التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

ولا شيء أبلغ من تكرار اللعن على أهل البغي والعدوان (ثُمَّ نَظَرَ) بعد ان فكر وقدر رفع بصره الى عتاة قريش (ثُمَّ عَبَسَ) قطب حاجبيه (وَبَسَرَ) كلح وجهه وتغير لونه (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ). أيقن وهو يفكر أن القرآن حق لا ريب فيه ، ومع هذا أعرض عن الحق واستعلى عليه (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أخذه محمد عن السحرة والكهنة .. وتدلنا هذه الصورة التي رسمها القرآن للوليد ، وهي تفكيره وتقديره وعبوسه وبسوره ، تدلنا انه كان تائها حائرا فيما يدبر من الكذب والباطل لما يعتقده حقا وصدقا.

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) ضمير أصليه يعود الى الوليد ، وسقر من أسماء جهنم (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ). فإنها بلغت من الهول حدا يفوق التصور ، من ذلك انها (لا تُبْقِي) على أحد من المجرمين (وَلا تَذَرُ) لونا من ألوان العذاب إلا أنزلته بهم (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ). البشر هنا جمع بشرة ، وهي ظاهر جلد الإنسان ، ومعنى لواحة في الأصل مغيرة ، والمراد بها هنا النضوج لقوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) ـ ٥٦ النساء.

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ). ضمير عليها يعود الى سقر ، والتسعة عشر خزنة جهنم ، وهل المراد تسعة عشر فردا أو نوعا أو قائدا؟. الله أعلم. ويروى ان أبا جهل قال لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من هؤلاء التسعة عشر؟ فقال رجل يدعى أبو المشد : أنا أكفيكم سبعة عشر ، فاكفوني اثنين فقط. قال هذا ساخرا كما سخر أبو جهل.

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً). ليس الخزنة من نوع البشر .. انهم ملائكة شداد غلاظ ، لا يقوى عليهم إلا الواحد القهار الذي خلق كل شيء.

وكأنّ سائلا يسأل : ما هو القصد من ذكر العدد مع انه يفتح باب التضليل والسخرية للجاحدين؟ فأجاب سبحانه بأن لذكره فوائد ثلاثا :

١ ـ (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا). أجل ، ان الله يعلم ان المشركين متى سمعوا العدد ضحكوا واستهزأوا ومع هذا ذكره إظهارا للحق لأن الحق يجب أن يعلن ويقال حتى ولو كان من نتائجه سخرية الساخرين .. وبكلام آخر ان الله سبحانه يختبر عباده ، وهو أعلم بهم من أنفسهم ، يختبرهم بالسراء

٤٦١

والضراء ، وأيضا بقول الحق لتظهر أفعالهم التي يستحقون بها الثواب والعقاب ، وقد أظهر ذكر العدد المشركين على حقيقتهم من الاستخفاف بالغيب فاستحقوا غضب الله وعذابه كما أظهر المؤمنون حقيقتهم كذلك فاستحقوا مرضاة الله وثوابه ، وتأتي الاشارة اليهم .. هذا ، الى ان إعلان الرسول لكلمة الحق غير مكترث بما يلاقيه ويقاسيه من أجلها ـ دليل قاطع على انه لا يبتغي من ورائها إلا إحقاق الحق وإبطال الباطل.

٢ ـ (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ). لقد شهد علماء اليهود والنصارى آنذاك شهادة ايمان وايقان ان عدة الخزنة تسعة عشر لأنه موافق لما قرأوه في التوراة والإنجيل.

٣ ـ (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً). الوحي بالغيب يزيد الكافر جحودا وتمردا ، والمؤمنين ايمانا وتسليما. وقيل : ان المؤمنين يزدادون يقينا إذا أخبرهم أهل الكتاب بأن العدد موجود في كتبهم .. والصواب ان كل آية من آياته تعالى تزيد المؤمنين يقينا بالله ورسوله سواء اعترف أهل الكتاب أم جحدوا .. أجل ، ان اعترافهم حجة على الجاحدين.

(وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ). هذا توضيح وتأكيد لما قبله لأن عدم الارتياب هو الاستيقان وزيادة الايمان (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً). وأيضا هذا توضيح وتأكيد لقوله تعالى : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) مع التصريح بذكر صنف من الكافرين وهم المنافقون الذين في قلوبهم مرض. وتقدم مثله في الآية ٢٦ من سورة البقرة.

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ). من سلك طريق الضلال أضله الله: (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ـ ٥ الصف. (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) ـ ١٠ البقرة ومن سلك طريق الهدى هداه الله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ـ ١٧ محمد. وتقدم مثله في العديد من الآيات منها الآية ٨ من سورة فاطر (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) جنود الله لا تنحصر بالتسعة عشر من الخزنة ولا بغيرهم ، فجميع الخلائق طوع ارادته حتى الوحوش والحشرات والطيور والرياح والزلازل والطوفان وما الى ذلك مما

٤٦٢

لا يحيط به علما إلا مبدئ الخلق ومعيده (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ). ضمير هي يعود إلى سقر ، وقد خلقها سبحانه وخوّف منها لنتقي معاصي الله في السر والعلانية.

وكنا نخوض مع الخائفين الآية ٣٢ ـ ٥٦ :

(كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

اللغة :

أسفر أضاء وأشرق. والكبر بضم الكاف جمع الكبرى والمراد بها هنا العقوبة العظمى. والخوض في الشيء الدخول فيه ، والمراد هنا الإكثار من كلام لا خير فيه. والمراد باليقين هنا الموت. وحمر بضمتين جمع حمار والمراد به هنا حمار

٤٦٣

الوحش. ومستنفرة نافرة. والقسورة الأسد ، وقيل : المراد هنا الصيادون. وأهل التقوى أي أهل لأن نتقيه ونخافه.

الإعراب :

كلا حرف ردع. والقمر الواو للقسم. والليل والصبح عطف على القمر وجملة انها لا حدى الكبر جواب القسم. ونذيرا قال البيضاوي : هو تمييز أي لإحدى الكبر إنذارا ، أو حال مما دلت عليه الجملة أي كبرت منذرة. ولمن شاء بدل من للبشر بإعادة حرف الجر. والمصدر من ان يتقدم مفعول شاء أي شاء التقدم أو التأخر. الا أصحاب اليمين استثناء منقطع. ومعرضين حال من الضمير في لهم. والمصدر من أن يؤتى مفعول يريد ، وصحفا مفعول ثان ليؤتى. والضمير في أنه للقرآن المفهوم من سياق الكلام.

المعنى :

(كلا). كفوا أيها المشركون عن اللعب بالنار والاستهزاء بها وبخزنتها (وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ـ أي أضاء ـ إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ). بعد ان زجر سبحانه الجاحدين أقسم بالقمر والليل والنهار ان النار حق لا ريب فيه ، وانها العذاب الذي لا عذاب فوقه ولا مثله .. وفي القسم بهذه الكائنات إيماء الى ان ذوي البصائر يستدلون بما فيها من بديع الصنع على وجود الصانع ، وان من أوجدها من لا شيء قادر على ان يحيي العظام وهي رميم (نَذِيراً لِلْبَشَرِ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ). حذر سبحانه العباد من النار ودلّهم على طريقها ، وقال لهم : اختاروا لأنفسكم الإقدام عليها أو البعد عنها ، وقد أعذر من أنذر.

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ). هذا تعليل لقوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) والمعنى اختاروا لأنفسكم ، فأنتم مرتهنون بما أسلفتم ، ومدينون بما قدمتم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ ، وتقدم مثله في الآية ٤٤ من سورة الروم (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ). يعبّر القرآن عن المتقين بأصحاب اليمين والممنة ،

٤٦٤

وعن المجرمين بأصحاب الشمال والمشأمة. أنظر الآية ٩ و ٣٨ و ٤١ من سورة الواقعة. والمعنى ما من انسان إلا ونفسه أسيرة عمله إلا أهل التقوى والصلاح ، فإنهم قد وفوا ديونهم وفكّوا نفوسهم من الأسر بصالح الأعمال ، فجزاهم ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار.

(فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ). بعد أن تطمئن الدار بأهل الجنة يسأل بعضهم بعضا : أين المجرمون الذين كنا نلاقي منهم الأمرّين؟. فيطلعهم سبحانه على مكانهم في جهنم ليزدادوا سرورا كما في بعض الروايات ، فيسألونهم توبيخا وتقريعا : ما الذي أدى بكم الى هذا المثوى (قالوا) بلسان المقال أو الحال : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي لم ننته في الدنيا عن الفحشاء والمنكر ، وقد أخذنا هذا التفسير من الآية ٤٥ من سورة العنكبوت : ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ). كانوا يكنزون المال ولا ينفقونه في سبيل الله (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ). نستهين بكل شيء إلا باللهو واللعب ، وندخل كل مدخل إلا مداخل الحق والخير (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي الموت.

قال الشيخ عبد القادر المغربي : «سمي يوم القيامة يوم الدين لأن فيه يقع الجزاء والحساب والقضاء والقهر ، كل هذا من معاني كلمة الدين ، ويسمى أيضا يوم الدينونة أي الحشر والقضاء بين الناس ، والديّان القهّار والمجازي والقاضي ، قالوا : «كان على بن أبي طالب ديان هذه الأمة بعد نبيها أي تفرد بمزية القضاء والحذق في فصل الخصومات بعد النبي (ص)».

(فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ). لا شفيع يشفع ، ولا معذرة تنفع ، لا شيء إلا التوبة وصالح الأعمال (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ). ضمير لهم يعود الى المشركين ، والتذكرة القرآن ، والحمر هنا الحمر الوحشية ، والقسورة الأسد أو الرماة ، والمعنى ما شأن هؤلاء العتاة يفرون من الهدى والحق فرارهم من الموت؟.

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً). أي منشورة غير مطوية ، وجاء في بعض الروايات ان المشركين قالوا لرسول الله : «لن نؤمن لك حتى

٤٦٥

ينزل على كل واحد منا كتاب يقول : الى فلان بن فلان : اتبع محمدا». وسواء أصحت هذه الرواية أم لم تصح فإنها تفسر الآية بما دل عليه ظاهرها ، ويؤيد ذلك الآية ٩٣ من سورة الإسراء : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) مع العلم بأنهم لا يؤمنون ولو استجاب الله الى طلبهم كما صرحت الآية ٧ من سورة الانعام : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). والسر هو حرصهم على مصالحهم وامتيازاتهم ، وليس الحسد كما قال بعض المفسرين ، والدليل على ما قلناه قوله تعالى بلا فاصل : (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ). لأنهم لا يعملون إلا للحياة الدنيا ، ولا يركنون إلا لترفها ولذاتها ، اما الانسانية ، اما الحق والخير فكلام فارغ.

(كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) مرة ثانية يزجر سبحانه المكذبين ، ثم بيّن لهم ولغيرهم ان هذا القرآن هو موعظة من الله لعباده ، وما هو بقول ساحر ولا شاعر (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) ، أي انتفع بأحكامه ومواعظه (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ). وتسأل : ان قوله تعالى أولا : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) معناه ان الإنسان مخير له حريته وارادته ، وقوله ثانيا : (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) معناه ان الإنسان مسيّر لا حرية له ولا إرادة .. وهذا تناقض بحسب الظاهر ، فبأي شيء تدفعه؟.

الجواب : المراد بالمشيئة الأولى ان الله سبحانه يترك الإنسان وما يختار لنفسه من الايمان والكفر ، والمراد بالمشيئة الثانية ارادة الله تعالى ارغام الإنسان على الايمان وإلجاؤه اليه قهرا عنه ، وعليه يكون معنى الآيتين بمجموعهما ان الله قد ترك الخيار للإنسان في ان يؤمن أو يكفر ، كما في الآية ٢٩ من سورة الكهف : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) ولكن الجحود العنود لا يؤمن بحال إلا إذا أجبره الله على الايمان ، وألجأه اليه رغما عنه ، ولا يكون هذا أبدا لأنه مخالف لعدل الله وحكمته ، فإن عدله تعالى وسننه في خلقه أن يبين لهم طريق الخير ويرغّبهم فيه ، وطريق الشر ويحذرهم منه ، ولكل أن يختار مصيره بنفسه وإلا بطل الثواب والعقاب ، ويؤيد هذا قوله تعالى بلا فاصل : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي ان الله ، جلت عظمته ، هو أهل لأن يطاع في أوامره

٤٦٦

ونواهيه ، وان يخشى من غضبه وعذابه ، وأيضا هو أهل لأن يرحم العباد ويغفر لمن تاب وأناب.

وبلفظ أقل وأوضح ان الله سبحانه خلق الإنسان مختارا ذا عقل وارادة ، وميّزه بذلك عن الحيوان ، ولذا كلفه بالطاعة والاستقامة من دونه ، ولو شاء سبحانه لسلب الإنسان ارادة العاقل ، وجعله كالحيوان أو أحط منه.

٤٦٧

سورة القيامة

٤٠ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

نسوي بنانه الآية ١ ـ ١٩ :

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩))

اللغة :

المراد بالنفس اللوامة وخز الضمير والوجدان ، ويأتي البيان. والبنان الأصابع

٤٦٨

أو أطرافها. يفجر أمامه أي يمضي قدما في الفجور والمعاصي ولا يتوب الى الله. والمراد ببرق البصر ما يصيبه من الزيغ والكلال عند رؤية البرق اللامع. وخسف القمر ذهب نوره. لا وزر لا ملجأ. وبصيرة أي بصير والهاء للمبالغة. ومعاذير اسم جمع معذرة وأعذار جمع عذر.

الإعراب :

لا أقسم «لا» زائدة أو نافية للقسم حيث لا داعي له. انظر تفسير الآية ٧٥ من سورة الواقعة والآية ٣٨ من سورة الحاقة والآية ٤٠ من سورة المعارج. أيحسب الهمزة للإنكار. وأن أي انه والمصدر المنسبك ساد مسد المفعولين ليحسب. وبلى إيجاب بعد النفي. وقادرين حال من فاعل نجمع أي نجمعها قادرين. وليفجر منصوب بأن مضمرة والمصدر مفعول من أجله ليريد ، والمفعول به محذوف أي يريد الإنسان الحياة من أجل الفجور. وأمامه نصب على الظرفية بيفجر. وأيان ظرف زمان بمعنى متى ، وهي خبر مقدم ويوم مبتدأ مؤخر. وأين ظرف مكان خبرا للمفر. وكلا حرف ردع. ووزر اسم لا والخبر محذوف أي لا وزر في الوجود. والإنسان مبتدأ وبصيرة خبر وعلى نفسه متعلق ببصيرة.

المعنى :

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) أي اقسم به .. هذا إذا كانت اللام زائدة كما يرى أكثر المفسرين ، أو ان الأمر لا يحتاج الى قسم لأنه في غاية الوضوح .. إذا كانت اللام نافية لا زائدة كما يرى البعض. وفي الكلام حذف ـ على التقديرين ـ أي إنكم لمبعوثون خلقا جديدا (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ). للمفسرين أقوال في معنى النفس اللوامة ، والذي نراه ان الإنسان كثيرا ما يلوم ويؤنب نفسه بنفسه على ما فعل أو ترك بعد ان يتبين له ان الفعل أو الترك يضر به صحيا كأكلة منعته من أكلات ، أو صفقة بيع أو شراء جرت عليه خسارة لا يطيقها أو لا يريدها ، وما الى ذلك من الأضرار التي لا تمت الى دينه وخلقه بسبب ، وهذا

٤٦٩

المعنى غير مراد هنا من النفس اللوامة .. وقد يشعر الإنسان بالندم والحسرة على ما فرّط في جنب الحق ، وتهاون في عمل الخير ، سواء أفرّط وتهاون عن عمد وعلم بأنه آثر العاجلة على الآجلة ، أم كان ذلك عن جهل وغير قصد ، ثم تبينت له الحقائق كما هي حال الكافر في يوم القيامة ، وهذا المعنى بالذات هو المراد هنا من النفس اللوامة.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ). قال منكرو البعث : مستحيل ان تحيا العظام وهي رميم .. قالوها بأساليب شتى ، وأجابهم سبحانه بشتى الأساليب ، من ذلك الآية التي نفسرها ، ومعناها ان الله هو الذي يجمعها ويحييها ، ولا غرابة فإن قدرته تعالى لا يعجزها شيء ، وفوق ذلك هو يعيد العظام تماما كما كانت حتى أدقها وأصغرها حجما كعظام أصابع اليد ، فإنها ترجع لسابق عهدها ببشرتها ولونها وما عليها من شعرات ، بل وما فيها من خطوط وبصمات .. وذلك على الله سهل يسير لأن الذي أتقنها أول مرة ، وجعل بصماتها تختلف في كل فرد عن الآخر منذ أول انسان الى الإنسان الأخير ـ يهون عليه أن يعيد الإنسان الى سيرته الأولى بجميع صفاته وخصائصه ، لأن اختلاف خطوط الأصابع وبصماتها على هذا النحو أكثر وأقوى دلالة على قدرته تعالى من اعادة العظام والأموات.

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ). الفجور الذنوب والآثام ، وفي أمامه معنى المضي والاستمرار ، وعليه يكون المراد بالإنسان هنا المجرم الآثم ، ومجمل المعنى ان هذا الآثم يريد التمادي والمضي في فجوره وآثامه الى يومه الأخير ، ومن أجل هذا (يسأل) ساخرا في عتو وعناد : (أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ)؟. متى أوانه؟ أقريب أم بعيد؟

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ). سأل المعاند : متى يوم القيامة؟ فذكره سبحانه بأوصافه ، وهي أن يزيغ البصر ، ويذهب نور القمر ، ويصطدم بالشمس لخراب الكون وانقطاع نظامه (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) من هذه الكارثة؟ هل من مغيث؟ (كَلَّا لا وَزَرَ) لا ملجأ ولا مفر (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) فهو وحده مرجع العباد في ذاك اليوم ، والى

٤٧٠

حكمه وأمره تخضع الخلائق (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ). المراد بما قدم ما فعل من خير وشر ، وبما أخر ما ترك من الواجبات المفروضة عليه ، والمعنى إذا وقف الإنسان بين يدي خالقه لنقاش الحساب تكشفت له جميع أعماله خيرها وشرها أولها وآخرها ، وأيضا يتكشف له ما ترك من الواجبات المسئول عنها (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) على ان الإنسان يعلم ما فعل وما ترك ، ولا يحتاج الى من يخبره بذلك ، يعلم حتى لو حاول أن يتنصل ويعتذر.

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) الكلام مستأنف ، على طريقة القرآن الكريم ينتقل من موضوع الى موضوع ، سواء أوجدت المناسبة أم لم توجد ، قال الامام الصادق (ع) : ان الآية الواحدة يكون أولها في شيء ، وآخرها في شيء آخر .. والخطاب في لا تحرك للرسول الأعظم (ص). وضمير به وما بعده للقرآن ، وعلينا جمعه أي نجمع القرآن في قلبك ، وقرآنه أي قراءته ، فإذا قرأناه أي فإذا انتهينا من قراءة القرآن فاشرع أنت بالتلاوة ، ومجمل المعنى إذا تلا عليك جبريل القرآن فلا تتابعه أنت في القراءة يا محمد مخافة أن يفوتك شيء منه ، فنحن نجعله بكامله في قلبك ، فإذا انتهى جبريل من القراءة باشر أنت بالتلاوة ، وعلينا ان نعصمك من النسيان والخطأ في تلاوته وبيان أحكامه والعمل به أيضا. وتقدم مثله في الآية ١١٤ من سورة طه ج ٥ ص ٢٤٦.

بل تحبون العاجلة الآية ٢٠ ـ ٤٠ :

(كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ

٤٧١

كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

اللغة :

ناضرة بالضاد من النضرة وهي الحسن والجمال. وناظرة بالظاء من النظر وهو الرؤية بالبصر أو البصيرة. وباسرة عابسة كالحة. وفاقرة داهية تكسر عظام الظهر. والتراق جمع ترقوة وهي عظم في أعلى الصدر. والراقي من يصنع الرقية. التفّت الساق بالساق كناية عن اشتداد الأمر ، ومنه قامت الحرب على ساق. والمساق من يسوق أي حث يحث على السير. يتمطى يتبختر في مشيته تكبرا وخيلاء. أولى أحق وأجدر. وسدى مهملا. ويمنى يراق.

الإعراب :

وجوه مبتدأ وناضرة خبر أول وناظرة خبر ثان والى ربها متعلق به ، وجاز الابتداء هنا بالنكرة لوجود الفائدة. ومن راق مبتدأ وخبر. وأولى مبتدأ ولك خبر. وسدى حال من الضمير في يترك. والذكر والأنثى بدل مفصل من مجمل ، والمبدل منه الزوجان.

المعنى :

(كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ). الخطاب في تحبون لمن باع دينه بدنياه ، وآثر الفانية على الباقية مسلما كان أم غير مسلم ، والآية صريحة بذلك ولا تقبل التأويل.

٤٧٢

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ). قال الإمامية والمعتزلة : ان الله سبحانه لا تجوز عليه الرؤية البصرية في الدنيا ولا في الآخرة ، وقالوا أيضا : ان ناظرة هنا من رؤية البصيرة لا البصر ، أو من الانتظار بمعنى ان النفس تنتظر وتترقب نعمة الله وكرامته ، وأجاز الأشاعرة الرؤية البصرية عليه تعالى ، وسبق لنا الكلام عن ذلك مفصلا في ج ١ ص ١٠٧ بعنوان «رؤية الله» .. على ان البحث في هذا الموضوع وما اليه لا جدوى منه عامة ولا خاصة ، وربما أدى الى توسيع الشقة بين المسلمين ، والله سبحانه لم يكلف به أحدا ، ومهما يكن فإن المتقين يحشرون غدا في طلعة بهية مشرقة مستبشرين بما آتاهم الله من فضله (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ). أما المجرمون فعلى العكس تماما من المتقين ، يحشرون في وجوه عابسة كالحة ، وقلوب تهتز رعبا وهلعا من غضب الله وعذابه. وتقدم مثله في الآية ١٠٦ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٢٨.

(كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ). هذه الآيات تصف حال المحتضر ، ونزول الموت به الذي لا ينجو منه نبي ولا شقي ولا صغير أو كبير. وابتدأ سبحانه بكلمة «كلا» حيث تقدم قوله : (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) فناسب الردع والزجر عن ذلك ، وفي بلغت ضمير يعود الى الروح التي دل عليها سياق الكلام ، والمعنى كف أيها المجرم عن الجرائم والآثام وإيثار الفانية على الباقية ، واذكر الموت هادم اللذات وقاطع الأمنيات ، اذكر نفسك الأخير حين تبلغ الروح الحلقوم ، وتشرف على الخروج من جسدك ، ويقول أهلك بعد العجز عن علاجك : هل من راق يرقيه ، أو طبيب يداويه؟ وأنت على يقين من أمرك وانه الموت الذي لا يغني منه علاج ولا دواء.

(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ). تلتوي إحدى ساقي المحتضر على الأخرى من شدة الهول. وقيل : هذا كناية عن الأمر الشديد جريا على طريقة العرب ، فإنهم يقولون عمن دهمته شدة : شمّر لها عن ساق (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ). من مات فإلى الله منقلبه ، ولا طريق له إلا اليه.

ومن كلام للإمام علي (ع) يصف حال المتحضر : «فبينا هو يضحك الى الدنيا ، وتضحك اليه في ظل عيش غفول إذ وطئ الدهر به حسكه ، ونقضت الأيام قواه ، ونظرت اليه الحتوف عن كثب .. وفتر معلله ، وذهل ممرضه ،

٤٧٣

وتعايا أهله بصفة دائه ، وخرسوا عن جواب السائلين عنه .. وان للموت لغمرات هي أفظع من ان تستغرق بصفة أو تعتدل على قلوب أهل الدنيا». معنى تعتدل تستقيم بالإدراك.

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى). قال كثير من المفسرين : هذه الآية نزلت في أبي جهل ، وهي صورة طبق الأصل لصفاته ، لأنه ما صدق الرسول الكريم (ص) ولا صلى لله ولو بطرفة عين ، بل كذب الحق وشاغب عليه ، وأعرض عنه واستهزأ به ، وكان يذهب الى مجلس النبي (ص) ويستمع الى القرآن ، ثم يعود الى أهله متكبرا متبخترا في مشيته .. وأيا كان سبب النزول فإن ظاهر الآيات على عمومه يشمل كل من عاند الحق وتعالى عليه لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى). الغرض من هذا التكرار الزيادة في التهديد والوعيد ، والمعنى الويل والعذاب أحق بك وأجدر أيها الأثيم .. وفي كثير من التفاسير : ان رسول الله (ص) أخذ بيد أبي جهل وقال له : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى). فقال اللعين : أتهددني يا محمد؟ والله ما تستطيع أنت ولا ربك شيئا ، والله لأنا أعز أهل هذا الوادي .. وكان النبي (ص) يقول : لكل أمة فرعون ، وفرعون هذه الأمة أبو جهل .. وقد قتل يوم بدر شر قتلة.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً). لا نعرف أحدا يحسب ويظن انه غير مسؤول عن شيء بالغا ما بلغ من الجهل والضلال .. ومن ظن هذا فقد ازرى بنفسه ، وأنزلها منزلة الحشرات والحيوانات .. ولو ترك سبحانه الإنسان سدى لكان عابثا في خلقه لا عبا في أفعاله .. تعالى علوا كبيرا : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) ـ ١٦ الأنبياء.

(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) ألم يكن منكر البعث ماء يصب في الرحم (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى). تطورت النطفة خلقا بعد خلق داخل ظلمات ثلاث ، ثم خرج منها إنسانا في أحسن تقويم بعد أن كان في أسفل سافلين (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى). ضمير منه يعود الى الإنسان ، والمعنى ان الله سبحانه بعد ان جعل النطفة إنسانا كاملا أخرج منه أولادا ذكورا وإناثا (أَلَيْسَ

٤٧٤

ذلِكَ) الإله الذي جعل من الماء المهين إنسانا عجيبا في صورته وعقله ومواهبه ، وأخرج منه الذكور والإناث (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) بلى انه على كل شيء قدير .. وما من شيء في الوجود إلا وهو ينطق بقدرته ويسبح بحمده ، وليس خلق الإنسان بشيء إذا قيس بخلق الكون : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ـ ٥٧ غافر. تقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية ٥ من سورة الحج ج ٥ ص ٣١٠.

٤٧٥

سورة الإنسان

٣١ آية مكية ، وقيل غير ذلك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هل اتى على الانسان الآية ١ ـ ٦ :

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦))

اللغة :

أمشاج جمع مشيج وهو الخليط. نبتليه نختبره. هديناه السبيل بيّنا له طريق الخير والشر. واعتدنا أعددنا.

الإعراب :

هل هنا بمعنى قد عند المفسرين. والسبيل مفعول ثان لهديناه لأن المعنى عرّفناه

٤٧٦

أو أريناه. إما أداة تفصيل. وشاكرا وكفورا حالان من هاء هديناه. وعينا مفعول لفعل محذوف أي اعني عينا. وقال صاحب مجمع البيان : الباء في «بها» زائدة. وقال صاحب مغني اللبيب : الظاهر انها للإلصاق. ومعنى هذا ان شرب تتعدى بنفسها تارة مثل شربت الماء ، وبالباء أخرى مثل شربت بالماء.

المعنى :

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً). هذه الآية في صورة الاستفهام ومعناها التأكيد والتحقيق ، والغرض منها أن يفكر الإنسان ويرجع الى عقله ويسأله عن القدرة التي أتت به من العدم ، ومن أي شيء أوجدته؟ وكيف انتقلت به من طور الى طور؟ والى أين المصير؟ وفي هذا يقول الإمام علي (ع) : رحم الله امرأ عرف من أين ، وفي أين ، والى أين ، هذا هو الغرض الذي تهدف اليه الآية ، وفيما يلي نعرض بإيجاز الى ما أشارت اليه هذه الآية وما بعدها من مراحل التطور لوجود الإنسان ، أما في أين والى أين فقد سبق الكلام عنهما عند تفسير آيات الدنيا والآخرة :

١ ـ (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً). مضى دهر طويل لم يكن للإنسان فيه عين ولا أثر ، ومثله : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) ـ ٦٧ مريم ج ٥ ص ١٩٢. وقال اهل الاختصاص : ان الإنسان وجد على هذه الكرة الأرضية منذ ٥ آلاف مليون سنة .. (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ـ ٥٥ الاسراء.

٢ ـ ثم خلق سبحانه آدم أبا البشر من تراب (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) ـ ٥٩ آل عمران. وبهذا انتقل الإنسان من مرحلة بائدة الى وجود ترابي جامد لا حياة فيه ولا نمو.

٣ ـ (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ). هذه اشارة الى انتقال الإنسان من الوجود الترابي الى الوجود المائي ، وهو نطفة تتكون من عناصر شتى أشار اليها الإمام (ع) بقوله : «معجونا ـ أي الإنسان ـ بطينة الألوان

٤٧٧

المختلفة ، والأشياء المؤتلفة ، والأضداد المتعادية ، والاخلاط المتباينة». ومن آثار طينة الألوان المختلفة ما نراه في الإنسان من سواد العينين وبياض الوجه ، ومن آثار الأشياء المؤتلفة عظام الساعدين والساقين ، ومن آثار الأضداد المتعادية الحب والبغض ، والطمع والقناعة ، والتواضع والتكبر ، وصراع العقل والشهوة ، وما الى ذلك ، وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : «نبتليه» حيث يلاقي الإنسان العناء المرير من الصراع بين ضميره ونزواته.

٤ ـ (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً). هذه اشارة الى انتقال الإنسان من النطفة التي دبت فيها الحياة بمرور الأيام وهو في بطن أمه ، انتقاله من ظلمة البطن حيث لا سمع ولا بصر الى الفضاء مع السمع والبصر ، ولكن بلا عقل وإدراك تماما كالحيوان.

٥ ـ (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً). يشير سبحانه الى انتقال الإنسان من الحياة الى الحياة الانسانية أي بعد أن تم تكوينه الجسدي وحواسه الظاهرة منحه الله سبحانه العقل والإدراك ليميز بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، وأيضا منحه الحرية ليكون بعقله وحريته أهلا لتحمّل المسئولية ، واستحقاق الثواب والعقاب ـ طبعا ـ بعد البيان وإلقاء الحجة ، وعبّر سبحانه عن الهدى بالشكر لأنه طاعة لله ، وعن الضلال بالكفر لأنه معصية له.

ورغبة في زيادة التوضيح نشير الى المقارنة بين الإنسان وغيره من الكائنات الأرضية بوجه عام .. تنقسم هذه الكائنات الى جامدة لا حياة فيها ولا نمو كالتراب والصخور والمعادن ، والى كائنات حية ، والحياة فيها على ثلاثة أقسام : حياة نباتية ، ومن خصائصها الحركة والنمو بلا احساس وإدراك ، فالنبات يتحرك وينمو ، ولكنه لا يحس ويشعر ، ولا يسمع ويبصر. القسم الثاني الحياة الحيوانية ، ومن صفات الحيوان الحركة والنمو والاحساس والشعور والسمع والبصر من غير تعقل وإدراك ـ في الغالب ـ أو ادراك الجزئيات دون الكليات. القسم الثالث : الحياة الانسانية ، ومن صفات الإنسان أن يتحرك وينمو ويسمع ويبصر وفوق ذلك يدرك الجزئيات والكليات ، ويعرف الكثير عما كان ويتنبأ بالكثير عما يكون ، وبهذا الإدراك ، وهذه المعرفة امتاز عن سائر الكائنات الأرضية.

٤٧٨

ـ اذن ـ يلتقي الإنسان مع الجماد لأنه كان ترابا ، واليه يؤول ، وأيضا كل منهما جسم يحس ويلمس ، وأيضا يلتقي مع النبات لأنه كان في بطن أمه كالنبات ينمو ويتحرك ، ولكنه لا يسمع ولا يبصر ، ويلتقي الإنسان مع الحيوان لأنه كان في طفولته يحس ويشعر ويسمع ويبصر ولكنه لا يعقل تماما كالحيوان ، ثم افترق عنه بالعقل والإدراك ، ومن هنا كان أهلا لتحمّل المسئولية ، واستحقاق الثواب والعقاب من دون الحيوان.

وهنا يأتي التساؤل : من الذي نقل الإنسان من المرحلة البائدة الى الوجود الترابي الجامد ، ومنه الى النباتي النامي المتحرك ، ثم الى الحيواني السميع البصير ، ثم جعله إنسانا سويا بجسمه وعقله يخبر عن الماضي ويتنبأ بالمستقبل ، ويخلق الحضارات ، ويتحكم بكثير من الكائنات ، حتى بالحيوان السميع البصير ، ويسأل عما يفعل ، ولا يسأل غيره عن شيء؟ وهل من تفسير لهذا وغيره مما لا يبلغه الإحصاء إلا التفسير بوجود خالق قادر أعجز الأوهام أن تدركه ، والألسنة أن تصفه؟.

وبعد أن أشار سبحانه الى مسؤولية الإنسان بقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) بعد هذا ذكر ما أعد للكافرين : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً). السلاسل للأرجل ، والأغلال للأيدي ، والحريق للأجسام (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً). تطلق الكأس على زجاجة الشراب ، وعلى الشراب نفسه ، وهذا المعنى هو المراد هنا. وقال كثير من المفسرين : ان لشراب أهل الجنة رائحة طيبة كرائحة الكافور ، ونقول نحن : ان المزج بالكافور حقيقة كما دل ظاهر الآية ، وإذا كان طعم الكافور في الدنيا كريها فليس من الضروري أن يكون في الجنة كذلك ، فخمرة الدنيا توجب الصداع والأوجاع ، وخمرة الجنة (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) ـ ٤٧ الصافات. قال ابن عباس : كل ما ذكره الله في القرآن مما في الجنة فليس منه في الدنيا إلا الاسم.

(عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي تجري حيث يشاءون بدون آلة ، بل بمجرد المشيئة .. وتقدم العديد من الآيات التي وصفت ما أعده الله

٤٧٩

لعباده المتقين ، وانهم يتنعمون فيما لم تره عين ، ولم تسمعه اذن ، ولم يخطر على قلب بشر ، وان المجرمين يتعذبون فيما يفوق الوصف والتصور.

ويطعمون الطعام على حبه الآية ٧ ـ ٢٢ :

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢))

٤٨٠