التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

خبر ، وناصرا تمييز ومثله عددا. أقريب ما توعدون مبتدأ وخبر. ومن ارتضى مستثنى منقطع لأن المعنى لكن يظهر على الغيب من ارتضى. والمصدر من ليعلم متعلق بيسلك. وعددا تمييز ويجوز أن يكون في موضع المفعول المطلق لأن أحصى بمعنى عدّ.

المعنى :

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً). اختلفوا : هل هذا من قول الله أم من قول الجن؟ وأيا كان القائل فان المعنى واحد ، وهو ان جميع المعابد هي لعبادة الله وطاعته فقط ، سواء أشادها وأقامها المسلمون أم غيرهم (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً). المراد بعبد الله هنا محمد (ص) ، والهاء في يدعوه لله سبحانه ، وواو الجماعة في كادوا لأعداء الله ورسوله ، والمعنى ان رسول الله (ص) حين دعا دعوة الحق تظاهرت عليه أحزاب الضلال ، وكادوا من كثرتهم يكونون كالشعر أو الصوف الذي تلبد بعضه فوق بعض. وفي ذلك يقول الإمام علي (ع) :

«خاض رسول الله الى رضوان الله كل غمرة ، وتجرع فيه كل غصة ، وقد تلون له الأدنون ، وتألب عليه الأقصون ، وخلعت اليه العرب أعنتها ، وضربت لمحاربته بطون رواحلها ، حتى أنزلت بساحته عداوتها من أبعد الدار واسحق المزار» أي أقصاه.

والذي يدل على ان هذا المعنى هو المراد قوله تعالى بلا فاصل : (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) قل يا محمد للذين تحالفوا على حربك : ما ذا جنيت؟ هل طلبت منكم أجرا ، أو ابتغيت جاها؟ .. كلا ، وانما أعبد الله وأخلص له ، وهو الذي خلق الكون بأرضه وسمائه ، فهل هذا ذنب لا يغتفر؟ (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً). أي نفعا. وأيضا قل يا محمد للمشركين : أنا بشر مثلكم لا أدعي القدرة على التحكم في مصيركم وضركم أو نفعكم ، فالأمر كله لله وحده.

(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِن

٤٤١

اللهِ وَرِسالاتِهِ) لا مفر ولا ملجأ لرسول الله من الله إذا قصر في تأدية الرسالة التي ائتمنه عليها .. وهذه آية من عشرات الآيات التي تدل بصراحة ووضوح على ان الإسلام يرفض فكرة الواسطة بين الله وعباده ، ويضع الإنسان أمام خالقه مباشرة يخاطبه ويناجيه بما شاء ، ويتقرب اليه بفعل الخيرات من غير شفيع ووسيط.

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً). هذا تهديد ووعيد للعصاة الطغاة .. على ان الله سبحانه يجب أن يطاع حتى ولو لم يهدد ويتوعد ، فكيف إذا هدد وتوعد (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً). كان المشركون يستضعفون أنصار رسول الله (ص) ويستقلون عددهم ، ويقولون له : نحن أكثر منك مالا وأعز نفرا! .. فأجابهم سبحانه : في غد تعلمون من هو الأعز ومن هو الأذل؟ وصدق الله العظيم ، فما مضت الأيام حتى أذلهم الإسلام بعزته ، ورفع المسلمين بقدرته ، وللكافرين في الآخرة عذاب الحريق.

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً). حين سمع المشركون قوله تعالى : (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) سألوا النبي (ص) : متى يكون هذا؟ فأمر الله نبيه الكريم أن يقول لهم : علمه عند ربي ، ولا أدري أقريب هو أم بعيد ، فقوله تعالى : (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) يتلخص بكلمة «بعيد» كما في الآية ١٠٩ من سورة الأنبياء : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ).

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ). الغيب لله ولمن ائتمنه سبحانه على وحيه ، واصطفاه من عباده لرسالته ، فإنه يعلم من الغيب ما علمه الله (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا). وقال جماعة من المفسرين ، منهم الرازي والمراغي : ان غير الرسول قد يعلم الغيب ويخبر به! .. ولا يتفق هذا مع ظاهر قوله : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ). أجل ، ان ذوي الافهام يتنبئون بالمستقبل ، ويصدقون في الكثير من ظنونهم وفراستهم ، ولكنهم يستخرجونها من قرائن وأمارات تظهر لهم وتخفى على من دونهم فهما وعلما ، وأين هذا من علم الغيب الذي لا يظهره الله إلا على الرسل والأنبياء؟. (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً). الذي تبادر الى فهمنا من

٤٤٢

هذه الآية هو ان الله سبحانه يصون الأنبياء ، وهم يبلغون عنه ويؤدون رسالاته ، يصونهم ويحفظهم من كل شيء يمنعهم عن تأدية الرسالة على وجهها ، سواء أكان هذا الشيء من الداخل كالذهول والنسيان أم من الخارج كتشويش الأعداء ، وما الى ذلك من محاولاتهم. وبكلمة ان هذه الآية تثبت العصمة للأنبياء في تأدية الوحي (لِيَعْلَمَ) أي لينكشف علم الله ويظهر على حقيقته (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) لينكشف علم الله لجميع الناس ان الأنبياء قد بلغوا (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) على حقيقتها (وَأَحاطَ) الله علما (بِما لَدَيْهِمْ) أي بكل ما قاله الأنبياء لا يفوته من أقوالهم حرف واحد ، وفوق ذلك فإن الله تعالى قد أحاط علما بجميع الكائنات كبيرها وصغيرها (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) فكيف لا يحصي على رسله أقوالهم وأنفاسهم ، وهم يبلغون رسالاته الى عباده؟ .. والغرض من هذا التأكيد هو التنبيه الى ان الأنبياء معصومون عن الخطأ في تبليغ الوحي ، فلا يزيدون فيه ، ولا ينقصون منه حرفا ، ولا يبدلون حرفا بحرف (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).

٤٤٣

سورة المزّمّل

٢٠ آية مكية ، وقيل بعضها مدني.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أيها الؤمل الآية ١ ـ ٩ :

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩))

اللغة :

المزمل اسم فاعل وأصله المتزمل من تزمل إذا اشتمل بثيابه. والترتيل التمهل في التلاوة وضده الاسراع. وفي البحر المحيط ان ناشئة الليل هي ساعاته ، وأشد وطأ أكثر مشقة. وأقوم قيلا أصوب وأثبت قراءة ، وسبحا أي تصرفا وتقلبا في الأعمال كما يتقلب السابح في الماء. وتبتل اليه انقطع وأخلص اليه.

٤٤٤

الإعراب :

الليل منصوب على الظرفية. إلا قليلا استثناء متصل من الليل. نصفه عطف بيان أو بدل كل من الليل لأنه جاء بعد الاستثناء ومعناه قم نصف الليل. وضمير منه وعليه يعودان الى النصف. وأو هنا للتخيير. وطأ وقيلا تمييزان. ورب بالرفع خبر لمبتدأ مقدر أي هو رب ، وبالجر بدل من ربك.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ). هذه الآية وما بعدها من أوائل الآيات التي نزلت على الرسول الأعظم (ص) أما أول آية أول أول سورة نزلت عليه فسيأتي الحديث عنها عند تفسير (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ..) وخاطب سبحانه هنا نبيه الكريم بالمزمل لأنه كان آنذاك مشتملا بكسائه لسبب من الأسباب ، فخاطبه العلي الأعلى بالصفة التي كان عليها ملاطفة له ، ومن هذا الباب قوله النبي (ص) لعلي : قم يا أبا تراب ، وكان نائما على التراب ، وقوله لحذيفة اليماني : قم يا نومان وكان نائما.

(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً). دع التلفف يا محمد ، وأحي الليل في الصلاة والعبادة ما عدا جزءا قليلا منه تأوي فيه الى فراشك للنوم والراحة. وبكلام آخر اجعل الليل شطرين : شطرا لربك وآخر لنفسك .. وقال قائل : أراد الله بهذا ان يهيئ نبيّه الكريم للجهاد الطويل ، والصبر على متاعب الدعوة ، وما يلاقيه من أذى المشركين بسببها! .. وهذا مجرد خيال لأن الله سبحانه قد هيأ محمدا لأمانته الكبرى بفطرته ومنذ اليوم الأول لولادته.

(نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) قليلا أيضا. هذا بيان وتفسير لقوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) لأن معناه لك يا محمد أن تقوم لله تمام النصف من الليل ، أو أقل من النصف بقليل أو أكثر منه أيضا بقليل ، ويبتني هذا التفسير على ان «نصفه» بدل من الليل لا من قليل ، ويجوز أن يكون بدلا من قليل لا من الليل ، وعليه يكون المعنى لك أن تأوي الى فراشك وتستريح تمام

٤٤٥

النصف من الليل أو أقل منه أو أكثر بقليل .. ولا فرق من حيث المعنى بين الإعرابين لأن البدل هو بدل كل من كل سواء أكان من المستثنى أم من المستثنى منه. واستنتج كثير من المفسرين من كلمة «قليل» في الآية ، استنتجوا ان لا يتجاوز النقص حد الثلث ، والزيادة حد الثلثين ، وعليه يكون التخيير بين النصف والثلث والثلثين ، والآية ٢٠ من هذه السورة نصت على هذه الأوقات الثلاثة.

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً). الخطاب للرسول (ص) والمقصود العموم ، والمعنى تمهل ولا تسرع في التلاوة ، فإن الغرض من قراءة القرآن ان يتدبر القارئ معانيه ومراميه ، وينتفع بأحكامه وعظاته وبوعده ووعيده ، فيشعر بالخوف من العذاب الأليم على المعصية ، وبالأمل في الثواب الجزيل على الطاعة ، وإلا فإن مجرد حركة اللسان وإخراج الحروف مخارجها ـ غير مقصود بالذات.

شخصية الرسول الأعظم :

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً). القرآن ثقيل بكل ما في هذه الكلمة من معنى ، هو ثقيل في إعجازه وخلوده ، وفي عقيدته وشريعته ، وفي حربه ونضاله ضد الأقوياء المفسدين والطغاة المترفين ، وقال كثير من المفسرين : «القرآن ثقيل لأن تكاليفه شاقة مثل المحافظة على الصلوات الخمس ، والقيام آخر الليل لصلاة الفجر ، والوضوء بالماء البارد مرارا ، والاغتسال به أحيانا ، وكالصوم في أيام الحر ، والقيام للسحور من آخر الليل ، وكالحج ومشتقاته من الإحرام والسعي والطواف».

وليس من شك ان هذه كبيرة إلا على الخاشعين ، ولكن أكبر منها وأثقل التكليف بالجهاد ، وهو على أنواع ، وأثقل أنواعه الجهاد لتغيير القلوب والمشاعر ، والقضاء على العقائد الفاسدة والتقاليد الموروثة ، واستئصال الفساد من جذوره ، وهذا ما كلف به أبو القاسم محمد بن عبد الله : فلقد بعثه الله سبحانه ليتمم مكارم الأخلاق للبشرية كلها ، ويخرج الناس من الظلمات الى النور ، وأي تكليف أثقل وأشق من هذا التكليف؟ ومن الذي يستطيع أن يغير من أخلاق زوجته وولده بخاصة في عصر الجاهلية أفسد العصور وأكثرها فسادا وطغيانا؟ ولكن

٤٤٦

محمدا تغلب على جميع الصعاب ، وقام بالأمر على أكمل وجه ، أما السر في ذلك فيكمن في شخصية محمد وقوتها وعظمتها ، وفي صبره العجيب على تحمل الأذى في سبيل دعوته ، فكان يزداد صبرا وحلما كلما ازداد الطغاة في أذاه ، ولا يزيد على قوله : «اللهم اغفر لقومي انهم لا يعلمون ..» ان لم يكن بك غضب علي فلا أبالي.

وبهذا نجد التفسير الصحيح لقوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ١٢٤ الانعام. أجل ، الله يعلم ان شخصية محمد أقوى من العقائد والتقاليد ومن الناس مجتمعين ، ولو لا علمه بذلك لما بعث محمدا ليتمم للبشرية مكارم الأخلاق : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) ـ ٧ الطلاق. وقد أدرك الأديب العالمي الشهير «برناردشو» هذه الحقيقة حيث قال : لو كان محمد بن عبد الله في القرن العشرين لقضى على ما فيه من فساد وضلال.

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) كأن سائلا يسأل : لما ذا أمر الله نبيه الكريم أن يتعبد في شطر من الليل؟ فأجاب سبحانه : لأن قيام الإنسان من مضجعه بعد هدأة من الليل يشق كثيرا على النفس ، وأفضل الأعمال أشقها ، ولأن قلب الإنسان في الليل أصفى وأهدأ ، فتكون تلاوته للقرآن أصوب وأثبت ، وأيضا يكون أكثر تجاوبا مع ما يتلوه من الآيات. وقيل : المراد بالوطء هنا المواطأة والموافقة بين القلب واللسان (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً). الليل للعبادة والتهجد ، والنهار للعمل والسعي في طلب العيش ، وهو طويل يتسع لكل ما يحتاجه الإنسان من أعمال.

وقال الشيخ عبد القادر المغربي عند تفسير هذه الآية : «قد يعترض معترض بأن قيام الليل يضعف الجسم عن المقاومة والمكافحة. وقد أجاب سيدنا علي (ض) عن ذلك بقوله : «وكأني بقائلكم يقول : إذا كان هذا حال علي بن أبي طالب ـ أي التخشن والتهجد ـ فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان ألا وان الشجرة البرية أصلب عودا والروائح الخضرة أرق جلودا ، والنباتات البدوية أقوى وقودا وأبطأ خمودا ، وأنا ورسول الله كالصنو من الصنو ، والذراع من العضد. أي انه هو وسيدنا رسول الله (ص) من أصل واحد في العمل والطريقة

٤٤٧

وأسلوب المعيشة ، فيكون في حالته كما كان سيدنا الرسول شديد البأس قوي العزيمة ، وان كان خشن المعيشة».

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً). المراد بذكر الله هنا الدعوة اليه تعالى ، والتبتل مأخوذ من البتل ، وهو القطع مثل البت ، ويستعمل التبتل في الانصراف عن الدنيا ، ومنه البتول لقب السيدة مريم ، والمعنى بعد أن تحيي يا محمد شطرا من الليل في العبادة ، وتستريح في شطر منه ـ ادع دعوة الحق وجاهد في سبيلها لوجه الله وحده .. وكأن الله سبحانه يعلم نبيّه الكريم ان يجعل وقته ثلاثة أقسام : الأول للعبادة ، والثاني للجهاد ، والثالث للراحة كي يستمر في عبادته وجهاده (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً). الملك في المشارق والمغارب وفي السموات والأرض لله وحده لا شريك له ، وإذا كان الخلق كله لله وجب على العبد أن يعتمد على الله ، ولا يلجأ الى أحد سواه ، وفيه إيماء الى ان الخلق يدل على وجود الخالق ، وان خضوع المخلوقات بكاملها لنواميس طبيعية ثابتة يدل دلالة واضحة على ان الخالق واحد في ذاته وصفاته.

واهجرهم هجراً جميلا الآية ١٠ ـ ١٩ :

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩))

٤٤٨

اللغة :

الهجر الجميل ان لا تتعرض لخصمك بشيء ، وان تعرّض لك تجاهلت. وأنكالا جمع نكل وهو القيد الثقيل. ذا غصة يأخذ بالحلقوم فلا يدخل ولا يخرج. والكثيب الرمل المتجمع ، والمهيل هو الذي لا ثبات له فإذا تحرك أسفله سال أعلاه. والوبيل الثقيل. ومنفطر منصدع ، وفي كتب اللغة ان العرب يذكّرون السماء في بعض أقوالهم لأنها في معنى السقف.

الإعراب :

والمكذبين عطف على الياء في ذرني أو مفعول معه. وأولي النعمة صفة للمكذبين. وقليلا أي زمنا قليلا. ويوما مفعول به لتتقون على حذف مضاف أي عذاب يوم. والسماء مبتدأ ومنفطر خبر على ان يراد من السماء السقف ، وضمير به يعود الى يوم ، والباء هنا بمعنى في.

المعنى :

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً). تقوّل أعداء الله على رسوله محمد (ص) الأقاويل ، فأمره الله بالصبر وعدم التعرض لهم بشيء .. وكان ذلك في أول البعثة حيث كان المسلمون قلة ، والكفار كثرة ، حتى إذا كانت الهجرة ، وأصبح للمسلمين قوة رادعة ـ أذن الله لهم بالقتال لحماية المظلومين من الظالمين. وتقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية ١٩٩ من سورة الأعراف (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً). بعد أن قال سبحانه لنبيه الكريم : دع الذين كذبوك ووصفوك بالساحر والمجنون والشاعر ، بعد هذا قال له : دعني وهؤلاء الذين أطغاهم المال وأعماهم عن كل شيء إلا عن ترفهم وملذاتهم ، دعني وإياهم ، ولا تهتم بهم فعما قريب يحيق بهم العذاب والهلاك.

(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً). هذا ما أعده الله لهم : قيود وأغلال ، ونار وقودها الناس والحجارة ، وطعام كالشوك لا يخرج

٤٤٩

من الحلق ولا ينزل الى الجوف ، وألوان أخرى من العذاب كسرابيل من قطران ومقامع من حديد (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً). هذا وصف ليوم القيامة وأهواله ، منها اهتزاز الأرض بأهلها ، وتحويل الجبال الى تلال من رمل تنهار وتزول لأضعف الأسباب.

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ). الخطاب في إليكم للمكذبين أولي النعمة ، والمراد بالرسول والشاهد محمد (ص) كما في الآية ٤١ من سورة النساء : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) أي ان محمدا (ص) يشهد عليهم انه قد أبلغهم رسالات ربهم فكذبوا وأعرضوا (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً). ضرب سبحانه فرعون مثلا لأولي النعمة الذين كذبوا محمدا (ص) وبيّن لهم ان حالهم مع رسول الله تماما كحال قوم فرعون مع موسى ، وحذرهم ، جلت عظمته ، إذا هم أصروا على الضلال أن يصيبهم ما أصاب فرعون وقومه من الهلاك والعذاب الأليم دنيا وآخرة.

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً). ان كفرتم أي ان بقيتم على الكفر ، وضمير به يعود الى اليوم ، وضمير وعده الى الله تعالى المفهوم من سياق الكلام ، والمعنى بأية وسيلة أيها الطغاة تنجون من العذاب الأكبر في يوم تتفطر فيه السماء ، وتشيب الأطفال من أهواله ، وهذا اليوم آت لا ريب فيه لأن الله لا يخلف الميعاد. وتجدر الاشارة الى ان شيب الأطفال كناية عما يصيب المجرمين من الذعر والرعب لأن الأطفال لا يحاسبون ولا يؤاخذون.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً). «هذه» اشارة الى ما سبق من آيات الانذار والوعيد ، والتذكرة العبرة والعظة ، والمعنى ان الله سبحانه بيّن طريقي الشر والخير ، وأمر بهذا ووعد عليه بالثواب ، ونهى عن ذاك وتوعد عليه بالعقاب ، وكل امرئ وما اختار لنفسه من النعيم والجحيم.

فاقرأوا ما تيسر من القرآن الآية ٢٠ :

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ

٤٥٠

مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

اللغة :

الأدنى معناه الأقرب والمراد به هنا الأقل لأن الأقرب أقل مساحة من الأبعد. ويقدّر الليل والنهار أي يجعل لكل منهما قدرا معينا وحدا محدودا. والمراد بالتوبة هنا الترخيص وعدم الإثم.

الإعراب :

أدنى صفة لموصوف مقدر أي زمانا أدنى. ونصفه وثلثه بالنصب عطفا على أدنى. وطائفة بالرفع عطفا على ضمير تقوم. والليل مفعول به. وان لن «ان» مخففة واسمها ضمير الشأن محذوف ، ومثلها ان سيكون. وآخرون عطف على مرضى. وخيرا مفعول ثان لتجدوه. و «هو» فصل. وأجرا تمييز.

المعنى :

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ). في أول هذه السورة أمر سبحانه نبيه الكريم ومن معه أن يتعبدوا ثلثي

٤٥١

الليل أو نصفه أو ثلثه على سبيل التخيير ، فسمعوا وأطاعوا ، وكان بعض الصحابة يتعذر أو يتعسر عليهم تحديد هذه الأوقات وضبطها ، فيقومون الليل كله أو جله حتى نقل ان بعضهم تورمت أقدامهم من القيام الطويل احتياطا لدينهم وحرصا على مرضاة ربهم .. وفي الآية التي نحن بصددها أخبر سبحانه النبي بأنه ومن معه من المؤمنين قد أطاعوا الله وبلغوا الغاية من عبادته ، وانه تعالى مجازيهم أفضل الجزاء وأكمله.

(وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ). لن تحصوه أي تعجزون عن ضبط الوقت ، وهو ثلثا الليل ونصفه وثلثه ، والمراد بتاب عليكم رفع التكليف عنكم ، والمعنى ان الله سبحانه جعل لكل من الليل والنهار قدرا معينا وحدا معلوما ، ولكن الصحابة لا يعرفون الأوقات بحدودها وانما يعتمدون على الظن والاجتهاد حيث لا ساعات آنذاك تشير عقاربها الى الدقائق والثواني ، لذلك ودفعا للحرج والمشقة أعفاهم سبحانه من القيام ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ، على ان يقرءوا ما تيسر وأمكن من القرآن الكريم. ونقل صاحب مجمع البيان عن أكثر المفسرين : ان المراد بما تيسر من القرآن هنا صلاة الليل ، وسواء أكان المراد التلاوة أم صلاة الليل فإن الأمر هنا للندب لا للوجوب ، وتجدر الاشارة الى ان صلاة الليل إحدى عشرة ركعة ، ووقتها بعد نصف الليل.

(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ). هذه حكمة ثانية للتخفيف ورفع التكليف بالقيام ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ، وهي ان من العباد مرضى يتعذر عليهم ان يقضوا ساعات من الليل في الصلاة والتهجد ، ومنهم أيضا المسافرون لطلب العيش وغيره من الأمور الضرورية ، والسفر يستدعي النوم والراحة في الليل وإلا تعذر العمل في النهار على المسافر ، ومنهم أيضا الغازون في سبيل الله ، فإذا أحيوا الليل أو شطرا منه في العبادة ضعفوا عن القتال في النهار ، فخفف سبحانه عن الكل لأجل هؤلاء الأصناف الثلاثة. وتومئ الآية الى أمرين هامين : الأول ان الحكمة من نفي التكليف عن العموم لا يفترض فيها عجز جميع الإفراد عن الطاعة والامتثال ، بل يكفي عجز البعض ، وان قدر البعض الآخر. الأمر الثاني ان العمل من أجل الرزق الحلال جهاد في سبيل الله تماما كالجهاد في قتال أعدائه وأعداء الانسانية.

٤٥٢

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ). كرر سبحانه هذا الأمر لتكرار سببه فقد كان السبب الأول عدم ضبط الوقت وإحصائه ، أما السبب الثاني فهو المرض والسفر والغزو (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي الصلوات الخمس ، وهي لا تسقط بحال ، لا في سفر ولا حضر ، ولا في جهاد أو مرض ، ويؤديها كل حسب طاقته (وَآتُوا الزَّكاةَ) المفروضة في أموالكم (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً). وأيضا أنفقوا تطوعا في وجوه البر والإحسان ، فإن هذا الإنفاق يعود عليكم أضعافا مضاعفة. وقد تكرر هذا الأمر للمرة السابعة حتى الآن ، وجاءت المرة الأولى في الآية ٢٤٥ من سورة البقرة (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً). ان الخير لا يختص ببذل المال ؛ فكل ما فيه صلاح للناس ولعامل الخير فهو خير سواء أكان قولا أم فعلا .. ومن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). من قصّر وفرّط في جنب الله فقد فتح له باب التوبة ، ومستحيل ان يغلق دونه باب المغفرة.

٤٥٣

سورة المدّثّر

٥٦ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ا اها المدثر الآية ١ ـ ١٠ :

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠))

اللغة :

المدثر مثل المزمل وهو الذي اشتمل بثيابه. وكل محرّم فهو رجز وقيل : المراد به هنا الأصنام. والمن ذكر النعمة بما يكدرها. ومعنى تستكثر تطلب الكثير والمراد هنا لا تستكثر ما أعطيت وبذلت. والناقور اسم الآلة التي ينقر بها أو عليها.

الإعراب :

ربك مفعول مقدم لكبّر ، ومثله ثيابك والرجز ، ودخلت الفاء على الفعل لأن الكلام يتضمن معنى الشرط فكأنه قال : مهما يكن فكبّر الخ. وجملة تستكثر

٤٥٤

حال أي لا تمنن مستكثرا. فذلك مبتدأ ، ويومئذ بدل منه ، ويوم عسير خبر ، وعلى الكافرين متعلق بعسير ، وغير يسير خبر ثان مؤكد للخبر الأول.

المعنى :

في هذه الآيات اشارة الى وظيفة محمد (ص) كرسول من الحق الى الخلق ، وفيها أيضا اشارة الى ان جميع الناس سواء أمام الله تعالى ، وإليك التوضيح :

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) هو الرسول الأعظم (ص) وقد خاطبه الجليل بهذا الوصف لأنه كان آنذاك مشتملا بثيابه لسبب من الأسباب كما قلنا عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ). (قُمْ فَأَنْذِرْ). قد يكون للكلمة الواحدة معنى لغوي واحد ، ولكن هذا المعنى الواحد كثيرا ما يختلف باختلاف المتكلم والمخاطب ـ مثلا ـ كلمة «انذر» معناها في قواميس اللغة حذّر وخوّف ، فإذا قال قائل : رأيت شخصا يضع لغما في الطريق ، وقلت له : «انذر» فان معنى قولك هذا : أعلن وخوّف المارة من اللغم ، وإذا قلت : أنذر لفقيه في قرية فالمعنى علّم أهلها أحكام الدين وخوّفهم من مخالفتها ، أما قول العلي الأعلى لنبيه الكريم : (قُمْ فَأَنْذِرْ) فان معناه: تحدّ الطغاة وتلقّ منهم الضربات .. معناه جابه بكلمة الحق الأقوياء وأهل الكبر والخيلاء ، وقل لهم : أنتم الضالون المفسدون ، وستعلمون ما يحلّ بكم من الخزي والهوان إذا لم تؤوبوا الى رشدكم ، وترجعوا عن غيكم ، قل لهم هذا وأكثر ، واصبر على ما يصيبك منهم وسبح بحمد ربك واشكره أيضا.

وإذا علمنا ان محمدا (ص) تحدى قريشا ، وهم في أعلى ذروة من القوة ونفوذ الكلمة ، وهو أعزل من كل شيء إلا من الايمان والإخلاص ، إذا علمنا ذلك تبين لنا ما أصابه منهم .. لقد وصفوه بالساحر والكاذب والشاعر بل والمجنون أيضا .. وأغروا به الأطفال يسخرون منه ويرشقونه بالحجارة ، وأغروا به النساء يضعن الشوك في طريقه ، والسفهاء يلقون عليه القذارات والنجاسات حتى ان أحدهم نزع عمامة الرسول عن رأسه ، وشدها في عنقه. وفوق ذلك كله قررت قريش نبذ محمد وذويه وسجنهم في الشّعب وحرمانهم من كل علاقة مع المجتمع ، ولما

٤٥٥

أصر النبي (ص) على دعوته بالرغم مما لاقاه وقاساه حزبت قريش ضده الأحزاب ، وجيشت الجيوش لحربه .. فتحمل وثبت وصبر واحتسب تلبية لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ).

وبهذا يتضح ان وظيفة الرسول هي الانذار مع الصبر على متاعبه وأهواله ، هذا هو الأمر الأول ، أما الثاني أعني المساواة بين الناس أجمعين فيدل عليها قوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ). إذا قلت لإنسان عادي : كبّر الله ، فهمنا من قولك هذا انك ترغب اليه أن يقول : «الله أكبر» تماما كما لو قلت له : صلّ على محمد ، أما قوله تعالى لنبيه الكريم : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) بعد قوله : (قُمْ فَأَنْذِرْ) فإن له معنى آخر أكبر وأضخم ، وهو اصرخ يا محمد في وجوه الجبابرة المتكبرين المتعالين ، اصرخ بهم : ان العزة لله جميعا ، وانه وحده الكبير المتعالي ، وان القوة والعظمة والسلطان للواحد الأحد لا شريك له من آلهتكم ولا منكم ولا من غيركم ، وان الناس كلهم متساوون في العبودية لله ، لا فرق بين اسود وابيض ، ولا بين غني وفقير .. واستجاب محمد لدعوة ربه ، وقال للطغاة فيما قال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ـ ٩٨ الأنبياء.

(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ). وهذا أيضا من متعلقات الدعوة والانذار .. وليس من شك ان نظافة البدن والثياب من الايمان ، ولكن المعنى المراد هنا أعم وأشمل ، وهو ان يدعو الرسول الأعظم (ص) الى طهارة الظاهر من الأقذار ، والباطن من القبائح والرذائل كالغدر والخيانة ، والرياء والنفاق ، والجهل والغرور ، وما الى ذلك من الذنوب والآثام .. وانما عبّر سبحانه عن ذلك بتطهير الثياب جريا على عادة العرب ، فيقولون : فلان طاهر الذيل والأردان ، وهم يريدون طهارة القلب والذات.

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ). قيل : المراد بالرجز كل قبيح ، وعليه يكون تفسيرا وتوضيحا لقوله : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) على ما ذكرناه من التفسير. وقيل : المراد به الشرك وعبادة الأوثان (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) لك يا محمد حسنات كثيرة ، وفضل كبير على الناس ، ولكن لا تمنن بذلك على أحد ، فتقدّر في نفسك انك أعطيت كثيرا ، وتقول : أنا فعلت وتفضلت ، فإن كل ما تبذله وتضحي به

٤٥٦

هو فضل عليك من الله ، وكرامة خصك بها ، وأي فضل وكرامة أعظم من التوفيق الى عمل الخير؟. وسبق أكثر من مرة ان النهي يصح حتى ولو لم يكن المخاطب به عازما على فعل المنهيّ عنه ، بالاضافة الى ان أوامر الله ونواهيه تعم جميع عباده حتى المتقين .. وفي نهج البلاغة : لا يستقيم قضاء الحوائج إلا بثلاث : باستصغارها لتعظم ، وباستكتامها لتظهر ، وبتعجيلها لتهنؤ.

(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ). وما أمر الله نبيّه الكريم بشيء من تكاليف الدعوة والنبوة إلا وقرن ذلك بالأمر بالصبر ـ على ما قيل ـ لعلمه تعالى بأنه سيلاقي الأذى المرير من المتمردين والمعاندين (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) فإذا نقر في الناقور مثل : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) ١٠١ المؤمنون ج ٥ ص ٣٩٠ ، وذلك اشارة الى يوم القيامة المفهوم من سياق الكلام .. بعد أن أمر سبحانه نبيه الكريم بالصبر على أذى المكذبين هددهم بيوم القيامة ، وهو عليهم شديد وعسير لا يسر معه ولا بعده. وسبق الكلام في عشرات الآيات عما أعد الله في هذا اليوم للمجرمين من طعام وشراب ، وأليم العذاب.

ذرني ومن خلقت وحيداً الآية ١١ ـ ٣١ :

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ

٤٥٧

عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١))

اللغة :

مالا ممدودا أي كثيرا. وبنين شهودا حضورا معه غير غائبين عنه. ومهدت له بسطت له في الجاه والمال. وسأرهقه صعودا كناية عن شدة العذاب. وقدّر هيأ ما يريده. وقتل لعن. وبسر ظهرت الكراهية على وجهه. ويوتر يروى وينقل. سأصليه سقر أدخله في جهنم. وعدتهم عددهم. والفتنة الاختبار والامتحان. والذين في قلوبهم مرض المنافقون.

الإعراب :

وحيدا حال من مفعول ذرني. والمصدر من ان أزيد مجرور بفي مقدرة أي يطمع في الزيادة. وصعودا مفعول ثان لأسرهقه. وكيف في موضع المفعول المطلق لأن المعنى أيّ تقدير قدّر. وان هذا «ان» نافية. وما أدراك مبتدأ وخبر. ومثله ما سقر. وعليها خبر مقدم وتسعة عشر مبتدأ مؤخر وبني على الفتح لمكان التركيب ، والتمييز محذوف أي تسعة عشر ملكا أو صنفا من الملائكة.

٤٥٨

ملخص القصة :

كان الوليد بن المغيرة المخزومي من عتاة قريش وصناديدهم ، وأكثرهم أموالا وأولادا ، وفي ذات يوم سمع رسول الله يقرأ آيا من القرآن الكريم ، فقال : ما هذا من كلام الانس ولا من كلام الجن ، والله ان له لحلاوة ، وان عليه لطلاوة ، وان أعلاه لمثمر ، وان أسفله لمغدق ، وانه يعلو ولا يعلى عليه ، فخافت قريش ان ينتشر قول الوليد فيؤمن الناس بمحمد (ص) فألحوا على الوليد ان ينال من مقام الرسول ، فأجابهم : وما ذا أقول عنه؟ هل أقول : مجنون؟. ومن يصدق؟. أم أقول : كاهن وما تكهن قط ، أم أقول : شاعر ، وما نطق بالشعر ، أم كاذب وما جرب عليه أحد شيئا من الكذب .. ثم فكّر مليا فلاح له أن يصف الرسول بالساحر ، وانه أخذ القرآن عن الكهنة والسحرة.

المعنى :

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) الخطاب لرسول الله (ص) والمراد به تهديد الوليد بن المغيرة بإجماع المفسرين ، والمعنى دعني وإياه يا محمد ولا تهتم بشأنه ، ولا بما يفتري به عليك فأنا وحدي أتولى حربه والانتقام منه بأنواع العذاب والتنكيل .. لقد غضب سبحانه على الوليد ، وبلغ هذا الغضب أشده لأنه طغى وبغى ، وكفر بنعمة الله ، وأعرض عن الحق واستعلى عليه وعلى أهله .. وكل من عاند الحق فهو مقصود بهذا الغضب والتهديد تماما كالوليد بن المغيرة لأن الوصف يشعر بالعلّية كما يقول أهل الأصول ، ولأن سبب النزول لا يخصص عموم الآية ولا يتصرف في دلالتها كما أشرنا أكثر من مرة.

ويومئ قوله تعالى : (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) الى ان السبب الموجب والدافع على البغي والعدوان هو الثراء وكثرة المال ، والى هذه الحقيقة يشير العديد من الآيات ، منها قوله تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) ـ ١١ المزمل وقوله حكاية عن طاغ يفخر على أحد الصالحين : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً) ـ ٣٤ الكهف وكفى شاهدا على ذلك قوله ، عز من قائل : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى

٤٥٩

أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) ـ ٦ العلق .. واستنادا الى هذه الآيات وما اليها يمكن أن يقال ـ ولو من وجهة صناعية ـ : ان الأصل في كل غني أن يكون طاغيا حتى يثبت العكس ، وفي نهج البلاغة : ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلبا لما عند الله ، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالا على الله. وفي الحديث : طوبى لمن أسلم وكان عيشه كفافا .. اللهم ارزق محمدا وآل محمد ومن أحب محمدا وآل محمد العفاف والكفاف.

(وَبَنِينَ شُهُوداً) حاضرين معه يتسابقون الى خدمته (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً). يسرت له سبيل الجاه والمال ، يتقلب في النعم كيف يشاء. وبهذه المناسبة نشير الى ان نعم الدنيا لا تدل على مرضاة الله ، قال سبحانه : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ). والى ما جاء في الحديث «لو كانت الدنيا تعدل عند الله من الخير جناح بعوضة ما سقى فيها الكافر شربة ماء». وقد عرضت على رسول الله خير خلق الله فأبى أن يقبلها. أما الوليد بن المغيرة شر خلق الله فقد كثر ماله وامتد (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي الله في ماله ليزداد بغيا وعدوانا .. ومستحيل أن يجتمع الصلاح والطمع في قلب واحد ، قال رسول الله (ص) : الطمع مفتاح كل معصية ، ورأس كل خطيئة ، وسبب لإحباط كل حسنة.

(كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً). اخسأ أيها الجحود الخؤون .. أتطمع في الله وأنت تعاند الحق ، وتصد عنه ، وتعلن الحرب على أهله! .. قال الرواة : ما نزلت هذه الآية حتى تبدل عز الوليد الى ذل ، وغناه الى فقر ، ومات على أسوأ حال .. وصدق من قال : ما قال الناس لشيء طوبى له إلا وقد خبأ له الدهر يوم سوء .. هذا في الدنيا ، أما جزاؤه في الآخرة فترسمه هذه الآية (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً). ويأتي الصعود بمعنى الشدة والمشقة ، وأيضا يأتي بمعنى الارتقاء والزيادة ، وسياق الكلام يدل على المعنيين معا ، وان العذاب يزداد كما وكيفا آنا بعد آن.

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ). فكر في أمر القرآن ، وأجال فيه رأيه ، وهيأ له قول الزور والافتراء ، وهو ان القرآن سحر يؤثر كما يأتي (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ). لعن ثم لعن في تفكيره وتقديره وأقواله وأفعاله وجميع مقاصده ..

٤٦٠