التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

وتسأل : قال تعالى هنا : ان المجرم يعطى كتابه من وراء ظهره ، وقال في الآية ٢٥ من سورة الحاقة : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) فما هو وجه الجمع بين الآيتين؟.

وأجاب كثير من المفسرين بأن يمين المجرم تغل الى عنقه يوم القيامة ، أما شماله فتجعل وراء ظهره ، فيأخذ بها كتابه. وقال الشيخ محمد عبده : إتيان الكتاب باليمين أو اليسار أو وراء الظهر هو تمثيل وتصوير لحال المطلع على أعماله في ذلك اليوم .. فمن الناس من إذا كشف له عمله ابتهج واستبشر ، وهو التناول باليمين ، ومنهم من إذا تكشفت له سوابق أعماله عبس وبسر ، وتمنى لو لم تكشف له ، وهذا هو التناول باليسار ، أو وراء الظهر ، اذن لا داعي الى الجمع بين الآيتين باختراع معنى لا يليق بكتاب الله كما جرى عليه كثير من المفسرين.

(إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً). كان في الدنيا ، وهو بين أهله ، يلهو ويلعب ، ولا يفكر في حساب وجزاء (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي لن يرجع بعد الموت الى ربه ، ولا أحد يسأله عن ذنبه (بَلى). هو راجع ومسؤول ما في ذلك ريب (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) لا يخفى عليه شيء من أقواله وأفعاله ، فيحاسبه عليها ان خيرا فخير ، وان شرا فشر.

فلا اقسم بالشفق الآية ١٦ ـ ٢٥ :

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

٥٤١

المعنى :

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ). سبق الكلام عن (فَلا أُقْسِمُ) أكثر من مرة. انظر تفسير الآية ٧٥ من سورة الواقعة والآية ١٥ من سورة التكوير .. والشفق الحمرة الباقية في الأفق من آثار غروب الشمس ، وقد يكون الغرض من القسم هو التنبيه الى هذا الوقت لأنه مرحلة الانتقال من النهار وأتعابه الى الليل وراحته.

(وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي ضم وجمع ما تفرق وانتشر في النهار ، فأفراد الاسرة يجمعهم الليل بعد ان فرقهم عمل النهار ، وكذا الجيران والأصحاب يجتمعون في الليل للسمر ، قال الشيخ محمد عبده : لا يخفى عليك ان ما انتشر بالنهار يجتمع بالليل حتى ان جناحيك اللذين تمدهما الى العمل في النهار تضمهما الى جنبيك في الليل .. والليل يضم الأمهات الى أفراخها ، ويرد السائمات الى مناخها (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ). تم وتكامل نوره ليلة ١٣ و ١٤ و ١٥ ، وتسمى هذه الليالي بالليالي البيض.

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ). هذا جواب القسم ، وقرئ بفتح الباء خطابا للإنسان ، وبضمها خطابا للناس ، والمعنى لا بد أن يمر الإنسان بالعديد من الأطوار ، فمن النطفة الى الجنين ، ومنه الى الطفولة ، الى الشباب ، ثم الكهولة ، الى الهرم وأرذل العمر .. وأيضا يلاقي في حياته ألوانا من الصحة والمرض ، والغنى والفقر ، والحزن والفرح .. وكذلك الجماعات تتقدم وتتأخر .. وهكذا تتصرف الدنيا بأهلها حالا بعد حال حتى يقفوا جميعا بين يدي الله للحساب والجزاء.

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) مع ان الأسباب الموجبة للايمان لا يبلغها الإحصاء في الآفاق وفي أنفسهم (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) لا يعترفون به ولا يسلمون ، وقال الشيخ محمد عبده : لا تظن ان قرع القرآن لم يكسر أغلاق قلوبهم ، ولم يبلغ صوته أعماق ضمائرهم .. بلى قد بلغ واقنع فيما بلغ ، ولكن العناد هو الذي يمنعهم عن الايمان ، فليس منشأ التكذيب قصور الدليل ، وانما هو تقصير المستدل وإعراضه عن الهدى (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) بالحق

٥٤٢

مكابرة منهم وعنادا (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي بما يضمرون في صدورهم من الأهداف والأغراض ، وما هي إلا الحرص على مناصبهم ومكاسبهم (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) جزاء بما كانوا يعملون (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ). الاستثناء هنا منقطع أي ولكن الذين آمنوا الخ ، وغير ممنون أي غير مقطوع ولا منقوص ولا يمن به عليهم. وتقدم بالحرف في الآية ٨ من سورة فصلت ج ٦ ص ٤٧٦.

٥٤٣

سورة البروج

٢٢ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

٥٤٤

الإعراب :

والسماء الواو للقسم. وذات البروج صفة للسماء. واليوم وما بعده عطف على السماء. وقتل جواب القسم ، وقيل الجواب محذوف. دل عليه قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) والتقدير : لقد ابتلي المؤمنون من قبلكم بأكثر مما ابتليتم. والنار بدل اشتمال من الأخدود. وذات الوقود صفة للنار. إذ هم «إذ» في محل نصب بقتل. والمصدر من أن يؤمنوا مفعول لنقموا .. وفرعون وثمود بدل من الجنود على حذف مضاف أي جنود فرعون وثمود.

المعنى :

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ). كل ما علاك فهو سماء ، أما البروج فقيل : هي الكواكب العظيمة ، لأن كل كوكب منها يبدو للعيان كالبرج العظيم ، وقيل : هي المنازل الاثنا عشر التي تعرفها العرب ، وتقطعها الشمس في سنة بظاهر الرؤية وهي برج الحمل والثور والجوزاء ، والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت .. وسواء أريد المعنى الأول أم الثاني أم هما معا فان الغرض هو التنبيه الى ما في الكواكب من دقة الصنع وبالغ الحكمة لنستدل بذلك على وجود الخالق وعظمته (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) هو يوم القيامة.

(وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ). تعددت الأقوال وتضاربت في معنى الشاهد والمشهود هنا ، وقد أنهى بعض المفسرين الأقوال الى ٤٨ قولا ، منها ١٦ في معنى الشاهد ، و ٣٢ في معنى المشهود! .. وقال الشيخ محمد عبده : المراد بالشاهد هنا كل ما له حس يشاهد به ، والمراد بالمشهود الشيء المحسوس الذي وقعت عليه المشاهدة ، واستدل على صحة هذا التفسير بأمرين : الأول انه الحقيقة الظاهرة من دلالة اللفظ. الثاني ان الله سبحانه أقسم أول ما أقسم بكواكب السماء ، وفي هذه الكواكب غيب وشهادة ، أما الشهادة فلأن نورها وحركاتها وطلوعها ومغيبها كل ذلك يرى بالحس والمشاهدة ، وأما الغيب فلأن حقيقتها وما فيها من قوى لا يدرك بالمشاهدة والحواس .. ثم أقسم سبحانه باليوم الآخر ، وهو غيب صرف

٥٤٥

لا يتصل بالمشاهدة من قريب أو بعيد ، ثم أقسم بالشاهد والمشهود أي بما هو شهادة صرف ، وعلى هذا يكون سبحانه قد أقسم بجميع العوالم ، سواء منها ما كان من عالم الغيب فقط ، أم من عالم الشهادة فقط ، أم منهما معا ، والغرض من ذلك هو ان يلفت الناظرين الى الكائنات بشتى أنواعها ، ويعتبروا بما ظهر منها من الإحكام والنظام ، ويبذلوا الجهد لمعرفة ما غاب واستتر.

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ). الأخدود شق في الأرض يحفر مستطيلا ، وأصحابه قوم كافرون لهم بأس وسلطان ، وقيل : المراد بهم ذو نواس وقومه ، وهو أحد ملوك اليمن. وأيا كان اصحاب الأخدود فإن هذه الآيات تشير الى أناس طغاة قد حفروا خندقا وأضرموه بنار تسطع باللهب ، ثم جاءوا بالمؤمنين المخلصين وعرضوهم على النار ، فمن رجع عن دينه ووافقهم على الكفر والبغي تركوه ، ومن أصر على الايمان والإخلاص أحرقوه ، وهم قاعدون على جوانب الخندق حول النار يتلذذون ويتمتعون بمشاهدة الأجسام تحترق حية طرية (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). هذا هو ذنبهم الأول والأخير هو الايمان بالله مالك الملك القادر القاهر العالم بكل شيء والمستحق وحده للحمد. ووصف سبحانه نفسه بهذه الصفات للاشارة الى انه لا مفر للطغاة من سلطان الله وعذابه. ومثله (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) ـ ٢٨ غافر.

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ). بعد أن أشار سبحانه الى أهل الأخدود الجبابرة عرّض بعتاة قريش الذين آذوا المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم ، ويردوهم كفارا بعد ايمانهم ، وقد هددهم سبحانه إذا لم يرتدعوا ، هددهم وتوعدهم بأليم العذاب .. وعطف عذاب الحريق على عذاب جهنم من باب عطف التفسير والتوضيح ، والغرض منه تأكيد الوعيد والتهديد ، وزيادة التخويف والتهويل (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ). تقدم مثله في العديد من الآيات ، وجاء ذكره هنا على طريقة القرآن الكريم حيث يقرن هلاك المجرمين بفوز المتقين ، ونعيم هؤلاء بجحيم أولئك (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ). البطش

٥٤٦

الأخذ بعنف ، فكيف إذا كان شديدا ، ومن جبار السموات والأرض؟. والخطاب هنا لرسول الله (ص) والغرض منه تهديد الذين يؤذون الرسول ومن آمن معه (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ). ومن كان قادرا على بدء الخلق وإعادته فهو على البطش بالطغاة أقدر (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ). لمّا ذكر سبحانه شدة العذاب قرنها بمغفرته ولطفه ليرجع اليه العاصون بالتوبة ولا ييأسوا من رحمته ، فإن غضبه تعالى على المذنبين لا يمنعه من الرحمة بهم (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) صاحب الملك والسيطرة.

(فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ). ومراده تعالى يتحقق بمجرد ارادته من غير حاجة لشيء آخر ، قال الإمام علي (ع) : «فاعل لا باضطراب آلة مقدر لا بجولة فكر .. يريد ولا يضمر .. يقول لمن أراد كونه : كن فيكون لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وانما كلامه سبحانه فعل منه». وقد أراد ، جلت حكمته ، هلاك الأمم السابقة الذين كذبوا رسلهم فكان ما أراد (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ). وهم من الذين اهلكهم الله بتكذيب رسلهم ، وهل هنا بمعنى قد مثل (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ). والمعنى قد سمعت يا محمد وسمع قومك ما حل بثمود قوم صالح وبفرعون وملئه ، وكيف انتقم الله منهم لمّا كذبوا الرسل ، فكذلك ينتقم سبحانه من الذين كذبوك متى أراد.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ). ان فئة من الذين كفروا ، ومنهم عتاة قريش يجحدون الحق لا لشيء إلا لأنهم مولعون بتكذيبه ومعاندته أينما كان ويكون ، وإلا فأي عذر لهم في إنكاره وقد قامت عليه الدلائل والبينات ، وظهرت كوضح النهار؟. (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ). انهم في قبضة الله يقلبهم كيف يشاء ، ويهلكهم متى أراد .. وفيه إيماء الى انهم لا يرتدعون عن التكذيب بالحق حتى يروا العذاب (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) عظيم الشأن ، لأن كل ما فيه حق وعدل مع قيام الحجة ووضوح البرهان ، وما كذّب به إلا المجرمون (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) من التحريف مصون من التغيير والتبديل .. وللمفسرين كلام طويل وعريض حول اللوح المحفوظ ، ونحن غير مسؤولين عن تحديده ومعرفة حقيقته .. والراسخون في العلم يؤمنون بالغيب المحجوب ، ويحجمون عن الشروح والتفاصيل.

٥٤٧

سورة الطّارق

١٧ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

الإعراب :

والسماء الواو للقسم. والطارق عطف على السماء. وما أدراك «ما» اللفظ استفهام والمعنى التعجب ، ومحلها الرفع بالابتداء ، وأدراك فعل ماض ، والكاف مفعول ، والفاعل مستتر ، والجملة خبر. وما الطارق مبتدأ وخبر. والنجم بدل من الطارق. والثاقب صفة النجم. وان نافية ، وكل نفس مبتدأ : ولمّا بمعنى الا ، وحافظ خبر ، والجملة جواب القسم. فلينظر مجزوم بلام الأمر. ودافق صفة لماء ، وهو اسم مفعول بصيغة اسم الفاعل أي مدفوق مثل عيشة راضية أي مرضية. ويوم تبلى «يوم» متعلق برجعه. وذات الرجع صفة للسماء. وذات

٥٤٨

الصدع صفة للأرض. انه لقول فصل جواب القسم. ورويدا صفة لمفعول مطلق محذوف أي امهالا رويدا والمعنى امهالا قليلا.

المعنى :

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ). كل ما علاك فهو سماء ، وكل ما أتاك ليلا فهو طارق ، ولا يكون الطروق إلا في الليل ، والمراد بالطارق هنا النجم الثاقب لأن النجم لا يظهر إلا ليلا ، والثاقب هو المضيء ، تقول العرب : أثقب نارك أي أضئها ، وقد وصف به النجم لأن ضوأه يثقب الظلام ، كأنّ الظلام جلد أسود ، والنجم يثقبه بضوئه ، وصيغة وما أدراك تشعر بتفخيم الشيء وتعظيم شأنه .. اقسم سبحانه بالنجم المضيء لينبه الى ما فيه من عظيم النفع ، وعجيب الصنع ، اما المقسم عليه فقد أشار اليه سبحانه بقوله (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) يحفظ أقوالها وأعمالها ، ويحصي حركاتها وأسرارها حتى ينتهي أجلها ، وتلقى ربها ، فتجد عنده ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء ، وبتعبير ثان (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) ـ ١٧ الإسراء ج ٥ ص ٣٢.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ، خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ).

الماء الدافق هو النطفة ، والصلب كل عظم من الظهر فيه فقار ، والترائب موضع القلادة من الصدر ، والمراد بالصلب صلب الرجل ، وبالترائب ترائب المرأة ، وهما مصدر النطفة التي يتولد منها الإنسان ، ومنذ أمد غير بعيد اهتدى العلم الحديث الى هذه الحقيقة التي جاءت على لسان الأمي العربي ، ومعنى الآية إذا عرفت أيها الإنسان ان الله سبحانه يعلم سرك وجهرك فعليك أن تنظر الى نفسك ، وتفكر في وجودك ، فلقد بدئت من نطفة خرجت من ظهر أبيك وترائب أمك ، ثم وضعت في قرار مكين الى أجل معلوم .. الى ان صرت في أحسن تقويم مملوءا بالحياة والعاطفة والإدراك ، فكر وتدبر ذلك لتعلم ان الذي أنشأك وهداك قادر على ان يعيدك ثانية الى الحياة ، وهذا معنى قوله تعالى : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ). فالنشأة الأولى تشهد بالنشأة الثانية (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ).

٥٤٩

السرائر جمع سريرة ، وتبلى أي تختبر بكشفها وإظهارها ، والمعنى ان الله سبحانه يبعث الإنسان في يوم لا ستر فيه ولا خفاء ، ولا جدال ولا حجاج ، ولا حول ولا قوة لأحد من نفسه أو من غيره إلا قوة الايمان وصالح الأعمال.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ). الرجع الماء ، والصدع النبات. اقسم سبحانه بالسماء التي تفيض بماء الحياة ، وبالأرض التي تجود بالخيرات والأقوات (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ). ضمير انه للقرآن ، وهو جد لا عبث فيه ، وحق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. وهذا رد على من قال : انه سحر وأساطير (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً). ضمير انهم يعود الى الذين كذبوا الرسول الأعظم (ص) ، ويكيدون أي يدبرون الدسائس والمؤامرات ضد الرسول والمؤمنين ، وأكيد أبطل كيدهم ، وانقض مؤامراتهم ، ورويدا قليلا ، والمعنى اني بالمرصاد ـ يا محمد ـ لمن يحاول إبطال أمرك بالدسائس والمكايد :. انتظر قليلا ، وترى ما يحل بهم من الخزي والنكال. وتقدم مثله مع التفسير في الآية ٥٤ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٦٨ فقرة (اللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ).

٥٥٠

سورة الأعلى

١٩ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

الإعراب :

اسم ربك مفعول به لسبّح ، وهذا الفعل يتعدى بنفسه كهذه الآية وبالباء كقوله تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ـ ٣ النصر. والأعلى صفة لربك ، ومثله الذي خلق. فلا تنسى «لا» نافية أي فما تنسى. وما شاء «ما» بمعنى الذي ومحلها النصب على الاستثناء أي لا تنسى شيئا من القرآن إلا الذي أراد الله ان تنساه منه. والذي يصلى النار نعت للأشقى.

٥٥١

المعنى :

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى). الخطاب خاص بالرسول (ص) والتكليف يعم الجميع ، والمعنى نزه الله عن الشريك والصاحبة والولد ، وكل ما لا يليق بعظمته وجلاله ، ولا شيء أدل على تنزيه الخالق من كلمة «لا إله إلا الله» وانما أمر سبحانه بتسبيح الاسم دون الذات لأن مبلغ جهد الإنسان ان يعرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العظمى ، أما الذات فلا تقع عليها العقول والافهام (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى). خلق ما خلق فأقام حده ، وصوّر ما صوّر فأحسن صورته (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى). جعل لكل شيء غاية ويسره اليها ، وخير تفسير لهذه الآية قول الإمام علي (ع) : قدر ما خلق فأحكم تقديره ، ودبره فألطف تدبيره ، ووجهه لوجهته فلم يتعد حدود منزلته ، ويقصر دون الانتهاء لغايته (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) متاعا للأنام ، ورزقا للأنعام (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى). الغثاء الجاف اليابس ، والأحوى يميل لونه الى السواد ، وبديهة ان النبات ينتفع به غضا طريا ، وأيضا ينتفع به هشيما باليا حيث يكون علفا للحيوانات .. وفيه إيماء الى ان كل حي الى زوال.

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى). هذه بشرى من الله لنبيه الكريم بأن القرآن سينزل على قلبه ويرسخ فيه ، ولا يفوته منه حرف واحد. وتقدم مثله في الآية ١٧ من سورة القيامة (إِلَّا ما شاءَ اللهُ). قال بعض المفسرين : معناه ان الله لا ينسي نبيه شيئا من القرآن إلا الآية التي ينسخها. ونحن مع الذين قالوا : ان الغرض من الاستثناء هو التنبيه على ان الحفظ وعدم النسيان هو تفضل وتكرم من الله على نبيه ، وليس بالأمر الحتم والواجب ، ولو أراد سبحانه أن ينسي النبي لفعل ، ولم يعجزه شيء ، ومثله (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) ـ ١٠٧ هود أي ان الخلود هو بمشيئة الله وارادته ولو أراد إخراجهم من جهنم لا يمنعه من ذلك مانع.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى). ليس من شك ان الله بكل شيء عليم ، وأشار سبحانه هنا الى ذلك بعد ذكر النسيان ليقول لنبيه الكريم : نحن نعلم ما في نفسك وانك كنت تخاف أن يفوتك شيء من القرآن .. كلا ، لن يفوتك شيء ، كن في أمان واطمئنان (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى). المراد باليسرى الشريعة السهلة السمحة ،

٥٥٢

والمعنى ان الله سبحانه يسهل لك يا محمد سبيل الوحي بآياته وأحكامه حتى تحفظها وتبلغها وتعمل بها كما أراد الله.

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى). ليس من شك ان التذكير واجب حتى مع العلم بأنه لا يجدي نفعا لالقاء الحجة وقطع المعذرة والا امتنع الحساب والعقاب ، قال تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ١٦٥ النساء. وعليه تكون «ان» هنا بعيدة كل البعد عن معنى الشرط والقيد ، وان المراد بها بيان الواقع أي ان الذكرى ينتفع بها من يبتغي الهداية ، أما من يصر على الضلال فلا ينتفع بشيء ، ويدل على ارادة هذا المعنى قوله تعالى بلا فاصل : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى). فالذكرى تنفع لا محالة من يوقظه الخوف من الله ، ولا يعرض عنها إلا شقي أعمت الشهوات بصيرته ، وغلبت عليه شقوته (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) بشدائدها وأهوالها (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى). ونفسره بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ـ ٣٦ فاطر ج ٦ ص ٢٩٣.

وقال الشيخ محمد عبده وهو يفسر (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) : إياك ان تنخدع بما يقوله أولئك الذين يلبسون لباس العلماء ، ويزعمون مزاعم السفهاء من انه لا يجب عليهم التذكير لأنه لا ينفع ، ويحتجون بقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) فإن ذلك منهم ضلال وتضليل ، ولو صدق قولهم لما وجب التذكير في وقت من الأوقات لأنه لا يخلو زمان من معاندين ، ولا يسلم قائل من جاحدين ، وقد يعرف بعضهم انه ينطق عن الهوى ولكنه يدافع عن جبنه ، ويحتج لكسله ، ويحب ان يزين نفسه في أعين الناس ، وان أوقعها في سخط الله».

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى). المراد بالفلاح هنا النجاة من غضب الله وعذابه ، وبالتزكية التطهير من الذنوب والآثام (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى). المراد بالذكر هنا ما يقرّب من الخير ، ويبعد عن الشر ، أما حركة اللسان من حيث هي فليست غاية في نفسها .. ولا شيء من أمر الله ونهيه إلا وهو وسيلة لفعل الخير والبعد عن الشر ، وكفى دليلا على هذه الحقيقة قول الرسول الأعظم (ص) : انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ١٠٨ الأنبياء أما الصلاة فالمراد بها الصلوات الخمس لأنها عمود الدين.

٥٥٣

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا). هنا يكمن السر الأول والأخير لإعراض من أعرض عن الحق عامدا متعمدا .. ملكته الدنيا ملك السيد لعبده ، وأقبل عليها إقبال الطفل على ثدي أمه ، فذهبت به عن الله والحق والانسانية (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) بل لا خير في الدنيا إطلاقا إلا ما كان وسيلة لخير الآخرة ، لأن عمار الدنيا الى خراب ، وسلطانها الى زوال ، ومالها الى نفاد. وفي نهج البلاغة : كل شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه ، وكل شيء في الآخرة عيانه أعظم من سماعه. واعلموا ان ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خير مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا.

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى). هذا اشارة الى قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) والمعنى ان دعوة الرسل من ناحية العقيدة واحدة لأن الذي أرسلهم واحد ، وقوله واحد لا تهافت فيه ولا تناقض ، وإذا كان هناك اختلاف فهو في بعض الفروع التي يستدعيها تطور الزمن وتغير المجتمع ، وما دام الأمر كذلك فعلى من يؤمن بإبراهيم كالعرب وبموسى كاليهود أن يؤمنوا أيضا بمحمد (ص) وإلا كانوا من الذين يؤمنون بالمبدأ الواحد ويكفرون به في آن واحد.

٥٥٤

سورة الغاشية

٢٦ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

٥٥٥

الإعراب :

قال ابن خالويه في كتاب إعراب ثلاثين سورة : هل لفظه استفهام ، ومعناه «قد» وكل ما في القرآن من «هل أتاك» فهو بمعنى قد أتاك. وجوه مبتدأ وخاشعة خبر ويومئذ متعلق به ، وعاملة خبر ثان وناصبة خبر ثالث. وراضية بدل من ناعمة ولسعيها متعلق براضية. وفيها خبر مقدم ، وسرر مبتدأ مؤخر ، ومرفوعة نعت لسرر. كيف مفعول مطلق بمعنى أي خلق خلقت أو حال أي على أيّ حال خلقت. الا من تولى استثناء منقطع أي لكن من تولى.

المعنى :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ). الخطاب للرسول (ص) ولكن السبب الموجب يعم الجميع ، والغاشية القيامة ، سميت بذلك لأنها تغشى الناس بشدائدها وأهوالها ، والمعنى هل تعرف شيئا عن يوم القيامة؟ .. ان الناس فيه فريقان : الفريق الأول (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) يظهر عليها أثر الذل والخزي والهوان (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) من النصب وهو التعب ، والمعنى ان أصحاب هذه الوجوه عملوا في الدنيا كثيرا ، وتعبوا كثيرا ، ولكن لغير الله .. فما أصابوا من عملهم إلا التعب والكد في الدنيا ، والحسرة والعذاب في الآخرة ، فكان المهنأ لغيرهم ، والعبء على ظهرهم. وفي نهج البلاغة : ان أخسر الناس صفقة ، وأخيبهم سعيا رجل أخلق بدنه في طلب ماله ولم تساعده المقادير على ارادته ، فخرج من الدنيا بحسرته ، وقدم على الآخرة بتبعته (تَصْلى ناراً حامِيَةً) تكوى بنار مستعرة (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) وهي الشديدة الحرارة ، من أنى الماء يأنى إذا سخن ، وبلغ من الحرارة غايتها ، ومثله (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) ـ ٤٤ الرحمن (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) قال صاحب القاموس المحيط : الضريع نبت لا تقربه دابة لخبثه. ومهما يكن فإنه رديء وبيل ، ويكفي أن يكون طعام أهل النار (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) لا يدفع ضرا ، ولا يجلب نفعا.

٥٥٦

وهذا هو الفريق الثاني : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) ذات بهجة وحسن (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) رضيت أجرها في الآخرة على عملها في الدنيا (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) رفيعة وعظيمة في جميع صفاتها ومزاياها ، ومثله (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) ـ ٢١ الحاقة. (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) كلاما لا جدوى منه ، ومثله (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) ـ ٢٥ الواقعة. (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) جنات تجري من تحتها الأنهار (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) عن الأرض (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) على جانب العين ، فإذا أرادوا الشراب تناولوا بها الماء (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) النمارق جمع نمرقة ، وهي الوسادة ـ المسند أو المخدة ـ (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) الزرابي البسط ، ومبثوثة متفرقة هنا وهناك ، وكل ما جاء هنا في وصف الجنة هو بعض ما تقدم في عشرات الآيات ، وكل ما قيل أو يقال في وصفها فهو تفسير وبيان لقوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) ـ ٧١ الزخرف.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ). وتسأل : لما ذا خص سبحانه الإبل بالذكر دون الحيوانات؟.

وأجاب الشيخ محمد عبده بأنها أفضل دواب العرب وأعمها نفعا ، ولأنها خلق عجيب ، فإنها على شدتها تنقاد للضعيف ، ثم في تركيبها ما أعد لحمل الأثقال ، وهي تبرك لتحمل ، ثم تنهض بما تحمل مع الصبر على السير والعطش والجوع ، وفيها غير ذلك ما لا يماثلها حيوان آخر.

(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) فوق الأرض بكواكبها اللامعة النافعة (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) أوتادا للأرض : فسكنت على حركتها ، ولو لا الجبال لمادت بأهلها ، وزالت عن مواضعها (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) فجعلها الله لخلقه مهادا يقيمون عليها ويمشون في مناكبها. وتجدر الاشارة الى ان المراد بالتسطيح هنا تسطيح الأرض في رؤية العين لا في الواقع ، وقد أشار سبحانه الى كروية الأرض في الآية ٥ من سورة الزمر. أنظر ج ٦ ص ٣٩٥. وقال الشيخ محمد عبده : انما حسن ذكر الجمال مع السماء والجبال والأرض لأن هذه المخلوقات هي ما تقع تحت نظر العرب في أوديتهم وبواديهم.

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ). هذا أبلغ وأوضح تحديد لمهمة الرسول : التذكير ،

٥٥٧

ومثله (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ـ ٥٤ النور. (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ). لست ـ يا محمد ـ مسلّطا عليهم حتى تكرههم على الايمان ، ولكن ليس معنى هذا ان الذين كذبوك يتركون سدى .. كلا ، انهم إلينا راجعون ، وبأعمالهم ومقاصدهم مرتهنون ، ولا جزاء لهم إلا عذاب الخزي والهون.

٥٥٨

سورة الفجر

٣٠ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والفجر وليال عشر الآية ١ ـ ١٦ :

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦))

الإعراب :

والفجر الواو للقسم. وليال عطف. وعشر صفة لليال. والأصل يسري بالياء ، وحذفت لتوافق رؤوس الآيات والكسرة دليل عليها. وإرم لا تنصرف

٥٥٩

للتعريف والتأنيث وهي اسم قبيلة ، وإعرابها بدل أو عطف بيان لعاد. وذات العماد صفة لإرم. والتي لم يخلق صفة ثانية. وثمود عطف على عاد ، وهو اسم لا ينصرف للتعريف والتأنيث لأنه اسم قبيلة والذين جابوا نعت له. الإنسان مبتدأ. وإذا ما «ما» زائدة. وجملة يقول خبر لمبتدأ محذوف أي هو يقول والجملة منه ومن خبره خبر الإنسان. والأصل أكرمني وأهانني وحذفت الياء للوقف وتدل عليها الكسرة على نون الوقاية.

المعنى :

(وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ). المراد بالفجر كل فجر أخذا بظاهر اللفظ ، أما ليال عشر فلا ظهور لها في عشر معينة ، ولا قرينة تعينها ، ولا هي معهودة لنا ، ومن أجل هذا نسكت عما سكت الله عنه ، أما القول بأنها أوائل ذي الحجة أو المحرم أو الأواخر من رمضان ـ فيحتاج الى دليل .. وحاول الشيخ محمد عبده ان يعينها بالأوائل من كل شهر ، وأنفد وسعه ، ولكنه لم يأت بحجة مقنعة .. والغريب ان تلميذه المراغي قلّده في كل ما قال ، ونقل عبارته ـ على طولها ـ دون أن يشير الى مصدرها كما هي عادته .. وفي تفسير الشفع والوتر أقوال ، أقربها الى ظاهر اللفظ انهما اشارة الى الحساب وضبط المقادير ، وأقسم سبحانه بالحساب للتنبيه الى فوائده. والمراد بسير الليل مضيه وذهابه ، وبهذا جمع سبحانه في قسمه بين اقبال النهار وادبار الليل ، كما في الآية ٣٣ من سورة المدثر : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ).

(هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ). هذا الاستفهام لتقرير الواقع ، والمراد بالقسم هنا الحجة والدليل لأن فيه تأكيدا لثبوت الحق ، والحجر ـ بكسر الحاء وسكون الجيم ـ له معان منها ديار ثمود ، وحجر الكعبة : والمراد هنا العقل لأنه يحجر صاحبه ويمنعه عن كثير من التصرفات ، والمعنى ان في الأشياء التي أقسم بها سبحانه حجة كافية على وجود الله وقدرته وحكمته لأن ما فيها من التدبير والحكمة يدل على ذلك بوضوح تماما كما يدل الزرع على وجود الزارع.

٥٦٠