التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

يقال : تزلف فلان أي تقرب. وسيئت قبحت حين انعكس عليها أثر الحزن. وتدعون بتشديد الدال من الدعاء والطلب لا من الدعوى والزعم. وغورا مصدر بمعنى اسم الفاعل أي غائرا في الأرض. والمعين الماء الغزير أو الجاري على وجه الأرض المنظور بالعين.

الإعراب :

أم بمعنى بل. ومن هذا مبتدأ وخبر ، وتشعر هذه الجملة بالتحقير والاستخفاف. والذي عطف بيان. ومكبا حال من فاعل يمشي ومثله سويا. وقليلا صفة لمقدر و «ما» زائدة أي تشكرون شكرا قليلا. وضمير رأوه يعود الى يوم القيامة. وزلفة حال أي قريبا لأن الرؤية هنا بصرية. أو رحمنا «أو» للإبهام.

المعنى :

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ). يتصل هذا بقوله تعالى في الآية السابقة : أم أمنتم من السماء الخ .. بعد أن خوّفهم سبحانه من خسف الأرض بهم ، وإرسال الحاصب عليهم ـ سألهم ، جلت حكمته ، بقصد التوبيخ والتقريع : ما ذا تصنعون إذا نزل بكم العذاب؟ هل تهربون منه ، ولا ينجو من الله هارب ، أو تلجئون الى أصنامكم ، وهي لا تملك لنفسها شيئا؟ والجواب قوله تعالى : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) وظن كاذب انهم في سلام وأمان من غضب الله وعذابه.

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ). هذا سؤال ثان منه تعالى ، ومعناه إذا منع الله عنكم أسباب الرزق كالمطر فمن الذي يرسل السماء عليكم مدرارا ، أأوثانكم التي تعبدون أو جهلكم وغروركم! والجواب : (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ). كلا ، انهم يعلمون ان الله هو الرازق ، ومع هذا يعاندون الحق ، ويصرون على الباطل لأن حياتهم تقوم عليه وعلى محاربة الحق وأهله.

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

٣٨١

هذا تمثيل في صيغة السؤال ، تمثيل للفرق بين الضالين الذين لجوا في عتو ونفور وبين المهتدين الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه ، فالضالون مثلهم كمثل الذي يمشي ووجهه الى الأرض يكثر العثار فيما لا يعثر فيه بصير ؛ أما المهتدون فمثلهم مثل الذي يسير على الطريق الواضح بجسم معتدل ، ونظر سليم. وتكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها قوله تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ـ ٢٤ هودج ٤ ص ٢٢٢.

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ). لقد خلق الله لكم أسماعا فاتعظوا بما تسمعون ، وجعل لكم أبصارا فاعتبروا بما ترون من آيات ومعجزات ، ومنحكم عقولا فلما ذا لا تفقهون؟ وقال مفسر من القدامى : «ان الله سبحانه قدم السمع لأن فوائده أقوى من فوائد البصر ، فان السمع للخطاب ، والبصر للرؤية ، ومرتبة الخطاب أقدم». وقال اديب معاصر : «لا تتقدم كلمة على كلمة في القرآن الا لسبب ، ولا تتأخر كلمة عن كلمة إلا لسبب. وكمثل بسيط نجد ان القرآن يقدم السمع على البصر في الذكر في عديد من الآيات ، وهي مسألة يعرف سرها علماء التشريح ، فهم يدركون ان جهاز السمع أرقى وأعقد وأدق وأرهف من جهاز الأبصار .. والأم لا يتوه سمعها عن صوت بكاء ابنها وتميزه من بين آلاف الأصوات ، وتتوه عين أمه عنه في الزحام».

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) لأن الله خلق الاسماع والأبصار والأفئدة للخير والصلاح ، وأنتم تستعملونها للشر والفساد (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ). ليس معنى ذرأكم خلقكم فقط ، بل فيه أيضا معنى التكثير بالنسل ليتسابقوا في مضمار الحياة وعمارتها واستدرار خيراتها. هذا ما قاله المفسرون ، ولو كانوا في هذا العصر لعقبوا على هذا التفسير بقولهم : ولكن الدول الكبرى تتسابق اليوم في مضمار التسلح ، وحرمان الجائعين من خيرات الأرض وبركاتها لتكون وقفا على مصانع الموت التي يملكها الطغاة المحتكرون. وتقول الاحصاءات : ان ما تنفقه دول العالم مجتمعة على السلاح أكثر مما تنفقه على التعليم والصحة معا. (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيأخذ المفسدين في الأرض بجرمهم وجريرتهم.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). تكرر هذا السؤال من الجاحدين في العديد من الآيات ، وهو عجيب وغريب ، لأنه ما من عاقل إلا ويستدل بما

٣٨٢

وجد على إمكان ما يوجد من أشباهه ونظائره (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ). هذا مثل قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) ـ ١٨٧ الأعراف ج ٣ ص ٤٣١ (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ). خوّفهم النبي من يوم القيامة ، فقالوا له ساخرين : فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين .. ولما بعثوا يوم القيامة وقيل لهم : هذا ما كنتم به تستعجلون ـ قالوا : يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين .. هذا هو شأن كل جاهل أرعن يركب رأسه ، ولا يبالي ما يصنع وما يقال له.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ). من تتبع آي الذكر الحكيم ير ان الخلاف بين الأنبياء والمشركين كان ـ في الأغلب ـ يدور حول الشرك والبعث ، وان أكثر الآيات أو الكثير منها يتصل بهذين المبدأين بأسلوب مباشر أو غير مباشر ، وكان المشركون يحتجون للشرك وعبادة الأصنام بعادة الآباء والأجداد ، ولإنكار البعث بأن الذي يصير ترابا لن يعود الى الحياة مرة ثانية ، وقد لقّن سبحانه نبيه الكريم حجة الرد عليهم ، وأنذرهم بالعذاب العاجل والآجل ، وسبق ذلك في عشرات الآيات ، فيعجز المشركون عن الجواب ويلجئون الى العناد والاستهزاء والشغب ، وأحيانا يدعون على الرسول الأعظم (ص) بالهلاك كما أشارت الآية ٣٠ من سورة الطور : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ).

وقد تضمنت الآيات السابقة الخطاب مع المشركين حول البعث والتهديد بعذاب الخسف والحاصب في الدنيا ، وعذاب جهنم وبئس المصير في الآخرة ، ثم انتقل الخطاب الى دعائهم على الرسول والجواب عنه حيث أمر سبحانه النبي (ص) ان يقول لهم : أتتربصون بي وبمن معي ريب المنون ، وتتمنون لي ولهم الهلاك؟ أخبروني ما الذي تستفيدون إذا تحققت أمنيتكم هذه؟ هل ينجيكم هلاكي وهلاك من معي من العذاب ، وأنتم سادرون في الغي والضلال؟ كلا ، لا ينفعكم شيء إلا التوبة والانابة سواء أمتّم قبلي أم متّ قبلكم.

(قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا). هذا هو طريق الخلاص : الايمان بالله وبأنه يرحم ويغفر لمن تاب من ذنوبه ، وتوكل عليه في جميع أموره

٣٨٣

(فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). بعد أن قال الرسول الأعظم (ص) للمشركين : أهلكنا الله أو رحمنا ـ قال لهم : كلا أنتم الهالكون لأنكم الضالون المضلون ، أما نحن ففي رحمة الله وعنايته ، ولنا النصر عليكم دنيا وآخرة ، وستعلمون ذلك علم اليقين (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ). الأولى بكم أيها المشركون أن تتوبوا الى الله ، وتشكروه على آلائه التي لا تعد ولا تحصى ، ومنها ماؤكم هذا الذي هو مصدر حياتكم ، ولو شاء سبحانه لغار في جوف الأرض ، ولا رادّ لمشيئته ، فتموتون جوعا وعطشا .. وقال بعض المفسرين ان الله أراد بهذا أن يستميل قلوبهم ويستلين عرائكهم عسى أن يرجعوا الى الرشد .. وليس هذا ببعيد ، فإن أساليب الدعوة في القرآن أنواع وألوان.

٣٨٤

سورة القلم

٥٢ آية مكية ، وقيل : بعضها مدني.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ما أنت بمجنون الآية ١ ـ ١٦ :

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦))

اللغة :

وما يسطرون وما يكتبون. غير ممنون أي لا يمن بالأجر عليك أو غير مقطوع أو هما معا. فستبصر أي ستعلم. والمفتون هو الذي ابتلي بآراء فاسدة كالمجنون. والمداهنة المداراة فيما لا ينبغي. والحلّاف كثير الحلف بالحق وبالباطل. ومهين

٣٨٥

حقير. والهمّاز الطعّان في أعراض الناس. مشّاء بنميم كثير الوشاية والسعاية بالنميمة والإفساد بين الناس. ومنّاع للخير لا يفعل الخير ويمنع الناس من فعله. ومعتد ظالم. وأثيم كثير الذنوب والآثام. وعتل فظ غليظ القلب والفهم. وزنيم دعيّ. وسنسمه نجعل له علامة يدل عليه. والخرطوم الأنف.

الإعراب :

«ن» على حذف مضاف أي هذه سورة «ن». والقلم الواو للقسم وجوابه جملة ما أنت بنعمة ربك بمجنون ، و «ما» نافية وأنت مبتدأ وخبره مجنون والباء فيه زائدة إعرابا ، وبنعمة ربك متعلق بمجنون مثل أنت بفضل الله حسن السيرة. وبأيكم مبتدأ والباء زائدة والمفتون خبر. ولو تدهن «لو» للتمني. وجملة فتدهنون خبر لمبتدأ محذوف أي هم يدهنون. وان كان «ان» مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف أي لأنه كان الخ والمصدر المنسبك متعلق بلا تطع.

المعنى :

(ن) هذه مثل غيرها من الحروف التي افتتح بها السور ، وتكلمنا عنها في أول سورة البقرة. وقال قائل : هي الحوت. وثان : الدواة. وثالث : المداد. وقال رابع : هي نون الرحمن. وذهب جماعة من الصوفية الى أنها النفس. وكل هذه الأقوال تفتقر الى دليل .. واختلفوا في القلم ما هو المراد منه؟. قال البعض : هو القلم الذي كتب به على اللوح المحفوظ. وقال آخرون : المراد به كل قلم دون استثناء لأن الألف واللام فيه للجنس ، وهي تفيد الشمول والعموم. وهذا هو الظاهر على أن لا يكون القلم مرادا لذاته ، بل وسيلة للكتابة كما يومئ قوله تعالى : (وَما يَسْطُرُونَ) أي يكتبون ، وعليه يكون القلم كناية عن أدوات الكتابة أيا كان نوعها مما وجد بالفعل ، أو سيوجد في المستقبل القريب أو البعيد وأشرنا الى طرف من فوائد البيان عند تفسير (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) في أول سورة الرحمن .. على ان الحديث عن منافع البيان تماما كالحديث عن منافع الماء والضياء.

٣٨٦

(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ). الخطاب لمحمد (ص) .. ولا أحد يظن الجنون بمحمد إلا مجنون .. والذين وصفوه بذلك أرادوا أن له جنيا يوحي اليه ، كما كانوا يزعمون بأن لكل شاعر جنيا يعلمه الشعر ، ويومئ الى هذا قوله تعالى حكاية عنهم : (وَيَقُولُونَ أَتنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) ـ ٣٦ الصافات. (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي دائم غير مقطوع .. وبديهة ان الأجر يقاس بنتائج الأعمال وآثارها ، ولا تزال آثار محمد ودعوته وعظمته قائمة الى اليوم في شرق الأرض وغربها ، وستبقى الى آخر يوم ، فلا بدع إذا ظفر من ربه بالعقبى الدائمة ، والكرامة الخالدة.

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ). ما وصف سبحانه أحدا من رسله بهذا الوصف إلا محمدا ، ويتلخص معناه بقول الرسول الأعظم (ص) : «أدبني ربي فأحسن تأديبي» أي ان الله قد اتجه بأخلاق محمد (ص) الى نفس الهدف الذي خلقها الله من أجله. وأيضا ما أقسم الله بحياة انسان إلا بحياة محمد (ص) ، وذلك حيث يقول عز من قائل : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) ـ ٧٢ الحجر. أما وصف محمد (ص) بخاتم النبيين فمعناه ان محمدا بلغ من صفات الكمال أقصى ما يصل اليه انسان .. ومستحيل أن يأتي من بعده من هو أفضل منه ، أو يأتي بشريعة أفضل من شريعته ، بل لا يضارعه مخلوق من الأولين والآخرين ، والى ذلك يومئ قوله (ص) : «أنا سيد الناس ولا فخر» ومن أجل هذا ختمت به النبوات وبشريعته الشرائع ، قال ابن عربي في الفتوحات ما معناه : ان الله خلق الخلق أصنافا ، وجعل من كل صنف أخيارا ، ومن الأخيار الصفوة ، وهم الأنبياء ، ومن الأنبياء الخلاصة ، وهم أولو العزم ، ومن الخلاصة خلاصتها وهو محمد الذي لا يكاثر ولا يقاوم.

(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ). هذا تهديد ووعيد ؛ ومعناه عما قريب يتبين لك ولأعدائك يا محمد انهم أولى الناس بوصف الجهل والضلال والجنون ، وانك أعلى الناس عقلا وأعظمهم خلقا ، وأكرمهم عند الله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). الله يعلم يا محمد مكانك من العظمة والهداية ؛ ومكان خصومك من الضلالة والغواية ، وأمامهم الحساب والجزاء. وتقدم مثله بالحرف الواحد في الآية ١٧ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٥٣ (فَلا

٣٨٧

تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ). حاول المشركون بكل سبيل أن يثنوا الرسول الأعظم (ص) عن دعوته ، وأغروه بالجاه والمال فأبى ، وتمنوا لو صانعهم في شيء مما يريدون ، فنهاه الله عن ذلك ، والقصد من النهي أن ييأسوا ويعلموا انه لا هوادة ولا مساومة على طاعة الله وأمره .. ويشبه هذا النهي قولك لمن يساومك على دينك : لقد نهاني الله عن ذلك ، وأنت تريد ان ييأس منك.

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ). تمنى المشركون ان يتنازل الرسول (ص) عن بعض ما يدعوهم اليه ، ويستجيبوا بدورهم لبعض ما نهاهم عنه ولو من باب المداهنة والمداراة كي تنتهي المعركة بين الطرفين ، ويتم الصلح على انصاف الحلول ، ويدل السياق على ان الذي اقترح المداهنة يتصف بالأوصاف التي أشار اليها سبحانه بقوله : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) يكثر من الأيمان بلا سبب موجب (مهين) حقير (هماز) يكثر الطعن في اعراض الناس (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) يمشي بالنميمة والوشاية ، والنمام هو الذي يضرب الناس بعضهم ببعض بنقل الأحاديث (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) لا يفعله ويمنع الناس من فعله (معتد) على حقوق الآخرين (أثيم) كثير الذنوب والآثام (عتل) فظ غليظ (بعد ذلك) وفوق هذه الأوصاف هو (زنيم) دعيّ لا يعرف له نسب. وهذه الرذائل هي أقصى ما يتصوره العقل.

وذكر كثير من المفسرين ان المقصود بهذه الخصال الملعونة هو الوليد بن المغيرة ، وكان من عتاة قريش ، وفي سعة من المال ، وكثرة من الأولاد ، كما قال تعالى : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). وقال المفسرون : ان هذه الآية تعليل للنهي عن طاعة هذا اللعين .. والأقرب الى الصواب والسياق أن تكون تعليلا لاتصاف المكذب بتلك الصفات الملعونة ، وان الذي جرأه عليها وعلى القول بأن القرآن أساطير وأباطيل هو اعتزازه بأمواله وأولاده كما قال تعالى : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) ـ ٦ العلق فكيف إذا كان مع الغنى قوة في المال والأهل.

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) السمة العلامة ، والخرطوم الأنف ، وتكني به العرب عن العزة والمذلة أيضا ، فيقولون عن العزيز : له أنف أشم ، وعن الذليل : أنفه في التراب ، المعنى ان الله سبحانه سيخزي هذا الطاغية الذي أخذته العزة

٣٨٨

بأمواله وأولاده ، ويذله مدى الدهر ، ويلعنه على كل لسان بما سجله عليه في كتابه ، ويفضحه في الآخرة أمام الاشهاد بسواد الوجه وغيره من العلامات التي تعكس آثامه ومخازيه.

فأصبحت كالصريم الآية ١٧ ـ ٣٣ :

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣))

اللغة :

بلوناهم اختبرناهم. والجنة البستان. ليصرمنها ليقطفن ثمارها. ومصبحين دخلوا في الصباح. ولا يستثنون لا يقولون : ان شاء الله. طائف من ربك أي عذاب

٣٨٩

من ربك. كالصريم أي كالبستان الذي قطعت أشجاره أو ثماره ، وقيل : كالذي احترقت أشجاره وصارت سوادا كالليل المظلم ، ويسمى الليل صريما وكذلك النهار. فتنادوا أي نادى بعضهم بعضا. وأغدوا اخرجوا مبكرين. والحرث الزرع. وصارمين قاطعين الثمار. ويتخافتون يتسارون. والمراد بالحرد هنا المنع والحرمان. وأوسطهم أفضلهم رأيا. ويتلاومون يلوم بعضهم بعضا. يا ويلنا دعاء على أنفسهم بالهلاك.

الإعراب :

كما بلونا الكاف بمعنى مثل صفة لمفعول مطلق محذوف و «ما» مصدرية أي بلاء مثل بلاء أصحاب الجنة. وإذ ظرف بمعنى حين والعامل فيها بلونا. وليصرمنّها جواب القسم ، والأصل ليصرمون وحذفت الواو لمكان نون التوكيد. ومصبحين حال من فاعل ليصرمنها ، وهو واو الجماعة المحذوفة. وان اغدوا «ان» مفسرة بمعنى أي ، واغدوا تتضمن معنى أقبلوا ولذا تعدت بعلى. وان لا يدخلها «ان» مفسرة بمعنى أي ولا نافية والهاء تعود الى الجنة. وغدوا على حرد «غدوا» هنا فعل تام بمعنى ذهبوا وقت الغداة ، وعلى حرد متعلق بقادرين ، وقادرين حال. لولا هلا. يا ويلنا أي احضر يا ويل. وكذلك خبر مقدم والعذاب مبتدأ مؤخر.

المعنى :

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ). ضمير بلوناهم يعود الى مشركي قريش الذين كذبوا رسول الله (ص) .. وقد أشار سبحانه اليهم في الآية ٨ من هذه السورة بقوله : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ). ومنهم المعتدي الأثيم الذي طغى وبغى اعتدادا بكثرة الأموال ، ونقلنا عن المفسرين في المقطع السابق انه الوليد بن المغيرة ، وهو من عتاة قريش وينطق بلسان المكذبين منهم ، ويعبر عن عتوهم وتمردهم على الحق .. والآيات التي نحن بصددها تضرب مثلا له ولهم بقوم كانوا يملكون بستانا يدر الثمرات والخيرات ، ولكنهم كانوا أشحة على الفقراء والمساكين ..

٣٩٠

فإذا أينعت الثمار وحان وقت قطافها تواطئوا فيما بينهم ، وأقسموا أن يجنوا ثمار البستان في الصباح الباكر على غفلة من الفقراء ، ودون ان يعلقوا جني الثمار على مشيئة الله وارادته .. وقد تواصوا بالشح وحرمان المحتاجين مما آتاهم الله ومنّ به عليهم ذاهلين عن تدبير الله وتقديره .. وفي نفس الليلة التي أرادوا قطف الثمار في صباحها سلّط الله على البستان آفة سماوية أفسدت الثمار عن آخرها ، أو استأصلت البستان من جذوره.

ولما استيقظوا من نومهم وذهبوا الى البستان للقطاف في الوقت الموعود هالهم ما حاق به من الهلاك ، وأخذ يلوم بعضهم بعضا ، ويقول كل لصاحبه : أنت السبب .. وكان منهم رجل رشيد قد حذرهم سوء العاقبة من قبل ، فلم يستمعوا له ، وبعد ان وقع المحذور قال لهم : نصحت لكم ، ولكن لا تحبّون الناصحين ، فتوبوا الآن الى ربكم لعلكم تفلحون ، فتابوا اليه تعالى ، وسألوه العفو عما سلف ودعوه مخلصين أن يرحمهم ويمنّ عليهم بخير من بستانهم.

والقصد من هذا المثل ان يتعظ به كل من أنعم الله عليه بشيء من فضله وبخاصة أهل مكة ، ومنهم الأثيم الزنيم وإلا دارت عليهم دائرة السوء تماما كما حدث لأصحاب البستان .. ويقول الرواة : ان الله سبحانه ابتلى أهل مكة بالجوع والقحط لأنهم كذبوا محمدا (ص) فدعا عليهم واستجاب الله لدعائه ، ودام فيهم القحط سبع سنين حتى أكلوا العظام والجيف ، وقال الرواة أيضا انه تعالى أهلك أموال الزنيم الوليد بن المغيرة الذي كان ذا مال وبنين.

هذا هو المعنى المراد من مجموع الآيات وما تهدف اليه ، وفيما يلي الشرح والكشف عن المعنى المتبادر من كل آية :

(إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ). الهاء تعود الى الجنة ، وهي في اللغة البستان ، ثم كثر استعمالها في جنة الخلد حتى أصبحت علما عليها بكثرة الاستعمال ، والمراد منها هنا البستان ، والمعنى ان أصحاب البستان حلفوا على أن يجنوا ثماره في الصباح الباكر على غفلة من الفقراء (وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي لم يقولوا : نجني الثمار صباحا إن شاء الله ، وقال البعض : المعنى دون أن يستثنوا من ثمر البستان شيئا للمساكين .. وكل من المعنيين يجوز ، وأيضا يصح ارادتهما معا.

٣٩١

(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ). نام أصحاب البستان آمنين مطمئنين على أن يجنوا ثماره في الصباح ، وفي تلك الليلة بالذات سلط الله آفة على البستان أو على ثماره فأصبح كالصريم ، وللصريم معان ، منها المصروم أي المقطوع ثماره ، وعليه يكون المعنى ان البستان أصبح كالذّي قطعت ثماره ولم يبق منها شيء ، ومن معاني الصريم أيضا السواد ، وعليه يكون المعنى ان البستان احترق وأصبح في سواده كالليل المظلم (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ). حين دخل وقت الصباح نادى بعضهم بعضا : هلموا نقطف الثمار على غفلة من الفقراء ما دمتم على عزمكم.

(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ). أسرعوا وهم يتسارون مغتبطين : لن يذوق اليوم من ثمار بستاننا محروم .. وليس من شك ان هذا جفاء وقسوة ، ولكنه في حدود الشح والحرص ، فالبستان بستانهم ، والثمار ثمارهم لم يسرقوا ولم ينهبوا .. ومع هذا غضب الله عليهم وأعد لهم الخزي والعذاب فكيف إذا تجاوزوا الى الاعتداء على حياة الناس وأقواتهم بالقتل والتشريد والسلب والنهب كما يفعل الآن قادة الاستعمار الجديد في شرق الأرض وغربها! .. (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ). مضوا الى بستانهم ، وهم مصممون على حرمان الفقراء من ثمره : وتخيلوا ان البستان وثمره بأيديهم ، وما دروا ان يد الله فوق أيديهم.

(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ). لما وصلوا الى البستان هالهم ما رأوا واعترفوا بضلالهم ، وقالوا : نحن المحرومون من فضل الله وثوابه ، والمستحقون لغضبه وعذابه ، وليس الفقراء والمساكين .. وكان منهم رجل رشيد يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ولكنهم لم يستمعوا لنصحه ، وحين رأى ما حل بهم (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ)؟ أي تشكرون الله قولا وفعلا بالبذل والعطاء .. قال لهم هذا بحنان وإشفاق عليهم ، ثم أمرهم بالتوبة والانابة (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أنفسنا بمعصية الله (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) يتنصل كل من التبعة ويلقي بها على صاحبه كما هو شأن الشركاء في الجريمة حين يؤخذون بما كسبت أيديهم.

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ). ثم رجعوا الى عقولهم وتركوا التلاوم ،

٣٩٢

واعترفوا بأنهم في التبعة والطغيان سواء ، ودعوا على أنفسهم بالموت والهلاك ، وسألوا الله العفو والمغفرة وقالوا : (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ). هذا دعاء ورجاء منهم الى الله سبحانه أن يصفح عما سلف ، ويعوضهم خيرا مما فات .. والله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن كثير ، ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه بصدق واخلاص (كَذلِكَ الْعَذابُ). هكذا يفعل الله في الدنيا بالعصاة والطغيان ، فيسلط عليهم وعلى أموالهم الآفات والنكبات متى شاء ، فليحذر الذين يعرضون عن أمر الله ان يصيبهم ما أصاب أصحاب البستان ، وهم نائمون (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). قال الرازي : هذا واضح لا يحتاج الى تفسير ، وأبى الشيخ المراغي إلا أن يفسره بقوله : «أي ان عذاب الآخرة أشد وأنكى من عذاب الدنيا».

أفنجعل المسلمين كالمجرمين الآية ٣٤ ـ ٤٣ :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣))

٣٩٣

اللغة :

بالغة مغلظة ومؤكدة. وزعيم كفيل. والعرب يكنون بكشف الساق عن الهول الشديد. وترهقهم تلحقهم.

الإعراب :

للمتقين متعلق بمقدر خبرا لأن ، وعند ربهم متعلق بما تعلق به للمتقين. ما لكم مبتدأ وخبر. ومعناه أي شيء جرى لكم. وكيف في محل المفعول المطلق على معنى أي حكم تحكمون. وان لكم بكسر همزة ان لدخول اللام في خبرها ولولاها لكانت مفتوحة لأنها واقعة في مفعول تدرسون. وتخيرون أي تتخيرون. وكسرت همزة ان لكم لما تحكمون لأن الجملة في جواب القسم وهو أم لكم ايمان علينا. ويوم منصوب ب «فليأتوا». وخاشعة حال من فاعل يدعون ، وأبصارهم فاعل خاشعة.

المعنى :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ). في الآية السابقة توعد سبحانه المجرمين بالعذاب الأكبر ، وفي هذه الآية وعد المتقين بملك دائم ونعيم قائم .. وهكذا يقرن سبحانه عاقبة المجرم بعاقبة من اتقى ترغيبا وترهيبا (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ). ليس المراد بالمسلمين هنا كل من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله .. بل المراد بهم المتقون لأنّ الحديث عنهم وعما لهم عند ربهم من جنات النعيم.

وتسأل : لا نظن ان أحدا يحكم بالمساواة بين المتقين والمجرمين حتى من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ـ إذن ـ ما هو المبرر لقوله تعالى : مالكم كيف تحكمون؟.

الجواب : أجل ، لا أحد يساوي المتقي بالمجرم في الحكم والمكانة ، ولكن كثيرا من المجرمين يرون أنفسهم من الأتقياء ، وان لهم ما للمتقين من الأجر

٣٩٤

والثواب ، فأنكر سبحانه عليهم هذا وقال لهم : كيف تجعلون أنفسكم في عداد المتقين وبينكم وبينهم بعد المشرقين؟. والذي يدل على ان هذا المعنى هو المراد الخطابات التالية :

(أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ). هل عندكم كتاب من السماء أو من الأرض تقرءون فيه ان لكم في الدنيا ما تحبّون ، وفي الآخرة عند الله ما تشتهون؟. ويصدق هذا الوصف على اليهود والنصارى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ـ ١٩ المائدة إلا ان المقصود بالآية التي نفسرها عتاة قريش مع العلم انهم لم يدّعوا وجود هذا الكتاب ، ولكن القصد من الخطاب افحامهم وانه لا دليل وما يشبه الدليل على انهم مع المتقين وان لهم ما يتخيرون. وتقدم مثله في الآية ٤٠ من سورة فاطر والآية ٢١ من سورة الزخرف.

(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ). هل حلف الله لكم الأيمان المغلظة ، وأعطاكم العهود المؤكدة ان يدخلكم الجنة مع المتقين على ان لا تبدل ولا تعدل هذه الأيمان والعهود الى يوم القيامة؟. (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ)؟. الخطاب للرسول (ص) والزعيم الكفيل ، والمعنى سل يا محمد المشركين : من الذي تعهد لهم بتنفيذ ذلك على فرض ادعائهم له (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ). المراد بالشركاء هنا الأصنام كما في الآية ٢٧ من سورة سبأ : (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) والمعنى فليأت المشركون بآلهتهم التي يعبدون لتشهد لهم انهم في الجنة مع المتقين ..

والقصد من هذه الخطابات التي وجهها سبحانه الى المشركين هو انه لا شيء يدل أو يومئ من قريب أو بعيد ان المشركين على شيء : وهذا النوع من الحجاج من أجدى الوسائل لافحام الخصم ، وفي الوقت نفسه يفيد العلم والجزم.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ). يكني العرب عن الشدة والهول بالكشف عن الساق ، ومن هنا يسمى يوم القيامة بيوم الكشف عن الساق ، ولا أحد يدعى في هذا اليوم الى السجود ولا الى غيره من العبادات

٣٩٥

لأنه يوم حساب وجزاء لا يوم تكليف وعمل ، وعليه يكون طلب السجود من المجرمين يوم القيامة هو طلب توبيخ وتقريع لا طلب تشريع وتكليف ، والمراد بلا يستطيعون ان السجود في ذاك اليوم لا يجديهم نفعا لأنه يوم جزاء لا يوم عمل كما قلنا. والمعنى ان الذين فرّطوا أو قصّروا في الدنيا حيث يستطيعون العمل ، ان هؤلاء سيوبخون ويعذبون يوم القيامة الذي لا يملكون فيه حيلة ولا وسيلة تقربهم الى الله.

(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ). الخشوع صفة للقلب لا للأبصار ، ولكنه تعالى كنّى به عن ذلّهم وهوانهم الذي ظهر في أبصارهم ، وقوله تعالى : (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) تفسير وبيان لقوله : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ). (وَقَدْ كانُوا) في الدنيا (يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) فيعرضون علوا واستكبارا (وَهُمْ سالِمُونَ) لا مانع يمنعهم عنه. وبعد أن رأوا العذاب أرادوا السجود ، ولكن بعد فوات الأوان.

فذوني ومن يكذب الآية ٤٤ ـ ٥٢ :

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

٣٩٦

اللغة :

بهذا الحديث أي بهذا القرآن. سنستدرجهم سننتقل بهم تدريجا من حال الى حال. وأملي أمهل. والمغرم الملزم بما يكره. ومثقلون حمّلوا ثقيلا. والمراد بصاحب الحوت النبي يونس. ومكظوم أي مملوء غيظا ، وقيل : محبوس. والعراء الفضاء. والمراد بمذموم ملوم. ويستعمل الزلق لزلة الرجل ، والمراد به هنا النظر بغيظ وحنق حتى تكاد قدم المنظور تزل وتزلق. لما سمعوا الذكر أي القرآن. والا ذكر أي تذكير.

الإعراب :

ومن يكذّب عطف على الياء في ذرني أو مفعول معه. والمصدر من ان تداركه مبتدأ والخبر محذوف أي لو لا مداركة النعمة حاصلة. ومن ربه متعلق بنعمة أو بمحذوف صفة لنعمة وقال سبحانه : تداركه نعمة ولم يقل : تداركته لأن التأنيث هنا غير حقيقي ، وقد فصل بين الفعل والفاعل ضميرا لمفعول وهو الهاء في تداركه. وان يكاد «ان» مخففة ، وهي مهملة غير عاملة ، وجاءت اللام بعدها للفرق بينها وبين ان النافية.

المعنى :

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ). «من» هنا اسم موصول للجماعة ، وهم مشركو العرب الذين كذبوا بالرسول وبالقرآن ، وكلمة «ذرني» تؤذن بإعلان الحرب عليهم من الله ، وانه تعالى سيتولى بنفسه الانتقام منهم ، ويريح النبي والذين آمنوا معه ـ منهم ومن شرهم .. ثم بين سبحانه : كيف وبأي طريق ينتقم منهم حيث قال عز من قائل (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ). انه تعالى يمهلهم ولا يعالجهم بالعقوبة ، وأيضا يمد لهم من الأموال والبنين ، وينقلهم من حسن إلى أحسن في ظاهر الحياة الدنيا ، ولكنهم في واقع الأمر ينقلون من سيء الى أسوأ .. حتى إذا ركنوا الى الدنيا

٣٩٧

وظنوا انهم في حصن حصين من ضربات الدهر ودوراته أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ليكون ذلك أنكى وأوجع لقلوبهم .. وسمى سبحانه هذا الامهال والاستدراج كيدا لأنه يشبه الكيد في ظاهره .. وإلا فإن الله منزه عن الكيد والمكر .. كيف ولا يلجأ اليه إلا عاجز ، والله يقول للشيء : كن فيكون .. هذا ، الى ان الغرض من ذكر الكيد أن لا يخدع الإنسان بالدنيا إذا أقبلت عليه وابتسمت له ، وان يكون على حذر من المخبآت والمفاجئات. وتقدم مثله في الآية ١٨٠ من سورة الأعراف.

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ). ما الذي جعلهم يكذبون برسالتك يا محمد؟ هل تقاضيتهم على الهداية مالا يصعب عليهم تحمله وأداؤه ، أم اطلعوا على علم الغيب ، ونسخوا عنه ما يدل على مزاعمهم وادعاءاتهم. وتقدم مثله بالحرف في الآية ٤٠ من سورة الطور (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ). صاحب الحوت هو النبي يونس الذي ضاق صدره من قومه فتركهم مغاضبا ، وتقدمت الاشارة اليه والى قصته مع قومه في الآية ٩٨ من سورة يونس والآية ٨٧ من سورة الأنبياء والآية ١٤٠ وما بعدها من سورة الصافات .. وقد أوصى سبحانه نبيه الكريم محمدا (ص) بالصبر على أذى قومه ، وان لا يعجل عليهم كما فعل يونس الذي التقمه الحوت ، فنادى وهو في بطنه : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ـ ٨٧ الأنبياء.

(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ). دعا يونس ربه ، وهو في بطن الحوت ، فاستجاب دعاءه رحمة به ، ونبذه الحوت من بطنه في الفضاء ، وهو غير مذموم ولا ملوم عند الله ، ولو لا دعاؤه ورحمة الله لكان مذموما وملوما ، بل ولبقي في بطن الحوت الى يوم يبعثون. وتجدر الاشارة الى ان الذم هنا على ترك الأفضل لا على الذنب لمكان العصمة (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ). من نعم الله على يونس انه تعالى أخرجه من بطن الحوت ، وهو راض عنه ، ورده الى قومه نبيا كما كان من قبل ، فانتفعوا به وبمواعظه ، ولو بقي في بطن الحوت الى يوم يبعثون لم يكن لنبوته أي أثر ، وقوله تعالى : فجعله من الصالحين معناه ان الله سبحانه يحشره غدا مع النبيين وفي زمرتهم.

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ). الخطاب

٣٩٨

لرسول الله (ص) والمعنى ان المشركين حين يسمعون القرآن من محمد (ص) ينظرون اليه شزرا بعيون العداء والبغضاء ، وتكاد قدم الرسول الأعظم (ص) تزل وتزلق من نظراتهم لأنها حادة كالسهام .. قال الرازي : يقول العرب : نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني ، ويكاد يأكلني ، قال الشاعر :

يتقارضون إذا التقوا في موطن

نظرا يزلّ مواطئ الأقدام

(وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ). نظروا الى الرسول (ص) بنظرات كالسهام ، وأيضا سلقوه بألسنة حداد كقولهم : هو مجنون .. وقد رد عليهم سبحانه في أول هذه السورة بقوله: (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ). ضمير هو للقرآن : والمراد بالذكر التذكير بالخير ، والإرشاد الى طريقه ، والمعنى ان القرآن وحي من الله أنزله على قلب محمد (ص) ليهدي به جميع الناس في كل زمان ومكان.

٣٩٩

سورة الحاقّة

٥٢ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحاقة ما الحاقة الآية ١ ـ ١٨ :

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨))

٤٠٠