعبادة الواحد الأحد (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ). يذكّر سبحانه بهذه الآية طغاة قريش الذين عبدوا الأصنام من دون الله ، وكذبوا نبيه الكريم محمدا ، يذكرهم بحادث الفيل كيف أنجاهم من ابرهة وجيشه ولو لا فضله تعالى لكانوا هم العصف المأكول دون أصحاب الفيل. وأيضا يذكرهم تعالى بما أنعم عليهم من الرزق بسبب الرحلتين ولولاهما لهلكوا جوعا لأنهم بواد غير ذي زرع ، وفوق ذلك كله جعلهم آمنين مطمئنين على أموالهم وأرواحهم في حلهم وتر حالهم ، ولو لا فضله عز وجلّ لتخطّفهم الناس من كل مكان .. أبعد هذا كله يعبدون الأصنام ويكفرون بأنعم الله ويتوسلون بسواه ، ويكذبون رسوله العظيم؟ حقا ان الإنسان لظلوم كفار.

٦١٣

سورة الماعون

٧ آيات مكية. وقيل غير ذلك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

الإعراب :

فذلك مبتدأ ، والذي يدع خبر. فويل مبتدأ وللمصلين خبر. الذين هم عن صلاتهم صفة للمصلين. والذين هم يراءون بدل من الذين الأولى.

المعنى :

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ). أرأيت أي هل علمت؟ والصيغة للاستفهام. ومعناها استنكار ما حدث والخطاب عام للجميع ، لأن هذه السورة بمجموعها تدل بوضوح على التآخي بين الدين والعمل وتعتبره جزءا منه أو لازما لا ينفك عنه ، ومن ثم نفت الدين عن الذي يتصف بالرذائل التالية :

(فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ). والمراد بيدعّه يدفعه عن حقه بعنف أو غير عنف ، أو يهينه ويؤذيه ، أو يتسلط عليه بنحو من الأنحاء ظلما وعدوانا ، والمراد باليتيم كل ضعيف لا يستطيع الذب عن نفسه ، صغيرا كان أم كبيرا. وخص سبحانه اليتيم بالذكر لأنه أضعف من كل ضعيف ، والمعنى كل ظالم هو كافر مكذب بدين

٦١٤

الله ، وإن صلّى وصام لأن دين الله لا تغني فيه المظاهر والشعائر إلا مع التقوى والكف عن المحارم .. أجل ، من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله يعامل في الدنيا معاملة المسلم ، ولكن حكمه في الآخرة حكم الكافر. أنظر تفسير الآية ٥٥ من سورة الفرقان ج ٥ ص ٤٧٨.

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ). المراد بالحض هنا التعاون مع الآخرين على الاهتمام بشأن المعوزين والعاطلين عن العمل ، والمراد بالمسكين من لا يملك سببا للرزق وسد الحاجة. وتقدم مثله مع التفسير في الآية ٣٤ من سورة الحاقة والآية ١٨ من سورة الفجر.

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ). السهو هنا النسيان ، وهذا غير مراد هنا لأن الناسي غير مسؤول عقلا وشرعا ، قال الرسول الأعظم (ص) : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان». اذن ، لا بد من حمل السهو هنا على معنى آخر غير النسيان ، وقد بيّن سبحانه هذا المعنى الآخر بقوله : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) أي لا يعيرون الماعون تقربا الى الله بل يعيرونه رئاء الناس ، ومجمل المعنى ان الساهين عن صلاتهم يصلّون ، ولكن نفاقا وخوفا من الناس لا من الله .. انهم يبدون حسن الظاهر ، ويخفون القبائح والرذائل .. هذا هو شأنهم في جميع أعمالهم ، يتقربون بها الى عباد الله ، ويتباعدون عنه تعالى وعن مرضاته حتى الماعون لا يعيرونه إلا رياء ونفاقا .. وبهذا يتضح ان الله سبحانه ذكر الماعون للتمثيل على ريائهم في كل شيء لا في الصلاة فقط بل بأتفه الأشياء أيضا كإعارة الماعون.

٦١٥

سورة الكوثر

٣ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

الإعراب :

الكوثر مفعول ثان لأعطيناك. ومفعول انحر محذوف أي انحر أضحيتك. و «هو» ضمير فصّل.

المعنى :

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ). الكوثر مبالغة في الكثرة ، واختلفوا : ما هو المراد بهذه الكثرة البالغة ، وأقرب الأقوال الى الافهام ما نقله المفسرون عن ابن عباس وسعيد بن جبير من ان المراد بالكوثر هنا جميع نعم الله على رسوله الأعظم لأن لفظ الكوثر يتناول الكثرة الكثيرة التي لا حد ولا حصر لها ، وقيل لسعيد : ان أناسا يقولون : ان الكوثر نهر في الجنة. فقال : «إن هذا النهر من الخير الكثير الذي أعطاه الله لمحمد (ص)» .. ولكن الطغاة المترفين يستخفون بهذا الكوثر ولا يرونه شيئا ، ويقولون عن الرسول الأعظم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) ـ ١٢ هود. (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ). بعد أن ذكّر سبحانه نبيه الكريم بما أعطاه من النعم أمره بالشكر ، وأن تكون صلاته ونسكه لله وحده. وفي رواية ان المراد بالنحر هنا رفع اليدين حذاء الوجه عند استقبال القبلة للصلاة (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).

٦١٦

هذه جملة مستأنفة ، والشانئ المبغض من الشنآن بمعنى العداوة ، واختلفوا في المراد من الأبتر ، وأقرب الأقوال ان عدو محمد (ص) هباء لا أثر له ولا ذكر ، أما ذكره (ص) وأثره فباق ببقاء الله ، وأكثر المفسرين على ان أحد المشركين قال : محمد أبتر لا ولد له ، فأخبر سبحانه ان هذا القائل هو الأبتر ، وان كان له أولاد .. ولا مانع من الجمع بين المعنيين.

قال الشيخ محمد عبده : «ان شانئ الرسول (ص) لم يكن يشنؤه لشخصه لأن شخصه كان محببا الى النفوس ، وانما كان الشانئون يشنئون ويمقتون ما جاء به من الهدى .. وممن يشنأ ما جاء به الرسول ، ويدخل فيما يضمه معنى الأبتر أولئك الذين يتركون كتاب الله ، ويتمسكون بالظنون وأقوال غير المعصومين .. ويلصقون البدع بالدين ، فإذا ذكّروا بالقرآن لووا رؤسهم .. فلا عجب ان ترى الغضب الإلهي يتبعهم في كل مكان ، ويقذف بهم من ذلة الى ذلة وهم لا يشعرون بل ويضحكون».

سورة الكافرون

٦ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

٦١٧

المعنى :

قيل ان قوما من كفار قريش ذهبوا الى النبي (ص) وقالوا له : أنت سيد بني هاشم وابن ساداتهم ، ولا ينبغي أن تسفه أحلام قومك ، ولكن نعبد نحن إلهك سنة ، وتعبد أنت آلهتنا سنة ، فنزلت هذه السورة.

وتسأل : ما هو القصد من هذا التكرار؟ فإن قوله (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) هو عين قوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) ولا فرق إلا ان هذه جملة اسمية ، وتلك جملة فعلية ، أما قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) فقد أعاده بالحرف الواحد؟.

وأجابوا عن ذلك بأجوبة ، منها ما ذهب اليه صاحب مجمع البيان ، وهو أن المراد بقوله أولا : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي الآن وفي هذه الحال ، وقوله ثانيا : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي في المستقبل ، فالفرق انما هو في الزمان حالا واستقبالا! ويلاحظ بأن كلا منهما يصلح للحال والاستقبال ، والتعليل يحتاج الى دليل.

ومن الأجوبة ما قاله أبو مسلم واختاره الشيخ محمد عبده ، وهو ان «ما» الأولى اسم موصول بمعنى الذي والمراد به نفس المعبود ، و «ما» الثانية مصدرية ، والمراد بها نفس العبادة ، وعليه يكون المعنى معبودي غير معبودكم ، وعبادتي غير عبادتكم ، وأنا لا أعبد معبودكم ولا عبادتكم ، وأنتم كذلك. ويلاحظ بأنه لا عبادة من غير معبود ، وان ذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر.

ومنها ان هذا تكرار يفيد التأكيد ، وكلما كانت الحاجة الى التأكيد أشد كان التكرار أحسن ، ولا شيء أحوج الى التأكيد من نفي الشرك بالله ، ومن ثم حسن التأكيد. ونحن على هذا الرأي.

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) على حذف ياء المتكلم أي ديني ، والمعنى لكم الكفر والشرك ، ولي الإخلاص والتوحيد ، ولا علاقة لي بكم ولا بما تعبدون ، وأنتم كذلك .. وهذا تهديد ووعيد. ومثله (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ٤١ يونس ج ٢ ص ١٦٢.

٦١٨

سورة النّصر

٣ آيات مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

الإعراب :

جملة يدخلون حال من الناس أي داخلين ورأيت بصرية تعمل في مفعول واحد ، وهو هنا الناس. وأفواجا حال ثانية.

المعنى :

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ). قال جمهور المفسرين : ان هذه بشارة من الله سبحانه لنبيه الكريم بفتح مكة والنصر على أعداء الله وأعدائه (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً). المراد بدين الله الإسلام ، وأفواجا أي جماعة بعد جماعة ، وزمرة بعد زمرة ، وكان الكثير من أحياء العرب ينتظرون بإسلامهم فتح مكة ، فلما فتحها الله على نبيه عظم أمر الإسلام وانتشر في الجزيرة العربية كلها في أمد قصير ، وخلق الإسلام العرب خلقا جديدا ، فوحّدهم بعد تفرقهم وأعزهم بعد مذلتهم ، وجعلهم في طليعة الأمم وقادتها الى الخير والصلاح.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ). أمر سبحانه نبيه الأكرم بالحمد والتسبيح

٦١٩

بعد رؤية الفتح والنصر شكرا على أنعمه تعالى ، وتنزيها للنفس عن الزهو بالنصر ، والفرحة بالظفر ، وليس من شك ان الغرض من ذلك أن نتخلق بأخلاق القرآن ، ونتعظ بآدابه. قال الإمام علي (ع) : إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً). توبة الله على المعصوم معناها الرحمة له والرضوان عنه ، وتوبته على غيره قبولها منه. وسبق الكلام عن ذلك عند تفسير الآية ١١٧ من سورة التوبة ج ٤ ص ١١٣.

وروي ان النبي قال عند نزول هذه السورة : نعيت إليّ نفسي ، وان ابنته فاطمة عند ما سمعت ذلك منه بكت. فقال لها : لا تبك ، فإنك أول أهلي لحوقا بي فضحكت. وكأنّ الرسول (ص) قد أدرك من هذه السورة دنو أجله ، وانتهاء مهمته بعد حصول النصر والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا.

سورة تبّت

٥ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥))

الإعراب :

تبت فعل ماض ، ويدا فاعل ، وتب أيضا فعل ماض. وما أغنى «ما» نافية

٦٢٠