التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

الى مجلسك جماعات جماعات ، ويأخذون عندك أماكنهم يمينا وشمالا ، يسمعون ما تتلوه من آيات الله ، ثم يرددونه فيما بينهم ساخرين من البعث والحساب ، ويقول بعضهم لبعض : ان صح هذا فنحن أولى الناس بالله وجنته ، لأنّا أكثر أموالا وأعز نفرا من محمد وصحابته .. فأجابهم سبحانه بقوله عز من قائل : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ)؟ لا نصيب لكم ايها المكذبون من جنة الله وثوابه ، ولا شيء لكم عنده إلا سوء المصير .. وكيف تطمعون في الجنة وأنتم تكفرون بها ، وتسخرون من الرسول الذي دعاكم الى العمل لها؟. أتحسبون ان الأموال والأوثان تقربكم من الله زلفى؟.

(كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ). وهم يعلمون علم اليقين ان الله خلقهم من ماء مهين : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) ـ ٦ الطارق وإذا كان أصل الإنسان ، كل انسان ، واحدا فكيف يكون بعضهم أعظم من بعض عند الله ، وأولى به من غيره؟. كلا ، لا فضل لأبيض على اسود ، ولا لغني على فقير إلا بالتقوى والعمل الصالح .. وقوله تعالى : (مِمَّا يَعْلَمُونَ) يتضمن التعريض بالمكذبين بالبعث والرد على قولهم بأن من يصير عظاما وترابا لا تعيده أية قوة الى الحياة ، ووجه الرد ان الذي خلق الإنسان من ماء مهين قادر على ان يحيي العظام وهي رميم.

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ). المراد بالمشارق والمغارب مشارق الكواكب ومغاربها ، أو مشارق الشمس ومغاربها ، وهي تظهر للأعين وتختفي عنها بسبب دوران الأرض أمامها ، وضمير منهم يعود الى الذين كفروا ، والمعنى ان الله سبحانه يقسم ـ على القول ان «لا» زائدة ـ يقسم ، جلت عظمته ، انه قادر على ان يهلك المكذبين ، ويستخلف مكانهم قوما آخرين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وإذا أراد ذلك فلا راد لمشيئته. وتقدم مثله في الآية ٣٨ من سورة محمد.

(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ). هذا تهديد ووعيد ، ومعناه دعهم يا محمد وشأنهم .. فليسخروا ويهزءوا ما شاء لهم العبث والباطل فإن نهايتهم الى النار وبئس القرار. وتقدم مثله بالحرف في الآية ٨٣

٤٢١

من سورة الزخرف ج ٥ ص ٥٦٢ (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ). يسرعون من قبورهم الى نقاش الحساب كما كانوا يسرعون بالأمس من بيوتهم الى الأصنام والأوثان ، ولكن شتان ما بين اليومين ، فقد كانوا في يوم الدنيا يسرعون الى آلهتهم آمنين مطمئنين ، أما في يوم القيامة فيسرعون الى الله ، والأرض تهتز تحت أقدامهم من هول المطلع (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) قد استولى عليهم الذل والهوان : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) ٢٨ يونس ج ٤ ص ١٥٢ (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) ومنه يسخرون وبه يستعجلون.

٤٢٢

سورة نوح

٢٨ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

دعوت قومي ليلاً ونهاراً الآية ١ ـ ١٢ :

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢))

٤٢٣

اللغة :

استغشوا ثيابهم يقال : استغشى الثوب إذا تغطى به ، ويجعل كناية عن أخفى الحالات. والمراد بالسماء هنا المطر. والمدرار الغزير.

الإعراب :

ان انذر ، وان اعبدوا يجوز أن تكون «ان» مفسرة بمعنى أي ويجوز ان تكون مصدرية على تقدير الباء أي بأن انذر وبأن اعبدوا. ليلا ونهارا ظرفان لدعوت. وفرارا تمييز محول عن فاعل لأن معناه زاد نفورهم مثل طاب محمد نفسا أي طابت نفس محمد ، وقيل : مفعول ثان ليزدهم. وجهارا مفعول مطلق لدعوتهم لأن الدعوة كانت بالقول ، والجهر من صفاته ، فيكون مثل قعدت القرفصاء ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال أي مجاهرا. ومدرارا حال وصاحبه السماء.

المعنى :

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). فسّر الشيخ عبد القادر المغربي جزء تبارك ، ونقل فيه عن كتب الأوائل ، وهو يفسر هذه الآيات : ان تاريخ عبادة الأوثان يبتدئ بزمن «انوش بن شيث بن آدم» وان الشرك في زمن نوح قد بلغ الغاية ، فاختاره الله سبحانه لنضال هذا الشرك ، وإنذار المشركين بالهلاك إن أصروا على الضلال .. واسم نوح الراحة ، وبينه وبين آدم جده الأكبر ١٠٥٦ سنة ، ولما حدث الطوفان كان عمره ٦٠٠ سنة ، وعاش بعده ٣٥٠ عاما ، وأدركه حفيده ابراهيم الخليل ، وعاش معه أكثر من نصف قرن ، وبعد أن نجا نوح من الطوفان انصرف الى الأرض يحرثها ويغرسها. هذا ملخص ما نقله المغربي عن كتب الأوائل ، والله أعلم بخلقه من أنفسهم.

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ). أرسل

٤٢٤

سبحانه نوحا الى قومه بأمور ثلاثة : الأول أن يتركوا عبادة الأصنام ويعبدوا إلها واحدا. الثاني أن يفعلوا الخير ويتقوا الشر. الثالث أن يطيعوه فيما يأمر وينهى ، وضمن لهم ـ إن استجابوا ـ أمرين : الأول (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) التي اقترفتموها قبل الايمان لأن الايمان يجبّ ما قبله. أما الذنوب التي ارتكبوها بعد الايمان فإنهم مسؤولون عنها ، وهذا ما تومئ اليه كلمة «من ذنوبكم».

الأمر الثاني (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). إذا آمنتم بالله وحده يدرأ عنكم عذاب الاستئصال بالطوفان ونحوه ، ويمهلكم حتى تستوفوا العمر الطبيعي ، ويؤجل حساب من يذنب منكم الى يوم القيامة ، وإلا عجّل لكم عذاب الاستئصال في الدنيا (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ان الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً). ليلا ونهارا أي دائما : دعاهم نوح دعوة الحق ، وألح عليهم حتى (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) ـ ٣٢ هود ولكنه مضى في دعوته ، ومضوا بدورهم في العناد والنفور (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) جعلوا أصابعهم في آذانهم أي سدوا مسامعهم عن دعوة الحق ، واستغشوا ثيابهم تغطوا بها كيلا يروا وجه الداعي ، وقد يكون هذا حقيقة ، ويجوز أن يكون تعبيرا مجازيا عن عنادهم وإصرارهم على الضلال ، وأيا كان فإن المعنى واحد ، وهو النفور من دعوة الحق تعاظما على نوح الذي يرونه دونهم منزلة ومقاما فكيف يكونون في عداد أتباعه ، كما جاء في الآية ٢٧ من سورة هود : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ).

(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً). قال جماعة من المفسرين : ان قول نوح أولا : دعوت قومي ليلا ونهارا ، وقوله ثانيا : دعوتهم جهارا ، وقوله ثالثا : أعلنت وأسررت ـ يدل على ان دعوته كانت على ثلاث مراتب : ابتدأها في السر ، ثم ثنى بالجهر ، ثم ثلّث بالإعلان والسر معا. وليس هذا بعيدا عن ظاهر الآيات ، ولكن يجوز أن يكون مراد

٤٢٥

نوح من هذا العطف والتكرار انه دعاهم بكل أسلوب واستمر على ذلك بلا ملل وفتور ، ولكن على غير جدوى.

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً). إذا آمنوا بالله وحده وأخلصوا له بالقول والفعل فإن نوحا يضمن لهم على الله سبحانه ان يكفّر عنهم ما سلف من سيئاتهم ، وان يغنيهم من فضله بالأموال والأولاد ، فتفيض السماء عليهم بخيراتها ، والأرض بثمراتها ، ويجمع لهم بين الصحة والأمان والرخاء والهناء مع تكثير النسل.

الايمان والرخاء :

وتسأل : ان هذه الآيات ربطت بين الايمان والتقوى من جهة ، وبين الرخاء والهناء من جهة مع ان العيان يثبت العكس .. وأوضح مثال على ذلك الولايات المتحدة الامريكية ، فإنها أطغى دولة في الكرة الأرضية ، وأكثرها فسادا واعتداء حتى اتخذت لنفسها مبدأ لا تحيد عنه ، وهو من لم يكن معها ـ أي عبدا لها ـ فهو عدوها اللدود .. وكلنا يعلم ما كان لهذه السياسة من ويلات ، فما من دم يسفك أو فساد يظهر في شرق الأرض وغربها إلا وللولايات المتحدة يد فيه بشكل أو بآخر .. وما من خائن لأمته ووطنه إلا ويجد في أحضانها مقاما كريما ، وعرينا أمينا .. ومع هذا فهي أقوى وأغنى دول العالم على الإطلاق ، وكفى شاهدا على ذلك ان دخلها يبلغ ٤٣ من مجموع الانتاج العالمي مع العلم بأن نسبة سكانها عددا الى نسبة سكان العالم هي ٦ فما هو وجه الجمع بين هذا وبين ظاهر الآيات التي ربطت الرخاء بالايمان؟

الجواب أولا : ان هذه الآيات نزلت في قوم نوح خاصة ، ولا دلالة لها على العموم والشمول كي يتعدى بها الى غيرهم .. هذا ، الى ان الله شأنا خاصا في معاملة الأمم التي ينذرها بلسان أنبيائه مباشرة.

ثانيا : ان ثراء الولايات المتحدة من الشيطان لا من الرحمن لأن معظمه من السلب والنهب.

٤٢٦

ثالثا : ان هذه الآيات ربطت بين سعادة الدنيا والآخرة معا وبين الايمان لا بينه وبين سعادة الدنيا وحدها : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ـ ١٧٨ آل عمران.

رابعا : وما يدريك ان الولايات المتحدة وغيرها من الدول الباغية هي في أمن وأمان؟ وأي عاقل يأمن الغوائل؟. وهل دامت الامبراطورية الرومانية بل والبريطانية وغيرها وغيرها حتى تدوم غطرسة الولايات المتحدة ومفاسدها؟ وهذه بشائر الانهيار يتبع بعضها بعضا ، فمن موجات التحرر في العالم كله الى ثورة الثلاثين مليون زنجي في قلب الولايات المتحدة ، الى التضخم المالي الذي تداويه بالحروب المحدودة ، ومن سيطرة الصناعة العسكرية الى تلاعب الصهاينة بالحكام والشيوخ والنواب ، ومن امبراطورية المخابرات الى القتل والخطف وإشعال الحريق الى الحشيش والمخدرات ، ومن الصراع والعداء مع أكثر أهل القارات الخمس الى رئيس يحمي ويحامي عن اللصوص وسفاكي الدماء .. الى ما لا نهاية .. ومستحيل أن يدوم أمن ورخاء لهذا النسيج الغريب العجيب سواء أكان من صنع الولايات المتحدة أم صنع غيرها.

ومن غريب الصدف اني في اليوم الذي كنت أكتب فيه هذه الكلمات قرأت في جريدة الجمهورية المصرية تاريخ ٠ ـ ـ ١٩٧٠ نقلا عن صحف نيويورك : ان خمسة آلاف من الرجال والشبان المصابين بداء الأبنة قد تظاهروا عبر شوراع نيويورك يحملون اللافتات مطالبين الحكومة بإصدار قانون يبيح لهم ممارسة الشذوذ الجنسي اسوة بما يباح للنساء من الزواج وبيع أجسامهن بالسوق العمومية .. وفي مجلة النيوزويك تاريخ ٢ ـ ٠ ـ ١٩٧٠ ان القس «توري باري» الشهير باللواط يدعو الى انتشار اللواط والمساحقة لأنهما لون من الحب الإلهي ، وقد انتشرت دعوته هذه ، وأصبح لها اتباع كثيرون في أنحاء الولايات المتحدة. وليس من شك ان هؤلاء المأبونين سيخرج منهم شواذ يتولون القيادة وسياسة السلم والحرب ، وأمور العلم والعمل في المجتمع الامريكي .. وعندئذ يصبح كيان الولايات المتحدة أوهى من بيت العنكبوت.

٤٢٧

خلقكم اطواراً الآية ١٣ ـ ٢٠ :

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠))

اللغة :

يستعمل الرجاء في الأمل وفي الخوف ، وهذا المعنى هو المراد من «لا ترجون». والوقار في الإنسان الرزانة ، وفي جانب الله العظمة. وأطوار جمع طور ، ومن معانيه الحال والصنف. وطباقا أي يشبه بعضها بعضا في الإتقان. وفجاج جمع فج وهو الانفراج والسعة.

الإعراب :

ما لكم مبتدأ وخبر. ووقارا مفعول لا ترجون أي لا تخافون عظمة الله. وأطوارا مفعول خلقكم. وطباقا صفة لسماوات أي مطابقة. ونباتا مفعول مطلق بمعنى إنباتا. وسبلا مفعول تسلكوا ، وفجاجا صفة.

المعنى :

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً). يستنكر نوح على قومه ويعجب كيف لا يهابون الله وعظمته ، وهم يعلمون انه خلقهم من تراب ثم من

٤٢٨

نطفة ثم من علقة .. وهكذا ينتقل بهم من حال الى حال حتى الهرم والشيخوخة ، وأيضا وجّه أنظارهم الى قدرة الله في خلق السموات والكواكب السيارة ، وقال لهم : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً)؟. تأمّلوا وتدبروا خلق السموات وإتقانها ونظامها الذي يدل على وجود الصانع الحكيم. وتقدم مثله في الآية ٣ من سورة الملك ، أما السموات السبع فقد تكلمنا عنها بضرب من التوسع عند تفسير الآية ١٢ من سورة الطلاق ، فقرة «سبع سماوات ومن الأرض مثلهن». وتجدر الاشارة الى ان قول نوح لقومه : (سَبْعَ سَماواتٍ) يدل على ان قومه كانوا يؤمنون بذلك ، وان الاعتقاد بالسماوات السبع كان في الزمن القديم.

(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً). فيهن أي في مجموعهن .. وصف سبحانه الشمس بالسراج والقمر بالنور لأن السراج مصدر النور ، والشمس أيضا مصدر لنور القمر ، وأيضا نورها أعم وأنفع من نوره. وتقدم مثله في الآية ٥ من سورة يونس ج ٤ ص ١٣٥ (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً). هذا هو ابن آدم من الأرض خلق ، وعليها يحيا واليها يعود. وتقدم مثله في الآية ٥٥ من سورة طه ج ٥ ص ٢٢٣ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً). جعل سبحانه في الأرض طرقا واسعة ليسلكها الناس الى مقاصدهم. وتقدم مثله في الآية ٣٢ من سورة الأنبياء ج ٥ ص ٢٧٤.

ولا تذرون وداً وسواعاً الآية ٢١ ـ ٢٨ :

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ

٤٢٩

يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

اللغة :

الكبار بضم الكاف وتشديد الباء أي الكبير جدا. وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أسماء أصنام. والديّار نازل الدار ، والمراد به هنا أحد أي لا تبقي أحدا منهم. وتبارا هلاكا.

الإعراب :

كثيرا أي خلقا كثيرا. ومما خطيئاتهم «ما» زائدة أي من خطيئاتهم. ومؤمنا حال من فاعل دخل.

المعنى :

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً). هذا تقرير من نوح أو شكوى يرفعها الى سيده ، ويقول فيها : إلهي وسيدي أرسلتني لهداية عبادك المشركين ، وقد أديت الرسالة على وجهها ، ولكنهم أعرضوا عني وعنها ، واستجابوا للرؤساء الذين أطغاهم ما هم فيه من الأموال والأولاد ، وكلما ازدادوا مالا وأولادا ازدادوا كفرا وعنادا ونشطوا في محاربة الحق وأهله حرصا على جاههم ومكاسبهم (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً). واو الجماعة في مكروا يعود الى (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) لأن معنى «من» الجماعة وهم

٤٣٠

الرؤساء الطغاة ، والمراد بمكرهم الأساليب التي كانوا يتبعونها لصد المستضعفين عن الايمان ، ومنها قول أولئك الطغاة للناس : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) لا تتركوا عبادة الأوثان الى عبادة إله واحد ، وكان لهم أصنام كثيرة ، وأهمها مكانة وشأنا خمسة ، ولذا خصوها بالذكر ، وقالوا : (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً). وكان نوح يشدد النكير على عبادة هذه الخمسة لأنها أكبر الآلهة.

وقال جماعة من المفسرين : ان هذه الخمسة ظلت تعبد في الجاهلية الى عهد الرسول الأعظم (ص) ، وان ودا كان لقبيلة كلب ، وسواعا لهذيل ، ويغوث لغطيف ، ويعوق لهمدان ، ونسرا لحمير .. وهناك أصنام أخر لأقوام آخرين كاللات والعزى وهبل ومناة (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً). واو الجماعة في ضلوا يعود الى القادة الطغاة ، والمراد ب «ضلالا» الهلاك مثل قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) ـ ٤٧ القمر. أما زيادة الهلاك فالمراد به القسوة والشدة ، والمعنى أنزل اللهم عذابك الأليم الشديد بقادة الفساد لأنهم ضلوا وأضلوا الكثير من عبادك.

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً). هذه الآية معترضة في كلام نوح ودعائه ، ولكنها تمت اليه بسبب ، ومعناها ان قوم نوح أصروا على الكفر والضلال فأخذهم سبحانه بالطوفان ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ، ولا ينجيهم منه أحد (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً). أي لا تبق منهم أحدا ، وما دعا نوح عليهم بالاستئصال إلا بعد ان نزلت عليه هذه الآية : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) ـ ٣٦ هود. ونقل الرازي عن المبرد : ان ديارا لا تستعمل إلا في النفي ، يقال : ما في الدار ديار ، ولا يقال : فيها ديار.

(إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً). يدل هذا على ان الكفر والفجور قد طغى على مجتمع قوم نوح بحيث لا ينشأ فيه إلا الكافر الفاجر .. ومعلوم ان نفس الطفل كالمرآة ينعكس عليها كل ما يحيط بها .. حتى الكبير يختلف سلوكه بين مجتمع وبين آخر فكيف الصغار! وروي ان الرجل من قوم نوح كان ينطلق بابنه اليه ، ويقول له : احذر هذا ـ مشيرا الى نوح ـ

٤٣١

فإنه كذاب ، وان أبي أوصاني بمثل هذه الوصية ، فيموت الكبير ، وينشأ على ذلك الصغير.

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ). بعد ان دعا على الكافرين سأل الله المغفرة له ولوالديه ، ولمن آمن أهله وأولاده ، وهم الذين عناهم بقوله : (لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً). وأيضا دعا لكل مؤمن ومؤمنة من لدن آدم الى يوم يبعثون (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً). لمن آمن الرحمة والغفران ، ولمن كفر الهلاك والنيران.

وجاء في قاموس الكتاب المقدس : «أظهرت الحفريات الأثرية ان الفيضانات واقع ملموس .. وان أقدم قصة للطوفان كتبت غالبا فيما بين ١٨٩٤ و ١٥٩٥ قبل الميلاد». أنظر ج ٤ من «التفسير الكاشف» ص ٢٣٧ فقرة «الطوفان ثابت عند الأمم».

وهنا سؤال يفرض نفسه : هل الطوفان الذي دلت عليه الحفريات وجاء في الأسفار القديمة هو طوفان نوح أو غيره؟.

الجواب : أيا كان فليكن ، فإن غير طوفان نوح لا يمنع من وجوده كما ان طوفان نوح لا يستدعي ان لا يوجد سواه ، وفي كل عصر يحدث طوفان أو أكثر في طرف من أطراف الأرض .. وطوفان نوح قد بكون عاما ، وقد يكون خاصا بجزء من أجزاء الأرض ، ولا نص صريح في كتاب الله على أحدهما.

٤٣٢

سورة الجنّ

٢٨ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

استمع نفر من الجن الآية ١ ـ ٧ :

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧))

اللغة :

جد الله سبحانه علوه وعظمته. والشطط الافراط وتجاوز الحد. ويعوذون يستجيرون. ورهقا من أرهقه إذا كلفه ما لا يطيق.

٤٣٣

الإعراب :

المصدر من انه استمع نائب فاعل لأوحي ، وضمير انه للشأن. وعجبا صفة للقرآن بمعنى عجيب. وشططا صفة لمفعول مطلق مقدر أي قولا شططا ، ومثله كذبا. وان لن «ان» مخففة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، والمصدر المنسبك سادّ مسدّ مفعولين. ورهقا مفعول ثان لزادوهم.

المعنى :

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً). الجن حقيقة واقعة ، لا يشك فيها مؤمن لأن آي الذكر الحكيم أثبتت ذلك بما لا يقبل الشك والتأويل ، وبماذا نؤول قوله تعالى في الآية ١٣ من سورة سبأ : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) والآية ٣٩ من سورة النمل : (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ) والآية ٣٠ من سورة الأحقاف : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى). وقوله تعالى في سورتنا هذه : (سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ..)(لَمَسْنَا السَّماءَ ..»مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) بماذا نؤول هذه الآيات؟ ومثلها كثير ، أنؤولها بالمكروبات أو بالراديوم أو بالإلكترونات وما اليها من المصطلحات؟.

وتقول : العلم الحديث لم يثبت الجن. ونقول : وهل في العلم الحديث ما ينفيه؟ وهل أحصى العلم الحديث عدد الكائنات ما ظهر منها وما بطن؟ وأي عالم قديم أو جديد يعرف حقيقة نفسه وعقله ، بل وجسمه المحسوس الملموس ، يعرفه بما فيه من عروق وخطوط وشعر؟ ومن جهل نفسه فهو بغيره أجهل بخاصة عالم الغيب. لقد اثبت الوحي الجن والملائكة فوجب التصديق ، ومن نفى بلسان القطع والجزم فعليه الإثبات من العقل أو الوحي تماما كما لو أثبت.

وبعد ، فقد أوحى سبحانه الى نبيه الكريم ان جماعة من الجن استمعوا اليه ، وهو يتلو كتاب الله ففهموه وتدبروا معانيه ، فدهشوا من عظمته مبنى ومعنى ، وقال بعضهم لبعض : ألا تعجبون لهذا القرآن؟ وهل سمعتم بمثيل له من قبل؟

٤٣٤

حقا انه لمعجز وانه (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) فما من خير إلا ويرشد اليه ويأمر به مرغّبا ومبشرا ، وما من شر إلا ويدل عليه وينهى عنه منذرا ومحذرا.

١ ـ (فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) لأنه قادر على كل شيء ، ومن قدر على كل شيء فهو في غنى عن الشركاء ، ولو استعان بغيره لكان عاجزا ، والعاجز لا يكون إلها.

٢ ـ (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً). جل سبحانه عن اتخاذ الأبناء ، وطهر عن ملامسة النساء ، كيف وهو الغني الحميد؟.

٣ ـ (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً). المراد بالسفيه هنا الجاهل ، والشطط تجاوز الحد ، وفيه إيماء الى انه كان في الجن طائفة تدين بالتثليث : الرب وابنه وزوجته ، وما من شك ان هذا سفه وسرف.

٤ ـ (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً). كان قادة الدين من الجن يلقنون أتباعهم الأضاليل والأباطيل ، من ذلك ان لله صاحبة وولدا فيصدق الأتباع السذج ثقة بالكبار ، وإيمانا بأن ما من أحد يجترئ على الله ويصفه بغير صفاته ، ولما سمعوا القرآن أيقنوا ان رؤساءهم يفترون على الله الكذب ويصفونه بما لا يليق بجلاله وعظمته.

ومكان العظمة في هذه الآيات ان الجن سمعوا حكمة القرآن للمرة الأولى فوعوها واتعظوا بها .. ونحن نسمع القرآن ونقرأه مرات ومرات ، ولا يخلو منه بيت من بيوت المسلمين ، ثم لا ننتفع بمواعظه ، ولا نهتدي برشده .. فهل الجن ـ يا ترى ـ أصفى نفسا ، أو أتم عقلا ، أو لا شيء في حياتهم من المغريات والشهوات؟.

٥ ـ (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً). اختلفوا في تفسير هذه الآية ، والأقرب الى الافهام ـ خلافا لجمهور المفسرين ـ ان المراد برجال من الانس البسطاء السذج ، والمراد برجال من الجن المشعوذون الذين يموهون على البسطاء بأن لهم صلات بالجن يستحضرونهم متى شاءوا ، ويسخرونهم فيما أرادوا ، وعليه يكون المعنى ان السذج كانوا يستجيرون بالمشعوذين ليدفعوا عنهم غائلة الجن ، أو يتنبئوا بما يحدث لهم ، أو يقربوا بعيدا ، أو يبعدّوا قريبا. أما قوله : (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) فمعناه ان المشعوذين كانوا يطلبون من البسطاء من الأجر ما يرهقونهم به.

٤٣٥

٦ ـ (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً). الضمير في ظنوا للكفرة من الانس ، والخطاب في ظننتم من مؤمني الجن للكفرة من قومهم ، والمعنى ان مؤمني الجن قالوا للكفار من قومهم : لكم في الانس أمثال لا يؤمنون بالبعث والحساب.

وانا لمسنا السماء الآية ٨ ـ ١٧ :

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧))

اللغة :

الأصل في اللمس أن يكون باليد ، ويستعمل كثيرا في الطلب ، تقول : التمس لنا كذا أي اطلبه. والحرس لجماعة الحراس ، ويوصف بالمفرد كما في الآية باعتبار

٤٣٦

لفظه ، وبالجمع باعتبار معناه. والشهب جمع شهاب ، وهو الشعلة من النار ، ويطلق أيضا على النور الممتد في السماء كشعلة من نار. ورصدا أي راصدا ورقيبا. ورشدا هداية وصلاحا. وطرائق جمع طريقة مؤنث طريق ، والمراد بالطريقة هنا شريعة الحق والعدل. وقدد جمع قدة ، وهي القطعة من الشيء ، والمراد بطرائق قددا هنا مذاهب شتى. والبخس النقص. والرهق الظلم. والمراد بالقاسطين هنا العادلون عن سبيل الحق. وتحروا قصدوا والتمسوا. وغدقا أي كثيرا. وصعدا شاقا وشديدا.

الإعراب :

حرسا تمييز. ومقاعد اسم مكان مفعول فيه. أشرّ مبتدأ وجملة أريد خبر. ومنا متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف ، ودون ذلك صفة للمبتدإ أي ومنا قوم كائنون دون ذلك. وان لن نعجز أي انه لن نعجز ومثله ان لو استقاموا. وهربا مصدر في موضع الحال أي هاربين. ويسلكه عذابا منصوب بنزع الخافض أي في عذاب مثل (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) ـ ٤٢ المدثر.

المعنى :

١ ـ (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً). عند تفسير الآية السابقة ، وهي (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ) عند تفسير هذه الآية قلنا : ان الكهان والمشعوذين كانوا يزعمون ان الجن ينقلون اليهم أخبار السماء .. والآية التي نفسرها ترد على هذا الزعم وتبطله بلسان الجن أنفسهم واعترافهم صراحة بأنهم لا يعلمون الغيب ، وانهم لا يستطيعون الوصول الى السماء لاستراق السمع لأنها محصنة بالحفظة والشهب المحرقة .. وسواء أكان هذا حقيقة أم كناية عن جهل الجن بالغيب فإن الغرض الأول من ذلك هو التنبيه الى ان الكهان والمشعوذين يفترون الكذب على الله وعلى الجن لأن علم الغيب لله وحده : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) ـ ١٧٩ آل عمران: (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) ـ ٥٩ الأنعام. وتقدم مثله في الآية ١٨ من سورة

٤٣٧

الحجر ج ٤ ص ٤٧٠ والآية ٧ من سورة الصافات ج ٦ ص ٣٣٠ والآية ٥ من سورة الملك.

٢ ـ (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً).

تدل هذه الآية بظاهرها ان الجن صعدوا الى مكان ما في السماء قبل الرسول الأعظم (ص) وانهم كانوا يسمعون صوتا أو كلاما ، ثم منعوا من ذلك في عهد محمد (ص). وليس معنى هذا ان الجن كانوا قبل محمد (ص) يطلعون على أخبار الغيب من السماء .. كلا ، وانما المراد انهم سمعوا شيئا في السماء ، وليس من الضروري أن يكون هذا الشيء غيبا ، بل من المستحيل أن يكون من نوع الغيب لأن الغيب لله وحده بنص القرآن الذي لا يقبل التأويل .. وبكلام آخر : ان صعود الجن أو غيرهم الى السماء لا يستدعي علمهم بالغيب ، فالسماء هي موطن الملائكة المقربين ، ومع هذا (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) ـ ٣٢ البقرة وهل في الأرض والسماء أعظم وأكرم على الله من محمد ، ومع هذا أعلن على الأجيال : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) ـ ١٨٨ الأعراف. وإذا كان أشرف خلق الله لا يعلم الغيب حتى فيما يعود الى نفسه فكيف يعرف الجن ما يحدث في مستقبل الناس من خير أو شر؟.

٣ ـ (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً). هذا من قول الجن ، ومعناه كيف يظن الحمقى ان عندنا علم الغيب وما يحدث لهم في المستقبل من خير أو شر ، وانّا نوحي بذلك الى الكهان ، كيف يظن بنا هذا الظن ، ونحن لا نعلم ما ذا قدر الله لأحد من أهل الأرض ولا لأنفسنا أيضا.

٤ ـ (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً). يحكي الجن عن أنفسهم ان منهم الصالح والطالح ، وانهم متفرقون الى طوائف ومذاهب تماما كالإنس.

٥ ـ (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً). بعد ان سمع الجن القرآن آمنوا بالله وأيقنوا بأنه ، جلت عظمته ، لا يعجزه من طلب ، ولا يفوته من هرب.

٦ ـ (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً).

المراد بالهدى القرآن ، وبالبخس النقص ، وبالرهق الظلم ، والمعنى ان الجن سمعوا

٤٣٨

القرآن فآمنوا به جملة وتفصيلا ، وهم على يقين من عدل الله ، وان من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما.

٧ ـ (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ). هذا تقسيم ثان للجن بعد الإسلام ، أما التقسيم الأول في الآية ١١ الى صالحين ودون ذلك فهو بالنظر الى ما قبل الإسلام ، ولا فرق إلا في التسمية ، فقد أسموا الطيبين قبل الإسلام بالصالحين ، وأسموهم بعد الإسلام بالمسلمين (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً). طلب الذين أسلموا الرشد فأصابوه ، واختاروا لأنفسهم الخير فسعدوا به.

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً). قال الشيخ إسماعيل حقي في تفسيره روح البيان : «القاسط هو الجائر العادل عن الحق ، والمقسط هو العادل الى الحق ، يقال : قسط إذا جار ، وأقسط إذا عدل ، وقد غلب اسم القاسط على فرقة معاوية ، ومنه الحديث خطابا لعلي بن أبي طالب : «تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين» فالناكثون أصحاب عائشة الذين نكثوا البيعة ، والقاسطون أصحاب معاوية لأنهم جاروا حين حاربوا الإمام الحق ، والمارقون الخوارج لأنهم خرجوا من دين الله ، واستحلوا قتال خليفة رسول الله (ص)».

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً). هذا كلام مستأنف منه تعالى ، والضمير في استقاموا يعود الى الخلائق من الجن والسن ، والمراد بالطريقة شريعة الحق والعدل ، وماء غدقا كناية عن الرخاء والسعة في الرزق لأن الماء أصل الحياة ، والفتنة الاختبار ، والمعنى ان الناس لو آمنوا بالله حقا ، وعملوا بشريعة العدل ، وابتعدوا عن الجور والعدوان ـ لعاشوا في سعة ورخاء وأمن وأمان (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي في الرخاء ، واللام في لنفتنهم للعاقبة مثل لدوا للموت ، والمعنى ان الله سبحانه يغدق النعم عليهم ، ثم ينظر : فإن ازدادوا ايمانا به وإخلاصا له كانوا من السعداء دنيا وآخرة ، وان غيّروا وبدّلوا فهو لهم بالمرصاد (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي شديدا ، وكل من ذكّر بالحق فأعرض عنه عذبه الله عذابا أليما.

٤٣٩

ان المساجد لله الآية ١٨ ـ ٢٨ :

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

اللغة :

المراد بالمساجد جميع المعابد ، وبعبد الله محمد (ص). ولبد جمع لبدة بكسر اللام ، وهي اسم لكل شعر أو صوف متلبد. وملتحدا ملاذا وملجأ.

الإعراب :

قال صاحب البحر المحيط : بلاغا مستثنى منقطع لأن المعنى لكن ان بلغت رحمني ربي ، وقال أيضا : ورسالاته عطف على الله. ومن مبتدأ وأضعف

٤٤٠