التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

اللغة :

الحاقة مؤنث الحاق من حق يحق بكسر الحاء إذا وجب وثبت ، والحاقة بالأصل صفة لكل حادثة ثابتة ، ثم خرجت عن الوصف وصارت علما على يوم القيامة ، ومثلها الواقعة والقارعة أي تقرع القلوب بالأهوال. وما أدراك أي شيء أعلمك. والمراد بالطاغية هنا صيحة العذاب لقوله تعالى : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) ـ ٦٧ هود. فإن المراد بهم ثمود قوم صالح. بريح صرصر أي باردة مهلكة. وعاتية بالغة العنف. حسوما أي تتابعت الأيام الثمانية بلا فاصل واستمرت حتى استأصلتهم. وأعجاز النخل أصولها. وخاوية فارغة. من باقية من بقية. والمؤتفكات المنقلبات وهي قرى قوم لوط. بالخاطئة أي بالأعمال الخاطئة. ورابية زائدة. والمراد بالجارية هنا السفينة. وتذكرة موعظة. وتعيها تفهمها وتحفظها. وواعية فاهمة حافظة. حملت الأرض والجبال زاحت عن أماكنها. والدك الدق والهدم. واهية متداعية. والأرجاء النواحي.

الإعراب :

الحاقة مبتدأ أول و «ما» استفهام مبتدأ ثان ، الحاقة خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول والرابط اعادة المبتدأ بلفظه. وما أدراك «ما» مبتدأ وأدراك فعل ماض وفاعله مستتر يعود الى «ما» والجملة من الفعل والفاعل خبر. ما الحاقة أيضا مبتدأ وخبر. وحسوما صفة لأيام لأن المعنى حاسمات أي متتابعات. وصرعى حال من القوم لأن الرؤية هنا بصرية. ومن باقية «من» زائدة وباقية مفعول ترى. فيومئذ وقعت الواقعة جواب فإذا نفخ و «يوم» متعلق بوقعت. يومئذ واهية «يوم» متعلق بواهية. يومئذ ثمانية «يوم» متعلق بيحمل. يومئذ تعرضون «يوم» متعلق بتعرضون ، وقيل بدل من فيومئذ وقعت.

المعنى :

(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ). المراد بالحاقة القيامة ، وسميت بذلك لأنها واجبة الوقوع ،

٤٠١

أما الاستفهام عنها مع تكرار اللفظ فالقصد منه التخويف من شدائدها وأهوالها ، وانها فوق ما تسمعه الآذان ، وتراه العيون ، وتتصوره العقول .. ومن أجل هذا أعاد سبحانه الاستفهام فقال : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ). أي شيء أعلمك بها أيها الإنسان؟. وهل من أحد يحيط علما بكنهها حتى يخبرك عنه؟ .. وكل ما نعرفه من أحوال القيامة ان للمتقين جنة فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وللمجرمين (نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ٣٦ فاطر.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ). ثمود قوم صالح وعاد قوم هود ، والقارعة من أسماء القيامة مثل الحاقة (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) وهي صيحة العذاب ، وطغيانها كناية عن شاتها مثل طغى الماء وهاج البحر (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ). باردة مهلكة بالغة العنف (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً). دامت هذه المدة دون انقطاع ولا فتور (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى) مطروحين على الأرض (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ). وكل ميت هو جماد خاو مفزع ولو كان على ورد وحرير (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) كلا ، ولا ناعية. وتقدم الكلام عن عاد وثمود مفصلا انظر تفسير الآية ٥ ـ ٧٩ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٤٦ وما بعدها والآية ٠ ـ ٦٨ من سورة هود ج ٤ ص ٢٣٧ والآية ٢٣ ـ ١٥٩ ج ٥ ص ٥٠٧.

(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً). المراد بالمؤتفكات المنقلبات ، وهي قرى قوم لوط ، ويتلخص المعنى بأن فرعون وقومه وأمثالهم من الأولين ، ومنهم قوم لوط ـ كذبوا أنبياء الله ورسله ، وفعلوا أفعالا خاطئة ، فأخذهم الله لذنوبهم بعقوبة تجاوزت في هولها وشدتها حد التصور. وما أكثر السور والآيات التي تحدثت عن فرعون وقومه ، منها الآية ٠٣ ـ ١٣٧ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٧٠. وأيضا سبق الكلام عن لوط وقومه أكثر من مرة ، من ذلك الآية ٠ ـ ٨٤ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٥٢.

(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ). حملناكم على حذف مضاف أي حملنا

٤٠٢

آباءكم المؤمنين في سفينة نوح. وأيضا تقدم الكلام عن نوح وسفينته مرات ، منها في الآية ٩ ـ ٦٤ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٤٤ (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً). الهاء تعود الى قصة نوح وسفينته ، وكررها سبحانه في كتابه لتكون عظة وعبرة. وأيضا ليعرف كل انسان انه لو لا سفينة نوح لما كان لأبناء آدم وحواء بعد الطوفان عين ولا أثر .. وقد أبعد أبو العلاء حين دعا على أمنا حواء بالعقم لأن الوجود من حيث هو نعمة كما قال أرسطو وتلاميذه.

(وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ). جاء في أكثر التفاسير القديمة والحديثة ، ومنها تفسير الرازي والشيخ المراغي : ان رسول الله (ص) قال لعلي بن أبي طالب : «اني دعوت الله أن يجعلها اذنك يا علي». قال الامام : فما سمعت شيئا فنسيته ، وما كان لي أن انسى.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ). النفخ في الصور كناية عن الصيحة للخروج من القبور. قال تعالى : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) ـ ٤٢ ق. وعند تفسير الآية ٦٨ من سورة الزمر ج ٦ ص ٤٣٢ ذكرنا آراء المفسرين في الصور وان النفخات ثلاث : نفخة الفزع ونفخة الموت ونفخة البعث والخروج (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً). هذا كناية عن خراب الأرض وما عليها يوم القيامة ، قال تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) ـ ١٤ المزمل أي تلا من الرمل يذهب مع الرياح (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ). حين ينفخ في الصور وتدك الأرض والجبال تقوم القيامة ، ويعلم المكذبون انها حق لا ريب فيه (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ). يصيب كواكب السماء من الخراب ما يصيب الأرض : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) ـ ٤٨ إبراهيم أي وتبدل أيضا السموات غير السموات (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها). المراد بالملك الملائكة لأن الألف واللام للجنس ، والهاء تعود الى السماء ، والمعنى ان الملائكة بعد خراب الأرض والسماء ينتشرون هنا وهناك في أنحاء الفضاء.

٤٠٣

حملة العرش :

(وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ). هل لله عرش يجلس عليه كالسلاطين والأمراء؟. قال أهل الظاهر الحرفيون : نعم ؛ له سمع وبصر ويد ورجل وغير ذلك من الأعضاء .. ونسب الى أبي عامر القرشي القول بأن الله مثلي ومثلك في هيئته وصورته! .. وهذا مستحيل لأنه لو كان جسما لافتقر الى مكان ، والخالق لا يفتقر الى شيء ، واليه يفتقر كل شيء ، وأيضا يلزم على هذا أن يكون المكان قديما ، ولا قديم إلا الله .. الى آخر ما ذكره الفلاسفة وعلماء الكلام.

وقال آخرون : نحن لا نعلم العرش ، ولا كيف يحمل ، وما كلفنا الله بمعرفة ذلك .. وهذا القول هو الأحوط على حد تعبير الفقهاء الأتقياء.

وعند ما تأملنا في معنى هذه الآية أوحى لنا السياق بأن المراد من العرش الملك والاستيلاء ، كما سبقت الاشارة الى ذلك عند تفسير الآية ٥٤ من سورة الأعراف. وان المراد بحملة العرش الكائنات المخلوقة والمملوكة لله ، ويشعر بذلك ما جاء في إحدى خطب نهج البلاغة : «ولو لا إقرار السماوات لله بالربوبية وإذعانهن بالطواعية لما جعلهن موضعا لعرشه» أي لو لا تصرفه تعالى بالسماوات كيف يشاء لما كانت ملكا له ، فالتصرف المطلق دليل الملك ، كما ان الملك يستدعي هذا التصرف .. وعليه يكون قوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ) الخ أشبه بالجواب عن سؤال من يسأل : إذا زالت السموات والأرض فإن معنى هذا ان ملك الله قد زال ، ولم يبق من شيء يسيطر عليه؟.

فأجاب سبحانه : كلا .. ان هناك مخلوقا آخر غير السموات والأرض ، وهو عبارة عن ثمانية أكوان ، وهي في أمان وسلام من أي خلل ، يتصرف بها سبحانه كيف يشاء بعد تدمير الأرض والسماء .. نقول هذا كفكرة استوحيناها من كلمة «يحمل» ، وهذه الفكرة ـ كما ترى ـ ممكنة في ذاتها ، ولكن مثلها لا يثبت إلا بالنص الصريح الذي يفيد القطع والجزم ، ولو كانت من باب الحلال والحرام لكان لظن الفقيه وجه وجيه إذا استند الى ظاهر الكتاب أو السنة.

٤٠٤

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) تعرض الخلائق على الله يوم القيامة للحساب وتوفية كل عامل جزاء عمله ، وهو سبحانه أعلم بمن اهتدى ومن ضل عن سبيله.

يا ليتها كانت الفاضية الآية ١٩ ـ ٣٧ :

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧))

اللغة :

هاؤم خذوا أو تعالوا. راضية أي يرضاها صاحبها. وعالية أي قدرا. ودانية قريبة سهلة التناول. الأيام الخالية الأيام الماضية في الدنيا. و «القاضية» على حياته فيرتاح. هلك عني سلطانيه ذهب عني كل ما أملك. صلّوه ألقوه في

٤٠٥

النار يصلاها. ذرعها طولها. لا يحض لا يحث. وحميم قريب أو صديق. وغسلين صديد يسيل من أجسام أهل النار.

الإعراب :

فأما من «أما» حرف تفصيل. وهاؤم اسم فعل أمر بمعنى خذوا ، وقال صاحب البحر المحيط : تقول : هاؤم للرجال ، وهاؤن للنسوة ، وهاء للرجل ، وهاء للمرأة ، وهاؤما للرجلين أو المرأتين. وكتابيه الأصل كتابي والهاء للسكت ، وهو مفعول اقرأوا ومفعول هاؤم محذوف أي هاؤم كتابيه ، وهو من باب حذف من الأول لدلالة الثاني عليه. وحسابيه الأصل حسابي مثل كتابيه ، وهو مفعول ملاق. وفي عيشة متعلق بمحذوف خبرا لهو. وقطوفها دانية مبتدأ وخبر والجملة في محل جر صفة لجنة. وهنيئا صفة لمفعول مطلق محذوف أي شرابا وأكلا هنيئا. ويا ليتني «يا» لمجرد التنبيه ، ومثلها يا ليتها ، وهاء ليتها تعود الى الموتة الأولى أو الى الحال التي هو فيها. والجحيم منصوب بصلوه أي أوردوه النار. وذرعها مبتدأ وسبعون صفة وذراعا تمييز وجملة فاسلكوه خبر وفي سلسلة متعلق باسلكوه.

المعنى :

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ). قال سبحانه في الآية السابقة : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ). وبين سبحانه هنا الفرق في يوم العرض بين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وليس المراد باليمين هنا الجمود و «الرجعية» ولا بالشمال «اليسار والتقدمية» وانما المراد باليمين اليمن والخير ، وبالشمال الشؤم والشر جريا على عادة العرب واصطلاحاتهم ، فإنهم يعبرون باليمين عن الخير ، وبالشمال عن الشر ، وقد كانوا يستخيرون بزجر الطير ، فإن طار عن اليمين تفاءلوا ، وان طار عن الشمال تشاءموا. وعليه يكون المعنى ان السعداء في يوم القيامة يعلنون على رؤوس الأشهاد عن أنفسهم وأعمالهم بفخر واعتزاز ، ويقولون لمن يرون أو لمن يسأل عن حالهم :

٤٠٦

خذ ، واقرأ صحيفة أعمالنا ، فقد كنا نؤمن بالله واليوم الآخر ، وندخر له الذخائر.

(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي مرضية ، وهي التي لا ينغصها شيء (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ). هذا تفصيل بعد إجمال ، فكأن سائلا يسأل : ما هي هذه العيشة المرضية؟ فأجاب سبحانه بأنها جنة عالية الشأن والقدر ، ثمارها قريبة وسهلة التناول ، وتقول الملائكة لأهل الجنة : كلوا من ثمار جنة الخلد هنيئا واشربوا من شرابها مريئا جزاء ما عملتم من الخيرات والمبرات. وأفرد سبحانه ضمير هو في عيشة بالنظر الى لفظ «من» وجمع في كلوا واشربوا بالنظر الى معناها ، وهو الجمع.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) وهو الذي كذب بالحساب والجزاء وطغى وبغى على العباد ، وعبّر سبحانه عنه بمن أخذ كتابه بالشمال للاشارة الى ان أعماله عادت عليه بالشؤم والوبال كما أسلفنا (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ). تمنى لو انه لم يخلق أو لم يبعث من قبره ، تمنى ذلك بعد أن أيقن بعذاب لا دافع له من مال ولا جاه ولا حجة لو كان يملك شيئا من ذلك .. وانها امنية الخاسر اليائس ، ولا شيء وراءها إلا قوله تعالى لملائكة العذاب : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ). اجمعوا يديه الى عنقه بالقيد (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ). ألقوا به في نار جهنم (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ). والسبعون ذراعا كناية عن هول السلسلة وعذابها الأليم ، وان وقعها على المجرم يقاس بأعماله وما ترك من سوء الآثار في المجتمع. ومن الطريف قول بعض المفسرين : «اختلفوا في هذا الذراع. فقيل : انه الذراع المعروف. وقيل : هو ذراع الملك ـ أي ملك العذاب ـ وقيل : كل ذراع سبعون باعا ، وكل باع ما بين مكة والكوفة». ولا أدري : هل كان هذا القائل من مكة أم من الكوفة؟.

(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ). هذا بيان للسبب الموجب لعذابه الأليم ، وانه الكفر والطغيان وعدم الحث على البذل ، وفيه إيماء الى ان على الأغنياء أن يبذلوا ويحثوا على البذل (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ)

٤٠٧

لا قريب ينفع ولا أحد يشفع (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ). صديد يسيل من أجسام أهل النار (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) الذين كانوا في الدنيا يأكلون أقوات المستضعفين وأعمال الكادحين.

ما تبصرون وما لا تبصرون الآية ٣٨ ـ ٥٢ :

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

اللغة :

كاهن أي يتكهن ويتنبأ بالغيب كذبا وزورا. والتقوّل الافتراء. والأقاويل الأكاذيب. والوتين نياط القلب إذا قطع مات صاحبه. وحاجزين مانعين.

الإعراب :

فلا أقسم قال أكثر المفسرين ان «لا» زائدة. وضمير انه يعود الى القرآن

٤٠٨

المفهوم من سياق الكلام. وقليلا ما تؤمنون قليلا صفة لمفعول مطلق محذوف و «ما» زائدة أي تؤمنون ايمانا قليلا ، ومثله قليلا ما تذكّرون. وتنزيل خبر لمبتدأ محذوف أي هو تنزيل. فما منكم «ما» نافية تعمل عمل ليس ، وأحد اسمها و «من» زائدة اعرابا ، وحاجزين خبرها على معنى أحد لأنه في معنى الجماعة ، ومنكم متعلق بمحذوف حالا من حاجزين ، ولو تأخر «منكم» لتعلق بصفة لحاجزين.

المعنى :

(فَلا أُقْسِمُ). اللام زائدة عند أكثر المفسرين ، وقيل : بل هي نافية للقسم لأن الامر أوضح من ان يحتاج الى أيمان ، وتقدم الكلام عن مثله عند تفسير الآية ٧٦ من سورة الواقعة (بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ). هذا عام لعالم الغيب والشهادة مما كان ويكون في الدنيا والآخرة ، وهو في واقعه قسم بعلم الله سبحانه الذي أحاط بكل شيء ، ومن ذلك (إِنَّهُ ـ أي القرآن ـ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ). لقد نطق محمد (ص) بالقرآن ما في ذلك ريب ، ولكن لم ينطق به لأنه شاعر أو كاهن ، ولا بصفة من صفاته الشخصية ، وانما جاء به من حيث انه مبلّغ عن الله ولسانه وبيانه. وتكلمنا مفصلا عن الشعر والرسول عند تفسير الآية ٢٢٤ من سورة الشعراء ج ٥ ص ٥٢٤.

وقوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) ، (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) معناه لا يؤمن ولا يتذكر أحد منهم إلا القليل ، وقيل : بل المراد ما آمن ولا تذكر منهم قليل ولا كثير جريا على عادة العرب ، فإنهم يقولون : قلّما يفعل ، بمعنى لا يفعل البتة ، والتفسير الأول أقرب الى الواقع لأن المفروض ان بعض المشركين قد آمنوا بالرسول (ص) قبل أن يهاجر من مكة الى المدينة. وتقدم مثله في الآية ٨٨ من سورة البقرة ج ١ ص ١٤٨.

٤٠٩

وتسأل : هل مجرد القسم يثبت الرسالة من الله لمحمد ، وينفي عنه الشعر والكهانة؟.

الجواب : لقد جاء هذا القسم بعد أن تحدى سبحانه المكذبين في العديد من الآيات بأن يأتوا بمثل القرآن ، وبعد ان عجزوا ولزمتهم الحجة ، فالمراد بالقسم هو تأكيد الحق الثابت بالدليل ، لا اثبات الحق بالقسم .. هذا ، الى ان للجدل مع الخصم أساليب شتى تتعدد وتختلف بحسب أفكاره وأوضاعه ، ومن تلك الأساليب الإدلاء بالحجة ، وإلقاء الأسئلة عليه بما يتناسب مع عقيدته ، وفصاحة الأسلوب وبلاغته ، ومنها أيضا القسم فإنه يبعث في بعض القلوب إحساسا غامضا ومثيرا.

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ). تقوّل أي افترى وفيه ضمير مستتر يعود الى محمد (ص) ، والأقاويل جمع أقوال ، وغلب على الأقوال الكاذبة ، والمراد بالأخذ باليمين هنا التمكن والقدرة ، والوتين نياط القلب وحبل الوريد إذا قطع مات صاحبه ، وحاجزين أي مانعين وحائلين ، والمعنى ان محمدا منزه عما ينسبه اليه المشركون من الافتراء على الله ، ولو تعمد ذلك لانتقم الله منه ، ونكل به أفظع تنكيل ، ولا أحد من المشركين ولا غيرهم ينجيه من هذا العذاب والتنكيل ، وبما ان الله لم يفعل ذلك بمحمد فهو ـ اذن ـ الصادق الأمين ، والمفترون هم الذين نسبوا محمدا الى الافتراء.

وتسأل : لما ذا لم يعجّل سبحانه العقوبة لمن كذّب محمدا كما يعجلها لمحمد لو كان كاذبا؟

الجواب : ان هذا التهديد منه تعالى انما هو لمن يدعي النبوة كذبا وزورا ، لا لمن كذّب بنبوة الأنبياء ، والفرق بعيد وظاهر بين الاثنين .. هذا ، الى ان الغرض من تهديده سبحانه هو تنزيه الرسول الأعظم عما نسب اليه من الافتراء على الله كما أشرنا.

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ). ضمير انه يعود الى القرآن ، وهو هدى لمن طلب الهداية ، وأراد بصدق واخلاص ان يتقي غضب الله وعذابه (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ

٤١٠

مُكَذِّبِينَ). هذا تهديد ووعيد لمن كذّب بالرسول والقرآن (وَإِنَّهُ ـ أي القرآن ـ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ). لأنه يلعنهم ويفضحهم ، ولأن كلمته هي العليا ، وكلمة الكافرين به هي السفلى ، ولأنه حجة الله عليهم في يوم الحساب والجزاء (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) الذي لا ريب فيه ، وتقدم مثله في الآية ٩٥ من سورة الواقعة (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ). الخطاب لرسول الله (ص) والمقصود العموم ، والمعنى نزّهوا الله عما لا يليق به. وتقدم في الآية ٧٥ من سورة الواقعة.

٤١١

سورة المعارج

٤٤ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقداره ٥٠ الف سنة الآية ١ ـ ١٨ :

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨))

اللغة :

يأتي فعل «سأل» بمعنى طلب واستدعى ، ويتعدى الى مفعولين نحو سألت

٤١٢

فلانا درهما ، وإذا دخلت الباء على المفعول الثاني فهي زائدة مثلها في (هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) ويأتي فعل سأل أيضا بمعنى استخبر ، ويتعدى الى مفعول أول بنفسه والى الثاني بعن نحو سألته عن كذا أو بالباء متضمنة معنى عن مثل «سل به خبيرا» أي عنه. ومعارج جمع معرج وهو الدرج ، وقيل : السموات. والمهل خثارة الزيت. والعهن الصوف المنفوش أو المصبوغ. وحميم قريب. والفصيلة العشيرة. ولظى من أسماء جهنم. ونزاعة من نزع الشيء إذا اقتلعه من مكانه. وقال صاحب مجمع البيان : الشوى جمع شواة وهي جلدة الرأس. وجمع فأوعى أي جمع المال وأمسكه في وعاء.

الإعراب :

للكافرين متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي هو مهيّأ للكافرين ، وجملة ليس له دافع خبر بعد خبر. وذي المعارج صفة لله. ويوم تكون السماء «يوم» منصوب بيبصرونهم عند صاحب مجمع البيان. لو يفتدى «لو» للتمني. وجميعا حال. وكلا حرف ردع وزجر.

المعنى :

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ). قلنا فيما سبق : ان المشركين أعرضوا عن دعوة الرسول (ص) لأسباب أولا : انها حرب على مكاسبهم وأرباحهم. ثانيا : ان الله لا يبعث بزعمهم بشرا رسولا ، وان كان ولا بد فيختاره من الأغنياء لا من الفقراء أمثال محمد بن عبد الله. ثالثا : ان محمدا (ص) يدعو الى التوحيد ، وهم يؤمنون بتعدد الآلهة. رابعا : انه يخوّفهم من البعث والعذاب بعد الموت ، وهذا ما ينكرونه أشد الإنكار : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ). وإذا أكّد النبي (ص) ذلك وأصر عليه قالوا : متى هذا الوعد؟ وفي بعض الأحيان يستعجلون العذاب ساخرين (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ـ ٣٢ الأنفال.

٤١٣

ومن أجل هذا قال كثير من المفسرين : ان قوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ). هو اشارة الى ما طلبوا من تعجيل العذاب ، وان الله سبحانه قد أجابهم عن هذا الطلب بقوله : (لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) أي ان العذاب نازل بالجاحدين لا محالة سواء أطلبوا التعجيل أم التأجيل.

الشيطان والبحث عن الغيب :

(مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) صفة لله تعالى ، والمراد به الرفعة والعلو ، ومثله الآية ١٥ من سورة غافر : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ). (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ). المراد بالروح جبريل ، وخصه سبحانه بالذكر مع انه من جملة الملائكة لعلو شأنه ، وضمير اليه يعود الى ما هو معلوم عند الله والملائكة ، والخمسون ألف سنة كناية عن طول المدة. وذكر الأستاذ أحمد أمين العراقي هذه الآية في كتابه «التكامل في الإسلام» واستخرج منها ان الملائكة يسيرون بسرعة تفوق سرعة الصوت ، ذلك بأن سعة الكون لا حد لها ولا نهاية ، ويكفي دليلا على هذه الحقيقة ان بعض النجوم قد أرسلت ضوءها الى الأرض منذ ملايين السنين ، ولم يصل بعد اليها مع العلم بأن الضوء يقطع ٣٠٠٠٠٠ ك م في الثانية. وعليه يستحيل ان يقطع الملائكة المسافات الشاسعة الواسعة إلا إذا كان سيرهم أسرع من سير الضوء أضعافا مضاعفة.

وقلنا عند تفسير قوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) ـ ١٧ الحاقة : ان هذا الموضوع وما اليه لا يثبت إلا بالنص الصريح الذي يفيد القطع والجزم ، ولا يقبل التأويل بحال ، وانه لو كان من باب الحلال والحرام لكان لظن الفقيه وجه إذا استند الى ظاهر الكتاب أو السنة. وقال بعض الصوفية : ليس المراد بخمسين ألف سنة السنوات التي نعرفها ، بل المراد الأطوار والأدوار. وقال صوفي آخر : ان ايام الله هي كما يشاء ، فإن شاء جعلها ألفا ، وان شاء جعلها آلافا وملايين.

وهذا غيب في غيب ، ونحن غير مسؤولين عن علمه أمام الله ، وما كلفنا بالبحث عن كنهه إلا الشيطان .. قال الإمام علي (ع) : «وما كلفك الشيطان

٤١٤

علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه ولا في سنّة النبي (ص) والأئمة أثره فكل علمه الى الله سبحانه ، فإن ذلك منتهى حق الله عليك ، واعلم ان الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب ـ الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفوا البحث عن كنهه رسوخا ، فاقتصر على ذلك ، ولا تقدّر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين».

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً). حذر النبي (ص) المشركين من يوم العذاب ، فتعجلوه ساخرين .. فقال سبحانه لنبيه الكريم : إذا استخفوا بيوم العذاب وسخروا منه فاصبر أنت يا محمد على هزئهم واستخفافهم صبرا لا جزع فيه ولا شكوى ، ولا تستبطئ النصر عليهم ، وإذا تحيلوا يوم العذاب أباطيل وأساطير فهو عند الله آت لا ريب فيه ، وكل آت قريب .. ثم وصف سبحانه اليوم الذي به يوعدون ومنه يسخرون ، وصفه بقوله : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ). تذوب الأجرام السماوية ، وتصبح تماما كالزيت العكر ، ومثله قوله تعالى : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) ـ ٢ التكوير. (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) يخالها الرائي صوفا قد فرّق ونفش ، ومثله : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) ٥ الواقعة أي فتتت.

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) لأن كل انسان في شغل شاغل بنفسه عن غيره ، والسعيد في ذلك اليوم من ادّخر له الصالحات (يُبَصَّرُونَهُمْ) بتشديد الصاد وفتحها من بصرته الشيء إذا أوضحته له ، وواو الجماعة تعود الى «حميم» المرفوع بالنظر الى معناه وان كان اللفظ مفردا ، و «هم» تعود الى «حميما» المنصوب باعتبار ارادة الجمع منه أيضا ، والمعنى لا أحد يسأل أحدا يوم القيامة حتى ولو كان من الأصدقاء والأقارب مع ان بعضهم يعرف بعضا في ذلك ، ولكنه يفر منه لما به من الكرب والبلاء.

(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ). وتومئ «ثم» الى البعد أي هيهات

٤١٥

هيهات أن ينجيه ذلك ، والمراد بالصاحبة الزوجة ، وبالفصيلة العشيرة ، والمعنى واضح ويتلخص بأن أسير جهنم يود لو يفادى من الهول بجميع أهل الأرض حتى الزوجة والأبناء الذين كان بالأمس يفتديهم بنفسه ، ويرتكب من أجلهم المخاطر والأهوال .. وهذا أبلغ تصوير لأسف المجرم على ما فات ، ولهفته على الخلاص والنجاة.

(كلا) أيها المجرمون .. لا تمنيات في هذا اليوم ، ولا شيء لكم فيه إلا جهنم أنتم لها واردون (إِنَّها لَظى) وما أدراك ما لظى؟ (نَزَّاعَةً لِلشَّوى). تنتزع الأعضاء من أماكنها وتشويها ، ثم تعاد كما كانت ، وتنتزع مرة أخرى وتعاد. وهكذا الى ما لا نهاية : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) ـ ٣٦ فاطر (دْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) في الدنيا عن دعوة الهدى والحق ، والمراد بدعوة النار له ان هاربها لا مفر له منها ولا ملجأ (وَجَمَعَ فَأَوْعى) من الوعاء لا من الوعي أي كنز المال في وعاء ونحوه ، والآية تهديد ووعيد لمن جمع المال وحرص عليه ، ولم ينفقه في طاعة الله ، والجمع بين كانز المال ومن كذّب دعوة الحق يشعر بأنهما سواء عند الله في يوم الحساب والجزاء.

من هم المصلون الآية ١٩ ـ ٣٥ :

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما

٤١٦

مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥))

اللغة :

الهلوع في اللغة الضجور الذي لا صبر له ، والمراد به هنا من فسره سبحانه بقوله : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً). والمراد بالشر كل مكروه وبالخير كل محبوب. والسائل من يسأل الناس ، والمحروم من يستنكف عن السؤال على حاجته وحرمانه. ومشفقون خائفون.

الإعراب :

هلوعا حال من الإنسان. وجزوعا خبر كان المحذوفة هي واسمها المستتر أي كان جزوعا ، ومثله «منوعا» وإذا الاولى متعلقة بجزوع والثانية بمنوع ، ويجوز أن يكون كل من جزوع ومنوع حالا ، وعليه يكون في الكلام تقديم وتأخير أي : خلق الإنسان هلوعا جزوعا حين يمسه الشر منوعا حين يمسه الخير. الا المصلين استثناء من الإنسان باعتباره اسم جنس. والذين هم على صلاتهم صفة للمصلين.

المعنى :

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً). يشير سبحانه بهذا الى ان الإنسان ضعيف بطبعه كما قال في الآية ٢٨ من سورة النساء : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) والآية ٥٤ من سورة الروم : (اللهُ الَّذِي

٤١٧

خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ). ويظهر هذا الضعف عند وجود أسبابه كالغنى والفقر ، فان استغنى ضنّ بماله خوفا من الفقر ، وان افتقر استولى عليه اليأس والقنوط .. ولكن من آمن بالله حقا ، ووثق به وبرحمته يتغلب على هذا الضعف ، ويصبر عند الشدائد صبر الأحرار متطلعا الى اليسر والفرج ، ويجود بالعطية مؤمنا بأن ما عند الله خير وأبقى. وفيما يلي ذكر سبحانه طرفا من أوصاف المؤمنين.

١ ـ (إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ). ويدل هذا الاستثناء من الإنسان الجزوع الهلوع ، يدل دلالة واضحة وقاطعة على ان المصلين لله حقا هم الذين يثقون به وحده ، ولا يخضعون لأحد سواه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أما الذين يكبرون ويهللون تم يركعون ويسجدون لأهل الجاه والمال طمعا بما في أيديهم ، أما هؤلاء فليسوا من المصلين في شيء حتى ولو داوموا على الفرائض والنوافل ، ولم يشغلهم عنها أي شاغل.

٢ ـ (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). يبذلون في سبيل الطاعات والخيرات لوجه الله تعالى لا يبتغون جزاء ولا شكورا. وتقدم مثله في الآية ١٩ من سورة الذاريات.

٣ ـ (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ). يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويعملون بموجب هذا الايمان ، وإلا فإن الايمان النظري لا يجدي شيئا.

٤ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ). المؤمن يرجو ويخاف ، ينظر الى الجنة بعين ، والى النار بعين ، يخاف من هذه ، ولا ييأس من تلك. قال سبحانه : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) ٩٩ الأعراف. وقال : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) ٨٨ يوسف. وأحسن الناس ظنا بالله أشدهم خوفا منه كما قال الإمام علي (ع) أي ان الخوف منه تعالى يأتي على قدر العلم بعظمته.

٥ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ). على المؤمن ان يصبر ويرضى بما قسّم الله له من بنات حواء ، وعلى المؤمنة أن ترضى وتصبر على ما آتاها الله من أبناء آدم ، ومن صبر وشكر فأجره على الله ، وإلا فعقابه

٤١٨

الحرمان من الحور والجنان. وتقدم بالحرف الواحد في الآية ٨ من سورة المؤمنون ج ٥ ص ٣٥٨.

٦ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ). المؤمن إذا عاهد وفي ، وإذا اؤتمن لم يخن ، ومن لا وفاء له لا دين له ولا ضمير. وأيضا تقدم بالحرف في الآية ٨ من سورة المؤمنون ج ٥ ص ٣٥٩.

٧ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ). الشهادة أمانة الله عند الشاهد ، فمن كتمها أو حرفها فقد خان الله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ـ ١٤٠ البقرة.

٨ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ). وتسأل : أليست هذه الآية تكرارا للآية السابقة ، وهي قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ)؟ وأجاب بعض المفسرين بأن الدوام غير المحافظة ، فمعنى دوام الصلاة تكرارها في أوقاتها ومعنى المحافظة عليها الإتيان بها بشرطها وشروطها! اما نحن فلا نرى أي فرق بين الدوام والمحافظة لأن الصلاة لا تكون صلاة إلا مع المحافظة على جميع الأجزاء والشرائط ، فإذا فقدت واحدا منها بطلت ، ولا يكون تكرارها تكرارا للصلاة .. والأقرب الى الصواب ان الله سبحانه أعاد الآية لمجرد الاهتمام بالصلاة والتنبيه الى أنها عمود الإسلام.

(أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ). أولئك اشارة الى من اجتمعت فيهم الصفات المذكورة ، وانهم عند الله سبحانه في منازل العز والكرامة.

فذوهم يخوضوا ويلعبوا الآية ٣٦ ـ ٤٤ :

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى

٤١٩

يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

اللغة :

قبلك بكسر القاف جهتك ونحوك وعندك وحولك. ومهطعين مسرعين. وعزين جمع عزة بكسر العين كعدة ، وهي العصبة والجماعة ، وأعربت بالياء والنون إلحاقا بجمع السلامة مثل سنين. والنصب كل ما نصب للعبادة من دون الله. ويوفضون يسرعون ويستبقون. والخشوع في البصر الغض ويكنى به عن الذل والهوان ، وفي الصوت الإخفات ، وفي القلب الخشية والتواضع. وترهقهم تلحقهم وتستولي عليهم.

الإعراب :

فما للاستفهام الانكاري مبتدأ ، وللذين كفروا خبر. وقبلك ظرف متعلق بمحذوف حال من الذين كفروا أي ثابتين حولك. ومهطعين حال. وعن اليمين وعن الشمال متعلق بعزين لأنه بمعنى متفرقين. وعزين حال أيضا. ان يدخل جنة أي في أن يدخل. وكلّا حرف ردع وزجر. فلا اقسم مثل فلا اقسم ٧٥ الواقعة و ٣٨ الحاقة. وبمسبوقين الباء زائدة إعرابا ومسبوقون خبر نحن. ويخوضوا مجزوم بجواب الأمر. ويوم يخرجون بدل من يومهم. وسراعا حال. وخاشعة أيضا حال.

المعنى :

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ)؟ ما شأن هؤلاء الذين كذبوا برسالتك يا محمد ، وكفروا بالبعث ، ما شأنهم؟ يسرعون

٤٢٠