التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

اللغة :

مستطيرا فاشيا منتشرا. عبوسا أي تعبس فيه الوجوه. قمطريرا شديدا مظلما. نضرة حسنة. وأرائك جمع أريكة وهي السرير. وزمهريرا بردا شديدا. ودانية ناعمة. وأكواب جمع كوب وهو قدح لا عروة له ولا خرطوم. وقوارير جمع قارورة وعاء من الزجاج. وقال الشيخ المغربي في تفسير جزء تبارك : الزنجبيل عروق نبات يشبه القصب. والسلسبيل سهل المساغ والانحدار في الحلق. والسندس ضرب من الحرير الرقيق. والإستبرق الغليظ منه.

الإعراب :

يوما مفعول به على حذف مضاف أي عذاب يوم. وعلى حبه متعلق بمحذوف حالا من فاعل يطعمون أي كائنين على حبه. ونضرة مفعول ثان للقّاهم لأن المعنى أعطاهم. ومتكئين حال من مفعول جزاهم. ودانية عطف على متكئين. وظلالها فاعل دانية. قواريرا الأولى بالتنوين مع انها لا تنصرف لأنها رأس آية لتتناسب مع «تذليلا» و «تقديرا». وقوارير الثانية بدل من الأولى. وعينا بدل من زنجبيل. ثم ظرف بمعنى هناك. وفي تفسير البيضاوي وغيره ان عاليهم حال من الضمير في «عليهم» وثياب فاعل عاليهم لأن المعنى تعلوهم ثياب سندس.

المعنى :

بعد أن أشار سبحانه الى بعض ما أعده غدا للأبرار ـ قال : استحقوا ذلك لصفات ثلاث :

١ ـ (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ). والنذر في اللغة الوعد ، وفي الشرع ان يلزم البالغ العاقل نفسه بفعل شيء أو تركه لوجه الله ، على أن يكون الفعل أو الترك لله فيه رضى .. والا يكون الكلام هذرا لا نذرا عند أهل النظر والتحقيق ،

٤٨١

وصيغة النذر أن يقول الناذر : علي لله ، أو نذرت لله كذا. ولا يقع النذر مجردا عن ذكر الله أو أحد أسمائه الحسنى كالرحمن والخالق والمحيي والمميت ، فلو قال : نذرت لأفعلن كذا كان لغوا ، والعهد في اصطلاح كثير من الفقهاء أن يقول المعاهد : أعاهد الله أو علي عهد الله كذا ، واليمين هو الحلف بالله. وتقدم الكلام عن اليمين عند تفسير الآية ٨٩ من سورة المائدة ج ٣ ص ١٢٠ والله سبحانه يحب ويثيب كل من صدق وأحسن في فعل أو قول سواء أكان القول وعدا أم عهدا أم نذرا أم يمينا أم شهادة أم خبرا من الأخبار.

٢ ـ (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً). يطيعون الله في كل شيء خوفا من يوم يعم شره العظيم كل من عصى الله وخالفه في حكم من أحكامه.

٣ ـ (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً). يبذلون كل عزيز وهم في أشد الحاجة اليه ، ومثله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) ـ ٩ الحشر. والمسكين البائس العاجز ، واليتيم من لا كفيل له ، أما الأسير فقيل : ان المراد به هنا من أسره المسلمون بالحرب مع أعداء الله والإسلام ، وروي ان الصحابة كانوا إذا أتوا رسول الله (ص) بأسير من أعداء الله وأعدائه دفعه الى بعض المسلمين وقال له : أحسن اليه ، فيأخذه الى بيته ، ويؤثره على نفسه وأهله.

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً). لا نريد مكافأة منكم ولا من غيركم ، وانما نطعم ونبذل بدافع التقرب الى الله ، والخوف من يوم تفحص فيه الأعمال ، وتكثر فيه الأهوال .. قالوها بلسان الحال لا بلسان المقال أو قالها الله عنهم علما منه تعالى بما في قلوبهم من الايمان والإخلاص (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً). خافوا يوم المحشر ، فاتقوا شره بطاعة الله والإخلاص له ، فبدلهم من بعد خوفهم أمنا ، فأشرقت وجوههم بنور البشر والفرحة (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً). صبروا على الجوع وجهده ليشبع غيرهم فكان ثوابهم عند الله جنة فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.

٤٨٢

وفي كثير من التفاسير ان هذه الآيات نزلت في حق الإمام علي بن أبي طالب ، ونثبت منها عبارة الرازي بنصها :

«ذكر الواحدي من أصحابنا ـ أي السنة ـ وصاحب الكشاف من المعتزلة : ان الحسن والحسين (ع) مرضا فعادهما الرسول (ص) في أناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك ، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما ان شفاهما الله تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا ، فاستقرض علي ثلاثة أصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعا ، واختبزت خمسة أقراص على عددهم ، ووضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم يا أهل بيت محمد ، مسكين أطعموني ، أطعمكم الله من الجنة ، فآثروه ولم يذوقوا إلا الماء ، وأصبحوا صائمين ، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف يتيم فآثروه ، وجاءهم أسير في الليلة الثالثة ، ففعلوا مثل ذلك ، فلما أصبحوا أبصرهم رسول الله يرتعشون كالفراخ فقال : ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم ، فنزل جبريل وقال : خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك ، فاقرأ هذه السورة».

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً). ضمير «فيها» للجنة ، والأرائك السرر ، والشمس كناية عن الحر ، والزمهرير البرد ، والمعنى واضح. وتقدم مثله في الآية ٣١ من سورة الكهف (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً). جاء في كتب اللغة ان دانية تكون بمعنى قريبة ، وبمعنى ناعمة ، وهذا المعنى يناسب الظل وهو الفيء ، وأيضا يناسب كلمة «عليهم» ولو كان المعنى قريبة لقال تعالى «اليهم». وتذليل العناقيد معناه انها في متناول الأيدي لا يحول دونها حائل. وتقدم مثله في الآية ٢٣ من سورة الحاقة.

(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً). واو الجماعة في قدروها تعود الى متكئين ، وهم أهل الجنة تماما مثل واو (لا يَرَوْنَ فِيها) وعليه يكون المعنى ان صفة الأكواب لونا وحجما هي كما يشاء أهل الجنة ، وكما قدروها في نفوسهم وتصوروها في أذهانهم.

وذكر المفسرون سؤالا حول هذه الآية ، وهو ان قوارير جمع قارورة ، وهي وعاء الزجاج فكيف يتفق هذا مع قوله : «من فضة»؟ وهل يستقيم قول

٤٨٣

القائل : الزجاج من فضة والماء من التراب؟.

وأجابوا بأن معدن الأكواب من فضة ، ولكنها رقيقة شفافة كالزجاج ينفذ فيها البصر كما ينفذ فيه.

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً). وهو عرق لبعض النباتات ، قال المفسرون : كان العرب يحبون جعل الزنجبيل في المشروب ، ولذا وصف سبحانه به شراب أهل الجنة (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) ماؤها عذب فرات سائغ للشاربين (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً). هم في جمالهم ونضارتهم كاللؤلؤ المنثور ، وفيه إيماء الى كثرة الخدم ووجودهم هنا وهناك (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً). إذا دخلت الجنة رأيت ما لا اذن سمعت ولا عين رأت ولا خطر على قلب بشر (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) يلبسون الحرير الرقيق والغليظ ، وأيضا يضعون في أيديهم أساور فضة ، ويشربون طيبا طاهرا.

وتقدم مثله في الآية ٣١ من سورة الكهف (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً). بعد تلك الكرامة يقال لهم : هذه مكافأة على أعمالكم التي شكرها الله لكم بالثواب وحسن المآب. وتقدم مثله في الآية ١٩ من سورة الاسراء.

ان هؤلاء يحبون العاجلة الآية ٢٣ ـ ٣١ :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا

٤٨٤

أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

اللغة :

بكرة وأصيلا صباحا ومساء. فاسجد له صلّ له. وسبّحه تهجد لله. يذرون وراءهم أي يطرحونه خلف أظهرهم ولا يكترثون به. والمراد بأسر ، هنا الخلق.

الإعراب :

آثما أو كفورا «أو» للتسوية أي لا تطع أحدهما. ويوما مفعول به ليذرون ، والظالمين مفعول لفعل محذوف أي ويعذب الظالمين.

المعنى :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ ـ يا محمد ـ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً). وهو حق لا ريب فيه ، وقد وعدناك بالنصر ، شريطة ان تصبر على أذى المعاندين وصدهم عن سبيل الله (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ). وحكمه تعالى أن تجري الأمور على سننها الطبيعية ، وان توجد في أوقاتها المعينة ، فالطريق الى الهدى لمن رغب فيه هو النصح والإرشاد ، وطريق النصر الصبر في الكفاح والجهاد (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) فيما يحاولونه منك ، ويساومونك عليه ، وقد كان المشركون يعرضون على الرسول الأعظم (ص) المال والنساء والرياسة على ان يترك الدعوة الى الله ، فيرفض ويأبى ، وفي النهي عن طاعة الآثم والكفور إيماء الى ذلك ، والمراد

٤٨٥

بالآثم كل من اكتسب إثما ، وبالكفور كل جاحد ، وقال جماعة من أهل التفسير : ان المراد بالآثم هنا عتبة بن ربيعة لأنه كان منغمسا في الشهوات ، وبالكفور أبو جهل أو الوليد بن المغيرة .. وأيا كان سبب النزول فإنه لا يخصص عموم اللفظ.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً). كن مع الله في جميع أمورك وأوقاتك ، ولا تأخذك فيه لومة لائم. وتقدم مثله في الآية ٤٢ من سورة الأحزاب (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ). صلّ لله في جزء من الليل (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً). تهجد لله في الليل أمدا غير قصير ، والأمر هنا للاستحباب لقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) ـ ٧٩ الإسراء. (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً). هؤلاء إشارة الى المشركين والى كل من أحب الدنيا وتولاها ، وأبغض الآخرة وعاداها ، ووصف سبحانه يوم القيامة بالثقل لأنه يوم عسير على الكافرين غير يسير.

(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ). الله سبحانه هو الذي أوجدهم من العدم ، وصورهم فأحسن صورهم ، فكيف أنكروه وعصوا أمره ونهيه؟ (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً). هذا تهديد ووعيد للمكذبين بأن الله قادر على أن يهلكهم ويستخلف مكانهم قوما آخرين أفضل وأكمل. وتقدم مثله في الآية ٣٨ من سورة محمد (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ). هذه اشارة الى السورة التي نحن بصددها ، وهي بما فيها من ترغيب وترهيب عظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ). بيّن سبحانه للإنسان طريقي الخير والشر ونهاه عن هذا وأمره بذاك وتركه وما يختار لنفسه .. ولكن المعاند لا يفعل الخير إلا إذا أجبره الله عليه ، وألجأه اليه ، وهذا لن يكون لأنه مخالف لعدله تعالى وحكمته وسنته في خلقه. انظر تفسير الآية ٥٦ من سورة المدثر فانه أوسع وأوضح.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً). عليم بأحوال عباده ، حكيم لأنه لا يأمرهم إلا بما فيه الخير والصلاح ، ولا ينهاهم إلا عما فيه الشر والفساد (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ). المراد بالرحمة هنا الجنة ، وقد اقتضت حكمته تعالى ومشيئته

٤٨٦

أن لا يدخل الجنة أحدا إلا بالجد والعمل ، والآيات كثيرة وواضحة الدلالة على ذلك ، منها قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) ـ ١٤٢ آل عمران .. وكيف يشاء سبحانه أن يدخل الجنة من ليس لها بأهل ، وقد أخرج منها آدم لمّا عصى ربه فغوى؟ (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً). للمتقين رحمة الله وجنته : وللمجرمين غضبه وعذابه.

٤٨٧

سورة المرسلات

٥٠ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والمرسلات عرفا لآة ١ ـ ٢٨ :

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨))

٤٨٨

المعنى :

تعرض هذه السورة جانبا من مشاهد اليوم الآخر ، وتحذر المجرمين والمكذبين من عذابه وأهواله .. وتقدم ذلك في عشرات الآيات ، ومن أجل هذا نقتصر على التفسير اللغوي ، ونعرب بعض ما يحتاج الى الاعراب من الكلمات جامعين بين اللغة والإعراب في فقرة واحدة على خلاف عادتنا في سائر السور.

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً). قيل ، هي الملائكة. وان المراد بالعرف المعروف وانه مفعول من أجله للمرسلات ، والمعنى ان الله يرسل ملائكته من أجل تبليغ الوحي للأنبياء وغير ذلك من الخيرات. وقيل المراد بالمرسلات الرياح ، وبالعرف التتابع ، وقد نصب على الحال ، والمعنى يرسل الله الرياح متتابعة (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً). السريعات في السير ، يقال : عصفت الناقة براكبها إذا أسرعت به ، وعصفا مفعول مطلق للعاصفات (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً). تنشر الرياح السحب في الفضاء ، أو تنشر الملائكة رحمة الله في خلقه (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً). تنزل الملائكة بآيات الله التي تفرق بين الحق والباطل ، أو ان الرياح تفرق الأمطار في أنحاء الأرض (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً). ذكرا مفعول به للملقيات ، وعذرا أو نذرا مفعول من أجله ، وقيل : بدل من الذكر ، والأول أقرب الى الصواب ، لأن المعنى ان الله سبحانه يرسل ملائكته بالوحي لينذر به العباد ، ولا يكون لهم عليه الحجة. وقيل : ان المراد بالملقيات الرياح ، وبالذكر المطر لأنه يذكّر بالله ورحمته ، فالمؤمن يشكر الله حين ينزل المطر ويعتذر عما سبق منه من التقصير ، والكافر يزداد طغيانا لأن المطر يزيد من ثرائه ، وبالتالي يكون المطر أو الرياح نذيرا له بعذاب أليم.

هذا ملخص ما قاله المفسرون حول هذه الكلمات أو الآيات الخمس ، ولكل وجه ، لأن الله يرسل الرياح كما جاء في الآية ٥٧ من سورة الأعراف : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) وأيضا يرسل الملائكة كما جاء في الآية ٧٥ من سورة الحج : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً). ومهما يكن فما نحن بمسؤولين عن هذا البحث امام الله ، ولا تمتّ معرفته الى حياتنا بسبب ، فالأولى أن نترك ذلك لعلمه تعالى مؤمنين بأنه هو وحده مسبب الأسباب.

٤٨٩

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ). الموعود به هو يوم القيامة ، و «انما» كلمتان «ان» و «ما» الموصولة وهي اسم ان وتوعدون صلة وواقع خبر «ان» والجملة جواب القسم ، والمعنى ان الساعة آتية لا ريب فيها (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ). ذهب ضوءها (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) انفطرت كواكبها (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ). صارت هباء وذهبت مع الريح (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) من التوقيت ، والرسل الملائكة ، وقد جعل الله لها وقتا معلوما تحضر فيه لتشهد على العباد ، ثم تسوق المتقين زمرا الى الجنة ، والمجرمين زمرا الى جهنم (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) تلك الرسل؟ (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بدل من لأي يوم بإعادة حرف الجر ، والاستفهام لتفخيم اليوم وشدة أهواله ، وسمي بيوم الفصل حيث يفصل فيه بين الناس بالحق بلا إجحاف ومحاباة (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ). ما الذي تعرفه عن هذا اليوم الذي لا يقاس بهوله هول؟ (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ). هذا تهديد ووعيد لمن كذب بيوم الدين ، وأيضا لمن آمن به ولم يعمل له.

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) كقوم نوح لأنهم كذبوا رسولهم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) كقوم لوط (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) الذين كذبوا محمدا (ص) لأن السبب واحد ، وهو الإعراض عن الحق (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تكررت هذه الآية عشر مرات تبعا لاختلاف معنى الآية التي قبلها (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ). أتنكرون البعث وتقولون : من يحيي العظام وهي رميم؟ وأنتم تعلمون ان الله أنشأكم من ماء حقير ، وأودعكم في ظلمات ثلاث أمدا معينا ينقلكم فيه من خلق الى خلق ، وحدد هذا الأمد في منتهى الدقة والحكمة .. أبعد هذا كله تكفرون بأنعم الله ، وتكذبون بقدرته على البعث والحساب والجزاء؟.

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً)؟. كفات جمع كفت ، وهو الوعاء ، وقد شبّه سبحانه الأرض بالأوعية ، والخلق بما تضمه الأوعية وتجمعه ، والمعنى ان الأرض تضم الخلائق أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطنها .. والأرض مفعول أول لنجعل ، وكفاتا مفعول ثان ، وأحياء وأمواتا حال من مفعول فعل مقدر أي تكفتهم الأرض أحياء وأمواتا ، وقيل : مفعول (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ)

٤٩٠

جبالا ثابتات عاليات كيلا تميد بكم (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) عذبا ، وهو حياة لكم وللأرض ، فتفيض عليكم بالخيرات والبركات.

الى ظل ذي ثلاث شعب الآية ٢٩ ـ ٥٠ :

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠))

المعنى :

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ). كذبوا بعذاب الله ، بل سخروا منه وممن توعدهم به .. وغدا تقول لهم زبانية جهنم في سخرية وتهكم تماما كما تهكموا من قبل برسلهم ، تقول لهم : اذهبوا الآن الى ما كنتم تهزؤون (انْطَلِقُوا إِلى

٤٩١

ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) من دخان جهنم : شعبة تظللهم من فوق رؤوسهم ، وثانية عن يمينهم ، وثالثة عن شمالهم (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ). هو ظل ، ولكنه لا يقي المستظلين به من عذاب الحريق ، بل يزيدهم عذابا على عذاب ، ومثله (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) ـ ٤٤ الواقعة. (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ). ضمير انها يعود الى جهنم ، وجمالة جمع جمل ، والمعنى ان شرر جهنم يتطاير ويملأ الفضاء ، وكل شرارة كالقصر حجما ، والجمل الأصفر لونا.

(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ). الضمير للمجرمين .. وللعباد يوم القيامة مواقف يؤذن لهم بالكلام في بعضها دون بعض. انظر تفسير الآية ٦٥ من سورة يس ج ٦ ص ٤٢١. وقيل في معنى الآية : ان المجرمين لا ينطقون بما ينفعهم ، ولا عذر لهم عند الله (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) يفصل فيه بالحق بين الخلائق (جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) من المجرمين أمثالكم وحشرناكم جميعا في موقف واحد لنقاش يوم الحساب. ثم تساقون الى مقر واحد هو جهنم وبئس القرار (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ). هذه هي نهايتكم ، فان كان لديكم حيلة أو وسيلة تمتنعون بها من العذاب فأتوا بها ... وفيه تقريع وتوبيخ على مكرهم وخداعهم في الحياة الدنيا.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ). هذا على عادة القرآن الكريم ، يقرن عذاب المجرمين بثواب المتقين لغرض الترغيب والترهيب .. فللمجرمين ظلال من دخان جهنم ، وللمتقين ظلال من نعيم الجنة ، وعيون جارية وفواكه متنوعة مع الكرامة والمهابة من العلي الأعلى ، من ذلك قول الملائكة لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). تقدم مثله بالحرف الواحد في الآية ١٩ من سورة الطور (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). هذه هي سنتنا في الخلق (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) ـ ٣٠ الكهف.

(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً). الخطاب للمجرمين ، والمراد به التهديد والوعيد ، ومعناه تمتعوا في حطام الدنيا كما تشاءون ، فما هي إلا ايام قلائل ، ثم تزول المتعة كما يزول السراب (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) وسنّة الله في المجرمين ان يمهلهم قليلا ثم يذيقهم

٤٩٢

عذاب السعير (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ). إذا أمرهم الرسول بالخشوع والتواضع لله أصروا على الزهو والكبرياء. قال الشيخ عبد القادر المغربي عند تفسير هذه الآية : «روي ان النبي (ص) سأل هند زوجة أبي سفيان بعد أن أسلمت يوم الفتح : كيف رأيت الإسلام؟ قالت : حسن لو لا ثلاث. قال : وما هنّ؟ قالت : التجبية ـ أي الركوع والسجود في الصلاة ـ والخمار ، ورقيّ هذا العبد الأسود على الكعبة ـ تريد بلالا وأذانه من على الكعبة ـ فأجابها الرسول (ص) بقوله : أما التجبية فلا صلاة من دونه ، وأما الخمار فهو أحسن ستر ، وأما الأسود فنعم العبد هو».

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ). ان عظمة الله سبحانه تتجلى في القرآن تماما كما تتجلى في الكون ، فمن لم يقتنع وينتفع بالقرآن فلا يقنعه شيء. وتقدم بالحرف الواحد في الآية ١٨٥ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٤٢٩.

٤٩٣
٤٩٤

الجزء الثّلاثون

٤٩٥
٤٩٦

سورة النّبا

٤٠ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عم يتساءلون عن النبأ العظيم ١ ـ ١٦ :

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦))

اللغة :

النبأ هو الخبر الذي يهتم له. والمهاد الفراش. وأزواجا ذكرا وأنثى. والسبات بضم السين الموت ، والنوم إحدى الميتتين. والمراد بالمعاش وقت طلب العيش. والمعصرات السحائب. والثجاج المنصبّ بكثرة. وألفافا ملتفة الشجر لتقارب الأغصان.

٤٩٧

الإعراب :

عمّ كلمتان : عن وما ، وأدغمت الميم بالنون ، وحذفت الألف للفرق بين الاستفهام والخبر ، ومثلها مم وبم ولم والى م وعلى م وحتى م ، وعم متعلق بيتساءلون. وعن النبأ متعلق بمقدر كأن سائلا يسأل : عن أي شيء يتساءلون فأجابه سبحانه (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) أي يتساءلون عن النبأ العظيم. الذي صفة للنبإ. وكلا حرف ردع وزجر. وأزواجا حال.

المعنى :

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ). أصول الإسلام ثلاثة : الايمان بوحدانية الله ، ونبوة محمد ، وباليوم الآخر ، وقوم رسول الله (ص) كانوا أبعد الناس عن هذه المبادئ ، ولذا تساءلوا وقالوا مستغربين : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) ـ ٥ ص وأيضا استكثروا على محمد (ص) ان يكون نبيا لا لشيء إلا لأنه فقير من المال ، وقالوا فيما قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) ـ ١٢ هود .. وقالوا عن البعث : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) ـ ٥٣ الصافات .. هذه المبادئ أو الأصول الثلاثة هي النبأ العظيم الذي كان المشركون يسأل بعضهم بعضا عنه .. وقوله سبحانه : (هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) يشير الى انهم كانوا بين مصدق في الباطن دون الظاهر وبين مكذب ظاهرا وباطنا أو متردد.

(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ). هذا رد لانكارهم ، وتهديد على عنادهم ، وأكد سبحانه التهديد بالتكرار ، ثم بيّن الدلائل على قدرته ، وآيات حكمته ، عسى أن يؤوب الجاحدون الى رشدهم ، ويخافوا يوم الحساب والجزاء الذي أنذرهم به الرسول ، فقال عز من قائل : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً)؟ ألا ترون كيف ذلل الله الأرض تنتفعون بها ، وتفترشونها تماما كالمهد للصبي؟ (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) الجبال بالنسبة الى الأرض كالأوتاد بالنسبة الى الخيمة ، ولو لا الجبال لاضطربت الأرض ومادت بسكانها.

٤٩٨

(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) أصنافا ذكورا وإناثا لحفظ النسل وبناء المجتمع (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي موتا لأن النوم ضرب من الموت ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) ـ ٦٠ الانعام .. والنوم ضرورة للروح والجسم ، ولا تستقيم الحياة بدونه ، ولكن الإكثار منه مذموم ، قال الرسول الأعظم : إياكم وكثرة النوم فان صاحبه فقير يوم القيامة لأنه كان في الدنيا من البطالين. قال الإمام الصادق (ع) : ان كثرة النوم مذهبة للدين والدنيا (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) شبه سبحانه الليل باللباس لأنه يستر من الإنسان ما لا يحب أن يطلع عليه غريب.

(وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) وقتا للحركة والعمل من أجل الحياة ، وفي آية ثانية (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) فالنوم كالموت ، والعمل في النهار كالبعث (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً). المراد بالسبع هنا الكواكب السيارة المعروفة عند الناس ، وإلا فإن وراءها من الكواكب ما لا يبلغه الإحصاء ، ووصفها سبحانه بالشداد لأنها محكمة الصنع. وتكلمنا مفصلا عن هذا الموضوع عند تفسير الآية ١٢ من سورة الطلاق بعنوان «سبع سماوات ومن الأرض مثلهن». (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً). المراد بالسراج هنا الشمس ، وفي ضوئها تعمل الخلائق من أجل الحياة (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) وهي السحائب تعصرها الرياح ، فتهطل بالماء الغزير.

(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً) بالماء تحيا الأرض بعد موتها ، وتخرج أقوات الإنسان والحيوان وغيرهما ، ومثله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) ـ ٥٤ طه ج ٥ ص ٢٢٣ (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً). أشجار ملتفة الأغصان يدخل بعضها في بعض .. وليس من شك ان من قدر على هذه العجائب فهو على إحياء الموتى أقوى وأقدر .. وتكرر هذا المعنى في عشرات الآيات ، منها : (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ـ ٥٧ الأعراف.

يوم الفصل الآية ١٧ ـ ٣٠ :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨)

٤٩٩

وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))

اللغة :

يوم الفصل هو يوم القيامة. وميقاتا وقتا للحساب والجزاء. والمرصاد مكان الارتقاب والانتظار. والمآب المرجع. وأحقاب جمع حقب وهو أمد غير معلوم ، وقيل : انه ثمانون سنة. والحميم الماء الحار. والغسّاق القيح والصديد. وفاقا من وافق.

الإعراب :

أفواجا حال من فاعل تأتون. للطاغين متعلق بمرصاد. وقيل : مآبا بدل من مرصاد ، والظاهر انه خبر ثان لكانت. ولابثين حال من الطاغين. وأحقابا ظرف والعامل فيه «لابثين». وجزاء نصب على المصدرية أي جزيناهم جزاء. ووفاقا صفة لجزاء. وكتابا مفعول مطلق لأحصيناه لأن الكتاب بمعنى الكتابة ، وأحصينا يتضمن معنى كتبنا.

المعنى :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً). يوم الفصل هو يوم القيامة ، وفيه يفصل بين

٥٠٠