التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

كالعطف على قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً). وقال صاحب مجمع البيان : روى أصحابنا ـ أي الشيعة الإمامية ـ انهما سورة واحدة لتعلق إحداهما بالأخرى ، وجمعوا بينهما في الركعة الواحدة في الفريضة ، وكذلك في سورة ألم تر كيف .. ولإيلاف قريش. وقال الشيخ المراغي : «نزلت هذه السورة بعد سورة الضحى ، وهي شديدة الاتصال بما قبلها». وقال صاحب الظلال : «نزلت هذه السورة بعد سورة الضحى ، وكأنها تكملة لها».

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ). ضاق النبي (ص) ذرعا بفساد المجتمع الذي كان يعيش فيه ، وحار في أمره وهو يلتمس الطريق لاصلاح قومه وهدايتهم حتى نزل عليه القرآن ، وأنار له السبيل الى ما يبتغيه من صلاح وإصلاح ، فاطمأن قلبه وانشرح صدره (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ). الوزر الحمل الثقيل ، والمراد به هنا همّ النبي وغمه لما كان عليه قومه من الشرك والضلال ، فأراح الله نبيّه بالقرآن الكريم من الهمّ والغمّ ، وعليه يكون المراد من وضعنا عنك الخ هو عين المراد من ألم نشرح لك صدرك. ولا فرق إلا في الأسلوب والتعبير ، والغرض زيادة الإيضاح والتأكيد (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ). وأي شيء أعلى وأرفع من اقتران اسم محمد باسم الله ، وطاعته بطاعته (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ـ ٨٠ النساء. (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) ـ ٣٦ الأحزاب.

ومعنى هذا ان قول محمد (ص) هو قول الله بالذات.

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً). المعنى واضح ، وهو ان الشدة يعقبها الفرج عاجلا أو آجلا لأن المراد بمع هنا تأكيد الأمل في وقوع اليسر وان طال الزمن ، وليس المراد بها المصاحبة والمقارنة.

وتسأل : ما هو القصد من هذا التكرار : فإن مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا؟

الجواب : لا نرى له وجها إلا تأكيد هذه القضية في النفوس وتمكينها من القلوب لأنها موضع الشك والريب عند أكثر الناس أو الكثير منهم ، أما الرواية القائلة : «لن يغلب عسر يسرين» فقد تأملناها مليا ، وفهمنا اليسر الأول وانه كشف العسر ، ولكن لم نفهم اليسر الثاني. وقيل : هو ثواب الآخرة. وهذا أبعد من بعيد عن ظاهر اللفظ وسياق الآية لأنها تتكلم عن عسر الدنيا ويسرها ،

٥٨١

وليس عن الآخرة وثوابها .. وأيضا قيل : ان العسر الثاني هو عين العسر الأول لأن كلا منهما مقرون بالألف واللام للجنس ، أما اليسر فقد أعيد على التنكير ، وإذا أعيدت النكرة كان المراد من الثاني غير المراد من الأول! .. ولا يستند هذا القول الى حجة ، وما هو إلا لعب بالألفاظ ، لأنك إذا قلت لخصمك : لي عليك درهمان. فقال : ان لك درهما ان لك درهما لا يكون هذا إقرارا منه بالدرهمين.

وحاول الشيخ محمد عبده ان يخالف بين العسرين ، لا بين اليسرين ، فقال : المراد بالعسر الأول العسر المعهود عند المخاطبين ، أما العسر الثاني فأعم ، وقد أطال الشرح والبيان لتأييد رأيه ، ولكنه لم يأت بشيء تركن اليه النفس ، فإن المتبادر من العسر الأول هو عين المتبادر من الثاني ، ولا فرق بينهما في المبنى ولا في المعنى.

سؤال ثان : لقد رأينا كثيرا من الناس يلازمهم العسر حتى الممات ، ولا يتفق هذا مع ظاهر الآية ، فما هو الجواب؟.

الجواب : ان الحكم في الآية مبني على الأعم الأغلب ، لا على العموم والشمول .. هذا ، الى أنها تبعث الأمل في النفوس ، وتدفعها على العمل للخلاص مما تعانيه مع الاعتصام بالله والتوكل عليه.

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) المراد بالنصب هنا التعب ، والمعنى إذا فرغت يا محمد من العمل لأجل الحياة فاتعب واجتهد للحياة من أجل الآخرة. وتجدر الاشارة الى ان بعض المأجورين للفتنة وبث النعرات بين أهل المذاهب الاسلامية قد نسب الى الشيعة الإمامية انهم يفسرون كلمة فانصب في الآية الكريمة بأنصب عليا للخلافة .. ويكفي في الرد على هذا الافتراء ما قاله صاحب مجمع البيان ، وهو من شيوخ المفسرين عند الشيعة الإمامية ، قال عند تفسير هذه الآية ما نصه بالحرف : «ومعنى انصب من النصب ، وهو التعب أي لا تشتغل بالراحة». (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ). لا تتجه بقلبك لغير الله ، ولا تستعن بأحد سواه. قال الرسول الأعظم (ص) : إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم انه لو اجتمعت الانس والجن على ان ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعت على ان يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك.

٥٨٢

سورة التّين

٨ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

الإعراب :

والتين الواو للقسم. وأسفل صفة لموصوف محذوف أي الى مكان أسفل السافلين.

وبعد ظرف مبني على الضم. وبأحكم الحاكمين خبر ليس والباء زائدة.

المعنى :

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ). اختلفوا ما هو المراد بالتين والزيتون ، على أقوال ، أبعدها عن ظاهر اللفظ ومدلوله ما ذهب اليه الشيخ محمد عبده حيث قال : التين اشارة الى آدم وحواء ، وهما في الجنة «وعند ما بدت لهما سوآتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق التين والزيتون اشارة الى عهد نوح وذريته». ولا نرى مبررا لهذا التأويل لأن المتبادر الى الافهام من كلمة التين هذا التين الذي يؤكل ، ومن كلمة الزيتون هذا الزيتون الذي يعصر ، ولا مانع في حكم العقل أن يقسم الله سبحانه بما شاء من خلقه باعتراف الشيخ محمد عبده ، وما أكثر ما يستند الشيخ

٥٨٣

محمد عبده الى التبادر في تفسيره لآي الذكر الحكيم .. أما الحكمة من القسم فقد تكون للتنبيه الى ما لهما من فوائد ، وقد تكون غير ذلك ، وما أكثر ما نجهل. (وَطُورِ سِينِينَ) الطور الجبل الذي كلّم الله عليه موسى. وسينين سيناء.

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ). وهو مكة التي شرفها الله بميلاد محمد (ص) وكرمها ببيته الحرام ، ومثله (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ). (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ). هذا جواب القسم ، وهو القصد من السورة كلها ، والتقويم التعديل والتنظيم .. أقسم سبحانه انه شمل الإنسان بلطفه وعنايته حين أوجده وأنشأه ، فخلق جسمه في أبدع الصور والأشكال ، وأودع في روحه من القوى والغرائز ما تسمو به على جميع المخلوقات ان شاء وأراد ، أو تهوي به الى الحضيض ان انحرف مع أهوائه ونزواته ، وإذا كان الله سبحانه قد اعتنى بالإنسان هذه العناية وأهلّه الى الرفعة والكمال فجدير بالإنسان أن يعتني بنفسه ، ولا ينحرف بها عما خلقت له وعليه من الجمال والكمال. ومثله (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ـ ٦٤ غافر.

(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ). الهاء في رددناه تعود الى الإنسان باعتبار بعض أفراده ، والمراد بأسفل سافلين هنا جهنم ، ولو لا السياق لقلنا : المراد به أرذل العمر من الهرم والكبر ، ولكن قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قرينة واضحة على ارادة جهنم من أسفل سافلين .. والمعنى لقد خلقنا الإنسان في أحسن خلقة جسما وروحا ، ولكن بعض أفراده أو أكثرهم عصوا الله وكفروا بأنعمه ، فردّهم الى الدرك الأسفل من النار (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ). لكن الذين آمنوا وعملوا مخلصين بموجب ايمانهم يتنعمون في الجنان خالدين فيها أبدا ... إن الله عنده أجر عظيم. وتقدم بالحرف في الآية ٨ من سورة فصلت.

(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ). «ما» لفظها استفهام ومعناها إنكار ، ويكذبك أي ما يحملك على التكذيب بدين الله بعد ان قامت عليه الأدلة والبراهين ، ومنها خلق الإنسان في أحسن تقويم (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)؟ بلى انه أحكمهم صنعا وتدبيرا ، وأعدلهم قولا وفعلا ، وهو يقضي بالحق على من كذّب به استكبارا وعنادا.

٥٨٤

سورة العلق

١٩ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

الإعراب :

الذي خلق نعت لربك. وخلق الإنسان بدل بعض من خلق الاولى لأنه تخصيص بعد تعميم. وربك مبتدأ والأكرم نعت والذي علم بالقلم خبر. وعلم الإنسان بدل اشتمال من علم بالقلم. كلا ردع. والمصدر من ان رآه مفعول من أجله ليطغى. ولنسفعا الأصل لنسفعن بنون التوكيد الخفيفة وكتبت ألفا لأنها كالتنوين. وناصية كاذبة بدل من الناصية. وناديه على حذف مضاف أي أهل ناديه.

المعنى :

قيل : أول ما نزل على رسول الله (ص) فاتحة الكتاب ، وهذا القول يتناسب مع الاسم ، ولكنه قول نادر. وقيل : أول ما نزل يا أيها المدثر ، والقائلون

٥٨٥

بهذا قليل. وذهب أكثر المفسرين والرواة والعلماء الى ان أول ما نزل سورتنا هذه او أوائلها. قال الشيخ محمد عبده : «صح في الاخبار ان النبي (ص) أول ما تمثل له الملك الذي تلقى عنه الوحي قال له : اقرأ باسم ربك الذي خلق حتى بلغ ما لم يعلم» ومهما يكن فان على المسلم أن يؤمن ايمانا لا ريب فيه ان كل ما في القرآن هو من عند الله ، ولا يطلب منه البحث عن زمن الآيات وتاريخ نزولها.

والذي لا شك فيه ان الوحي نزل على الرسول الأعظم (ص) وهو في الأربعين من عمره الشريف ، وانه كان من قبل يؤمن بإله واحد ولا يشرك به شيئا ، وكانت ثقته به لا تتزعزع أبدا ، أما مصدر هذا الايمان فأمران : الأول ذاتي وهو عقله وفطرته. والثاني موروث عن جده ابراهيم الخليل (ع) ... ومن تتبع حياة النبي (ص) وسيرته يجد الكثير من الشواهد على إيمانه بإله واحد ، من ذلك انه ما سجد لصنم قط في صغره وكبره. ونقل الرواة ان أحد المشركين قال له قبل أن يبلغ سن الرجال : يا غلام أسألك بحق اللات والعزى ألا أخبرتني عن كذا. فقال له محمد (ص) : لا تسألني باللات والعزى فو الله ما بغضت شيئا بغضهما. وكان بينه وبين مشرك خلاف في شيء قبل البعثة ، فقال له المشرك : احلف باللات والعزى. فقال : ما حلفت بهما قط ، وإني أعرض عنهما.

وأيضا من ذلك قول زوجته السيدة خديجة حين شكا اليها ما أصابه عند نزول الوحي : «والله ما يخزيك الله أبدا ، انك تصل الرحم ، وتحمل الكلّ ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق». وفي هذه العبارة التاريخية ـ أي والله ما يخزيك الله ـ تظهر لنا بطريقة لا تحتمل الجدل فكرة الإله الواحد تشيع في الوسط العائلي المحمدي حتى قبيل دعوته ـ كتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي».

وفي كل عصر من العصور حتى في عصر الجاهلية الجهلاء وجد أفراد آمنوا بالإله الواحد بدافع من عقولهم وصفاء فطرتهم ، ومنهم ورقة بن نوفل ، وزيد ابن عمرو ، وعثمان بن الحويرث وغيرهم. أنظر ج ٥ من ، هذا التفسير ص ٩٦ فقرة «الحنفاء» فهل يكثر على سيد الكونين وأشرف الخلق من الأولين والآخرين أن يهتدي بعقله الى الله الواحد القهار؟.

٥٨٦

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ). هذا أول ما نزل من القرآن كما أشرنا ، ويؤيده الأمر بالابتداء باسمه تعالى. وقال سبحانه : الذي خلق مع حذف المفعول تعميما له وانه خالق لجميع الكائنات ، قال علماء العربية : ان حذف المتعلق يدل على العموم.

وتسأل : كان النبي (ص) أميا لا يقرأ ولا يكتب ، والله سبحانه يعلم ذلك من نبيّه ، فكيف يوجه له الأمر بالقراءة؟ أليس هذا تكليفا بما لا يطاق؟.

وأجاب الشيخ محمد عبده بأن الأمر في قوله تعالى : اقرأ باسم ربك هو أمر تكويني يقول للشيء : كن فيكون ، وليس أمرا تكليفيا مثل أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. أنظر ج ١ ص ٧٢ فقرة «التكوين والتشريع». وعليه يكون المعنى كن الآن قارئا ، وإن لم تكن كذلك من قبل ، فإن الرب الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يجعلك يا محمد قارئا من غير أن تتعلم القراءة.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ). بعد أن ذكر سبحانه انه خالق كل شيء خص الإنسان تكريما له (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) ـ ٧٠ الإسراء وتنبيها على عظيم قدرته تعالى التي جعلت من العلقة ـ وهي دم جامد ـ هذا الإنسان العظيم العجيب بتركيبه وغرائزه كي يستدل بذلك على وجود الخالق القادر (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) ـ ٦٧ مريم.

(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ). اقرأ هذا الأمر تأكيد للأمر الأول بالقراءة. وربك الأكرم الذي علم بالقلم جملة مستأنفة ، ومعناها ان الله كريم ولا حد لكرمه تماما كقدرته وعلمه ، ولا شيء أدل على جوده وفضله من انه ، جلت عظمته ، ارتقى بالإنسان من أدنى المراتب وهي العلقة الى أعلاها وهي الكتابة بالقلم ، ولها من الفوائد ما لا يبلغه الإحصاء ، من ذلك انها تربط الماضي بالمستقبل ، وشرق الأرض بغربها ، بخاصة بعد اكتشاف الطباعة التي جعلت العلم مشاعا للجميع حتى العميان يقرءون الكتابة بالحروف البارزة ، وإذا كان اللسان يفصح عما في الجنان فإن كلامه يذهب مع الريح ، ومن هنا قيل : القلم ينوب عن اللسان ، واللسان لا ينوب عن القلم.

(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ). الله سبحانه لا يقذف العلم بقلب الإنسان ، وانما

٥٨٧

يمنحه العقل الذي هو مصدر العلوم ، وليس للعقل حد ينتهي اليه لا الصعود إلى القمر ولا الى المريخ ، وكذلك علوم الإنسان ، فإنها تزداد يوما بعد يوم الى ما لا نهاية .. واتفق أكثر المفسرين على ان هذه الآيات من أول السورة الى هنا نزلت دفعة واحدة ، أما بقية السورة فمتأخرة زمانا.

المال والطغيان :

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى). كلا للردع ، والطغيان تجاوز الحد ، والحكم على الإنسان باعتبار الأغلب من أفراده .. وأكثر الناس ـ وكنت منهم ـ يستشهدون بهذه الآية على ان الإنسان يستعلي ويظلم حين يملك من المال والثروة أكثر من غيره .. وعلى هذا جمهور المفسرين. قال الرازي : «أول السورة يدل على مدح العلم ، وآخرها على مذمة المال». وقال صاحب مجمع البيان : «أي إن رأى نفسه مستغنية عن ربه بعشيرته وأمواله وقوته». وقال الشيخ محمد عبده : أي متى أحس من نفسه وبقطع النظر عما قبلها ، وهو قوله تعالى : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ). أما إذا نظرنا الى مجموع الآيتين ، وانهما وردتا في كلام واحد بلا فاصل بينهما ، ولا بد من هذا النظر ، إذا فعلنا ذلك كان المعنى ان الإنسان يتجاوز الحدود المشروعة حين يرى نفسه غنيا بالعلم وأدواته كالمختبرات والمصانع ، ويظلم من هو دونه بقسوة وضراوة ، ويؤيد هذا التفسير بالاضافة الى ظاهر السياق ـ انه الواقع الذي تعيش فيه الانسانية الآن ، فإن الذين يملكون العلم يحاولون أن يخضعوا العالم كله لسيطرتهم واستغلالهم ، بعد أن اتجهوا بالعلم الى الانتاج الحربي والصناعة العسكرية ؛ وأصبح لديهم من الأسلحة ما يقضون به على الكرة الأرضية بما فيها في بضع ساعات .. هذا هو التفسير الصحيح لقوله تعالى : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) نقول هذا ، ونحن من المؤمنين بالحقيقة الشائعة «الإنسان ان استغنى بطر وفتن ، وان افتقر قنط ووهن» ولكن الحقيقة في ذاتها شيء ، ودلالة اللفظ والسياق شيء آخر.

(إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) لا تغتر بالدنيا وزينتها أيها الطاغية ، ولا بالعلم وقنابله والمال وخداعه فإن قوة الحق أمضى من القنابل النووية .. فهذه ثورة الإنسان ضد

٥٨٨

الاستغلال والاستعباد في الهند الصينية وغيرها قد لقنت أرباب المعامل والصناعة العسكرية في امريكا أبلغ الدروس ، ثم يردون الى عالم الغيب والشهادة فينبئهم بما كانوا يعملون.

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى). هذا انكار على كل من ينهى عن المعروف بطريق أو بآخر (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى). أخبرني عن هذا الضال الذي ينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر ـ هل هو على حق في نهيه وأمره (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى). لقد كذب هذا الضال بالحق وأعرض عنه ، أفلا يخشى عذاب الله الذي يعلم سره وعلانيته؟.

(كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ). الناصية شعر الجبهة ، والسفع الجذب بشدة ، وكانت العرب تأنف من الجر بالناصية ، وتعده غاية الاذلال والتحقير ، لأنه للحيوان لا للإنسان ، وكاذبة خاطئة أي صاحبها كاذب خاطئ ، والمعنى ليرتدع هذا الضال عن ضلاله وإلا قدمناه بناصيته الى عذاب الحريق (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) النادي المجلس ، وفي الكلام حذف مضاف أي ليدع هذا الضال أهل مجلسه يمنعوا عنه العذاب ، والمراد بأهل مجلسه أعوانه وعشيرته ، ومثله (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) ـ ٥٦ الإسراء.

(سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ). وهم ملائكة العذاب ، والزبانية من الزبن بفتح الزاي ، وهو الدفع أي ان الملائكة يدفعون بالطاغية الى نار جهنم ، وأصل «سندع» بالواو في آخر الكلمة ولكنها حذفت في كتابة المصاحف (كلا) زجر عن متابعة الطاغية والإصغاء لدعاياته المضللة (لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ) لله وحده ، ولا تخش من مخلوق كائنا من كان (وَاقْتَرِبْ) أي وتقرب إلى الله بأعمال الخير ، وأفضلها جهاد الطغاة.

وقسّم الفقهاء السجود إلى سجدة الصلاة المعهودة ، وسجدة السهو ومكانها بعد الصلاة بلا فاصل وموجبها الخلل في الصلاة زيادة أو نقصانا ، والتفصيل في كتب الفقه ، وسجدة الشكر عند تجدد نعمة أو دفع نقمة ، وسجدة التلاوة ، وقد أوجبها الإمامية عند تلاوة آية السجدة من سورة ألم تنزيل ، وسورة حم فصلت ، وسورة النجم ، وسورة العلق ، وما عدا ذلك فهو ندب لا فرض.

٥٨٩

سورة القدر

٥ آيات مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

الإعراب :

ما أدراك «ما» مبتدأ وجملة أدراك خبر. ما ليلة القدر مبتدأ وخبر. وليلة القدر مبتدأ وخير خبر. تنزل أي تتنزل. وسلام خبر مقدم وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل أي سلامة ، وهي مبتدأ مؤخر. وحتى حرف جر بمعنى الى ومطلع مجرور بها متعلقا بسلام وقيل بتنزل.

المعنى :

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ). الضمير في أنزلناه للقرآن لحضوره في الأذهان ، وليلة القدر هي إحدى ليالي شهر رمضان المبارك للأحاديث المتضافرة ، ولقوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ـ ١٨٥ البقرة فإذا عطفنا هذه الآية على قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) كانت النتيجة ان ليلة القدر

٥٩٠

هي احدى ليالي شهر رمضان. وتعددت الأقوال في تعيين هذه الليلة من الشهر المذكور تبعا لتعدد الأحاديث ، وسكت كتاب الله عن ذلك للحث على إحياء جميع ليالي شهر رمضان بالعبادة كما قيل.

وفي رواية عن الإمام جعفر الصادق (ع) : ان سائلا سأله عنها فقال له : اطلبها في تسع عشرة واحدى وعشرين وثلاث وعشرين ، وجرت العادة عند أهل السنة أن يقيموا شعائرها في ليلة ٢٧.

وأطرف ما قرأته حول تعيين هذه الليلة ما جاء في كتاب أحكام القرآن لأبي بكر المعروف بابن العربي المعافري الأندلسي المالكي ، قال صاحب الكتاب ما نصه بالحرف : انها في ليلة ٢٧ لأن العلماء عدوا حروف السورة فلما بلغوا الى كلمة «هي» وجدوها سبعة وعشرين حرفا ، فحكموا عليها بها ـ أي حكموا على ليلة القدر بالحروف المعدودة ـ وهو أمر بين وعلى النظر بعد التفطن له هين ، ولا يهتدي له إلا من كان صادق الفكر سديد العبرة». وليست هذه «العبقرية» في الاستنتاج ، وهذا «الورع» في تفسير كلام الله ـ بالشيء الغريب عن الذي فال معلقا على فتوى للإمام الشافعي : «هذا كلام من لم يذق طعم الفقه». وأيضا قال تعليقا على فتوى للإمام أبي حنيفة : «هذا فقه ضعيف». أنظر كتاب «أحكام القرآن» ج ٢ ص ٢٣٩ طبعة ٣٣١ ه‍.

وقال الشيخ محمد عبده : ليلة القدر هي ليلة عبادة وخشوع وتذكر لنعمة الحق والدين .. ولكن المسلمين في هذه الأيام يتحدثون فيها بما لا ينظر الله اليهم ، ويسمعون شيئا من كتاب الله لا ينظرون فيه ولا يعتبرون بمعانيه ، بل إن أصغوا فإنما يصغون لنغمة تالي القرآن .. ولهم خيالات في ليلة القدر لا تليق بعقول الأطفال فضلا عن الراشدين من الرجال.

واختلفوا : هل نزل القرآن جملة واحدة أو نجوما؟ والحق انه نزل نجوما ، وان معنى أنزلناه في ليلة القدر ان ابتداء النزول كان في هذه الليلة. وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ١٠٦ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٩٥ فقرة «هل نزل القرآن نجوما»؟. وأيضا اختلفوا : لما ذا سميت هذه الليلة بليلة القدر؟ فمن قائل : لأن الله سبحانه يقدّر ويقسم الأرزاق والآجال في هذه الليلة بين عباده ،

٥٩١

وقائل : ان المراد بالقدر هنا الشرف والعظمة. وهذا القول أقرب الى كلمة القدر لأنه يقال : فلان له قدر أي شرف وعظمة ، ويؤيده ان الله سبحانه وصف هذه الليلة بالمباركة في الآية ٣ من سورة الدخان (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) والبركة السعادة والنمو ، وليس من شك ان الانسانية تنمو وتسعد لو سارت على نهج القرآن الذي نزل في ليلة القدر.

(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ). هذا تعظيم لشأنها وعلو قدرها وانه فوق التصور (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) لا قدر فيه وإلا لزم تفضيل الشيء على نفسه ، والمعنى ان من أحيا ليلة القدر بالعبادة وعمل الخير فكأنما عبد الله ألف شهر. قال الرازي : «هذه الآية فيها بشارة عظيمة ، وفيها تهديد عظيم ، أما البشارة فهي انه تعالى ذكر ان هذه الليلة خير ولم يبين قدر الخيرية ، وهذا كقول النبي (ص) لعلي (ع) لمبارزة علي مع عمر بن ود أفضل من عمل امتي الى يوم القيامة ، فلم يقل مثل عمله بل قال أفضل ، كأنه يقول : حسبك هذا من الوزن والباقي جزاف».

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ). كثرت في هذه الآية التفاسير والأقوال ، ونذكر أولا معاني مفرداتها ثم مجمل المعنى. وتنزل لا يحتاج الى تفسير ، ولكن الله سبحانه لم يذكر الى أين تنزل ملائكته ليلة القدر؟ هل تنزل الى أرضنا أو الى غيرها من الأفلاك أو الى كل مكان كما يقتضيه حذف المتعلق؟. والروح هو جبريل ، وضمير فيها يعود الى ليلة القدر ، وبإذن ربهم أي بأمره ، ومن كل أمر «من» سببية أي لأجل ، وكل أمر يعم كل شيء في السموات والأرض ، ومجمل المعنى ان الله سبحانه يأمر في ليلة القدر الملائكة بالنزول الى كل مكان من أجل كل شيء .. وإذا سئلنا : ما هو المراد من أجل كل شيء؟ هل هو تدبير الأشياء وتقرير مصيرها أو معاينتها واحصاؤها أو غير ذلك ، إذا سئلنا عن ذلك قلنا : الله أعلم. وقال الشيخ محمد عبده : المراد ان أول عهد النبي (ص) بشهود الملائكة كان في ليلة القدر! .. وهذا بعيد عن ظاهر اللفظ.

(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ). ضمير هي يعود الى ليلة القدر ، ولكن

٥٩٢

هل المراد ان السلام الى مطلع الفجر يكون في جميع ليالي القدر وانه لا يقع شيء من الشرور والآفات في أية ليلة من ليالي القدر ، أو ان السلام الى مطلع الفجر كان في خصوص الليلة التي نزل فيها القرآن على قلب رسول الله؟. الظاهر من عبارة المفسرين العموم ، ومن عبارة الشيخ محمد عبده الخصوص ، قال : «انها كانت ليلة سالمة من كل شر وأذى .. فرج الله فيها عن نبيه وفتح له فيها سبيل الهداية ، فأناله بذلك ما كان يتطلع اليه».

سورة البيّنة

٨ آيات. قيل مدنية وقيل مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ

٥٩٣

جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

الإعراب :

منفكين خبر لم يكن. ورسول بدل من البينة. ومن الله متعلق بمحذوف صفة لرسول. وفيها خبر مقدم وكتب مبتدأ مؤخر والجملة صفة لصحف. ومخلصين حال من فاعل ليعبدوا. والدين مفعول مخلصين. وحنفاء حال ثانية. في نار جهنم خبر ان الذين كفروا. وأولئك مبتدأ أول وهم مبتدأ ثان وشر خبر الثاني والجملة خبر الأول. وأبدا ظرف زمان متعلق بالخلود ومؤكد له.

المعنى :

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى ، وبالمشركين عبدة الأوثان من العرب ، ومنفكين أي مفارقين .. وكان أهل الكتاب قد قرأوا في كتبهم ان الله سيبعث نبيا يهدي الى الحق ، وأيضا سمع المشركون بهذا النبي ، فكان بين الفريقين شبه اجماع على بعثة النبي الموعود ، وكثيرا ما كان يقع الخصام والعناد بين أهل الكتاب والمشركين ، ويدعي كل فريق انه المحق والآخر هو المبطل ، ثم يتفقون على ان يرجئوا حكم الفصل بينهم الى مجيء النبي الموعود ، وانهم متى جاء آمنوا به وأذعنوا لحكمه ، وهو المقصود بالبينة التي بينها سبحانه بقوله : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ). المراد برسول الله هنا محمد (ص) وبالصحف القرآن ، والجمع باعتبار تعدد سوره أو أوراقه لأن كل ورقة مكتوبة يقال لها صحيفة ، ومطهرة أي منزهة عن الباطل والتحريف ، وضمير فيها يعود الى الصحف ، والمراد بالكتب ان القرآن فيه تبيان الكثير مما أنزله الله في الكتب السماوية السابقة كصحف ابراهيم والتوراة والإنجيل والزبور بل فيه تبيان ما نزل على جميع

٥٩٤

الأنبياء من الهدى وأصول الدين ، والمراد بالقيمة المستقيمة على نهج الحق ، والمعنى ان محمدا (ص) لما جاء بالقرآن الذي فيه تبيان كل شيء أعرض عنه المشركون وأهل الكتاب ، ونكثوا العهد الذي كانوا قد أبرموه على أن يتحاكموا لدى النبي الموعود.

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ). هذه البينة جاءت أهل الكتاب على ألسنة أنبيائهم ، فالمراد بها غير المراد بالبينة في الآية السابقة ، والمعنى ان أهل الكتاب تمادوا في الغي والضلال بإعراضهم عن دعوة محمد (ص) الذي جاءهم بالبينات تماما كما تمادوا في السفاهة والضلالة بعد أنبيائهم الذين جاءوهم بالأدلة والحجج ، وذلك ان اليهود انقسموا الى فرق بعد موسى ، وكذلك النصارى تفرقوا شيعا بعد عيسى ، وما كان هذا الاختلاف والانقسام عن جهل بالدين ، وإنما فرقتهم الأهواء والمنافع. وتقدم مثله في الآية ١٠٥ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٢٧ والآية ١٧ من سورة الجاثية.

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ). حنفاء جمع حنيف ، وهو من استقام على الحق مائلا عن كل باطل ، والمعنى ان أهل الكتاب تفرقوا في دينهم مع ان دين الله واحد وواضح ، وهو الإخلاص لله وحده ، والاستقامة على الحق والهدى ، واقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وهذا دين الكتب السماوية المستقيمة على الصراط القويم ، فمن أين جاء تعدد الأديان والطوائف والمذاهب؟. قال الشيخ محمد عبده : «هذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب ، فما نقول نحن في حالنا؟ ألا ينعى كتابنا الشاهد علينا بسوء أعمالنا في افتراقنا في الدين بعد أن صرنا فيه شيعا ، وملأناه بدعا ومحدثات». أنظر ج ١ ص ١٨٠ فقرة «أيضا المسلمون يكفر بعضهم بعضا».

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ). المراد بالكافرين هنا كل من جحد الحق الذي قام عليه الدليل ، سواء أجحده عنادا وبعد ان علم به ، أم لأنه يأبى البحث عن الحق والنظر اليه والى دليله ، وقد اتفق علماء المسلمين على ان حكم الجاهل المقصر في البحث عن الحق تماما كحكم العالم به التارك له عن قصد وعمد ، وليس من شك ان من أعرض

٥٩٥

عن الحق بلا مبرر هو شر أهل الأرض تماما كمن جعل لله شريكا ، ولا جزاء لهذا وذاك إلا الخزي والعذاب.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). آمنوا بالحق وعملوا بموجب ايمانهم (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ). كل من بحث عن الحق وعمل به لوجه الحق ولا تأخذه فيه لومة لائم ـ فلا أحد أفضل منه إلا من اختاره الله لرسالته ، واصطفاه أمينا على وحيه (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ). رضي عنهم لأنهم عملوا بمرضاته فأثابهم بملك دائم ، ونعيم قائم ، ورضوا عنه بما أفاضه عليهم من فضله ونعمه. وتقدم مثله في الآية ١١٩ من سورة المائدة ج ٣ ص ١٥٣ والآية ١٠٠ من سورة التوبة ج ٤ ص ٩٥ والآية ٢٢ من سورة المجادلة.

(ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ). لقد أعد سبحانه الجزاء الحسن لمن خشي الرحمن بالغيب وقال صوابا. قال الشيخ محمد عبده : «أراد سبحانه بهذه الكلمة الرفيعة ان يدفع سوء الفهم الذي وقع فيه العامة والخاصة وهو ان مجرد الاعتقاد الموروث من الأبوين ومعرفة ظواهر بعض الأحكام وأداء بعض العبادات ، مجرد هذا يكفي في نيل ما أعده الله للمؤمنين ، وان امتلأت قلوبهم بالحقد والحسد والكبرياء والرياء ، وأفواههم بالكذب والنميمة والافتراء ، وسرائرهم بالرق والعبودية للأمراء بل لمن دون الأمراء .. كلا ، لا ينالون حسن الجزاء لأن خشية الله لم تحل قلوبهم ، ولم تهذب شيئا من نفوسهم ، ولا يكون ذلك إلا لمن خشي ربه ، وأشعر خوفه قلبه».

٥٩٦

سورة الزّلزلة

٨ آيات مكية وقيل مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

الإعراب :

زلزالها مفعول مطلق. ومالها؟ مبتدأ وخبر. ويومئذ تحدّث : «يومئذ» بدل من «إذا» لأنها بمعنى حين. والمصدر من ان ربك أوحى متعلق بتحدث. ويومئذ منصوب بيصدر. وأشتاتا حال. والمصدر من ليروا متعلق بيصدر. وخيرا تمييز مبين لمثقال ذرة لأن المعنى ذرة من خير ، ومثله شرا.

المعنى :

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها). هذا تخويف من أهوال يوم القيامة الذي تضطرب فيه الأرض وتهتز اهتزازا شديدا ، ومثله (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ

٥٩٧

زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) ـ ١ الحج» ج ٥ ص ٣٠٨ (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها). أخرجت كل ما طوته في جوفها من أموات وكنوز ومدن وحضارات (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها)؟ ما لهذه الأرض تموج على غير عادتها؟ ما الذي جرى لها؟ (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها). حديث الإنسان أن يظهر ما يكنه في نفسه ، وحديث الأرض يوم القيامة أن تبرز للعيان ما ابتلعته من عجائب وغرائب مدى الدهور والعصور .. ولست أدري : هل يشاهد يومئذ علماء الآثار هذا المعرض المذهل المدهش؟.

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها). كل ما يحدث للأرض يوم القيامة هو بأمر الله تعالى. وقال الشيخ محمد عبده : «ولا مانع من أن يكون خراب الأرض في آخر عمرها بسبب من الأسباب التي تهدم بناءها وتجعلها هباء منثورا». وكأنه يشير بقوله هذا الى التفجيرات النووية على سطح الأرض وجوفها مع العلم بأنها لم تكن في أيامه .. وقوله قريب جدا لأن عمر الأرض لا ينتهي بمرور الزمن كما هو شأن الكائنات الحية ، بل بخلل يعرض لها أو لجزء من أجزائها الرئيسية.

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ). يوم القيامة يبدل الله الكون غير الكون ، ويلحق آخر الخلق بأوله ، ويذهبون بقضّهم وقضيضهم الى حيث يرى كل واحد منهم جزاء عمله (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). في تفسير الرازي وغيره : ان الذرة أصغر النمل. وفي كتاب «القرآن والعلم الحديث» لنوفل «الذرة هي أقل جزء يمكن أن يصل اليه تقسيم المادة ، ولا يزيد حجمها على جزء من عشرة ملايين من المليمتر». ويقال أيضا : ان الذرة لا ترى أبدا حتى بأعظم المجاهر ، وانما تعرف بآثارها ، والمعنى واضح ، وهو ان الإنسان يجد غدا عند الله جزاء عمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ بالغا ما بلغ العمل من الصغر .. وبديهة ان جزاء كل شيء بحسبه كما وكيفا.

وتسأل : هل المؤمن والكافر في ذلك سواء ، أم ان من كفر بالله لا يقبل منه عمل الخير ولا يثاب عليه حتى ولو أتى به لوجه الخير والانسانية؟

الجواب : كل شيء بحسابه ، فإذا فعل الكافر خيرا يعذب عذاب الكفر ، ويجزى على عمل الخير بما تستدعيه الحكمة الإلهية من ثواب الدنيا أو التخفيف من

٥٩٨

عذاب الآخرة. وتكلمنا عن هذا الموضوع مفصلا في ج ٢ ص ٢١١ بعنوان : الكافر وعمل الخير.

سؤال ثان : لقد دل كثير من الآيات ان الكفر يحبط الأعمال ، وإن كانت كلها حسنات؟.

وقد أجاب عن هذا بعض العلماء بأن معنى الإحباط ان حسنات الكافر لا تنجيه من عذاب الكفر ، وليس معناه ان الله سبحانه لا يثيبه عليها إطلاقا حتى في الدنيا.

سورة العاديات

١١ آية مكية وقيل مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

الإعراب :

ضبحا مصدر في موضع الحال أي ضابحة. وقدحا مفعول مطلق للموريات لأن الوري فيه معنى القدح ، فهو مثل قمت وقوفا. وصبحا منصوب على الظرفية. فأثرن النون علامة التأنيث. ونقعا مفعول به ، ومثله جمعا ، وقال أبو البقاء : جمعا حال. إن الإنسان الخ جواب القسم. لربه متعلق بكنود. على ذلك متعلق بشهيد. لحب الخير متعلق بشديد. يومئذ متعلق بخبير.

٥٩٩

المعنى :

جاء في مجمع البيان وغيره ان رسول الله (ص) أرسل سرية الى حي من بني كنانة ، فأبطأت عليه ، فقال المنافقون : ان رجالها قتلوا ، فنزلت هذه السورة تخبر النبي (ص) بسلامتهم وتكذب المرجفين.

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً). العاديات جمع العادية من العدو ، وهو الجري بسرعة ، والمراد بالعاديات هنا الخيل ، وقيل الإبل ، والضبح صوت أنفاسها عند العدو (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً). الموريات من قولهم : أورى النار إذا أوقدها ، والقدح الضرب لإخراج النار ، والمعنى ان الخيل عند عدوها تضرب الحجارة بحوافرها فيتطاير منها الشرر ، (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) أغارت الخيل على العدو وقت الصبح لتأخذه على غفلة منه (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً).أثرن حركن ، والضمير في به يعود الى وقت الصبح ، والباء ظرفية أي فيه ، والنقع الغبار (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً). وسطن توسطن ، وأيضا ضمير به يعود الى وقت الصبح ، والمراد بالجمع هنا جمع العدو ، والمعنى هاجمت الخيل العدو وقت الصباح.

أقسم سبحانه بخيل المعركة ، وبالأحرى أقسم بالقوة وإعداد العدة ليحث المؤمنين على الجهاد في سبيل الله ، والتسلّح بالقوة لردع أعداء الله والانسانية .. ومن تتبع آي الذكر الحكيم يجد ان الله سبحانه قد حث المؤمنين في العديد من آياته وبشتى الأساليب أن يكون لديهم أمضى سلاح يرهبون به الطغاة المعتدين الذين لا يفهمون إلا بلغة القوة .. من ذلك قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) ـ ٦٠ الأنفال. وقوله : (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ) ـ ١٠٢ النساء وقوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) ـ ٩٢ النحل. الى غير ذلك من الآيات التي تأمر بكل ما من شأنه أن يجعل كلمة الحق هي العليا ، وكلمة الباطل هي السفلى. وبهذا يتبين معنا ان ذكر الخيل وضبحها ، وقدحها ونقعها انما هو كناية عن إعداد العدة لصيانة الحق والدفاع عن أهله ، وكنى سبحانه بالخيل عن القوة لأنها كانت آنذاك من أبرز مظاهرها.

وقال الشيخ محمد عبده ، وهو يفسر هذه الآيات : أليس غريبا ان أناسا

٦٠٠