التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

الإعراب :

لأول الحشر متعلق بأخرج. والمصدر من أن يخرجوا مفعول ظننتم. ومانعتهم خبر إن. وحصونهم فاعل مانعتهم. ولو لا حرف امتناع. والمصدر من ان كتب مبتدأ والخبر محذوف أي لو لا كتاب الله واقع. وما قطعتم «ما» شرطية. وقائمة حال من هاء تركتموها. فبإذن الله متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي فذاك كائن بإذن الله.

ملخص قصة بني النضير :

هذه الآيات خاصة بانتصار النبي (ص) على يهود بني النضير ، وتتلخص قصتهم مع رسول الله (ص) بأنهم كانوا يسكنون في ضواحي المدينة المنورة ، ولما هاجر اليها النبي (ص) عقد معهم صلحا على أن يكونوا على الحياد ، لا له ولا عليه .. وعند ما انتصر المسلمون على قريش يوم بدر فرح بنو النضير فرحا شديدا ، ولكن لما هزم المسلمون يوم أحد نقضوا عهد الرسول (ص) ودبروا لاغتياله ، وحالف رئيسهم كعب بن الأشرف أبا سفيان ضد محمد (ص) ، وقيل : ان كعبا هجا النبي (ص) بأبيات ، فأمر النبي أحد أصحابه فقتله ، ثم سار (ص) بجيشه الى بني النضير ، وأمرهم بالجلاء عن المدينة ، فأرسل اليهم المنافقون ، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ، ان اثبتوا ونحن معكم على محمد ، فطمعوا وأصروا على الحرب ، وعندئذ حاصرهم النبي (ص) واستمر الحصار ٢١ ليلة كما في بعض الروايات.

وأمر النبي (ص) أن تقطع بعض نخيلهم ، وما حاول أحد من المنافقين وغيرهم أن يقف بجانبهم ، فاضطروا الى الاستسلام ، وصالحهم الرسول على الجلاء عن المدينة ، وان يكون لكل ثلاثة منهم بعير واحد يحملون عليه ما شاءوا ، فقبلوا وجلوا عن المدينة الى غير رجعة ، وفيهم نزلت هذه السورة ، وكان ابن عباس يسميها سورة بني النضير.

٢٨١

المعنى :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). جميع الكائنات تسبح بقدرة الله وحكمته بلسان المقال أو الحال ، وتقدم مثله بالحرف مع التفسير في أول سورة الحديد (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ). المراد بالذين كفروا هنا بنو النضير باتفاق المفسرين ، واختلفوا في معنى أول الحشر قال الرازي : ذهب ابن عباس والأكثرون الى ان معنى أول الحشر ان أهل الكتاب أخرجوا من جزيرة العرب للمرة الأولى ، وكانوا من قبل في عزة ومنعة .. وليس هذا ببعيد لأن الحشر الثاني كان على يد الخليفة الثاني ، والمعنى ان الله سبحانه أجلى بني النضير من ديارهم بأيدي المسلمين ، وكان هذا أول جلاء لليهود عن الجزيرة العربية ، أما السبب الموجب فهو غدرهم وخيانتهم ونقضهم عهد الأمان الذي قطعوه للرسول (ص) على أنفسهم.

وتسأل : لما ذا عاقبهم الرسول (ص) على خيانتهم بالجلاء ومصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة مع ان العقوبة على أنواع؟.

الجواب : لقد أخذهم بشريعتهم التي بها يدينون ، فقد نصت توراتهم على «ان المدينة التي تفتح لك فكل الشعب الموجود فيها لك للتسخير ويعبد لك ، فإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها ، وإذا دفعها الرب إلهك الى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة فهي لك غنيمة تغنمها لنفسك ـ اصحاح ٢٠ من التثنية» ... وليس من شك ان من دان بدين من الأديان أو مبدأ من المبادئ فعليه ان يلتزم بجميع أحكامه ، ويجريها على نفسه قبل أن يجريها على غيره ، وعلى هذا فإن النبي (ص) كان رؤوفا رحيما ببني النضير لأنه لم يقتل الذكور ويسبي النساء والأطفال كما نصت شريعتهم وتوراتهم .. وتكلمنا عن ذلك مفصلا في ج ٦ ص ٢٠٨ فقرة «هل ظلم محمد (ص) بني قريظة»؟

(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ). الخطاب في ما ظننتم للمسلمين. وظنوا أي بنو النضير ، والمعنى ان المسلمين لم يتوقعوا على

٢٨٢

الإطلاق أن يخرج بنو النضير من ديارهم ويتركوها لأعدائهم المسلمين لما عرفوا عنهم من العناد وشدة البأس ، وكثرة العدة والعدد ، وأيضا كان بنو النضير يعتقدون انهم في قوة ومنعة من حصونهم وعدتهم وعددهم ، وان أية يد لا تستطيع أن تمتد اليهم .. ولكن حصن الغدر والخيانة واه لا يمنع أهله ، ولا يحرز من لجأ اليه.

الدعايات المضللة والوقت المناسب :

(فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ). ظنوا انهم ما نعتهم حصونهم .. ولكن الذي بيده ملكوت كل شيء قد ختم على قلوبهم بعد ان ملأها بهيبة الرسول (ص) وجنده ، فانهارت وانهار معها كل شيء لأن القلوب هي الأساس الذي ترتكز عليه جميع القوى .. ومن هنا يحرص سفاحو الشعوب وتجار الحروب على الحرب النفسية ، ويحشدون لها الطاقات والثروات ، ونسوا أو تناسوا انه لا طريق الى القلوب إلا الحق والصدق والخير والإحسان ، وإذا وجدت الدعايات المضللة من يستجيب لها فإلى حين ، ثم تتكشف عن عورات صاحبها وأسوائه.

سئل «تشالز» الممثل الخبير بشئون الحياة : الى ما يحتاج المرء ليشق طريقه في الحياة؟ أللعقل أم الطاقة أم العلم؟ فقال : ثمة شيء أهم ، وهو معرفة الوقت المناسب. ونقول التشالز : أجل ، لا بد من الوقت ولكن على شريطة أن يكون مناسبا لمصلحة الخير لا للشر ، وللحق لا للباطل ، لأن الشر وأنصاره الى زوال : وان طال بهم الأمد.

(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ). قال بعض المفسرين : المراد بخراب البيوت هنا الجلاء عنها ، وبأيديهم اشارة الى أنهم هم السبب الموجب لهذا الجلاء حيث نقضوا عهد الرسول وميثاقه ، وأيدي المؤمنين تشير الى أن المسلمين هم الذين أجلوا بني النضير عن ديارهم. وقال آخرون : ان بني النضير أفسدوا بيوتهم بأيديهم قبل الجلاء كيلا تقع سليمة في أيدي المسلمين ، وان المسلمين دكوا بأيديهم حصون بني النضير لينفذوا اليهم .. وهذا قريب ، والاعتبار يؤيده ، وظاهر

٢٨٣

الآية يدل عليه ، ولا يتنافى مع المعنى الأول ، بل هو نتيجة للجلاء وأثر من آثاره (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ). الاعتبار هو رد الشيء الى نظائره ، والحكم عليه بأمثاله ، وقد أجلى الله بني النضير من ديارهم جزاء على خيانتهم ، فعلى العاقل أن يتعظ ويعتبر ويجتنب الغدر والخيانة لئلا يحل به ما حل بهم.

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ). عذبهم الله في الدنيا بالجلاء ولو لا ذلك لعذبهم بالقتل والاستئصال كما فعل ببني قريظة .. وفي سائر الأحوال فلا نجاة لهم من عذاب السعير (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ). استحقوا عذاب الدنيا والآخرة لأنهم خالفوا الله وتجاوزوا حدوده ، ونصبوا العداء لرسوله (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). هذا تهديد ووعيد لكل متكبر جبار.

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ـ أي نخلة ـ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ). كان النبي (ص) قد أمر أن تقطع بعض نخيل بني النضير ليغيظهم بذلك .. فظن البعض ان هذا نوع من التخريب ، فبين سبحانه ان كل ما وقع من قطع النخيل ، وما ترك منه بغير قطع فهو بأمر الله ، وليس من عند الرسول (ص) ، والقصد منه غيظ الكفار من أجل ما قطع ، وأيضا غيظهم من أجل ما بقي قائما من غير قطع حيث ينتفع به أعداؤهم.

وتجدر الاشارة الى ان قطع الأشجار وما اليه أيام الحرب لا يجوز الأخذ به كمبدأ عام ، بل قد يجب القطع ، وقد يحرم تبعا لما تستدعيه مصلحة حرب العدو تماما كهدم الدور وقلع الأشجار أيام السلم يجوزان لشق الطرق ـ مثلا ـ ويحرمان من غير مبرر.

كيلا يكون دولة بين الأغنياء الآية ٦ ـ ٨ :

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)

٢٨٤

ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨))

اللغة :

الفيء في اللغة الرجوع قال تعالى : حتى تفيء الى أمر الله أي ترجع ، وفي الشرع ما أخذ من الكفار بلا قتال ، والإيجاف العمل وقيل : السرعة. وقال الرازي : الركاب ما يركب من الإبل ، والعرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير ، أما راكب الفرس فيسمونه فارسا. والمراد بأهل القرى هنا البلدان التي تفتح بلا قتال. ودولة بضم الدال أي يتداولونه بينهم فقط دون الفقراء.

الإعراب :

وما أفاء الله «ما» اسم موصول مبتدأ. وفما أوجفتم «ما» نافية وجملة أوجفتم خبر. ومن خيل «من» زائدة وخيل مفعول أوجفتم. ودولة خبر يكون واسمها ضمير مستتر يعود على المال الذي يؤخذ من أهل القرى.

المعنى :

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ). الفرق بين الغنيمة

٢٨٥

والفيء عند كثير من الفقهاء ان الغنيمة مال كسبه المسلمون من أهل الكفر بإيجاف خيل وركاب أي بحرب وقتال ، أما الفيء فهو مال حصل بلا قتال وجهاد ، ومهما يكن فإن الآية التي نحن بصددها خاصة بأموال بني النضير لأن الضمير في «منهم» يعود اليهم ، وبناء عليه يكون المعنى ان أموال بني النضير قد جعلها الله فيئا لرسوله يضعها حيث يشاء ، ولا شيء منها للمسلمين لأنهم ما تحملوا في سبيلها أية مشقة (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ). ومن هذا التسليط انه تعالى ألقى الرعب والخوف من رسول الله (ص) في قلوب بني النضير كي يخضعوا لأمره صاغرين من غير حرب وقتال (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ومن هذا الشيء ان يخضع أرباب الحصون والعدة والعدد لعبد من عباده تعالى.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ). المراد بأهل القرى هنا غير بني النضير من الكفرة ، والمعنى ان مال الفيء ـ غير مال بني النضير ـ هو لله وللرسول الخ. وبديهة ان ما كان لله فهو لرسوله ، واتفقوا قولا واحدا إلا من شذ على ان المراد بذي القربى قربى رسول الله (ص) من بني هاشم ، أما اليتامى والمساكين وابن السبيل فقال الامامية : المراد بهم أيتام بني هاشم ومساكينهم وابن السبيل منهم خاصة. وقال غيرهم : بل كل يتيم ومسكين وابن السبيل من المسلمين هاشميا كان أم غير هاشمي (١). وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ـ ٤١ الأنفال ج ٣ ص ٤٨٢.

(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ). الإسلام نظام إلهي انساني يراعي مصلحة الجميع دون استثناء لفرد أو فئة ، فلا يحل مشكلة انسان على حساب

__________________

(١). قيل : المراد بقوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) هو عين المراد بقوله : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ). وقيل : المراد به الجزية والخراج. وقيل : كل غنيمة أيا كان مصدرها. وقيل : انه منسوخ بآية ٤١ من الانفال. وقيل غير ذلك. والذي ذكرناه من تخصيص الاية الاولى بأموال بني النضير ، والاية الثانية بالفيء غير اموال بني النضير هو أرجح التفاسير في رأينا. والله اعلم بما أراد.

٢٨٦

غيره ، ولا يضيق على انسان ليوسّع على غيره أيا كان ، فالجميع عنده سواء ، ويتجلى هذا في جميع أحكامه ومبادئه ، ومنها هذا المبدأ ، وهو أن لا يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم أي يتداولونه فيما بينهم دون الفقراء .. وتجدر الاشارة الى ان هذا وما اليه من تحريم الربا والغش والاستغلال والضرر والضرار لا يدل من قريب أو بعيد على إقرار الاشتراكية أو رفضها بمعناها المعروف ، وكل ما يدل عليه ان الإسلام يتبنى في جميع أحكامه فكرة العدالة والمساواة ، وانه يقر كل ما فيه خير للناس وصلاح ، وهذا شيء وإلغاء الملكية الفردية دون الملكية الجماعية شيء آخر. انظر تفسير الآية ١٨٠ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢١٧ فقرة «الغني وكيل لا أصيل».

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). ربطت هذه الآية بين قول الله وقول الرسول ، وأوجبت السمع والطاعة لكل منهما. أمرا ونهيا لأن قول الرسول وحي من الله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ـ ٤ النجم. وقال سبحانه في العديد من الآيات : (أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) وقال : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) ـ ٣٦ الأحزاب. وتواتر أن النبي (ص) ما رأى رؤيا إلا خرجت مثل فلق الصبح ، واتفق المسلمون قولا واحدا على أنه لا وحي ولا تشريع ولا اجتهاد بعد رسول الله (ص) إلا إذا كان قول المجتهد من شريعة الله ورسوله. انظر تفسير الآية ٤٠ من سورة الأحزاب ج ٦ ص ٢٢٥ فقرة «لما ذا ختمت النبوة بمحمد؟» وتفسير الآية ٧٧ من سورة الواقعة فقرة «الإسلام وقادة الفكر الأوروبي».

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ). المراد بالمهاجرين هنا من هاجر مع رسول الله (ص) من مكة الى المدينة رغبة في مرضاة الله وثوابه وفي نصرة الإسلام والجهاد في سبيله ، وهؤلاء هم أولى الناس بالزكاة لسبقهم وجهادهم ولفقرهم وحاجتهم ، قال الطبري نقلا عن قتادة : «هؤلاء المهاجرون تركوا الديار والأموال والأهلين والعشائر حبا لله ورسوله ، واختاروا الإسلام على ما فيه من

٢٨٧

الشدة حتى لقد كان الواحد منهم يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع ، ويتخذ الحفرة في الشتاء ما له دثار غيرها» .. وما رأيت وصفا للصحابة أبلغ مما قاله الإمام زين العابدين (ع) فيهم ، وهو يدعو الله سبحانه أن يشكر لهم صنيعهم ، قال :

«اللهم وأصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا الصحبة وأبلوا البلاء الحسن في نصره وكاتفوه وأسرعوا الى وفادته ، وسابقوا الى دعوته واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالاته وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته ، وانتصروا به ومن كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته ، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته ، فلا تنس اللهم لهم ما تركوا لك وفيك ، وأرضهم من رضوانك». (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في ايمانهم وجهادهم قولا وفعلا.

ويؤثرون على أنفسهم الآية ٩ ـ ١٥ :

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا

٢٨٨

لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥))

اللغة :

تبوءوا الدار سكنوها ، والمراد بالدار هنا المدينة المنورة ، وبالحاجة هنا الحسد والغيظ ، وبالخصاصة الفاقة. ومن يوق أي من يدفع ويمنع. والشح الإفراط في الحرص. وقلوبهم شتى أي أهواؤهم متفرقة بالبغضاء والشحناء على بعضهم البعض.

الإعراب :

والذين تبوأوا مبتدأ وجملة يحبون خبر. والايمان مفعول لفعل مقدر أي وآثروا أو أخلصوا الايمان ، ومثله علفتها تبنا وماء باردا أي وسقيتها ماء باردا. ومفعول يؤثرون محذوف أي يؤثرون غيرهم. أبدا ظرف زمان لاستغراق المستقبل منصوب بنطيع. ومن الله أي من رهبتهم من الله. وجميعا حال أي مجتمعين. وكمثل خبر لمبتدأ مقدر أي مثلهم كمثل الذين الخ. وقريبا صفة لمقدر أي زمنا قريبا والزمن منصوب بذاقوا أي ذاقوا وبال أمرهم في زمن قريب.

٢٨٩

المعنى :

بعد أن بيّن سبحانه منزلة المهاجرين بيّن منزلة الأنصار بقوله :

١ ـ (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ). المراد بالدار هنا المدينة المنورة ، وتبوأوها أي سكنوها واستوطنوها ، والمعنى ان الأنصار ، وهم أهل المدينة آووا النبي ومن هاجر معه ، وقاموا بواجب الضيافة على أكمل وجه ، وأخلصوا للمهاجرين وواسوهم بأنفسهم بل وآثروهم عليها كما تأتي الاشارة ، ومن الآيات التي نزلت في فضل الأنصار قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ـ ٧٤ الأنفال.

٢ ـ (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا). كان المهاجرون في بدء الأمر أفقر الناس في المدينة يلاقون فيها المشقة والجهد : ولو لا الأنصار لهلكوا جوعا ، وكان النبي (ص) يعطي الصدقات للفقراء ولا يعطي منها الأغنياء والقادرين على الكسب ، ولذا كان يفضل المهاجرين على الأنصار في العطاء ، وربما خصهم بالغنيمة من دونهم ، وكان الأنصار يرضون عن ذلك ويرون انه الحق ، فسجل سبحانه لهم هذه المنقبة في كتابه العزيز.

٣ ـ (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ). والإيثار على النفس مع الحاجة لا يعادله شيء إلا التضحية بالنفس. وفي التفاسير وكتب الحديث : ان رسول الله (ص) قال للأنصار عند تقسيم بعض الغنائم : ان شئتم أن تكون هذه الغنيمة بينكم وبين المهاجرين على أن تشاركوهم في أموالكم ، وان شئتم كانت لكم أموالكم ، ولهم هذه الغنيمة وحدهم. فقال الأنصار : بل نترك لهم الغنيمة ونقسم لهم من أموالنا يا رسول الله. فدعا النبي (ص) لهم وقال : اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). الشح من أمهات الرذائل ، فمن استجاب له عاقه عن كل خير ، ومن تغلّب عليه ونزّه نفسه عنه فقد وقاها من الأسواء والمخاطر.

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ). الضمير في بعدهم يعود الى المهاجرين والأنصار معا ، والمراد بالذين جاءوا من بعدهم كل من سار بسيرتهم الى يوم القيامة ، ولا وجه للتخصيص

٢٩٠

بالتابعين لأن العبرة بالأعمال لا بالأمكنة والأزمنة ، وما بلغ الصحابة الى منزلة الكرامة عند الله إلا لأنهم استمعوا القول فاتبعوا أحسنه (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا). مستحيل أن يجتمع الايمان والغل على المؤمن في قلب واحد .. كيف؟ وهل يغل الإنسان ويحقد على نفسه (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) بعبادك الذين نزّهوا دينهم وقلوبهم عن الغل والنفاق.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ). المراد بأهل الكتاب هنا بنو النضير ، وهم اخوة المنافقين في الكفر وعداوة الرسول ، وتشير الآية الى حادثة معينة ، وهي ان النبي (ص) حين أعلن الحرب على بني النضير قال لهم المنافقون ، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي : قاتلوا محمدا واصمدوا له ونحن عليه معكم ، ان قاتلكم قاتلناه ، وان أجلاكم عن المدينة نزحنا عنها معكم ، ولا نصغي لقول محمد وغيره (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في أقوالهم ومواعيدهم (لَئِنْ أُخْرِجُوا ـ أي بنو النضير ـ لا يَخْرُجُونَ ـ أي المنافقون ـ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ). هذا هو شأن المنافق يخالف لسانه قلبه ، وقلبه فعله ، وعلانيته سره (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) ولا ينتفعون بمكر ولا نفاق.

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ). يخاف المنافقون من بأس المؤمنين لأنهم يتوقعون عاجل الشر في الدنيا ، ولا يتوقعون آجل العذاب في الآخرة (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ). اليهود لا يجابهون المؤمنين وجها لوجه في ميدان القتال ، بل يقبعون في أحيائهم وقراهم ويتسترون وراء الحصون والجدران ، ويرشقون المؤمنين بالنبال والأحجار ، كما هو شأن الجبان الخائر.

(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى). انهم أقوياء في عدتهم وعددهم ، ولكن المصالح والأهواء فرقت بينهم ، فهم منحلون متخاذلون ، وان تظاهروا بالألفة والمحبة .. ولو انهم توادوا وتآزروا لبرزوا إليكم وقابلوكم في ميدان القتال أيها المسلمون ، ولم يقاتلوكم في قرى محصنة أو من وراء جدار.

٢٩١

وهذا عامّ في اليهود وغيرهم ، فإن الاتفاق قوة وان قلّ العدد وضعفت العدة ، والتخاذل وهن وذل لا يجدي معه عدد ولا عدة .. وقد شاهدنا انتصار أهل الباطل وهم أقلاء على المحقين وهم كثيرون ، والسر تفرّق هؤلاء عن حقهم ، واجتماع أولئك على باطلهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) بأن الوحدة سبب الفوز والنجاح ، والتفرقة سبب الفشل والخذلان (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). ان حال اليهود الذين نصبوا العداء لرسول الله (ص) تماما كحال كفار قريش وغيرهم من الذين حاربوا الرسول حيث انتهوا الى الخزي في الدنيا ، وفي الآخرة الى عذاب الحريق.

فلما كفرقال اني بريء منك الآية ١٦ ـ ٢٠ :

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

الإعراب :

كمثل الشيطان خبر لمبتدأ مقدر أي مثلهم كمثل الشيطان. وعاقبتهما خبر كان والمصدر من انهما في النار اسمها. وخالدين حال من اسم ان. ولتنظر مجزوم

٢٩٢

بلام الأمر. وما قدمت «ما» بمعنى أيّ في محل نصب بقدمت والمعنى أيّ شيء قدمت.

المعنى :

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ). قال المنافقون لبني النضير : قاتلوا محمدا ، ونحن معكم في القتال وفي الجلاء ، ولما نزل بهم البلاء اختفى المنافقون في أوكارهم ، وما ظهر لهم عين ولا أثر ، وقد شبه سبحانه حال المنافقين هذه مع بني النضير بحال الشيطان مع الإنسان الأثيم ، يغريه بالفساد والضلال ، ويمنيه السلام ، فإذا جد الجد تركه للعذاب والهلاك ، وتبرأ منه ومن عمله ، وتظاهر بالخوف من الله. وتقدم مثله في الآية ٤٨ من سورة الأنفال ج ٣ ص ٤٩١ والآية ٢٢ من سورة ابراهيم ج ٤ ص ٤٣٨ (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ). الضمير في عاقبتهما يعود الى الشيطان والإنسان الذي وقع في شباكه ، والمعنى واضح ويتلخص بأن كلا من الخادع والمخدوع في جهنم وساءت مصيرا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) الذي أنتم في قبضته ، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ). كل ما يعمله الإنسان في هذه الحياة يقدم عليه في اليوم الآخر ، والناقد البصير ينظر الى دنياه نظرة من يترك فيها من الصالحات لا من يأخذ من ملذاتها وكفى (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). انه تعالى يعلم من آمن به قولا وعملا ، ومن آمن به كفكرة يذكرها في أقواله ، وينساها في أفعاله ، وكرر سبحانه الأمر بالتقوى مبالغة في الحث والترغيب.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ). نسوا العمل بأمر الله ، فأنساهم العمل لمصلحة أنفسهم ، وما ينفعها يوم تبيضّ وجوه وتسود وجوه ، وأغش الناس من نسي نفسه ولم يعمل لسلامتها من الهلاك (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) لأنهم لم ينتفعوا ببيان الله ، ويتعظوا بمواعظه (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ). وكيف يستوي الصالح والطالح ، والشقي

٢٩٣

والسعيد؟. وتقدم هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها الآية ١٨ من سورة السجدة ج ٦ ص ١٨٣.

لو أنزلنا هذا القرآن على جبل الآية ٢١ ـ ٢٤ :

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

المعنى :

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ). هذا مجرد فرض دلت عليه كلمة «لو» والغرض منه بيان عظمة القرآن وان له من قوة التأثير ما لو أنزل على جبل لخشع ولان على قساوته ، وتصدّع وتهاوى خوفا من الله على صلابته ـ إذن ـ فما بال الإنسان الذي تؤلمه البقة ، وتقتله الشرقة ، وتنتنه العرقة كما قال الإمام علي (ع) ، ما بال هذا الضعيف (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) ـ ٤ الجاثية. فهل قلبه أقسى من الجبل وأشد تماسكا ،

٢٩٤

أو هو الجهل والعناد والإصرار على الضلال؟ (تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في حكم القرآن وعظاته ودلائله وبيناته ، ويهتدون بنورها الى سواء السبيل ... ولكن ... (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ـ ٣٧ ق.

وبعد ، فإن عظمة القرآن من عظمة الله سبحانه ، وقديما قيل : الكلام صفة المتكلم بخاصة فيما يعود الى علمه. ولذا وصف عز وجل كتابه بالعديد من صفاته كالعزيز والحكيم ، والمجيد والكريم والعلي والعظيم ، والنور والحق والرحمة والصدق .. فلا بدع ـ اذن ـ أن يكون له هذا الأثر والسلطان. ثم وصف سبحانه نفسه بصفات العظمة والجلال :

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) المعبود الحق الذي يوصف بجميع صفات الجلال والكمال ، منها :

١ ـ (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) يعلم ما غاب عن الخلق وما شاهدوه.

٢ ـ (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) هذان الوصفان مشتقان من الرحمة بمعنى الإحسان ، وقد يكون الجمع بين الكلمتين للاشارة الى ان رحمته وسعت كل شيء حتى في حال غضبه ، وان القنوط منها كفر وضلال.

٣ ـ (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هذا توكيد للتوحيد (الْمَلِكُ) له ملك السموات والأرض ، وهو يحيي ويميت ويجير ولا يجار عليه.

٤ ـ (الْقُدُّوسُ) مشتق من التقديس أي التنزيه عما لا يليق بعظمته تعالى.

٥ ـ (السَّلامُ) لأن منه تعالى الطمأنينة والأمان.

٦ ـ (الْمُؤْمِنُ) يثيب المؤمنين على ايمانهم ويؤمنهم من عذاب النار.

٧ ـ (الْمُهَيْمِنُ) الرقيب والمحافظ.

٨ ـ (الْعَزِيزُ) القوي الذي لا يغلب ولا يقهر.

٩ ـ (الْجَبَّارُ) العالي الذي لا ينال.

١٠ ـ (الْمُتَكَبِّرُ) له الكبرياء والعظمة (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزه عن الشريك والصاحبة والولد.

٢٩٥

١١ ـ (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ) هذان الوصفان مترادفان ، وقيل : البارئ يشعر بالبراءة من النقص (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). كل أسمائه تعالى حسنى وعظمى. انظر تفسير الآية ١٨٠ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٤٢٥ فقرة «هل أسماء الله توقيفية»؟. (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). والتسبيح يكون بلسان المقال وبلسان الحال. انظر تفسير الآية ٤٤ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٤٧ فقرة «كل شيء يسبح بحمده».

٢٩٦

سورة الممتحنة

١٣ آية مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء الآية ١ ـ ٣ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣))

اللغة :

تلقون اليهم بالمودة أي تودونهم وتخلصون لهم. وسواء السبيل الطريق القويم. وإن يثقفوكم أي يظفروا بكم.

٢٩٧

الإعراب :

أولياء مفعول ثان لتتخذوا. وقال كثير من المفسرين : ان الباء زائدة بالمودة وان المودة مفعول تلقون مثل ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة ، وقال صاحب البحر المحيط : مفعول تلقون محذوف والباء للسبب أي تلقون اليهم أخبار رسول الله بسبب ما بينكم من المودة. وإياكم عطف على الرسول. والمصدر من أن تؤمنوا مفعول من أجله لتخرجون. وجهادا مفعول من أجله لخرجتم. وابتغاء عطف عليه. ويوم القيامة منصوب بلن تنفعكم.

ملخص القصة :

اشتهر في كتب التفسير والحديث ان هذه الآيات نزلت في حاطب ابن أبي بلتعة ، وهو صحابي من المهاجرين ، وقد أحسن البلاء يوم بدر ، ويتلخص ما قالوه في سبب النزول ان رسول الله (ص) تجهز لغزو مكة ، ولما علم حاطب بذلك كتب الى قريش يحذرهم ، ودفع بكتابه الى امرأة ، فأوحى الله الى رسوله بخبر حاطب ، فبعث في طلب المرأة جماعة من أصحابه ، منهم الإمام علي (ع) فأدركوها في الطريق ، ولما سألوها عن الكتاب أنكرته ، فصدّقها بعضهم ، وكذبها الإمام ، وهددها بالقتل ، فأخرجت الكتاب من ضفائرها ، فجاءوا به الى الرسول (ص) فقال لحاطب : من كتب هذا؟ قال : أنا يا رسول الله ، فو الله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششت منذ آمنت ، ولكني صانعت قريشا حماية لأهلي من شرهم ، وقد علمت ان الله خاذلهم. فصدقه الرسول (ص) وقبل معذرته.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ). أمر سبحانه المؤمنين ان لا يتواصلوا بالولاية والمحبة مع أعداء الحق وأهله ، ولا

٢٩٨

يلتقوا معهم بأية صلة مهما كانت الدواعي والأسباب ، لأنهم أعداء الله وأعداء من آمن به (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ). تشير هذه الآية الى السبب الموجب للنهي عن اتخاذ أعداء الحق أولياء وأصدقاء ، وهو أولا انهم كفروا بالقرآن ونبوة محمد (ص) تمردا وعنادا للحق. ثانيا انهم أخرجوا النبي ومن آمن به من ديارهم لا لشيء إلا لأنهم عبدوا الله وحده ونبذوا الشرك وعبادة الأصنام (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي). ما دمتم قد تركتم الأهل والأوطان لإعلاء كلمة الله فكيف توالون أعداء الله؟. وهل يجتمع في قلب واحد مودة الله ومودة أعدائه؟. فأنّى تصرفون؟.

(تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ). أتوادون سرا أعداء الله ، وتحسبون ان الله لا يعلم سريرتكم وأسراركم؟. كيف وكل سر عنده علانية ، وكل غيب عنده شهادة؟ (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ). هذا تهديد ووعيد لكل من حاد عن طريق الهدى والحق بخاصة الخائنين والمتآمرين (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ). لو سنحت الفرصة لأعداء الحق وظفروا بالمؤمنين لسلقوهم بألسنة حداد ، وبسطوا اليهم الأيدي بالضرب والقتل (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ). هذه هي أمنية الشيطان بالذات الذي لا يريد للإنسان إلا الضلال والهلاك ، وأي عداء أعظم من هذا العداء؟ (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). لا الأموال والأولاد ، ولا العلوم والأنساب تجدي نفعا يوم الحساب والجزاء إلا العمل الصالح. وتكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها الآية ١١٦ من سورة آل عمران.

اسوة حسنة في ابراهيم الآية ٤ ـ ٧:

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا

٢٩٩

وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧))

اللغة :

الاسوة بضم الهمزة وكسرها القدوة. وبرآء جمع بريء. والمراد بالفتنة هنا البلاء أي لا تنزل علينا بلاء بأيدي الكافرين. ويتولّ يعرض.

الإعراب :

في ابراهيم متعلق بحسنة ، وقيل بمقدر صفة ثانية لأسوة. والذين معه عطف على ابراهيم. إذ قالوا «إذ» ظرف والعامل فيه خبر كان المقدر. وبرآء خبر انّ و «نا» اسمها. وأبدا ظرف زمان لاستغراق المستقبل. وحده حال من الله. وربنا منادى بحذف حرف النداء. ولمن كان يرجو بدل بعض من «لكم» بإعادة حرف الجر.

المعنى :

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ). الخطاب في «لكم»

٣٠٠