التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

للصحابة بخاصة حاطب بن أبي بلتعة الذي ألقى بالمودة للمشركين ، والمراد بالذين مع ابراهيم كل من سار على سيرته وعمل بشريعته ، سواء أكان في أيامه أم بعدها ، فالمعروف انه ما آمن من قوم ابراهيم إلا لوط ، والمعنى ان خليل الرحمن (ع) ومن آمن به قد لاقوا الكثير من المشركين حتى الهجرة من الأوطان ومفارقة الأهل والأولاد تماما كما لاقى رسول الله والصحابة ، وقد صبر ابراهيم والذين معه ، ولم يكترثوا بما خلّفوه من الأهل والأموال ، فعليكم أنتم يا أصحاب الرسول أن تقتدوا بالذين آمنوا بإبراهيم ، ولا تكترثوا بالأهل والمال وتصانعوا المشركين لأجل ذلك.

(إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ). قال الذين مع ابراهيم للكافرين من قومهم : لا جامع بيننا ولا صلة تربطنا بكم ، أنتم أعداؤنا الى آخر يوم ما دمتم أعداء لله تعبدون من دونه الأصنام والكواكب.

(إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ). كأن سائلا يسأل : كيف أخبر سبحانه ان ابراهيم والذين معه قد تبرأوا من قومهم المشركين مع ان ابراهيم نفسه (قالَ ـ لأبيه ـ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) ـ ٤٧ مريم. فأجاب سبحانه بأن ابراهيم انما استغفر لأبيه لأن أباه كان قد وعده بأن يؤمن برسالته ، فلما تبين له أن أباه مصر على الشرك تبرأ منه كما جاء في الآية ١١٤ من سورة التوبة : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ ـ من أبي ابراهيم ـ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ). هذا ، الى ان ابراهيم قال لأبيه : اني لا أملك لك من الله شيئا ، فإن الأمر كله بيد الله وحده.

ثم بيّن سبحانه كيف انصرف ابراهيم والذين معه عن قومهم وأوطانهم ، والتجأوا الى الله وقالوا : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا). ومن توكل عليه كفاه (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا). رجعنا اليك فيما أهمنا من أمر الدنيا (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) في الآخرة للحساب والجزاء (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا). لا تسلط علينا شرار خلقك ، فيبتلونا بمحن لا نقوى على حملها (وَاغْفِرْ لَنا) ما سلف من ذنوبنا (رَبَّنا إِنَّكَ

٣٠١

أَنْتَ الْعَزِيزُ) فلا تضام ولا يضام من لجأ اليك (الْحَكِيمُ) في تصريف الكون وتدبيره.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ). ولمزيد من الحث على التأسي بإبراهيم ومن معه عاود سبحانه وكرر التذكير بهذه القدوة الحسنة عسى أن يتذكر أو يخشى من رغب في ثواب الآخرة ، وخاف من عذابها (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). من أعرض عن الاقتداء بالصالحين فإنه تعالى غني عن خلقه ، مستحق للحمد في ذاته وصفاته وجميع أفعاله .. وهكذا سبحانه يأمر الأشرار ان يتعظوا بعاقبة الماضين من أمثالهم ، ويأمر المؤمنين ان يقتدوا بهدي من مضى من الصالحين.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً). يشير سبحانه بهذا إلى فتح مكة ، وان الكثير من المشركين الذين نهاهم الله عن مودتهم سيدخلون في دين الله أفواجا .. وعندئذ يلتئم الشمل ، ويتبادل الصحابة المودة مع المسلمين الجدد (وَاللهُ قَدِيرٌ) على ان يذهب بالعداوة وأسبابها ، ويأتي مكانها بالمودة وبواعثها (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر ذنوب عباده التائبين ويشملهم برحمته. وقد أنجز الله وعده ، ونصر عبده محمدا ، فخضعت له الجزيرة العربية واستسلمت مكة ودخل أهلها في دين الإسلام أفواجا ، وحصلت المودة بين من كانوا بالأمس أعداء ألداء.

لا نهاکم الله عن الدين لم يقاتلو الآية ٨ ـ ٩ :

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩))

٣٠٢

اللغة :

البر كلمة تجمع معاني الخير والإحسان. والقسط العدل ، وقيل : المراد به هنا القسمة ، وان معنى أن تقسطوا اليهم أن تعطوهم قسطا من أموالكم. وظاهروا عاونوا وعاضدوا. وأن تولوهم أن توادوهم وتحبوهم.

الإعراب :

المصدر من ان تبروهم بدل اشتمال من الذين لم يقاتلوكم ، ومثله المصدر من ان تولوهم.

الدول الصديقة والمعادية :

دعا القرآن الكريم الى السلم ، ونهى عن القتال إلا للدفاع عن النفس ، أو لنصفة المظلوم من ظالمه ، والى السبب الأول تشير الآية ١٩٠ من سورة البقرة : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). أما السبب الثاني فقد أشارت اليه الآية ١٠ من سورة الحجرات : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ). وأنكر القرآن حروب التخريب والاستيلاء على الأقوات ومصادر الثروات : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ـ ٨٥ هود. وقال أيضا : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ـ ٨٣ القصص. وهذه الآية من الآيات التي تربط الآخرة بالدنيا ، والنشأة الثانية بالنشأة الأولى. انظر تفسير الآية ١٤٢ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٦٥ فقرة «ثمن الجنة».

أما السلم فقد حث عليه القران في العديد من الآيات ، منها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) ـ ٢٠٨ البقرة. ومنها : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ـ ١٢٥ النحل. وتقرر هذه الآية مبدأ المفاوضات

٣٠٣

لحل المشاكل الدولية وغيرها بالطرق السلمية ، بل دعا القرآن الكريم الى أخوّة عالمية تقوم على أساس التعارف والحب والبر والعدل ، قال تعالى : (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) ـ ١٣ الحجرات. فالتعارف والتآلف هو الهدف من تعدد الشعوب والقبائل ، أما البر والعدل فهما موضوع الآيتين اللتين نحن بصددهما ، ونترك الكلام عنهما للاستاذ خالد محمد خالد ، قال :

ان المبدأ الذي يرسم علاقتنا السديدة الرشيدة بمعركة اليوم يتمثل في قول الله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

«والآن فلنسأل أنفسنا وسكان الأرض جميعا : من من الدول يقاتلنا في ديننا ، ويخرجنا من ديارنا ، ويظاهر على إخراجنا؟ .. من الذين شردوا عرب فلسطين ، وانتهبوا منهم أموالهم وأرضهم وعرضهم وديارهم؟ .. من الذين مكنوا إسرائيل وزودوها بالمال والعتاد ، وقالوا لها كوني شوكة الجنب للعرب؟ .. من الذين قتلوا ولا يزالون يقتلون الكهول والولدان والنساء؟ .. من الذين حبسوا عنا السلاح وسرقوا أقواتنا؟ .. من الذين يقفون في المحافل الدولية ضد حقوقنا ، ويناصرون علينا أعداءنا»؟ ..

هؤلاء ايها السادة هم الذين ينهانا الله في كتابه ان نبرّهم ، ونتخذ منهم أولياء وحلفاء .. وهناك آية أخرى تكشف عن وجه آخر لعلاقتنا مع هؤلاء ، وهي : (قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ). ان الله لا يرضى ان نكون سلبيين مع هؤلاء الذين تحالفوا على مصيرنا بل يحرضنا على قتالهم لأنهم البادئون والظالمون .. أي سند من دين؟. أي سند من خلق يعتمد عليه أولئك المجرمون الذين يدعوننا لصداقة الغرب والتحالف معه؟. ولا أعرف صورة من صور الإلحاد في الدين والنكوص عن الشرف والحق والواجب أبشع من هذه الصورة والدعوة التي تحيي قاتلها وتموت في سبيل جلادها .. أنقاتل الذين يسالموننا ، ونسالم الذين يقاتلوننا ، ويذبحوننا ذبح النعاج؟ .. كيف وقد زفوا إلينا في ليلة سوداء عروس الشرق

٣٠٤

الأوسط إسرائيل ، وازدادوا بها جثوما على بلادنا وتقتيلا لأنفسنا وأحرارنا ، وتشتيتا لكياننا ووحدتنا؟ .. فمن كان صاحب وعي فلينتفع بالتجربة ، ومن كان صاحب دين فليقرأ قول ذي الجلال : (قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ).

وبعد ، فقد اقتطفنا هذه الكلمات من كتاب الدين في خدمة الشعب ، المطبوع سنة ١٩٦٣ ، ولو ان الأستاذ خالدا كتب اليوم في هذا الموضوع لما زاد حرفا واحدا عما كتبه منذ سبع سنوات لأنه على علم اليقين من ان ما حدث في حزيران ١٩٦٧ وما يحدث الآن هو جزء من مخطط وضعه سلفا المستعمرون والصهاينة ، وأعانهم على تنفيذه الذين يستميتون «في سبيل جلاد أمتهم». وأيضا يستميت هذا الجلاد في سبيل «حكامه» من العرب والمسلمين حرصا على مصالحه وأغراضه.

واتفق فقهاء المذاهب على ان الصدقة غير الواجبة تجوز من المسلم على الذمي من أهل الكتاب ، بل قال أبو حنيفة : تجوز عليه زكاة الفطر والكفارات. وأيضا اتفقوا على جواز الوصية له بالمال ، والوقف عليه ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) الخ.

اذا جاءكم المؤمنات مهاجرات الآية ١٠ ـ ١١ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ

٣٠٥

فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١))

اللغة :

فامتحنوهن أي اختبروهن. فإن علمتموهن مؤمنات أي أظهرن الايمان. لا جناح لا إثم. والعصم ما يعتصم به من عقد الزواج وغيره. والكوافر جمع كافرة. وان فاتكم شيء من أزواجكم أي ذهبت احدى أزواجكم. فعاقبتم أي ظفرتم بالكفار وكانت لكم العقبى عليهم.

الإعراب :

مهاجرات حال من المؤمنات. ومؤمنات مفعول ثان لعلمتموهن. وترجعوهن هنا بمعنى تردوهن ولذا عدي الفعل الى المفعول. والمصدر من أن تنكحوهن مجرور بفي مقدرة.

المعنى :

في سنة ست من الهجرة عقد النبي (ص) صلح الحديبية مع قريش. أنظر تفسير الآية ١٠ من سورة الفتح فقرة «خلاصة القصة» ، وجاء في عهد الصلح : ان من أتى محمدا (ص) من قريش رده عليهم ، ومن أتى قريشا من عند محمد (ص) لم يردوه عليه. وقال المفسرون : بعد ان تم الصلح بين الطرفين جاءت امرأة من قريش مهاجرة الى رسول الله (ص) وجاء زوجها على أثرها ، وكان مشركا ، فقال : يا محمد ، اردد عليّ امرأتي ، فإنك شرطت لنا ان ترد علينا من أتاك منا .. فنزلت هاتان الآيتان لبيان حكم الزوجات اللائي آمنّ من دون أزواجهن ، واللائي ارتددن عن الإسلام. وفيما يلي التفصيل :

٣٠٦

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ). يقول سبحانه للمسلمين : إذا جاءتكم امرأة من دار الشرك ، وقالت : أتيت مؤمنة بالله ورسوله فاختبروها. واختلف المفسرون في أي شيء يختبرها المسلمون؟. وأرجح الأقوال أن تشهد المرأة ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله ، لأن الرسول الأعظم (ص) كان يكتفي بذلك لاثبات الإسلام ، وعليه إجماع المسلمين ، ولقوله تعالى بلا فاصل : (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ) أي خذوا بالظاهر ، أما الباطن فهو لله وحده ، وللآية ٩٤ من سورة النساء : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً). فبالأولى ان لا نقول ذلك لمن نطق بالشهادتين.

(فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) أي نطقن بالشهادتين (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ). لا تعيدوا الى الزوج المشرك ـ أيها المسلمون ـ زوجته التي هاجرت إليكم مؤمنة لأنها لا تحل له بعد ان انقطعت العصمة بينهما. وان سأل سائل : ان قوله تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) يغني عن قوله : (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) فما هي فائدة التكرار؟ قلنا في جوابه : من الجائز أن يكون التكرار للاشارة الى أنه لا أثر لاعتقاد المشرك انها ما زالت في عصمته وأيضا يجوز أن يكون لمجرد التأكيد (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا). ولكن ردوا أيها المسلمون الى الأزواج مثل ما أعطوا الزوجات من المهر. ويختص هذا الحكم بحال الهدنة بين الرسول والمشركين ، ولا ينسحب الى ما بعدها ، لأن المهر يستقر على الزوج بمجرد الدخول ، ولا يسقط بانفساخ العقد ، سواء أسلمت هي من دونه أم أسلم هو من دونها.

٢ ـ (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ). للمسلم أن يتزوج المهاجرة المؤمنة بعد أن حرمت على زوجها ، شريطة أن يفرض لها المسلم مهرا ، وأن يتم الزواج بعد انقضاء العدة من المشرك إذا كان قد دخل بها.

٣ ـ (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ). إذا كان الزوجان مشركين ، وأسلم هو من دونها حرمت عليه لانقطاع العصمة بينهما تماما كما لو أسلمت هي من دونه .. وكذلك لو كانا مسلمين ، وارتد أحدهما عن الإسلام (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) إذا أسلم هو من دونها يحق له أن يطالب بما أعطاها من المهر ، تماما

٣٠٧

كما يحق للمشرك أن يطالب بمهر زوجته المؤمنة (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). هذا الحكم فرض لا تجوز معصيته ، فلقد شرعه سبحانه لحكمة هو بها أعلم.

(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ ـ منكم ـ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا). إذا هربت زوجة المسلم الى الكفار مرتدة عن دينها ، ولم يردوا الى زوجها المهر فردوا أنتم اليه أيها المسلمون المهر الى الزوج من الغنائم التي تكسبونها من الكفار (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ). اتقوا محارم الله ، وامتثلوا أحكامه ان كنتم صادقين في ايمانكم.

اذا جاءك المؤمنات يبعايعنك الآية ١٢ ـ ١٣ :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

اللغة :

يبايعنك أي يلتزمن بطاعتك. ومن بين أيديهن وأرجلهن كناية عن بطونهن ويأتي البيان.

٣٠٨

الإعراب :

فبايعهن جواب إذا جاءك. ومن أصحاب القبور على حذف مضاف أي من بعث أصحاب القبور والمجرور متعلق بيئس.

المعنى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ). لما فتح رسول الله (ص) مكة بايع الرجال على الطاعة والجهاد ، ثم بايع النساء :

١ ـ (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً). انظر دليل التوحيد في ج ٢ ص ٣٤٤.

٢ ـ (وَلا يَسْرِقْنَ) من أزواجهن ولا من غيرهم. وفي كتب التفسير والحديث ان هند ام معاوية قالت لرسول الله عند هذا الشرط : ان أبا سفيان رجل شحيح ، وقد أصبت من ماله ، فأقرّها النبي (ص) على ان لا تزيد عن حاجتها وحاجة أولادها.

٣ ـ (وَلا يَزْنِينَ). انظر ج ٥ ص ٤٢ و ٣٩٧.

٤ ـ (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ). كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الفقر كما أشارت الآية ٣١ من سورة الإسراء : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ).

٥ ـ (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ). هذا كناية عن البطون ، لأن مكان البطن بين اليدين والرجلين ، والمعنى ان لا تكذب المرأة فيما تخبر به من الحمل والطهر والحيض ، فلا تقول : انها في طهر وهي حائض أو العكس ، ولا تدّعي الحمل وما هي بحامل .. وبعض النسوة تدلس على الزوج ، فتوهمه انها حامل ثم تدعي انها أسقطت أو تأتي بلقيط تنسبه الى الزوج زورا وبهتانا.

٦ ـ (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) ولا يأمر النبي (ص) إلا بمعروف ، ولا ينهى إلا عن منكر (فَبايِعْهُنَّ) على الوفاء بما ذكر (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) ما تقدم من ذنوبهن (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر للتائبين والتائبات ، ويشملهم برحمته.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ

٣٠٩

كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ). خاطب سبحانه المؤمنين في أول هذه السورة بقوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ). وختمها سبحانه بمثل هذا الخطاب ، والغرض تحذير المؤمنين من أعداء الله والحق ، وان لا يأمنوهم على شيء من أخبار الرسول (ص) والمسلمين ، ولا يركنوا الى أكاذيبهم ودسائسهم ، لأنهم لا يرجون لقاء الله ، والبعث عندهم تماما كرجوع الموتى الى الحياة الدنيا ، ومن أجل هذا غضب الله عليهم وأعدّ لهم عذابا أليما.

٣١٠

سورة الصّفّ

١٤ آية مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كأنهم بنيان مرصوص الآية ١ ـ ٦ :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦))

٣١١

اللغة :

المقت أشد البغض. والمرصوص كناية عن البناء المحكم حتى كأنه بني بالرصاص. والزيغ الانحراف عن الحق.

الإعراب :

مقتا تمييز. والمصدر من أن تقولوا فاعل كبر أي كبر هذا القول مقتا. وصفّا مصدر في موضع الحال من فاعل يقاتلون أي مصطفين. ومصدقا حال من رسول الله. وجملة اسمه أحمد محلها الجر صفة لرسول المجرور بالباء.

المعنى :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). شهد كل كائن بلسان المقال أو الحال لله سبحانه بالقدرة والحكمة. وتقدم بالحرف الواحد في أول سورة الحديد وأول سورة الحشر ، وتكلمنا مفصلا عن تسبيح الكائنات عند تفسير الآية ٤٤ من سورة الاسراء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ)!!. كثير من الناس يتعمدون الكذب والخداع ، فيتصرفون في الخفاء ما لا يبدونه علانية .. وليس من شك ان هؤلاء منافقون بكل ما في كلمة النفاق من معنى ، ومن ثم فلا يصح ان يخاطبوا بيا أيها المؤمنون ، وان تظاهروا بالايمان ، ومن الناس من يقول ويعد بنية الصدق والوفاء ، ولكن تعترضه ظروف لا قبل له بها ، فيعجز عن الوفاء على الرغم مما بذله من جهد ، وهذا معذور ، ما في ذلك ريب ، ومنهم من يقول ويعد بنية الوفاء ، ولكن إذا جاء أوان العمل وتهيأت له الأسباب تراجع وألغى ارادته كسلا أو جبنا أو بخلا ، وهذا مؤمن ولكنه مؤمن متهاون ضعيف في ارادته وأمام نفسه الأمّارة بالسوء.

وهذا النوع من الناس هم المخاطبون بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ

٣١٢

تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ). ومن باء بغضب الله فقد هوى الى عذاب السعير. وقال كثير من المفسرين : ان جماعة من الصحابة كانوا قبل ان تتهيأ أسباب الأمر بالقتال يتمنون ان يفرض عليهم ، فلما تهيأت أسبابه وفرض عليهم تثاقل فريق منهم ، فنزلت فيهم هذه الآية. وليس هذا ببعيد لأن السياق يومئ اليه حيث قال سبحانه بلا فاصل : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) أي محكم ثابت كأنه بني بالرصاص ، ونقل عن علماء الآثار انهم عثروا على أبنية قديمة بنيت بالرصاص ، وقال تعالى حكاية عن ذي القرنين : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) ـ ٩٦ الكهف والقطر الرصاص أو النحاس المذاب .. ومن نافلة القول : ان الله سبحانه يحب تماسك الجماعة وتعاضدها في كل ما يعود عليها بالخير والصلاح.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ). هذا السؤال يحمل جوابه معه لأن بني إسرائيل هم قتلة الأنبياء بنص كتابهم المقدس عندهم ، فقد جاء في سفر نحميا اصحاح ٩ آية ٢٦ ما نصه بالحرف : «وعصوا وتمردوا عليك ـ أي على الله ـ وطرحوا شريعتك وراء ظهورهم وقتلوا أنبياءك الذين أشهدوا عليهم ليردوهم اليك ، وعملوا اهانة عظيمة». أما القرآن الكريم فقد سجل عليهم قتل الأنبياء في أكثر من آية. ولو ان قائلا يقول : لا شيء أدل على نبوة موسى من اساءة بني إسرائيل اليه ، وهو منقذهم والمحسن اليهم ، وعلى نبوة عيسى من أقدامهم على صلبه ، لو قال هذا قائل لكان لقوله وجه وجيه.

أما إساءة بني إسرائيل الى موسى فهي على ألوان ، قالوا له : أرنا الله جهرة. وقالوا له: فاذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون. وقالوا له : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. وقالوا له: لن نصبر على طعام واحد .. الى غير ذلك. (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ). وهذه الآية تنص بصراحة على ان الله سبحانه لا يزيغ أحدا إلا إذا زاغ هو بسوء اختياره ، ولا يهين مخلوقا ويهلكه إلا إذا هو عرض نفسه للهلكة والهوان .. فلا فرق أبدا بين معنى هذه الآية ومعنى قول القائل : من طمع بالحرام أذله الله وأخزاه ، ومن اقتنع بالحلال أعزه وأغناه .. وبهذه الآية نفسر الآيات التي نسبت بظاهرها الإضلال الى الله مثل (يُضِلُّ مَنْ

٣١٣

يَشاءُ) أي انه تعالى قد شاء وأراد أن يضل من يسلك سبيل الضلال ، ويهلك من أراد الهلاك لنفسه (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ما داموا مصرين على الفسق.

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) يعني محمدا (ص) وفي آية ثانية : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) ـ ١٥٧ الأعراف. وفي ثالثة: (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ـ ١٤٦ البقرة أعلن القرآن وأصر على ان التوراة التي أنزلت على موسى والإنجيل الذي أنزل على عيسى قد بشرا بنبوة محمد ، وجابه بهذا الحقيقة علماء اليهود والنصارى وتحداهم أن يكذّبوا ، وما ذكر التاريخ ان أحدا منهم كذّب وأنكر ، بل أثبت ان المنصفين منهم اعترفوا وأسلموا كعبد الله بن سلام وغيره مع العلم انهم كانوا ينصبون العداء لرسول الله ، ويبحثون جاهدين عن زلة يدينونه بها.

تحريف التوراة والإنجيل :

وتسأل : بماذا يجيب المسلم إذا قال له يهودي أو نصراني : لقد نص قرآنكم على ان التوراة والإنجيل بشّرا بنبوة محمد (ص) مع انه لا أثر لهذه البشارة فيما لدينا من نسخ التوراة والإنجيل؟.

الجواب : إذا سأل هذا السؤال يهودي أو نصراني فللمسلم ان يقول له : لقد أجاب عن سؤالك هذا علماء اليهود والنصارى أنفسهم ، حيث اعترفوا صراحة بأن التوراة الأصلية التي نزلت على موسى قد فقدت ، وبعد سنين طوال ادعى من ادعى بأنه يحفظها عن ظهر قلب ، وكتب دعواه هذه ، ثم قال لها كوني توراة موسى فكانت .. ونفس الشيء حدث للانجيل الأصيل الذي أنزل على عيسى .. ومن الطريف ان إنجيل السيد المسيح (ع) قد أولد بعد أن فقد عشرات الأناجيل حتى تجاوز عددها الخمسين .. وفي سنة ٣٢٥ م اجتمع رؤساء النصارى ، وأقروا ٤ أناجيل مع ان عيسى نزل عليه إنجيل واحد فقط لا غير باتفاق النصارى ،

٣١٤

فما الذي جعل الواحد أربعة؟ ولو أقروا ثلاثة أناجيل لقلنا : لكل اقنوم إنجيل .. ولا شيء أدل على ان هذه الأناجيل من رجال الكنيسة لا من المسيح انها تحدثت عن صلبه ودفنه وخروجه من القبر وصعوده الى السماء واختتام حياته على الأرض ، فهل نزل عليه الوحي بعد أن صلب ودفن؟ وإذا أمكن ذلك فهل من الممكن في حكم العقل والواقع أن ينزل عليه الوحي الذي دوّن في الإنجيل بعد أن صعد الى السماء واختتم حياته على الأرض؟.

سؤال ثان : وأين نجد هذا الاعتراف من علماء اليهود والنصارى؟.

الجواب : في العديد من كتبهم العربية والأجنبية ، فمن الكتب العربية قاموس الكتاب المقدس الذي اشترك في وضعه ٢٧ عالما ، فلقد جاء في مادة يوشيا من هذا الكتاب ما نصه بالحرف : «مما لا شك فيه ان معظم الأسفار المقدسة أتلف أو فقد في عصر الارتداد عن الله والاضطهاد». وفي مادة اسفار : «هناك رأي يقول : ان الذي أضفى صفة القانون على اسفار العهد القديم هم كتّاب الأسفار أنفسهم .. ورأي آخر يقول : هم الكتّاب المقودون ـ أي المؤيدون ـ بالروح القدس ، ومعهم قادة الدين من اليهود والمسيحيين الذين قبلوا هذه الأسفار بإرشاد الروح القدس أيضا». وهذا اعتراف لا يقبل الشك بأن الأسفار الأصلية فقدت ، وان جماعة قد كتبوا ما كتبوا أسفارا وأضفوا عليها صفة القداسة من عند أنفسهم على قول ، وبتأييد الروح القدس على قول آخر .. وسواء أخذنا بالقول الأول أم الثاني فالنتيجة واحدة ، وهي الاعتراف القاطع بأن الأسفار الموجودة الآن ما هي بأسفار موسى وعيسى الأصلية لأن هذه قد فقدت ، وحل محلها أسفار جديدة كتبها الذين زعموا القداسة لأنفسهم أو زعمها لهم قوم آخرون ، وكلهم مؤيّدون بالروح القدس .. والروح القدس عندهم هو روح الله الاقنوم الثالث ، وسمي الله روحا لأنه مبدع الحياة : وقدسا لأن من عمله تقديس قلب المؤمن على حد تعبيرهم.

وقد وضع علماء الإسلام عشرات الكتب للدلالة على تحريف التوراة والإنجيل ، منها كتاب «اظهار الحق» للشيخ رحمة الله الهندي ، وفيه مائة شاهد على تحريف التوراة والإنجيل لفظا ومعنى ، أشار الى هذا الكتاب صاحب تفسير المنار عند

٣١٥

تفسير الآية ٤٦ من سورة النساء. ومن هذه الكتب الرحلة المدرسية للشيخ جواد البلاغي ، وكتاب «محمد رسول الله في بشارات الأنبياء» لمحمد عبد الغفار ، وكتاب «محمد رسول ، هكذا بشرت الأناجيل» لبشري زخاري ميخائيل ، وآخر كتاب قرأته في هذا الموضوع «البشارات والمقارنات» للشيخ محمد الصادقي الطهراني. صدر حديثا ، وهو متخم بالشواهد القاطعة من كتب اليهود والنصارى على تحريف التوراة والأناجيل المتداولة الآن.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ ـ أي جاء عيسى بني إسرائيل ـ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ). لم يكتف اليهود بقولهم عن السيد المسيح (ع) : انه ساحر ، حتى قالوا : هو ابن النجار ، كما جاء في إنجيل متى اصحاح ١٣ آية ٥٥ وإنجيل مرقس اصحاح ٦ آية ٣ .. ينص الإنجيل على ان اليهود قذفوا السيدة العذراء بالزنا .. ومع هذا نرى الكثير من النصارى يتحالفون مع الصهيونية عدوة الأديان والانسانية بخاصة المسيحية ـ يتحالف الكثير منهم مع الصهاينة ضد الإسلام وأهل القرآن الذي يقول : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) ـ ٧٨ المائدة .. وان دل هذا التحالف على شيء فإنما يدل على ان المسيحية عند أنصار إسرائيل هي مجرد شعار لمآرب أخرى ، وان دينهم وضميرهم هو الاستيلاء والاعتداء تماما كالصهاينة.

والله متم نوره الآية ٧ ـ ١٤ :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ

٣١٦

بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

اللغة :

المراد بالإسلام هنا الاستسلام لأمر الله والانقياد لأوامره ونواهيه. والمراد بنور الله دينه وبراهينه. وأفواههم كناية عن أكاذيبهم وأباطيلهم. ومتم مظهر. وحواريو الرجل خاصته. وظاهرين غالبين.

الاعراب :

وهو يدعى الى الإسلام الجملة حال. ومفعول يريدون محذوف ، والمصدر من ليطفئوا مفعول لأجله مع ذكر اللام أي يريدون الافتراء لأجل إطفاء نور الله. والله متم نوره الجملة حال. ويغفر بالجزم جوابا لتؤمنون لأنه أمر بصيغة الخبر أي آمنوا يغفر لكم. ويدخلكم عطف على يغفر. ومساكن عطف

٣١٧

على جنات. وأخرى مبتدأ والخبر محذوف أي ولكم أخرى ، وجملة تحبونها صفة لأخرى. ونصر بدل من أخرى.

المعنى :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ)!. دعا رسول الله (ص) قومه الى نبذ الشرك والايمان بالله وحده ، فضاقوا به وتألبوا عليه ، وأثاروا حوله الشكوك والافتراءات ... وهكذا يلجأ المبطل المعاند الى اختلاق الأكاذيب ، وتلفيق الأباطيل كلما دعي الى الحق ، سواء أكان الداعي نبيا أم غير نبي (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين يفترون على الله الكذب ، ومثله : (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) ـ ٦١ طه ج ٥ ص ٢٢٦. (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ). حاولوا القضاء على الإسلام بالدسائس والأكاذيب ، فكان مثلهم في ذلك تماما كالذي ينازع الله في سلطانه ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). المراد بالرسول هنا محمد ، وبالهدى القرآن ، وبدين الحق الإسلام. وقد وردت هذه الآية والتي قبلها بالحرف الواحد في سورة التوبة الآية ٣٢ و ٣٣ ج ٤ ص ٣٣ وما بعدها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ). الدنيا في حقيقتها متجر لكل الناس بلا استثناء ... أبدا لا أحد في هذه الحياة إلا وتنطبع أعماله وتصرفاته بقصد المصلحة والربح ، ولكن المصلحة منها بشعة وقبيحة كالذي يعمل لمجرد. الشهرة وتكديس الثروة بكل سبيل ، ومنها مصلحة حسنة وخيرة كالذي يعمل لسد حاجاته وحاجات الآخرين ... ولأن الربح هو الدافع الأول على العمل فقد عرض سبحانه على عباده تجارة يربحون بها النجاة من غضبه وعذابه ، والفوز بمرضاته وثوابه ، ولا ربح كالأمان والجنان ، وقد حدد سبحانه ثمن هذا الربح بقوله :

٣١٨

(تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ). هذا هو الثمن : ايمان لا يشوبه ريب ، وتضحية بالنفس ، وإيثار بالمال ، ومتى تحقق ذلك تتم الصفقة مع الله ، ومن أوفى بعهده منه تعالى؟. وفي نهج البلاغة : ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ان النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه خير من الأنفس والأموال والأولاد.

(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ). هذا بيان وتفصيل للربح الذي ينالونه من هذه التجارة ، وأول هذا الربح غفران الذنوب ، ولا حر عند الله إلا من تحرر من ذنوبه وآثامه ، والربح الثاني ملك قائم ، ونعيم دائم (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز أعظم منه (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ). المراد بالنصر والفتح القريب فتح مكة كما يتبادر الى الأذهان .. وكان الصحابة يتلهفون على هذا النصر لكثرة ما لا قوه من مشركي أهل مكة ، فأمر سبحانه نبيه الكريم ان يبشرهم بهذا النصر وقربه بعد البشارة بالغفران والجنان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ). الخطاب في يا أيها الذين آمنوا للصحابة يأمرهم الله فيه أن يكونوا مع رسوله العظيم كما كان الحواريون مع عيسى قولا وفعلا. وتقدم مثله في الآية ٥٢ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٦٧.

وفي قاموس الكتاب المقدس : «يسمى يسوع الناصري ـ أي عيسى ـ .. والنسبة تعود الى مدينة الناصرة .. ومعنى يسوع «يهوه مخلّص» وهو اسمه الشخصي ، أما المسيح فهو لقبه .. ويقال المسيح لأنه مكرس للخدمة والفداء .. ودعي المؤمنون مسيحيين سنة ٤٢ أو ٤٣ م .. ويرجح ان هذا اللقب كان في أول الأمر شتيمة». وبين عيسى وموسى أكثر من ١٢٠٠ سنة وأقل من ١٤٩١ لأن المؤرخين على أقوال في ذلك أكثرها ١٤٩٠ وأقلها ١٢١١.

(فَآمَنَتْ طائِفَةٌ ـ بعيسى ـ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ). المراد بظاهرين الغالبون بالحجة والبرهان ،

٣١٩

والمعنى ان بني إسرائيل اختلفوا في عيسى ، وهو منهم ، فمنهم من قال : هو عبد الله ورسوله ، وقال آخرون : هو إله. وقال اليهود : ساحر وابن زنا ، فأيد الله سبحانه بالحجة والبرهان القائلين هو رسول الله على الجاحدين والمؤلهين. وفي رسائل يوحنا ان ضد المسيح هو من أنكر التجسد واتحاد لاهوت المسيح بناسوته. أما القرآن فيقول : ان أعداء المسيح هم الغالون فيه والقالون له.

٣٢٠