التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

ببعضه. وأعرض عن بعض لم يخبر بالبعض الآخر. وصغت مالت. والتظاهر التعاون ، والظهير المعين. وسائحات صائمات أو المتأملات اللائي يتعظن بمواعظ الله سبحانه وهي مأخوذة من السياحة بالعقل والقلب.

الإعراب :

تحلة مصدر مثل تكرمة. وقال صاحب البحر المحيط : انما جمع في قوله : «قلوبكما» مع انهما قلبان فرارا من الجمع بين ضميري التثنية في كلمة واحدة ، ويصح أن يقال : قلباكما. هو مولاه مبتدأ وخبر والجملة خبر ان. وجبريل مبتدأ وما بعده عطف عليه ، وظهير خبر عن الكل ، ولفظ فعيل يقع على الواحد والجمع ، وبعد ذلك منصوب بظهير. وخيرا صفة لأزواج وكذا ما بعده.

ملخص القصة :

اختلف المفسرون والرواة في سبب نزول هذه الآيات ، ونثبت هنا ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن عائشة ، قالت : كان رسول الله (ص) يحب الحلواء والعسل ، وفي ذات يوم شرب عسلا عند زوجته زينب بنت جحش ، فتواطأت أنا وحفصة على ان الرسول إذا دخل على إحدانا أن تقول له : اني أجد منك ريح مغافير (١). وهكذا كان. فقال الرسول : لا بل شربت عسلا عند زينب ولن أعود ، وقد حلفت ، ولا تخبري بذلك أحدا.

وفي تفسير الشيخ المراغي ان التي دخل عليها النبي (ص) وحرّم على نفسه العسل أمامها هي حفصة ، فأخبرت عائشة بذلك مع ان النبي (ص) استكتمها الخبر. وقال الشيخ المراغي : وقد كانت عائشة وحفصة متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي (ص).

ومهما قيل عن سبب النزول فإن ظاهر الآيات يدل بوضوح ان النبي (ص) كان

__________________

(١). صمغ حلوله رائحة كريهة ، وكان الرسول يكره ان تكون له ريح غير طيبة.

٣٦١

قد امتنع عن شيء أحله الله له لسبب من الأسباب ، وانه قد أسر بذلك الى بعض أزواجه ، وأمرها بالكتمان ، ولكنها خالفت وأفشت ، فعاتب الله سبحانه نبيه الكريم على امتناعه عما أحل الله له ، وهدد أزواجه اللائي لا يستمعن الى أمره.

المعنى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ). الخطاب لرسول الله ، والمراد بالتحريم هنا مجرد الامتناع والالتزام بالترك لتطييب خاطر من تحسن العشرة معه ، تماما كما لو ألزمت نفسك بترك الدخان إرضاء لزوجتك التي يؤذيها ذلك ... فليس المراد بالتحريم هنا التحريم الشرعي .. مستحيل .. كيف وكتاب الله الذي نزل على قلب محمد (ص) يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) ـ ٩٠ المائدة. ويقول أيضا : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) ٥٨ يونس.

وقيل : ان الشيء الذي حرمه النبي (ص) على نفسه هو العسل وانه قصد بذلك مرضاة زوجته حفصة حيث ساءها أن يشرب النبي (ص) العسل عند زوجته زينب بنت جحش ، فطيّب قلب حفصة بالامتناع عن شرب العسل. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). العفو والغفران من الله سبحانه لا يستدعي وجود الذنب ، فكثيرا ما يكون تعبيرا عن ثوابه ورحمته ، وقد كان الأنبياء يطلبون من الله الصفح والمغفرة ، ومثله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) ـ ٤٣ التوبة.

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ). قيل : ان النبي (ص) كان قد حلف على ترك شيء أحله الله له ، فأمره سبحانه أن يدع يمينه ويكفّر .. وفي رأينا ـ والله أعلم ـ ان النبي (ص) لم يحلف ، ولكنه وعد بالترك ، ووعد المعصوم يجب الوفاء به على كل حال ، سواء أكان الموعود به مندوبا أم مباحا ، لأن وعده أقوى وأعظم من يمين غيره ومن ثم يصح ان يطلق اليمين على وعده. (وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). الله يتولى امور النبي والمؤمنين ، وينصرهم على المتآمرين ، وهو اعلم بالحكمة والمصلحة التي على أساسها يشرع احكام اليمين وغيرها.

٣٦٢

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً). يدل هذا على ان النبي (ص) بشر يسرّ إلى أزواجه كما يسرّ الناس إلى أزواجهم ، وانه لا يمتاز عنهم إلا بنزول الوحي عليه ، والعصمة عن محارم الله وكل ما يشين. أنظر ج ٥ ص ٢١٣ فقرة «حقيقة النبوة» (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ). ضمير «به» وأظهره وبعضه يعود إلى الحديث الذي أسره النبي (ص) إلى بعض أزواجه ، والضمير المستتر في نبأت يعود إلى حفصة ، والضمير في عرّف يعود إلى النبي (ص) ، والمعنى ان حفصة أفشت سر النبي على الرغم من وصيته لها بالكتمان ، ولما أذاعت وأفشت أخبر الله نبيه الكريم بخبرها ، فأطلعها النبي (ص) على بعض ما أفشت ، وأعرض عن بعضه رفقا بها .. وفيه إيماء الى انها تجاوزت الحد في الإفشاء (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا). سألته من الذي أخبره بخبرها (قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ـ أي مالت إلى الحق ـ وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ). ضمير عليه يعود إلى رسول الله ، وضمير تتوبا وتظاهرا وقلوبكما إلى عائشة وحفصة ، كما في كتب التفسير والحديث ، ونختار منها أربعة : اثنين من التفسير واثنين من الحديث ، فقد جاء في تفسير الطبري ما نصه : «قوله تعالى : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) يقول تعالى ذكره للتي أسر اليها النبي (ص) حديثه ، والتي أفشت اليها حديثه ، وهما حفصة وعائشة ، وبنحو ما قلنا قال أهل التأويل». وقال الرازي ما نصه أيضا : «ان تتوبا الى الله خطاب لعائشة وحفصة». وقال البخاري في الجزء السادس من صحيحه بعنوان «سورة التحريم» : «سأل ابن عباس عمر بن الخطاب : من اللتان تظاهرتا على النبي (ص) من أزواجه؟ فقال : تلك حفصة وعائشة» ومثله في القسم الثاني من الجزء الأول من صحيح مسلم بعنوان «باب في الإيلاء واعتزال النساء». وفيه أيضا سؤال آخر حول تتوبا ، قال مسلم في الباب المذكور :

«سأل ابن عباس عمر : من المرأتان من أزواج النبي (ص) اللتان قال لهما ان تتوبا فقد صغت قلوبكما؟ قال عمر : هي حفصة وعائشة».

وعلى هذا يكون معنى الآية ان عائشة وحفصة قد تعاونتا على النبي (ص) ، وأساءتا اليه بإفشاء سره على الرغم من وصيته بالكتمان ، وان الله سبحانه قد أمرهما

٣٦٣

بالتوبة والانابة عن هذه الخطيئة ، فإن تابتا وأصلحتا فقد مال قلباهما الى أمر الله والإخلاص لرسوله ، وان أصرتا على التعاون ضد الرسول فإن الله وليه وناصره ، وأيضا يعينه ويؤازره جبريل وجميع الملائكة والمؤمنين الصالحين.

وتسأل : لما ذا كل هذا التهديد والوعيد؟ وما هو شأن عائشة وحفصة حتى يحشد عليهما قوة الله وقوة جبريل ومعه جميع الملائكة وصالح المؤمنين؟.

الجواب : ان عائشة وحفصة غير مقصودتين بالخصوص من هذا التهديد ، وانما المقصود أولا التنويه بعظمة الرسول ومكانته ، ثم افهام الجميع بما فيهم حفصة وعائشة والمنافقين والكافرين وكل من أضمر أو يضمر السوء للرسول الأعظم (ص) افهام الجميع بأن النبي (ص) في حصن حصين من قوة الله وملائكته وأوليائه.

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً). ما الذي أغراكن يا نساء النبي بالتظاهر عليه وعلى معصيته؟. هل اغتررتن بجمالكن أم بدينكن وطاعتكن لله ورسوله ، أم بماذا؟. ولتعلم كل واحدة منكن ان الرسول الأعظم (ص) لو طلقكن بكاملكن لأبدله الله خيرا منكن جمالا وكمالا ودينا وإخلاصا ثيبات إن شاء ، وإن شاء أبكارا أو هما معا.

وقودها الناس والحجارة الآية ٦ ـ ٩ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا

٣٦٤

يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩))

اللغة :

قوا أنفسكم احفظوها وصونوها. والوقود بفتح الواو حطب النار ، والتوبة النصوح الخالصة.

الإعراب :

وأهليكم عطف على أنفسكم. ونصبت نارا بنزع الخافض أي احفظوا أنفسكم وأهليكم من النار. ما أمرهم «ما» مصدرية والمصدر المنسبك منصوب بنزع الخافض أي لا يعصون الله في أمره. ونصوح مصدر وصف به التوبة على المبالغة. ويوم لا يخزي «يوم» منصوب بيدخلكم.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ). المراد بالحجارة هنا الأصنام لقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ـ ٩٨ الأنبياء. والمعنى إذا كان المؤمن يشعر بالمسؤولية أمام الله عما يقول ويفعل ، ويخاف من غضبه وعذابه ـ فإن عليه أن يعلم انه مسؤول أيضا أمام الله عن أهله وأولاده ، وان من واجبه أن يمد يده الى العمل على صلاحهم وتقويمهم ، وإذا كان الأب يفعل الكثير من أجل ولده حرصا عليه وعلى مستقبله

٣٦٥

في هذه الحياة الفانية فأولى له أن يعمل لسعادته في الحياة الباقية ، وأن يقيه ما هو أشد وأعظم من غدرات الزمان وضرباته .. ولكن .. ما يصنع الأب المؤمن مع هذا الجيل الجديد الذي يريد من الآباء أن يخضعوا لأمره ، وينزلوا على رأيه؟

(عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) على الجفاة الطعام الذين طغوا وبغوا في الحياة الدنيا على عباد الله وعياله (لا يَعْصُونَ ـ أي الملائكة الغلاظ ـ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ). يسرعون الى طاعة الله من غير توان ، وهو يقول لهم مشيرا الى كل سفاح اثيم : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) ـ ٣١ الحاقة. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). ان هذا اليوم يوم حساب وجزاء على الأعمال ، لا يوم توبة ومعذرة ، وبأي شيء يعتذر الذين تدور مصانعهم ليل نهار لإنتاج الموت والدمار؟

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ). عسى من الله معناها الوجوب والتوبة النصوح هي الصادقة في الاقلاع الخالصة لوجه الله وحده ، وهي مبسوطة لكل من أذنب وأساء ، وأيضا هي حسنة عظمى تجبّ ما قبلها من السيئات ، وتستوجب ثواب الله وجنانه (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ). هذا تعريض بأعداء النبي ، وانه مخزيون دنيا وآخرة ، والا فمن الذي يتصور ان الله يخزي محمدا يوم القيامة ، وقد كانت حياته في الدنيا رحمة للناس أجمعين.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). تقدم مثله في الآية ١٢ من سورة الحديد (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). أبدا .. لا رأفة ولا هوادة مع الطغاة اللئام .. ولا شيء لهم عند الحق والعدل إلا السيف ، وأي شرع وقانون يرحم ويتساهل مع الذين يستهينون بحياة الناس ، وينشرون الرعب والذعر في القلوب ، ويقولون : من لم يكن معنا وعبدا لنا فهو علينا وعدو لنا .. وما له عندنا إلا السلاح الجهنمي؟. وبالتالي ، فإن الرحمة والرأفة هي القضاء على العدوان وأهله .. والله سبحانه رحيم في ناره تماما كما هو رحيم في جنته.

٣٦٦

أمرأة نوح وأمرأة لوط الآية ١٠ ـ ١٢ :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

اللغة :

تحت عبدين أي زوجتين لنبيين عظيمين. فخانتاهما أي بالكفر والنفاق لا بالزنا والفجور. والإحصان العفاف. والفرج شق جيب القميص ، وكل شق هو فرج. والمراد بالنفخ الخلق. وبالروح الحياة ، وأضافها اليه سبحانه لأنه مصدرها وموجدها.

الإعراب :

ضرب بمعنى جعل ، وامرأة نوح مفعول أول مؤخر ، ومثلا مفعول ثان مقدم. وصالحين صفة لعبدين. وشيئا مفعول مطلق ليغنيا. ومريم عطف على امرأة فرعون. والقانتين جمع للذكور والإناث تغليبا للذكورية على التأنيث.

المعنى :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا

٣٦٧

صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ). لا فرق بين الرجل والمرأة أصلا وطبيعة ومسؤولية ، وكل منهما جزء متمم للآخر ولا غنى لأحدهما عن صاحبه ، وفي الرجال الصالح والطالح ، وفي النساء الصالحة وغير الصالحة .. والآية بعيدة عن المقارنة بين الرجل والمرأة ، وانما ضرب الله مثلا بها من دون الرجل تعريضا ببعض أمهات المؤمنين اللائي تظاهرن على الرسول الأعظم (ص) كما جاء في الآية ٤ من هذه السورة ، فإنه سبحانه بعد أن ذكر ان بعض نساء النبي قد تظاهرن عليه ، وهددهن ـ ذكر هنا ان القريب من الله تعالى من قرّبته الأخلاق والأعمال حتى ولو كان أقرب الناس لأشقى الأشقياء ، وان البعيد عنه تعالى من أبعدته السيئات والآثام حتى ولو كان أقرب الناس لأتقى الأتقياء .. أبدا لا محاباة ولا قرابات .. لا شيء على الإطلاق يجدي في يوم القيامة إلا التقى والإخلاص.

وقد ضرب سبحانه مثلا لذلك بامرأة نوح وامرأة لوط ، فقد كانت الأولى تؤذي زوجها وتقول : انه مجنون ، وتفشي أسراره بين المشركين ، وكانت الثانية تعين الطغاة على زوجها وتدلهم على أضيافه .. ومن أجل هذا وصفهما سبحانه بالخيانة التي هي ضد الأمانة لا بمعنى الزنا ، فإن المسلمين يعتقدون انه ما زنت امرأة نبي قط.

والخلاصة ان الله سبحانه أدخل النار امرأة نوح وامرأة لوط لكفرهما ونفاقهما مع انهما كانتا زوجتي نبيين عظيمين ، فكذلك سبحانه يدخل النار أزواج الرسول الأعظم (ص) اللائي تظاهرن عليه ان لم يتوبا الى الله وإليه.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). بعد أن ضرب سبحانه مثلا بامرأة نوح وامرأة لوط على ان قرابة الخبيث من الطيب لا تنفعه شيئا ـ ضرب مثلا بامرأة فرعون على ان صلة الطيب بالخبيث لا تضره شيئا ، فقد آمنت آسية بنت مزاحم بالله وكتبه ورسله وكفرت بزوجها فرعون ، فهددها بالقتل فآثرت مرضاة الله ونعيمه على ملك فرعون وسلطانه ، وتبرأت منه ومن عمله ، وسألت الله سبحانه أن يشملها برحمته ، وينعم عليها من فضله. وفي تفسير الطبري : ان فرعون أرسل رجاله اليها ، وقال لهم : أنظروا أعظم صخرة تجدونها ، فإن بقيت

٣٦٨

على الايمان بالله فالقوا الصخرة عليها ، وان رجعت فهي امرأتي ، فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء ، فأبصرت بيتها في الجنة ، فمضت على قولها ، فانتزع الله روحها ، وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح. وفي بعض التفاسير ان طلبها من الله أن يبني لها عنده بيتا هو من باب الجار قبل الدار.

(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ). أحصنت فرجها كناية عن طهارتها مما رماها به اليهود من البغاء والفجور ، والمراد بالنفخ من روحه تعالى انه منح الحياة لوليدها السيد المسيح تماما كما منح الحياة لآدم : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ـ ٢٩ الحجر. والمعنى ان الله سبحانه ضرب مثلا للمؤمنات بالسيدة العفيفة مريم التي آمنت بالله ورسله وكتبه ، فاصطفاها على نساء عصرها ، وصانها من الدنس بفضله ؛ وحملت وليدها بكلمته. وتقدم مثله في أكثر من آية. أنظر تفسير الآية ١٧١ من سورة النساء ج ٢ ص ٥٠٠.

٣٦٩
٣٧٠

الجزء التّاسع والعشرون

٣٧١
٣٧٢

سورة الملك

٣٠ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تبارك الذي بيده الملك الآية ١ ـ ١١ :

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١))

٣٧٣

اللغة :

تبارك تعالى عما لا يليق. بيده الملك له التصرف المطلق. ليبلوكم : ليظهر أعمالكم بالامتحان. وطباقا أي يشبه بعضها بعضا في الإتقان كما تقول : هذا مطابق لذاك. والتفاوت الاختلاف أي لا ترى اختلافا في إتقان الصنع. والمراد بالفطور هنا الخلل والنقص. وكرّتين مرتين والمراد بهما هنا أكثر من مرة ومرة بعد مرة. وينقلب يرجع. وخاسئا ذليلا. وحسير كليل. والرجم الرمي. وتميز تتفرق وتتقطع من حنقها. وسحقا. بعدا وهلاكا.

الإعراب :

تبارك فعل ماض ، وقالوا لم ينطق له بمضارع. والمصدر من ليبلوكم متعلق بخلق. وأيكم مبتدأ وأحسن خبر وعملا تمييز. وطباقا صفة لسماوات وهي مصدر بمعنى اسم الفاعل أي مطابقة. وكرّتين قائم مقام المفعول المطلق أي رجعتين مثل ضربته مرتين. وخاسئا حال من البصر. والذين كفروا خبر مقدم وعذاب جهنم مبتدأ مؤخر. وسحقا مصدر مؤكد أي سحقهم الله سحقا.

المعنى :

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). علا سبحانه بحوله على كل شيء وهيمن على كل شيء ، ولا يعجزه شيء .. ومن آثار هذه العظمة انه (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ). من اين جاءت الحياة؟ وكيف ذهبت؟ لا تفسير لذلك إلا بوجود الحي الذي لا يموت. أنظر ج ٣ ص ٢٣١ فقرة «من اين جاءت الحياة»؟. أما الحكمة من الحياة في الدنيا ثم الموت ثم البعث فهي ان تظهر أفعال الإنسان في دنياه ، ويثاب عليها أو يعاقب في آخرته. وفي الحديث ان رسول الله (ص) حين تلا هذه الآية فسرها بقوله : «أيكم أحسن عقلا ، وأورع عن محارم الله ، وأسرع الى طاعته».

٣٧٤

وأيضا من آثار عظمته تعالى انه (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) وذكر السموات السبع لا يفيد الحصر. انظر آخر سورة الطلاق فقرة «سبع سماوات ومن الأرض مثلهن». وطباقا أي يطابق بعضها بعضا في دقة الصنع ، والمعنى حقّق وتفحص وتأمل جيدا ، وعاود النظر مرات ومرات في خلق الكائنات فإنك لا ترى ولن ترى إلا الحكمة والدقة والا النظام والانسجام والتناسب والتناسق في كل شيء .. أبدا لا تفاوت في إتقان الصنع ، ولا خلل ولا نقص في شيء من أصغر صغير الى أكبر كبير .. سل العقول مجتمعة : من الذي أعطى كل شيء خلقه فقدره تقديرا؟. هل الصدفة أتت بكل هذه الأسرار والعجائب؟ وهل هي قاعدة تطرد في كل شيء ومبدأ لا ينقضه شيء؟ ومتى بهرت الصدفة الألباب وحيرت؟ ولا جواب عند العقول العليمة السليمة إلا بالرجوع الى قوة تكمن وراء الطبيعة والاعتراف بالعجز عن ادراك حقيقتها وكنه عظمتها.

وهنا يكمن السر لتاريخ الايمان بالله الذي وجد بوجود الإنسان بل بوجود كل كائن يحس ويشعر ، ونحن على علم اليقين بأن الجاحد لو فكر وتدبر خلق السموات والأرض لآمن بالله من حيث يريد أو لا يريد. قال «لورد كيلفن» أحد علماء الطبيعة البارزين : «إذا فكرت تفكيرا عميقا فإن العلوم سوف تضطرك الى الاعتقاد بوجود الله. وهذا ما أعلنه القرآن بقوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ٢٨ فاطر.

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ). الدنيا هنا تأنيث الأدنى ، وهي صفة للسماء أي انه تعالى زيّن بالمصابيح السماء التي هي أقرب إلينا من سائر السموات ، والمراد بالمصابيح النجوم ، أما الرجم فقد يكون بالشهب التي تحترق ـ غالبا ـ في الفضاء قبل أن تصل الى الأرض ، وقد يكون بالحجارة المتساقطة من النجوم ـ النيازك ـ وكل عات متمرد فهو شيطان قال تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) ـ ١٤ البقرة واعتدنا أي أعددنا. وتقدم مثله مع التفسير في الآية ٦ من سورة الصافات ج ٦ ص ٣٣٠ والآية ١٢ من سورة فصلت ص ٤٨٠ من المجلد المذكور.

٣٧٥

وقال البعض في تفسير هذه الآية : ان الدجالين يوهمون انهم يعلمون الغيب من النظر الى النجوم ، وان الله سبحانه سوف يرجمهم يوم القيامة بشرر من نار جهنم لأنهم كانوا يقولون رجما بالغيب! .. وهذا التفسير أيضا رجم بالغيب.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ). قال صاحب الظلال : قد يظن ان هذا تعبير مجازي .. ولكن جهنم مخلوقة حية تكظم غيظها ، وتنطوي على بغض وكره! .. وأكثر المفسرين على ان المراد ان لجهنم لجبا وكلبا عظيمين ، يكاد من يراها يحسبها غضبى على الكافرين بحيث توشك أن تتقطع أوصالها من الحنق عليهم. وهذا التفسير أقرب الى الافهام والتصديق من تفسير صاحب الظلال الذي يشبه تفسير أهل الظاهر.

(كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ). المراد بخزنة جهنم الموكلون بها ، والقصد من سؤال الخزنة هو توبيخ المجرمين وإيلامهم تماما كقولك لمن أخذ بجريمته : هذا ما جنته يداك.

(قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ). الأنبياء في ضلال كبير! .. ولما ذا لأنهم يدعون الى التوحيد والعدل .. أما العتاة الطغاة الذين يعبدون الحطام والأصنام فهم على بصيرة من أمرهم .. هذا هو منطق أهل الضلال والفساد في كل زمان ومكان (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ). جاءهم الرسل بالبينات من عند الله ، فكذبوا علوا واستكبارا ، وقالوا لهم : أنتم ضالون مضلون تفترون على الله الكذب .. ولما أحاط بهم العذاب ذلوا وندموا واعترفوا بأنهم هم الضالون عن الهدى المكذبون بالحق .. ولكن جاء هذا بعد فوات الأوان ، فكان جزاؤهم الشهيق والحريق. وتقدم مثله في الآية ١٣٠ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٦٥ والآية ٧١ من سورة الزمر ج ٦ ص ٤٣٣.

٣٧٦

فامشوا في مناكبها الآية ١٢ ـ ١٩ :

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩))

اللغة :

ذات الصدور الضمائر. واللطيف هنا من اللطف بمعنى الرفق. وذلول من الذل بكسر الذال وهو اللين ضد الصعوبة ، والذل بضم الذال الصغار والهوان. ومناكب الأرض طرقها ونواحيها. والنشور البعث. وتمور تهتز وتضطرب. وحاصبا من حصبت الرجل إذا رميته بالحصباء أي الحصى. ونكبر الله عذابه. صافات باسطات أجنحتهن. ويقبضن يضممنها.

الإعراب :

بالغيب متعلق بمحذوف حال من فاعل يخشون ، والتقدير كائنين بالغيب على

٣٧٧

معنى غائبين عن أعين الناس. الا يعلم من خلق الهمزة للاستفهام ، ولا للنفي ، وفي يعلم ضمير مستتر يعود الى ربهم ، ومن مفعول ، والمعنى الله يعلم مخلوقاته. والمصدر من أن يخسف بدل اشتمال من «من في السماء» ومثله أن يرسل ، وإذا للمفاجأة ، وجملة هي تمور حال من الأرض. ونذير مبتدأ مؤخر وكيف خبر مقدم. ونكير اسم كان وكيف خبرها. وأصل نكير نكيري.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ). بعد أن ذكر سبحانه ما أعد للمجرمين من العذاب ذكر ما أعد للمتقين من الثواب على مبدأ الجمع بين الترغيب والترهيب ، والمتقون هم الذين يتورعون عن محارم الله في جميع الحالات ، لا فرق عندهم علم الناس بحالهم أم لم يعلموا لأنهم لا يفعلون إلا لوجهه الكريم ، وهو يعلم السر وأخفى (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). ومن علم الضمائر فبالأولى أن يعلم السر من القول. وتقدمت هذه الآية في سورة هود ج ٤ ص ٢٠٥ ، أما التي قبلها فتقدمت في سورة الأنبياء ج ٥ ص ٢٨٢.

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). الله عالم بكل شيء لأنه خالق كل شيء ، وصفة اللطف تشير الى انه تعالى لا يعاجل المسيء بالعقوبة رفقا به ورحمة له ، عسى أن يؤوب الى رشده ويقلع عن ذنبه.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ). الله سبحانه رحيم بعباده ، عليم بما يحتاجون اليه في هذه الحياة ، ولذا خلق لهم الأرض ، وقدر فيها الأقوات والأرزاق ، وجعلها طوع ارادتهم تستجيب لحوائجهم ومصالحهم ، وبتعبير الشيخ عبد القادر المغربي : «الأرض لنا نعمت المطية المدربة والذلول المجربة» .. ولكنه تعالى أناط ذلك بالسعي والعمل ، فقد شاءت حكمته أن يربط المسببات بأسبابها ، والنتائج بمقدماتها ، ومن خرج على هذه السنة فقد تمرد على سنّة الله وارادته (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ). هذا تهديد ووعيد لمن يطلب الرزق بغير الكد والسعي المشروع (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ). وقال عز

٣٧٨

من قائل : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) ـ ٤ البلد أي كادحا يجاهد ويكابد كما قال كثير من المفسرين.

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً). المراد بمن في السماء خالق السماء ، وانما خصها سبحانه بالذكر مع انه خالق كل شيء ـ لأن الناس يعبرون عن تدبيره تعالى بتدبير السماء .. بعد أن ذكّر سبحانه بنعمة الأرض وخيراتها حذّر من عاقبة البغي والفساد فيها ، فإن هذه النعمة تتحول الى شر ووبال على المجرمين والمفسدين لأن الذي جعلها «ذلولا» للعباد قادر على ان يخسفها بهم بالزلازل والاهتزاز فتبتلعهم وما يملكون ، أو يرسل عليهم ريحا عاتية ترميهم بالحصباء فتفنيهم عن آخرهم. وتقدم مثله في الآية ٦٨ من سورة الاسراء ج ٥ ص ٦٥.

(فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ). لقد أنذركم الله وحذركم سوء العاقبة ، فكذبتم بالإنذار وسخرتم من التحذير ، وعما قريب يحل بكم العذاب الذي كنتم به تكذبون ومنه تسخرون (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي نكيري ، ونكيره تعالى عذابه ، والمعنى لقد سمعتم أخبار الذين أخذهم الله بذنوبهم ، وعلمتم كيف نزل بهم العذاب .. ألا تخشون ان يصيبكم ما أصابهم؟. وتقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية ٦٩ من سورة التوبة والآية ٤٥ من سورة سبأ

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ). هذه الآية تدعو الجاحدين الى التفكير في خلق الله وقدرته تعالى ، ومن آثار هذه القدرة خلق الطير وتحليقه في السماء .. فمن الذي خلقه على هيئة أهلته للطيران ، وهدته الى أن يبسط جناحيه في أكثر الأحيان ، ويضمهما حينا بعد حين تماما كما يفعل السابح؟ هل هي الصدفة والطبيعة العمياء أو قانون بقاء الأصلح : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) ـ ٣٨ الأنعام تشعر كما تشعرون ، وتسير على نواميس طبيعية كما تسيرون ، فالطائر يطير بجناحيه والإنسان يمشي على رجليه ، ويسافر في السيارة أو الطائرة أو في سفينة ماء أو فضاء ، وكل هذه الأسباب وما اليها هي من صنع الله تعالى أوجدها كوسيلة الى المقاصد والغايات. وتقدم مثله في الآية ٧٩ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٣٦.

٣٧٩

يمشي مكبا على وجهه الآية ٢٠ ـ ٣٠ :

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

اللغة :

المراد بالجند هنا المعين. ولجوا تمادوا وتجاوزوا الحد. والعتو التمرد. ومكبا على وجهه أي يسير ووجهه الى الأرض. وسويا معتدلا ومستقيما. وأنشأكم خلقكم ومثله ذرأكم. والمراد بالأفئدة هنا المدارك والعقول. والزلفة والزلفى الاقتراب ،

٣٨٠