التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

الحق والباطل ، وله وقت معين ولكن لا يعلمه إلا الله ، وفي هذا الوقت يفنى العالم ، وتنتقل الخلائق الأحياء منهم والأموات الى عالم آخر لا يشبه دنيانا في شيء ، عالم لا باطل فيه ولا فناء ، ولا عمل وادعاء .. لا شيء إلا النعيم لمن أحسن ، والجحيم لمن أساء ، ومن دلائله ما أشار اليه سبحانه بقوله : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً). والصور بوق يكبر الصوت ، ولا ندري : هل أراد سبحانه هذا المعنى أو هو كناية عن بعث ما في القبور؟ ومهما يكن فإن الله سبحانه لم يكلفنا طلب هذا العلم ، ولا يتصل بحياتنا من قريب أو بعيد (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً). هذا كناية عن خراب العالم العلوي بما فيه حيث يضطرب نظام الكواكب ، ويذهب ما بينها من تماسك ، وقال الشيخ محمد عبده : «قد تكون السماء بالنسبة إلينا أبوابا في ذلك اليوم ندخل من أيها شئنا بإذن الله». (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) أي شيئا كلا شيء كما قال سبحانه : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) ـ ٦ الواقعة أي فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت أو الغبار المنتشر.

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً). بعد ان ذكر سبحانه الدلائل على قدرته ـ هدد المكذبين بنبوة محمد (ص) وبالبعث ، هددهم بأن جهنم لهم في الانتظار ، وهي مرجعهم الوحيد ومقرهم الأخير (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) مقيمين في جهنم مددا طوالا لا حد لها ولا نهاية إلا ان يشاء الله (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً). وهل يجتمع البرد والماء مع النار؟ (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً). هذا استثناء متصل لأن الحميم هو الماء المغلي على النار ، والغساق القيح والصديد اللذان يسيلان من الجسم المحروق بالنار (جَزاءً وِفاقاً) عذابا يوافق أعمالهم وسيئاتهم في الحياة الدنيا (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها).

(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً). لقد أعمت الدنيا وترفها قلوبهم وعقولهم فكيف يرجون لقاء الله ، ويرون آياته وبيناته (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً). لا يخفى على الله من عباده ما اقترفوه في ليل أو نهار حتى ما يختلج في نفوسهم ، ويمر بضمائرهم (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً). ليس لكم عند الله إلا العذاب ، ولا تأملوا الا بمضاعفته وشدته.

٥٠١

ان للمتقين مفازا الآية ٣١ ـ ٤٠ :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

اللغة :

مفازا أي موضع الفوز وهو الجنة. وكواعب جمع كاعب وهي الجارية التي استدار ثديها وبرز. وأترابا على سن واحدة. ودهاقا مترعة طافحة. واللغو ما لا فائدة فيه ولا يعتدّ به. وحسابا أي كافيا وافيا.

الإعراب :

حدائق وأعنابا بدل بعض من مفاز. وجزاء نصب على المصدرية أي نجازيهم جزاء ، ومثله عطاء ، وحسابا صفة لعطاء لأنه بمعنى كاف. ورب السموات بدل من ربك. والرحمن صفة للرب. ويوم يقوم .. نصب بلا يملكون. وصفّا في مقام الحال أي مصطفين. وذلك مبتدأ واليوم خبر والحق صفة له. ويوم ينظر متعلق بمحذوف صفة لعذاب. ويا ليتني «يا» للتنبيه.

٥٠٢

المعنى :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) بثواب الله ومرضاته ، ومنجاة من عذابه وغضبه (حَدائِقَ وَأَعْناباً). خص سبحانه الأعناب بالذكر لأهميتها عند المخاطبين (وَكَواعِبَ أَتْراباً) حورا في سن واحدة ولم تتدل أثداؤهن (وَكَأْساً دِهاقاً) طافحة بما لذ وطاب (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً). لا يقولون ولا يسمعون كلاما لا يعتد به ولا أساس له من الحق والواقع ، وفيه إيماء الى ان أهل الجنة وإن كانوا بلا عمل فإنهم لا يخوضون بما يخوض فيه أهل البطالة في الحياة الدنيا (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً). كلمة جزاء تشير الى ان الثواب على العمل الصالح حق لا بد منه ، وكلمة عطاء تومئ الى ان الله يزيدهم من فضله زيادة كافية وافية بما يحبّون ويشتهون. وتقدم مثله في عشرات الآيات ، منها الآية ٦ وما بعدها من سورة مريم.

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً). ضمير لا يملكون يعود الى الخلائق الذين يومئ اليهم ذكر السموات والأرض لأن الله ربهما ورب من فيهما ، والمعنى ان تلك الحدائق وغيرها مما أنعم الله بها على المتقين ، هي من الرحمن الرحيم ومالك الملك الذي لا أحد يملك ان يخاطبه يوم القيامة في شأن الثواب والعقاب ، فهو وحده يتصرف (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً). قيل : المراد بالروح هنا جبريل لأن الله سبحانه أسماه بالروح الأمين في الآية ١٩٣ من سورة الشعراء : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ). وقال الشيخ عبده : «الروح من مخلوقات الله المغيبة عنا التي لم نكلف بالبحث عن حقائقها». والمعنى ان الملائكة يصطفون في يوم القيامة ، ويملئون الجو هيبة ورهبة ، وهم على طاعتهم وقربهم من الله لا يتحركون بأية حركة ، ولا ينطقون بأية كلمة إلا بإذن منه تعالى ، وهو لا يأذن بالكلام لهم ولغيرهم إلا من كانت حياته كلها صوابا وصدقا ، وعدلا وحقا ، وأيضا لا يقول المأذون له إلا ما شاء الله وأراد.

(ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً). يوم القيامة حق لا ريب فيه ، والناس يومذاك فريقان : فريق الى النار والبعد عن الله ورحمته ، وفريق الى القرب من الله وجنته ، والطريق اليها واضح وممهد. وهو العمل الصالح مع

٥٠٣

صدق السريرة ، وما على الإنسان إلا أن يشاء ، ويعمل مخلصا بموجب مشيئته ورغبته في دخول الجنة (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) وهو عذاب القيامة لأن كل آت قريب ، ولأن من مات فقد قامت قيامته ، وهل من شيء أقرب الى الإنسان من الموت؟ (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) في الحياة الدنيا خيرا كان أو شرا ، ومثله : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) ـ ٣٠ آل عمران ج ٢ ص ٤٤ (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً). في يوم الحق يتمنى المجرم أن يكون ترابا تدوسه الأقدام لشدة ما هو فيه ويأسه من الخلاص .. وهكذا كل مضيع تذهب نفسه مع الحسرات والعبرات.

٥٠٤

سورة النّازعات

٤٦ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والنازعات غرقا الآية ١ ـ ١٤ :

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤))

اللغة :

النازعات قيل : هي الكواكب. والناشطات تنقلب من برج إلى برج. والسابحات تتحرك في الهواء. والسابقات تتمم دورتها. والمدبرات كناية عن آثارها كالضياء وما اليه. والراجفة الأرض. والرادفة السماء. واجفة خافقة. خاشعة ذليلة. والحافرة الحالة الأولى. والساهرة وجه الأرض أو الأرض البيضاء.

٥٠٥

الإعراب :

غرقا مفعول مطلق للنازعات لأن الغرق هنا نوع من النزع. وأمرا مفعول به للمدبرات. ويوم متعلق بجواب القسم المقدر وهو لتبعثن.

المعنى :

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً). لقد تعددت أقوال المفسرين في النازعات وما بعدها ، ونلخص منها قول الشيخ محمد عبده بشيء من التصرف الذي يتفق مع غرضه .. من تتبع آي الذكر الحكيم يجد ان الله تعالى أقسم بالأزمنة والأمكنة وأشياء أخر .. ومن تأمل في جميع ما أقسم به وجده شيئا قد أنكر الناس وجوده ، أو احتقروه ، أو لم ينتبهوا الى ما فيه من الدلائل على قدرة الله وعظمته ، فيقسم تعالى بما أنكروا لتقرير وجوده ، أو بما احتقروا لتعظيم شأنه ، أو تنبيها إلى ما فيه من الدلائل على قدرته ، جلت عظمته ، وأقسم هنا ببعض مخلوقاته إظهارا لاتقان صنعها وغزارة فوائدها ليعلم المكذبون بالبعث ان من قدر على ذلك فهو على إحياء الموتى أقوى وأقدر.

والمراد بالنازعات الكواكب لأنها ترمي بالشهب ، يقال : نزع عن القوس أي رمى عنها ، وأيضا يقال : أغرق في الرمي إذا بالغ فيه (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً). تقول العرب : نشط فلان نشطا من المكان إذا خرج من بلد الى بلد ، وعليه يكون المعنى ان الكواكب تتقلب من برج الى برج (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) أي ان الكواكب تتحرك في الفضاء (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً). تتمم دورتها بسرعة حول ما تدور عليه ، ومعلوم ان سرعة كل شيء بحسبه من حيث الضخامة وعدمها (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) أي ان الكواكب يظهر أثرها الى الخارج بما ينفع الناس كمعرفة الأوقات والأقطار ، واختلاف الفصول ، وما الى ذلك من أسباب الحياة.

هذا تلخيص لحوالى ثلاث صفحات من جزء عمّ للشيخ محمد عبده ، سطرها في معنى هذه الكلمات ، ونحن لا نجزم بقوله ولا بقول من قال : ان النازعات هي الملائكة أو غيرها وغير الكواكب ، لا نجزم بشيء من هذه الأقوال لأنها لا

٥٠٦

تستند الى دليل ، والراسخون في العلم يعترفون بالجهل والعجز عن معرفة الغيب ، ولا يقولون ما لا يعلمون.

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) أي الأرض لقوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) ـ ١٤ المزمل والمعنى ان الأرض تضطرب يوم القيامة بمن فيها ، ويعتريها الخراب والدمار (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) وهي السماء وما فيها تردف الأرض أي تتبعها خرابا ودمارا ، قال تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) ـ ٢ الانفطار. (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ). المراد بالقلوب هنا قلوب المجرمين حيث تدرك يوم القيامة ما يحل بها وبأصحابها من أليم العذاب ، فتنخلع خوفا ورعبا ، ويظهر أثر ذلك واضحا في عيون المجرمين أرباب القلوب الخافقة في ذلك اليوم وقد كانت من قبل كقلوب الانعام السائمة في غباوتها والصخور في قساوتها.

(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ). الحافرة في اللغة الرجوع الى الحالة الأولى بعد الخروج منها ، والمعنى كيف نعود الى الحياة بعد أن ننتقل منها الى الموت؟ عجبا (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) بالية لمبعوثون خلقا جديدا! (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أنكروا البعث ، فهددهم سبحانه بعذاب الجحيم ، فقالوا ساخرين : اذن ، نحن أخسر الناس صفقة في يوم القيامة!. ثم ما ذا؟ وأية غرابة في ذلك؟ ألستم أنصار الباطل والضلال؟ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) ـ ٢٧ الجاثية. (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ). هذا من كلامه سبحانه يرد به على المكذبين الساخرين ، ومعناه ان إحياء الموتى على الله سهل يسير (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) ـ ٥٣ يس. (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) فما ان تنطلق الصيحة حتى يحشر الله الخلق على أرض بيضاء. قال الشيخ محمد عبده : سميت بذلك لأن السراب يجري فيها ، من قولهم : عين ساهرة أي جارية الماء لا ينقطع جريانه منها.

٥٠٧

هل اتاك حديث موسى الآية ١٥ ـ ٣٣ :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩))

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣))

اللغة :

الوادي سفح الجبل ومجرى الماء. وطوى اسم لذلك الوادي. تزكى تتطهر من الشرك. فحشر فجمع. والنكال العذاب. والمراد بسمكها هنا كواكبها. فسواها وضع كل كوكب في مكانه الطبيعي. وأغطش أظلم. ودحاها مهدها. وأرساها أثبتها.

الإعراب :

طوى بدل من الوادي على القول : انه اسم له. ولك متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف ، والمصدر من أن تزكى متعلق بالمبتدأ المحذوف أي هل لك حاجة

٥٠٨

إلى التزكية ، وأصل تزكى تتزكى. ونكال مفعول مطلق لأخذه لأن الأخذ هنا يتضمن معنى العذاب فكأنه قال : عذبه الله عذاب الآخرة والأولى. وخلقا تمييز. والأرض مفعول لفعل محذوف يفسره دحاها وكذلك الجبال أرساها. ومتاعا مفعول من أجله لأخرج.

المعنى :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى). هذه تسلية من الله سبحانه لنبيه الكريم محمدا (ص) وان الله سينصره على أعدائه كما نصر موسى الكليم. وتقدم بالحرف في الآية ٩ من سورة طه (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) هو واد في أسفل جبل طور سيناء ، وطوى اسم للوادي. وتقدم مثله في الآية ١٢ من سورة طه (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) وتمادى في طغيانه حتى ادعى الربوبية. وأيضا تقدم بالحرف في الآية ٢٥ من سورة طه (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) هل ترغب في التطهير من الشرك والرذائل؟ (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) ومن خشي الله لا يطغى ويعثو في الأرض فسادا.

سخر فرعون من موسى وقال : «أهذا المهين» يهدى «رب العالمين»!. (فَأَراهُ ـ موسى ـ الْآيَةَ الْكُبْرى) وهي انقلاب العصا حية (فَكَذَّبَ وَعَصى) أنكر المعجزة وقال : هي سحر (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) في تدبير الكيد لموسى (فَحَشَرَ فَنادى) جمع السحرة وأعوانه (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ما علمت لكم من إله غيري .. هذا بيان وتفسير لندائه في سحرته وأعوانه ، واكثر الناس اليوم وقبله وبعده يدّعون الربوبية لو وجدوا من يصدقهم (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى). عذبه بالغرق في الدنيا ، وبالحريق في الآخرة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) العواقب ، فيحتاط لها ، وينجو منها ، أما من يذهل عنها فتأخذه من مأمنه.

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها). الخطاب في «أنتم» للذين كذبوا بالبعث ، والمعنى أيهما أعظم : إعادة الإنسان كما بدأه أول مرة ام إنشاء هذه السماء وإتقانها ونظامها؟ ومثله : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ

٥٠٩

خَلَقْنا) ـ ١١ الصافات. ج ٦ ص ٣٣٢ قال الشيخ محمد عبده : البناء ضم الأجزاء المتفرقة بعضها إلى بعض حتى يتكون بناء واحد ، وهكذا صنع الله الكواكب ، وضع كل كوكب في مكان على نسبة من الكوكب الآخر يتجاذبان ويتماسكان فكان المجموع بناء واحدا يسمى سماء ، وهذا هو معنى قوله تعالى :(رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) أي رفع أجرامها فوق رؤوسنا فعدلها بوضع كل جرم في موضعه.

(وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها). أغطش أظلم ، وأخرج أضاء ، والضمير في ليلها وضحاها يعودان إلى السماء لأن منها الظلام بغروب الشمس ، ومنها الضياء بشروق الشمس. (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أي بسطها ومهدها بحيث تصبح صالحة للسكن والسير ، وفي كتاب محاولة لفهم عصري للقرآن ما نصه : «دحاها أي جعلها كالدحية «البيضة» وهو ما يوافق أحدث الآراء الفلكية عن شكل الأرض .. ولفظة دحا تعني أيضا البسط ، وهي اللفظة العربية الوحيدة التي تشتمل على البسط والتكوير في ذات الوقت ، فتكون أولى الألفاظ على الأرض المبسوطة في الظاهر المكورة في الحقيقة .. وهذا منتهى الإحكام والخفاء في اختيار اللفظ الدقيق المبين».

(أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها). كل ما في الأرض من الماء هو من السماء ، قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) ـ ١٨ المؤمنون. ثم يفجر سبحانه هذا الماء ينابيع وعيونا وأنهارا ، فيخرج النبات يأكله الناس والدواب (وَالْجِبالَ أَرْساها). أثبتها كيلا تميد وتضطرب بمن فيها : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) ـ ١٥ النحل (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ). خلق سبحانه الأرض ومهدها وثبتها وفجر فيها المياه وأخرج النيات ، كل ذلك وغير ذلك لخير الإنسان والانعام التي ينتفع بها الإنسان ، فهل جاء هذا كله صدفة وجزافا ، أم ان الذي أوجده وأنشأه أول مرة يعجز عن إعادته وإنشائه ثانية؟ : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ـ ٢٧ الروم.

٥١٠

الطامة الطبري الآية ٣٤ ـ ٤٦ :

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

اللغة :

الطامة الكبرى القيامة لأنها تطم على كل داهية. والمأوى المستقر. ومقام الله الجلال والعظمة. والعشية آخر النهار ، والضحى أوله.

الإعراب :

يوم يتذكر «يوم» مفعول لفعل محذوف اي اعني يوم يتذكر. فأما من طغى جواب إذا جاءت. وإيان خبر مقدم ومعناها متى ، ومرساها مبتدأ مؤخر. فيم خبر وأنت مبتدأ ومن ذكراها متعلق بما تعلق به الخبر. وإلى ربك منتهاها مبتدأ وخبر على حذف مضاف اي منتهى علمها. وعشية على حذف مضاف ايضا اي عشية يوم ، وضمير ضحاها يعود إلى عشية لأن كلا من العشية والضحى جزء من يوم واحد.

٥١١

المعنى :

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى). إذا قامت القيامة دمرت الكون بأرضه وسمائه ، ولم يبق من شيء إلا خالق كل شيء .. وهذه هي الطامة الكبرى ، واي شيء اكبر منها وأعظم ، ومن هنا قيل : ما من طامة إلا وفوقها طامة ، والقيامة فوق كل طامة (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى). إذا انتقل من الفانية إلى الباقية يرى صحيفة أعماله مع الجزاء ، إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ ، وعندئذ يتذكر سعيه في الحياة الدنيا وما كسبت يداه (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) لا يحجبه عن رؤيتها حاجب ، ولا يحرسها منه حارس ، وفوق ذلك : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) ـ ٧١ مريم.

(فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى). من انقاد إلى أهوائه أوردته المهالك ، ومن تغلب عليها أبصر الطريق ، وبلغ من الخير غايته .. والهوى علة العلل ، وصدق من قال : من أطاع هواه اعطى عدوه مناه. وقال آخر : إن حقيقة الإنسان هي نفسه ، فإذا تغلب عليها الهوى أصبح مخلوقا آخر لا يشبه الإنسان في قلبه ولا عقله. ومما قاله الإمام علي (ع) في وصف من قاس الحق بأهوائه : «لا يعرف باب الهدى فيتبعه ، ولا باب العمى فيجتنبه ، فذلك ميت الأحياء». وتجدر الاشارة إلى ان المراد بالهوى ما خالف الحق والعدل ، وإلا فإن النفس تشتهي الحلال كما تشتهي الحرام.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) متى تقوم القيامة؟ (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها). يطلبون منك يا محمد أن تحدد لهم اليوم الذي تقوم فيه القيامة ، ولا يدخل هذا في اختصاصك ، ولا في شيء من وظيفتك ، والمطلوب منك ان تخوف الناس من القيامة وأهوالها ، أما متى تكون فعلم ذلك عند الله ، وقد شاءت حكمته أن يخفيها عن عباده حتى الأنبياء والمقربين ، وأن لا تأتيهم إلا بغتة. وتقدم مثله في الآية ١٨٧ من سورة الأعراف : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها

٥١٢

لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ج ٣ ص ٤٣١.

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها). أنكروا القيامة حتى إذا رأوها أيقنوا انها الحق الذي لا ريب فيه ، وانها دار القرار ، وان الدنيا طريق اليها وممر ، فإذا طوت أهلها بالموت أدركوا ان أعمارهم فيها كانت أشبه بطيف او بساعة من نهار .. ومثله الآية ٤٥ من سورة يونس : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) ج ٤ ص ١٦٤.

٥١٣

سورة عبس

٤٢ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عبس وتولى الآية ١ ـ ١٦ :

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦))

اللغة :

صحف كتب. ومكرمة من التكريم والتعظيم. ومرفوعة من رفعة القدر وعلو الشأن. ومطهرة منزهة عن العبث والضلال. وسفرة وسفراء جمع سفير وسافر والمراد بهم هنا الملائكة والأنبياء. والبررة جمع بارّ.

الإعراب :

المصدر من ان جاءه مفعول من أجله لعبس. وما يدريك مبتدأ وخبر. ومن

٥١٤

استغنى مبتدأ وأنت مبتدأ ثان وجملة تصدى خبر الثاني والجملة منه ومن خبره خبر الأول وأصل تصدى تتصدى. وما عليك «ما» نافية تعمل عمل ليس واسمها محذوف. وعليك متعلق بمحذوف خبرا لما النافية ، والمصدر من ان لا تزكى مجرور بفي المقدرة والمجرور متعلق باسم «ما» أي ما بأس كائن عليك في عدم تزكيته. وضمير انها لآيات القرآن. وضمير ذكره لله أو للقرآن. وفي صحف صفة لتذكرة أي مثبتة في صحف مكرمة ، ويجوز ان تكون في صحف خبرا لمبتدأ محذوف اي هي في صحف.

من هو العابس؟

اتفق المفسرون على ان الأعمى هو ابن ام مكتوم صاحب رسول الله (ص) وابن خال خديجة زوجة الرسول ، واختلفوا في العابس. فقيل : انه مجهول ، ولهذا القول وجه ، لأن الله سبحانه ذكره بضمير الغائب ، ولم يبين لنا من هو؟. ومثله كثير في القرآن ، ومنه : (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) القيامة ـ ٣٣. وقيل : هو رجل من بني أمية كان عند رسول الله (ص) فلما رأى الأعمى تقذر منه ، وأعرض عنه. والمشهور بين المفسرين وغيرهم ان الذي عبس وتولى هو رسول الله (ص) ، وان السبب لذلك ان ابن مكتوم أتاه وهو في مكة ، وكان عنده عتاة الشرك من ذوي الجاه والمال : عتبة وشيبة ابنا ربيعة وابو جهل والوليد بن المغيرة وغيرهم ، وكان مقبلا عليهم ، ومشغولا بهم دون الجالسين ، يذكّرهم بالله ، ويحذرهم عاقبة الشرك والبغي ، ويعدهم خير الدنيا والآخرة ان أسلموا ، وهو يرجو بذلك هدايتهم ، وان يكونوا قوة للإسلام ، وان يكفوا شرهم ـ على الأقل ـ وكان الإسلام ضعيفا آنذاك وفي محنة وشدة من كيدهم وعدائهم.

فقطع الفقير الأعمى كلام الرسول مع القوم ، وقال : علمني يا رسول الله شيئا أنتفع به مما علمك الله .. فمضى الرسول في كلامه مع القوم ، ولما أعاد الأعمى وكرر كره الرسول منه ذلك ، وظهرت كراهيته في وجهه ، فعاتب سبحانه نبيه الكريم بضمير الغائب «عبس وتولى» ثم بضمير المخاطب (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى).

٥١٥

هذا ما ذهب اليه أكثر المفسرين ، وله وجه أرجح وأقوى من الوجه الأول لمكان ضمير المخاطب «أنت» فان المراد به الرسول ـ بحسب الظاهر ـ وعليه يكون بيانا وتفسيرا للضمير الغائب في عبس والتفاتا من الغائب الى الحاضر .. ولكن قول المفسرين : ان الله عاتب النبي على ذلك لا وجه له على الإطلاق حيث لا موجب للعتاب في فعل الرسول (ص) لأنه أراد أن يغتنم الفرصة قبل فواتها مع أولئك العتاة ، أن يغتنمها ويستغلها لمصلحة الإسلام والمسلمين لا لمصلحته ومصلحة أهله وذويه ، أما تعليم المسلم الأحكام والفروع فليس له وقت محدود بل هو ممكن في كل وقت ، وبتعبير الفقهاء ان اسلام الكافر مضيّق يفوت بفوات وقته ، أما تعليم المسلم أحكام الدين فموسّع يمكن القيام به في أي حين ، والمضيق أهم ، والموسع مهم والأهم مقدم بحكم العقل .. اذن ، عمل الرسول آنذاك كان خيرا وحكمة.

وتسأل : على هذا ينبغي أن يوجه اللوم والعتاب على الأعمى دون غيره مع ان الله سبحانه قد أثنى عليه ، ودافع عنه؟

الجواب : لا لوم ولا عتاب على النبي ولا على الأعمى في هذه الآيات ، وانما هي في واقعها تحقير وتوبيخ للمشركين الذين أقبل عليهم النبي بقصد أن يستميلهم ويرغبهم في الإسلام لأن الله يقول لنبيه في هذه الآيات : لما ذا تتعجل النصر لدين الله ، وتسلك اليه كل سبيل حتى بلغ الأمر ان ترجو الخير وتأمل هداية أشقى الخلق وأكثرهم فسادا وضلالا .. دعهم في طغيانهم ، وأغلظ لهم ، فإنهم أحقر من أن ينتصر الله بهم لدينه ، وأضعف من أن يقفوا في طريق الإسلام وتقدمه ، فإن الله سيذل أعداءه مهما بلغوا من الجاه والمال ، ويظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون .. فهذه الآيات قريبة في معناها من قوله تعالى: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) ـ ٨ فاطر. ثم انتقل سبحانه الى تقرير الحقيقة المطلقة ، وهي (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) قررها بأسلوب آخر ، وهو ان الذي يخشى ويزكى وتنفعه الذكرى هو الذي يستحق التكريم والتعظيم ، أما من يعرض عن الحق ولا ينتفع بمواعظ الله فيجب نبذه واحتقاره ، وان كان أغنى الأغنياء وسيد الوجهاء.

٥١٦

المعنى :

(عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) وهو ابن ام مكتوم ، قصد الرسول الأعظم (ص) ليسأله عن أحكام دينه ، فأعرض عنه لاشتغاله بما هو أهم كما ذكرنا .. وكان هذا الأعمى من المهاجرين الأولين ، والمؤذن الثاني لرسول الله (ص) واستخلفه على المدينة يصلي في الناس أكثر من مرة. وقيل : انه ولد أعمى وان اسمه عبد الله ، ووصفه سبحانه بالأعمى للاشارة الى عذره في الإلحاح بالمسألة (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى). أي شيء جعلك داريا وعارفا بحقيقة هذا الأعمى؟. ولو استجبت لرغبته وألقيت بعض أحكام الدين لانتفع وعمل بما تلقيه عليه.

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى). أعرضت عمن يشعر بالحاجة الى ما عندك من علم الله ، وأقبلت على من يرى نفسه في غنى عن الله وعنك بما يملك من جاه ومال ، ترجو هدايته ورجوعه عن الضلال. وهل ترجى الهداية ممن أعماه الهوى والجهل : (فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) ـ ٤٣ يونس. (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى). لا شيء عليك ولا على الإسلام من كفر الكافر وضلاله ، ومثله : (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) ـ ٤٢ المائدة. (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى). تشاغلت بالمشركين طمعا بإسلامهم وهدايتهم ، وتعافلت عن المؤمن الذي قصدك للاستفادة من عملك اتكالا على إيمانه ، وان في وقت التعليم سعة وفسحة .. فدع الطغاة لله وحده فهو لهم بالمرصاد ، وأقبل على من تفتح قلبه للهدى والخير.

(كَلَّا) ان الله لا ينصر دينه بمن يرى نفسه في غنى عن الله وعنك بما عنده من جاه ومال ، وانما ينصر الحق بالطيبين أمثال هذا الأعمى ، وان كانوا من الفقراء والمساكين (إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ). ضمير انها يعود إلى آيات القرآن أو الى الهداية التي فيه ، وضمير ذكره يعود الى الله او الى القرآن ، والمعنى ان هذا القرآن كاف واف في الهداية لمن طلبها ، وما عليك يا محمد إلا البلاغ والتذكير ، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، ثم وصف سبحانه هداية القرآن وتعاليمه وأحكامه بقوله : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) لها شأنها وكرامتها عند الله

٥١٧

(مرفوعة) عالية بتعاليمها النافعة ، وحكمها البالغة (مُطَهَّرَةٍ) من العبث والضلال (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ). ان تلك الصحف الإلهية في حصن حصين ينقلها الملائكة المقربون عن العلي الأعلى الى أنبيائه المعصومين ، وهم يبلغونها بدورهم الى الناس بدقة وأمانة.

قتل الانسان ما اكفره الآية ١٧ ـ ٤٢ :

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

اللغة :

المراد بقتل هنا الدعاء بالعذاب والهلاك. والمراد بالإنسان المجرم. فقدره اي أنشأه خلقا بعد خلق وطورا بعد طور. وأنشره أحياه بعد الموت. والقضب ما

٥١٨

يؤكل رطبا طريا من الخضار والبقول ويقطع مرة بعد مرة. وغلبا ضخمة وعظيمة. والأبّ مرعى الدواب. والمراد بالصاخة القيامة مثل القارعة ، وفي تفسير الرازي : معنى الصاخة الصاكة للآذان بشدة صوتها. وترهقها تغشاها. وقترة سواد.

الإعراب :

ما أكفره «ما» نكرة بمعنى شيء عظيم ومحلها الرفع بالابتداء. وأكفره فعل ماض لا يتصرف ، وفيه ضمير مستتر يعود على «ما» والهاء مفعول به لأن المعنى شيء عظيم جعله كافرا. السبيل مفعول لفعل مقدر أي يسّر السبيل يسّره للإنسان. ولمّا يقض أي لم يقض. وما اسم موصول مفعولا ليقض والعائد محذوف اي ما أمره به. والمصدر من أنّا بدل اشتمال من طعامه. وغلبا صفة لحدائق وهي جمع غلباء. ومتاعا مفعول من أجله لأنبتنا. وجواب إذا جاءت محذوف أي فما أعظم ندم المجرمين.

المعنى :

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ). جاء في تفسير الرازي نقلا عن جماعة من المفسرين : «ان المراد بالإنسان هنا كل غني ترفع على فقير بسبب الغنى والفقر». ونحن مع هذا القول أولا ، لأن الواقع يؤيده ويشهد به ، فلولا الطمع والتكالب على الحطام وكنز المال لعاش الناس في رفاهية وأمان. قال الشيخ محمد عبده : «ان هذا الدعاء على الإنسان بأبشع الدعوات هو كناية عن انه قد بلغ من القبح مبلغا لا يستحق معه الحياة ، ومنشأ الشناعة نسيانه لما يتقلب فيه من النعم ، وذهوله عن مسديها حتى إذا ذكّر بالحق أعرض عن الذكرى» .. ولا شك في نعمة الوجود والإدراك والسمع والبصر ، بل هي من أعظم النعم ، ولكن نعمة الوجود وما اليه لا تبعث على التعالي والطغيان ما دامت عامة شاملة ، وانما الذي يخرج الإنسان المجرم عن حده ويبعثه على البغي والعدوان هو إحساسه بثروته وامتيازه عن غيره.

٥١٩

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ). من أنت أيها الإنسان الضعيف حتى تستنكف عن طاعة الله ، وتتطاول على عباده؟ فكّر في أصلك ، وفي انتقالك من خلق الى خلق ، وفي مصيرك ومآلك ... فمن الذي أوجدك ولم تك شيئا ، وأنشأك في بطن أمك حالا بعد حال ، ثم أخرجك في أحسن تقويم .. هل الصدفة فعلت هذا كله؟ (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ). مهد للإنسان الطريق الى الخير بشيئين : الأول الإرشاد اليه والترغيب فيه. الثاني العقل والقدرة على العمل. وأيضا مهد له الطريق الى الحياة بشيئين : الأول ما أودعه تعالى في الطبيعة من الخيرات الكافية بحاجاته. الثاني ما أودعه في الإنسان من الطاقة والاستعداد لاستغلال الطبيعة وتكييفها كما يشاء. وتقدم مثله في العديد من الآيات. انظر تفسير الآية الأولى وما بعدها من سورة الإنسان.

(ثُمَّ أَماتَهُ) بعد انقضاء أجله (فَأَقْبَرَهُ) أمر سبحانه بدفن الإنسان بعد موته ، ونهى عن تركه مطروحا للوحوش والطيور اشارة الى كرامته عند الله حتى بعد خروج الروح منه فكيف إذا كان حيا؟ (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ). خلقه ثم أماته فأقبره ، ثم يبعثه كما كان للحساب والجزاء .. ولو لا هذا البعث لكان وجود الإنسان عبثا في عبث. انظر تفسير الآية ٤ من سورة يونس فقرة «الحساب والجزاء حتم». أما قوله تعالى : (إِذا شاءَ) فيشير الى انه هو وحده يعلم متى يكون الحشر والنشر (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ). الضمير في يقضي يعود الى الإنسان المجرم المهمل ، والمعنى لقد زودنا الإنسان بجميع الطاقات والمعدات لفعل الخير وصالح الأعمال ، وما تركنا له من عذر يتعلل به ، ومع ذلك أهمل وقصر أكثر الناس ، بل ان الكثير منهم طغوا وبغوا واتخذوا من نعم الله عليهم وسيلة للفساد والاعتداء على العباد.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) وهو بين يديه ، وفيه قوام حياته ووجوده ، فلينظر اليه ، ويسأل عقله : من الذي يسر له هذا الطعام؟ الطبيعة؟ ومن الذي أوجد الطبيعة؟ الصدفة؟ وهل للصدفة عقل يقدر ويدبر؟ فأوجدت الطبيعة بما فيها من أسباب الطعام والشراب وما الى ذلك من الدقة واحكام الصنع (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا). كلا .. الله وحده هو الذي أوجد الماء وأنزله من السماء ، وسبق أكثر من مرة ان الظواهر الكونية تسند اليه تعالى لأنه مصدر الوجود وسبب الأسباب

٥٢٠