التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً) أي ان النبات يشق تربة الأرض ليخرج منها تماما كما يشق الفرخ قشرة البيضة التي هو فيها (وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً) جمع غلباء وهي الضخمة العظيمة من الشجر وغيرها : والمعنى ان تلك الحدائق عظيمة بأشجارها وثمارها ، وظلالها وجمالها.

(وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ). والابّ المرعى ، والمتاع ما يتمتع به الإنسان والحيوان. قال الشيخ محمد عبده : «روي ان أبا بكر الصديق سئل عن الأب فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به؟ وعن عمر بن الخطاب انه قرأ هذه الآية فقال : كل هذا عرفناه فما الأب؟. ثم رفض عصا كانت بيده أي كسرها وقال : هذا لعمر الله التكلف ، وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب؟ .. ولا تظن ان سيدنا عمر ينهى عن تتبع معاني القرآن ، وانما يريد أن يعلمك ان الذي عليك من حيث انت مؤمن ان تفهم جملة المعنى».

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) القيامة ، وهي تصك الآذان بصوتها حتى تكاد تصمها (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ). لا أحباب ولا أنساب يوم القيامة لأن كل انسان مشغول بنفسه منصرف لما هو فيه عن غيره .. هذا ، إلى انه أعزل من كل شيء. وفيه إيماء الى ان الذين يحرص الإنسان عليهم في الحياة الدنيا ، ويعصي الله من أجلهم ـ لا يغنون عنه شيئا في الآخرة ، ولا هو عنهم بمغن شيئا. وفي بعض التفاسير : ان ذكر الأرحام في الآية جاء على الترتيب الطبيعي حيث قدمت الأخ ثم الأبوين ثم الزوجة والولد لأن عاطفة الإنسان نحو أبويه أقوى منها نحو أخيه ، وعاطفته نحو زوجته وولده أقوى منها نحو أبويه. فكأنه قال تعالى : يفر المرء من أخيه بل من امه وأبيه بل من صاحبته وبنيه.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) اي مضيئة ، من أسفر الصبح (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) فرحا وسرورا بما أعد الله لها من المقام الكريم والأجر العظيم (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) الذل والهوان (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) يعلوها سواد الحزن والكآبة (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ). ووصف الكفرة بالفجور يومئ الى ان الفاجر المتهتك هو والكافر بمنزلة سواء عند الله حتى ولو حافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها.

٥٢١

وللشيخ محمد عبده كلام طويل حول هذه الآية نلخصه بالآتي : «من طلب الحق لوجه الحق وعمل به ، او أدركه الموت وهو لا يزال في طلبه ـ من كان هذا شأنه في الحياة الدنيا فهو الذي يضحك ويستبشر يوم القيامة بفضل الله ، ومن احتقر عقله وشغل نفسه بتبرير الأهواء والتماس الحيل لتقرير الباطل كما كان يفعل أعداء الأنبياء فهو الذي يعلو وجهه سواد الحزن ، وغبرة الذل يوم القيامة لأنه من الكفرة الفجرة ، ذلك ان الدين ينهى عن الفواحش ، وهو يقترفها ، الدين يأمر بصيانة المصالح العامة ، وهو يفتك بها ، الدين يطالب أهله ببذل المال في سبيل الخير ، وهو يسلب المال لينفقه في سبيل الشر ، الدين يأمر بالعدل ، وهو أظلم الظالمين ، الدين يأمر بالصدق ، وهو يكذب ويحب الكاذبين .. ومن كان هذا شأنه فما ذا يكون حاله يوم يتجلى الجبار ، ويرتفع الستار»؟.

٥٢٢

سورة التّكوير

٢٩ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اذا الشمس كورت الآية ١ ـ ١٤ :

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤))

الإعراب :

إذا ظرف زمان بمعنى وقت ، وتتضمن معنى الشرط ، ومحلها النصب بجوابها وهو (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ). وارتفعت الشمس بفعل محذوف يفسره الموجود اي إذا كورّت الشمس كورت. ومثلها إذا النجوم انكدرت وما بعدها.

المعنى :

أشار سبحانه في هذه الآيات الى بعض ما يحدث يوم القيامة الى ساعة الحساب ، وتلك الحوادث هي :

٥٢٣

١ ـ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ). معنى التكوير اللف ، ومنه تكوير العمامة ، والمراد من تكوير الشمس طيها وخفاؤها بعد ان كانت ظاهرة للعيان ، بل ومضرب المثل في الوضوح والظهور ، وسبب طيها ما يعتريها من الخراب.

٢ ـ (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ). وانكدار الشيء انقلابه حتى يصير أسفله أعلاه ؛ والمراد من انكدار النجوم تساقطها وانتثارها. وفي الآية ٢ من سورة الانفطار : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ).

٣ ـ (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ). اقتلعت من أماكنها ، وسارت في الهواء.

٤ ـ (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ). العشار النوق الحوامل ، وهي أنفس وأثمن مال عند العرب ، وعطّلت تركت وأهملت. وهذا كناية عن شدة الهول وذهول الإنسان عن كل شيء في ذلك اليوم.

٥ ـ (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ). تنفر مذعورة عند خراب الكون ، وتموت خوفا. وقال الرازي وصاحب مجمع البيان : «ان الله يجمع الوحوش حتى يقتص لبعضها من بعض». ويلاحظ بأن الله لا يحاسب حتى يكلف ، ولا يكلف حتى يهب العقل .. به يثيب ، وبه يعاقب ولو كان للوحوش عقل لامتنعت عن الإنسان ، وكانت معه بمنزلة سواء.

٦ ـ (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ). في كتب اللغة سجر البحر فاض ماؤه ، وعليه يكون المعنى ان مياه البحار تنطلق هنا وهناك ، لا يمسكها شيء نتيجة لخراب الكون ، ومثله (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) ـ الانفطار. وقال الشيخ محمد عبده : قد يكون تسجيرها ضرامها نارا ، فإن ما في بطن الأرض من النار يظهر إذ ذاك بتشققها ، وعندئذ يذهب الماء بخارا ، ولا يبقى في البحار إلا النار ، وقد ورد في بعض الأخبار ان البحر غطاء جهنم ، والبحث العلمي أثبت ذلك ، ويشهد عليه غليان البراكين والزلازل.

٧ ـ (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ). أي عادت كل نفس آدمية الى الجسم الأول الذي فارقته عند الموت.

٨ ـ (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ). وهي البنت الصغيرة تدفن

٥٢٤

حية ، فإنها تبعث وتسأل على مسمع من وائدها : لما ذا وأدك الوائدون؟ ليكون أشد وقعا على الوائد. أنظر تفسير الآية ٥٨ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٢٣.

٩ ـ (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ). يعطى لكل انسان غدا كتاب اعماله خيرها وشرها. وقد يكون هذا كناية عن ان أعمال العباد يوم القيامة تظهر لهم بكاملها كما هي ، ومهما يكن فما علينا ان نبحث عن حقيقة تلك الصحف والكتب.

١٠ ـ (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ). اي كشفت وأزيل منها الكواكب التي كانت تحجب ما وراءها كما يزال الجلد عن الذبيحة ، ويظهر ما تحته من اللحم.

١١ ـ (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ). أوقدت وأضرمت.

١٢ ـ (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ). قربت من أهلها ، وقربوا منها لأنها أعدت لهم ، وأعدوا لها. ومثله (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) ـ ٣١ ق.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ). هذا جواب الشروط الاثني عشر المتقدمة ، والمعنى إذا حدث ما سبق ذكره أقدم كل انسان على ربه ، وهو يعلم ما ذا يحمل معه من الأعمال ، وما تزود به من خير أو شر. وفي نهج البلاغة : «وان قادما يقدم ـ على ربه ـ بالفوز أو الشقوة لمستحق لأفضل العدة ، فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تجزون به أنفسكم».

الخنس والكنس الآية ١٥ ـ ٢٩ :

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

٥٢٥

اللغة :

الخنس جمع خانس وخانسة من خنس الشيء إذا رجع والجواري جمع جارية من الجري. والكنس جمع كانس وكانسة من كنس الظبي إذا استتر في المكان الذي يأوي اليه ، والمراد بالخنس والكنس هنا النجوم. وعسعس الليل من الاضداد يستعمل بمعنى أقبل وأدبر ، والمراد هنا الإدبار لقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) ـ ٣٣ المدثر. وتنفس الصبح أسفر وامتد نوره. والمراد بالرسول هنا جبريل. وذو العرش الله. ومكين صاحب مكانة. والأفق المبين هو الأفق الأعلى الذي ذكره سبحانه في الآية ٧ من سورة النجم ، وضنين بخيل.

الاعراب :

الجواري صفة للخنس. وضمير انه يعود الى القرآن الذي دل عليه السياق ، والجملة جواب القسم. وكريم وما بعده صفة لرسول. وما صاحبكم عطف على انه لقول الخ وكذلك وما هو. أين تذهبون «أين» ظرف مكان منصوب محلا بنزع الخافض أي الى أين ، وفي مجمع البيان : تقول العرب : ذهبت الشام وخرجت الشام أي منها وإليها. ولمن شاء بدل بعض من العالمين بإعادة حرف الجر.

المعنى :

(فَلا أُقْسِمُ). أسلفنا ان «لا» هذه عند أكثر المفسرين زائدة ، وعند البعض منهم نافية على أساس ان الأمر واضح لا يحتاج الى قسم .. ونتيجة القولين واحدة ، قال الشيخ محمد عبده : يؤتى بهذه العبارة إذا أريد تعظيم المقسم به ، وانه لا يعظم بالقسم لأنه عظيم بنفسه (بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) المراد بالخنس الكنس جميع النجوم ، وقيل : بل النجوم الخمس فقط : عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل ، وهي جوار لأنها تدور في أفلاكها ، واختلفوا لما ذا وصفت بالخنس الكنس؟. قال الشيخ محمد عبده ما معناه : ان الله سبحانه وصفها بالكنس

٥٢٦

لأنها تختفي عن الرائي في ضوء الشمس كما تختفي الظبية في كناسها ، ووصفها سبحانه بالخنس لأنها ترجع الى الظهور للعيان بعد غياب الشمس ، ويتفق هذا في نتيجته مع تفسير الطبرسي في مجمع البيان حيث قال ما نصه بالحرف : «هي النجوم تخنس بالنهار ، وتبدو بالليل». والفرق بين التفسيرين ان الخنس هنا عند صاحب المجمع هو الاختفاء ، والكنس الظهور ، والعكس عند الشيخ محمد عبده .. وعلى أية حال فإن الله سبحانه أقسم بالنجوم للتنبيه الى ما في صنعها من الدلائل على قدرة المبدع وحكمته.

(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ). هذا قسم ثان منه تعالى بإدبار الليل وإقبال النهار لأنه عطف على القسم. وفي كتاب محاولة لفهم عصري للقرآن : «تقرأ في القرآن ألفاظا فتترك في السمع رنينا وأصداء وصورا حينما يقسم الله بالليل والنهار فيقول : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) .. «عسعس» .. هذه الحروف الأربعة هي الليل مصورا بكل ما فيه .. (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) ان ضوء الفجر هنا مرئي ومسموع .. انك تكاد تسمع سقسقة العصفور وصيحة الديك».

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ). هذا جواب القسم ، وضمير انه للقرآن المفهوم من السياق ، والمراد بالرسول جبريل ، وأضاف سبحانه القرآن الى جبريل لأنه حامله وناقله عن الله الى رسول الله (ص) ، ولجبريل كرامة ومكانة عند الله ، وهو أمين على التنزيل ، وقوي على أدائه وعلى غيره من الأعمال الموكلة اليه. وتقدم مثله في الآية ٦ من سورة النجم (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) ثم بمعنى هناك ، وهي اشارة الى المكان الذي يطاع فيه جبريل ، وهو من عالم الغيب الذي لا يعرف حقيقته إلا الله.

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ). الخطاب لعتاة قريش ، وصاحبهم محمد (ص) ، وقد رماه بعضهم بالجنون كما جاء في الآية ٦ من سورة الحجر (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) ج ٤ ص ٤٦٨. فبرأه الله مما يفترون. وتقدم مثله في الآية ٢ من سورة القلم (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ). أتقولون : محمد مجنون حين يخبركم عن الجنة والنار؟. كلا ، ان القرآن وحي من الله ، أوحاه

٥٢٧

الى رسوله بلسان جبريل الذي رآه محمد في الأفق الواضح على صورته وحقيقته رؤية صادقة لا شك فيها. وتقدم مثله في الآية ١٢ من سورة النجم.

(وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ). ضمير هو لرسول الله (ص) والغيب القرآن ، والمعنى ما كان محمد ليكتم القرآن ، ويسكت عن إعلان الحق مخافة ان تقولوا ايها المشركون : هو مجنون ، بل يعلنه على الاشهاد ولا تأخذه في الحق لومة لائم (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ). هذا رد لزعمهم بأن ما يتكلم به الرسول قد نفثه الشيطان على لسانه .. وهل توحي الشياطين بالهدى والخير ، والحق والعدل؟ (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) في أحكامكم وضلالكم؟ (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ). ان القرآن آمر بالخير ، زاجر عن الشر ، وفوق هذا كله فيه تبيان كل شيء فكيف يكون قول شيطان رجيم؟.

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ). القرآن هدى وصلاح لمن يرغب في الهداية والاستقامة ، أما من يصر على الضلال فلا ينتفع بذكر ، ولا تؤثر فيه عظة (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). قال الرازي : هذه الآية تدل على ان الإنسان مسيّر غير مخيّر .. ويرده ان معنى الآية هو ان الله سبحانه طلب من العبد أن يستقيم على جادة الحق والعدل ، ولكن المعاند يأبى إلا الانحراف ، ولا يستقيم إلا إذا أجبره الله على ذلك .. وهذا يتنافى مع عدل الله وحكمته ، وبتعبير ثان ان الله سبحانه خلق الإنسان مختارا ذا عقل وارادة ، وميّزه بذلك عن الحيوان ، ومن ثم كلفه بالطاعة من دونه ، ولو شاء سبحانه لسلب الإنسان ارادة العقل ، وجعله كالحيوان أو أحط منه.

٥٢٨

سورة الانفطار

١٩ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

الإعراب :

السماء فاعل لفعل مقدر يفسره الفعل الموجود ، وكذلك الكواكب والبحار والقبور. علمت نفس جواب إذا. وما غرك «ما» استفهام مبتدأ وجملة غرك

٥٢٩

خبر. والذي خلقك صفة ثانية لربك. وفي أي صورة متعلق بركبك وما زائدة إعرابا وجملة شاء صفة لصورة ، ولم يقرن ركبك بالفاء لأنها بيان لعدلك. وكراما صفة لحافظين وكذلك كاتبين. وما أدراك «ما» مبتدأ وجملة أدراك خبر. وما يوم الدين «ما» خبر مقدم ويوم مبتدأ مؤخر. ويوم لا تملك «يوم» مفعول لفعل مقدر أي اذكر يوم لا تملك.

المعنى :

هذه السورة تماما كالسورة السابقة ، تعرض صورا لبعض ما يحدث عند قيام الساعة ، وما بعدها من الحساب والجزاء.

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) انشقت وتساقطت كواكبها ، ومثله (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) ـ ٣٧ الرحمن. (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) هوت وبادت (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) ارتفعت أمواجها وانطلقت مشرّقة ومغربة ... أو تبخر ماؤها ، واندلعت النيران من باطنها. انظر تفسير (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) في السورة السابقة. (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) البعثرة والبحثرة في اللغة اثارة الشيء بقلب باطنه الى ظاهره ، وبالعكس ، والمراد هنا من البعثرة ان الساعة آتية لا ريب فيها (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ـ ٧ الحج. (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ). بعد البعث يعلم كل انسان ما قدمت يداه من خير أو شر ، وما ترك منهما.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ). فسواك أي أودع فيك من القوى الظاهرة والباطنة ما جعلك إنسانا كاملا ، وعدلك أي جعل أعضاءك متوازية ، فلم يجعل احدى يديك أطول من الأخرى ، ولا احدى العينين أصغر ، ولا بعض الأعضاء اسود والبعض الآخر ابيض الخ.

واختلفوا : ما هو المراد من الكريم في قوله تعالى : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)؟ فقال البعض : وصف سبحانه نفسه هنا بالكريم ليلهم عبده المذنب الجواب ، ويعلّمه ان يقول غدا إذا سئل عن ذنبه : غرني عفوك وكرمك .. وقال الشيخ

٥٣٠

محمد عبده : هذا تلاعب بالتأويل ، وتضليل للناظر في كتاب الله .. واللائق ان يفسر الكريم هنا بالعظيم في جميع صفاته تعالى ، وان من كان كذلك فلا يترك عبيده سدى بلا سؤال ولا جزاء ، بل يحاسبهم ويثيب الأخيار منهم ، ويعاقب الأشرار ، وعليه فلا ينبغي للإنسان أن يغتر بالدنيا وزخرفها.

وللإمام علي (ع) كلام طويل حول هذه الآية ، أدرج مع خطب نهج البلاغة ، ويتلخص في مجمله بالآتي : ما الذي جرأك ايها الإنسان على معصية ربك ، وأنت تقيم في كنفه ، وتتقلب في نعمه؟ هل غرك منه إقباله عليك بالنعم ، وأنت متول عنه الى غيره؟. أما تعلم ان هذا الإقبال تفضل منه عليك ، وإمهال لك كي تؤوب الى رشدك وترجع عن غيك؟.

وعلى هذا يكون المراد بكرمه تعالى في الآية هو إمهاله لعبده المذنب وعدم أخذه بالعقوبة العاجلة ، وان عليه أن يبادر الى التوبة والإنابة ، ولا يغتر بالإمهال والإمداد.

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) قال بعض المفسرين : أي لم يجعلك خنزيرا أو حمارا. وقال آخر : صوّرك كما أراد طولا أو قصرا ، سوادا أو بياضا .. والذي نفهمه من هذه الآية هو فكّر أيها الإنسان في إحكام خلقك ، وإتقان تركيبك لتدرك عظمة الله في خلقه ، وان الذي أنشأك في أحسن تقويم قادر على ان يعيدك الى الحياة ثانية (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ). ارتدعوا عن ضلالكم الذي لا مصدر له إلا التكذيب بالبعث .. فإنكم محاسبون ومسؤولون لا محالة عما كنتم تعملون (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) من خير أو شر ، ولا يستركم منهم شيء ، ومعنى كرام انهم أقوياء أمناء يؤدون مهمتهم على أتم الوجوه وأكملها. وتقدم مثله في الآية ٨٠ من سورة الزخرف. وتجدر الاشارة الى ان الذي يجب علينا اعتقاده ان أعمال العباد تحفظ وتحصى ، أما كيف؟ وبأي شيء؟ فنحن غير مسؤولين عن ذلك.

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ). الأبرار هم أهل الصدق وصالح الأعمال ، وجزاؤهم عند ربهم مغفرة وأجر كريم ، والفجار هم الذين يعيثون في الأرض فسادا ، وجزاؤهم نزل من حميم وتصلية جحيم (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) مطرف عين .. أبدا شقاء لازم ، وعذاب دائم (وَما أَدْراكَ

٥٣١

ما يَوْمُ الدِّينِ). انك تجهل حقيقة اليوم الآخر .. انه فوق التصور بشدائده وأهواله (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ). هذا تأكيد وتضخيم لنكاله وأثقاله (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً). لا أحد يملك نفعا ولا ضرا في ذاك اليوم لنفسه ولا لغيره (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) فهو المتفرد بالأمر والنهي ، فلا مشير ولا نصير ، بل ولا شفيع إلا لمن اذن له الرحمن وقال صوابا.

٥٣٢

سورة المطفّفين

٣٦ آية مكية ، وقيل مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ويل للمطففين الآية ١ ـ ١٧ :

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧))

الإعراب :

ويل مبتدأ ، وللمطففين خبر. الذين صفة للمطففين. والمصدر من انهم مبعوثون

٥٣٣

ساد مسد المفعولين ليظن. ويوم يقوم «يوم» منصوب بمبعوثين. وما أدراك مبتدأ وخبر ، ومثله ما سجّين. وكتاب خبر لمبتدأ مقدر أي هو كتاب مرقوم. والذين يكذبون صفة للمكذبين. وأثيم صفة لمعتد. وأساطير خبر لمبتدأ مقدر أي هي أساطير.

المعنى :

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ). الويل الهلاك والعذاب ، والمطففون فئة من الأقوياء يتاجرون بقوتهم ونفوذهم .. انهم يبيعون ويشترون ، ولكنهم يشترون بأبخس الأثمان ، ويبيعون بأغلاها ، وفي الحالين يحققون أقصى حد من الأرباح ، ويرغمون الناس بطريق الاحتكار أو بغيره على الاستسلام لجورهم ، ويبررونه باسم العمل الحر والتجارة الحرة .. وتطورت أساليب الاستغلال مع الزمن وبتقدم العلم واكتشاف الأسواق ، وظهور البترول وغيره من المعادن .. وأخيرا وجد مطففو هذا العصر في صناعة الحرب وسياسة الركض وراء التسلح ـ أفضل الوسائل لتركيم الثروات ، وحفظ الأرباح في أعلى المستويات.

ويبتدئ تاريخ التطفيف بما أشار اليه سبحانه بقوله : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ). أي كالوا لهم أو وزنوا لهم .. انهم يستعملون الكيل والميزان ، ولكن عندهم مكيالان وميزانان ، فيأخذون بالأعلى ويعطون بالأدنى .. ويدل هذا على ان المطففين كان لهم من القوة ما يكرهون به الناس على ما يريدون ، وقد تكون هذه القوة مالا أو جاها أو احتكارا أو غير ذلك فالمهم عندهم هو الربح أيا كان سببه! .. ومهما كان معنى التطفيف والمطففين فإن المراد هنا كل من أخذ من الناس بالباطل أو منعهم الحق ظلما وعدوانا.

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ). لنفترض ان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل لا يعتقدون بلقاء الله وناره وجنته .. ولكن ألا يظنون ذلك أو يحتملونه ـ على الأقل ـ ومجرد الاحتمال بأن الإنسان سيقوم بين يدي رب العالمين لنقاش الحساب كاف في الردع والإحجام .. وكيف

٥٣٤

يحجم الإنسان عما يظن بل يتوهم انه يعود عليه بالضرر اليسير في الحياة الدنيا ، ولا يحجم إذا ظن انه ملاق ربه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وعاقب عليها؟ .. اللهم إلا إذا جحد من غير شك وتردد.

(كَلَّا). لا يظن الذين يأكلون أموال الناس بالباطل انهم غير مبعوثين ليوم عظيم يقف فيه الناس بين يدي الله للحساب والجزاء .. قال الشيخ محمد عبده : لا فرق بين من أنكر اليوم الآخر وبين من تأوّل فيما يدفع عنه العقاب وينجيه من الحساب ، فإن التأويل لا يبتعد به عن منزلة المنكر ، بل هو معه في النار وبئس القرار (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ). كتاب هنا مصدر بمعنى الكتابة. واختلفوا في معنى سجين ، وأقرب الأقوال الى الافهام انه اسم للسجل الذي أثبت فيه أسماء الفجار وأعمالهم ، والى هذا ذهب صاحب مجمع البيان لأنه قال : «هو ظاهر التلاوة» ووافقه الشيخ محمد عبده وقيل : هو من السجن بمعنى الحبس (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ). من الذي جعلك به داريا؟ فان علمه عند الله وحده (كِتابٌ مَرْقُومٌ) فيه علامات تدل على أعمال المسيئين.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ). هذا تهديد ووعيد لمن يكذّب باليوم الآخر. وتقدم في العديد من الآيات. انظر سورة المرسلات (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). ضمير به يعود الى يوم الدين ، والمراد بآياتنا القرآن .. واليوم الآخر عذاب وجحيم على الطغاة المعتدين فكيف يؤمنون به؟ قال الشيخ محمد عبده : من كان ميالا الى العدل في أخلاقه وأفعاله فأيسر شيء عليه التصديق باليوم الآخر ، ومن اعتدى على حقوق الناس يكاد يمتنع عليه الإذعان بأخبار الآخرة لأن في ذلك قضاء على نفسه بالسفه ، وحكما عليها بالظلم (كَلَّا) ليس القرآن واليوم الآخر بأساطير وخرافات كما يزعم الجاحدون (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ). تراكمت الذنوب على قلوب المجرمين حتى أعمتها عن رؤية الحق.

(كَلَّا). ارتدعوا عن الذنوب التي تعميكم عن الحق (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ). لقد حجبتهم المعاصي عن الله ، وحالت بينهم وبين رحمته (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ). بعد أن يطردوا من رحمة الله يقذف بهم في سواء الجحيم

٥٣٥

(ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ). يقول لهم ملائكة العذاب هذا القول زيادة في الإيلام والتنكيل. وتقدم مثله مرارا ، من ذلك الآية ٢٠ من سورة السجدة.

ختامه مسك الآية ١٨ ـ ٣٦ :

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

الإعراب :

ما أدراك «ما» مبتدأ وأدراك فعل ماض والجملة خبر. ما عليون مبتدأ وخبر. كتاب خبر لمبتدأ محذوف أي هو كتاب. عينا مفعول لفعل مقدر أي أعني عينا. فكهين حال ، ومثله حافظين.

٥٣٦

المعنى :

(كَلَّا). ارتدعوا عن التكذيب باليوم الآخر (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) هو سجل أثبت فيه أسماء الأبرار وأعمالهم ، وقد أودع في مكان عال يتفق مع مقام الأبرار وعليه يكون معنى كتاب الكتابة (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) لا يدرك بوهم ، ولا يقدر بفهم (كِتابٌ مَرْقُومٌ). فيه علامات تدل على كريم الأفعال ، وجليل الصفات (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ). هذا الكتاب لا ريب فيه ، وهو محسوس يراه كل من يقترب منه. وقيل : المراد بالمقربين الملائكة (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ). هذا بيان لثواب أهل البر والإحسان (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ). الأرائك الأسرّة وينظرون أي تتمتع أبصارهم بأبهى المناظر وأجملها (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ). تدل ملامحهم انهم من أهل الجنة. وتقدم مثله في الآية ٣٨ من سورة عبس.

(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ). الرحيق الخمر الصافية. وقد ختمت أوانيها بالمسك بدل الطين (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ). نعيم الجنة هو الذي يستحق السباق والتنافس لأنه باق ببقاء الله ، أما حطام الدنيا فإلى زوال ، وكل حي فيها الى فناء (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ). ضمير مزاجه يعود الى الرحيق ، وهذا الرحيق ممزوج بماء من عين اسمها تسنيم ، وانما سميت بذلك لأن ماءها يأتي من العلو ، فطابق الاسم المسمى كما قال الشيخ محمد عبده. والمقربون هم الأبرار الذين أعد الله لهم ما ذكره من النعيم ، والغرض من هذه الآيات الحث والترغيب في الايمان وصالح الأعمال.

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ). بعد أن ذكر سبحانه المتقين ذكر المجرمين ، وانهم كانوا في الدنيا يختالون ويتعالون على المؤمنين ، ويتخذون منهم مادة للضحك والسخرية .. لا لشيء إلا لعجزهم عن رد الأذى (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) عليهم ساخرين بهم كما هو دأب الأراذل والأنذال (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ). متلذذين بالغيبة وذكر السوء (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ). وهكذا الخونة يزرون بالمخلصين ، والفجرة بالمتقين. وفي تفسير الرازي : مرّ الإمام علي (ع) ونفر من المسلمين بجماعة من المنافقين ، فضحكوا وتغامزوا ، ثم رجعوا الى أصحابهم وقالوا رأينا اليوم الأصلع ، فضحكوا

٥٣٧

منه. فنزلت هذه الآية قبل ان يصل علي الى رسول الله (ص).

(وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ). ضمير أرسلوا للكفار ، وضمير عليهم للمؤمنين ، والمعنى ان الله سبحانه ما أرسل الكفار رقباء على المؤمنين حتى يحفظوا أعمالهم ، ويحصوا حركاتهم. وقال الشيخ محمد عبده : ضمير أرسلوا للمؤمنين ، وضمير عليهم للكافرين ، والمعنى قال الكافرون : ما أرسل الله المؤمنين ليرشدونا ويعظونا. وهذا القول خلاف الظاهر وبعيد عن الافهام.

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ). وضحك المؤمنين من المجرمين في اليوم الآخر ـ خير وفضيلة لأنه استخفاف بأعداء الله ، أما ضحك المجرمين من المؤمنين في الدنيا فهو جريمة كبرى لأنه استخفاف بأولياء الله (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) الى صنع الله بأعدائه وأعدائهم ، وتنكيله بمن كان يهزأ بهم ويضحك منهم (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ). ثوّب أي جوزي. ضحك الكفار من المؤمنين في الدنيا ، فأضحك الله المؤمنين من الكفار في الآخرة ، واحدة بواحدة ، ولكن شتان ما بين الاثنتين.

٥٣٨

سورة الانشقاق

٢٥ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اذا السماء انشقت الآية ١ ـ ١٥ :

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))

الإعراب :

العامل بإذا محذوف أي أذكر إذا السماء الخ وأيضا جواب إذا محذوف أي لقي الإنسان خالقه. فملاقيه خبر لمبتدأ محذوف أي أنت ملاقيه. ومسرورا حال. وان لن «ان» مخففة من الثقيلة أي انه. بلى إيجاب بعد النفي.

٥٣٩

المعنى :

هذه السورة كسورتي التكوير والانفطار ، تبين أهوال القيامة ، وانقسام الناس في يوم الدين الى فريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ). تنشق وتنفطر حين يريد الله خراب العالم الذي نحن فيه (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها). ومعنى أذن في اللغة استمع ، يقال : حدثته فأذن لي أي استمع لي ، وعليه يكون المعنى ان السماء استجابت وأذعنت لأمر الله ، وبكلمة ان الله على كل شيء قدير (وَحُقَّتْ) أي وحق لها ان تمتثل وتنقاد لأمره تعالى لأنها مخلوقة له وفي قبضته (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ). إذا قامت القيامة فقدت الأرض تماسكها وزال ما فيها من جبال وغيرها ، وعندئذ تصبح الأرض ملساء (وَأَلْقَتْ ما فِيها) أي ما في جوفها من الأموات وغيرهم (وَتَخَلَّتْ). أصبح باطنها خاليا مما كان فيه (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) تماما كالسماء .. انه تعالى يتصرف في الكون بأرضه وسمائه خلقا وبقاء وفناء.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ). المراد بالكدح هنا عمل الإنسان لنفسه من خير وشر ، والمعنى ان الإنسان غير مخلد في الحياة الدنيا ، وهو مجدّ في السير الى ربه ، وملاقيه بأعماله لا محالة ، وليس بينه وبين لقاء الله إلا الموت ، وما دام العمر في إدبار ، والموت في إقبال فما أسرع الملتقى .. فلينظر ناظر ما ذا أعد للقاء الله وحسابه؟ (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً). كل من آمن وعمل صالحا يؤتى غدا كتابه بيمينه ، والمراد بأهله هنا المؤمنون الصالحون من أمثاله حيث يجتمعون في الجنة على سرر متقابلين ، أما الحساب اليسير فهو الخفيف الهيّن الذي لا حرج فيه ولا مشقة ، وفي الحديث : من حاسب نفسه في الدنيا هان الحساب عليه في الآخرة.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً وَيَصْلى سَعِيراً). المراد بمن أوتي كتابه وراء ظهره المجرم الآثم ، والثبور الهلاك ، والسعير النار. وتقدم مثله في الآية ١٤ من سورة الفرقان.

٥٤٠