التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

الجزء الثّامن والعشرون

٢٦١
٢٦٢

سورة المجادلة

٢٢ آية مدنية ، وقيل غير ذلك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الظهار الآية ١ ـ ٤ :

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤))

اللغة :

المراد بسمع هنا استجاب. وتجادلك تحاورك وتراجعك الكلام. والظهار أن

٢٦٣

يقول الرجل لزوجته : انت عليّ كظهر أمي ، يريد انها حرام عليه كأمه ويأتي التفصيل. ومنكرا أي ان الدين ينكره ويأباه. وزورا لأن الزوجة غير الأم. يعودون لما قالوا أي ينقضون ما قالوه ويرجعون. وتحرير رقبة ان تعتق عبدا. وحدود الله شريعته وأحكامه.

الإعراب :

الذين يظاهرون منكم مبتدأ ، و «ما» تعمل عمل ليس وهن اسمها وأمهاتهم خبرها ، والجملة خبر الذين. ومنكرا صفة لمفعول مطلق محذوف أي قولا منكرا والذين يظاهرون من نسائهم مبتدأ. وتحرير رقبة مبتدأ والخبر محذوف أي فعليهم تحرير رقبة ، والجملة خبر الذين يظاهرون. والمصدر من لتؤمنوا متعلق بمحذوف خبرا لذلك.

ملخص القصة :

اتفق المفسرون على ان هذه الآيات نزلت في حادثة معينة ، وملخصها ان رجلا من الصحابة غضب على زوجته ، فقال لها : : انت عليّ كظهر أمي ، وكان هذا طلاقا عند أهل الجاهلية ، فحزنت المرأة وندم الرجل على تسرّعه ، فقال لزوجته : اذهبي الى النبي (ص) وأخبريه بما حدث فأنا أستحي ان أسأله.

فذهبت وقصت على رسول الله ما حصل ، فقال لها : ما أمرنا الله في شأنك بشيء. ولكنها راجعت الرسول (ص) وألحت ، فإذا دافعها هتفت قائلة : أشكو الى الله فاقتي وحاجتي ، فاستجاب دعاءها ، وانزل هذه الآيات. وتنفق هذه القصة مع ظاهر الآيات ، ومهما يكن فإنها الأصل في جعل الظهار بابا من أبواب الفقه عند المسلمين.

٢٦٤

المعنى :

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). يقول سبحانه لنبيه الكريم : قد علم الله حال المرأة وما راجعتك به من الكلام في أمر زوجها ، وأيضا علم شكواها الى الله واستغاثتها به ، وقد استجاب دعاءها ورحم تضرعها (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) لا تخفى عليه خافية ، ثم بيّن سبحانه حكم هذه الحادثة وأمثالها بقوله :

١ ـ (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً). الظهار محرم في دين الله لأنه كذب مخالف للواقع ، وكيف تكون الزوجة اما (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ). (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) لمن تاب وأناب ، وقال بعض الفقهاء : ان الظهار محرم ما في ذلك ريب لأن الله وصفه بالمنكر والزور ، ولكن لا عقاب على فاعله لأنه اقترن بالعفو. وردّ الشهيد الثاني هذا القول بأن العفو في الآية عام ولا يختص بالظهار.

٢ ـ (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا). يعودون لما قالوا أي يظاهرون ثم يندمون. ويرجعون عن قولهم. قال ابن هشام في المغني : تأتي اللام بمعنى عن كقوله تعالى : (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) ـ ٣١ هود أي لا أقول عن الذين الخ. وأيضا تأتي بمعنى في كقوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) ـ ٤٧ الأنبياء أي في يوم القيامة ، وعليه يكون المعنى يعودون فيما قالوا أو عما قالوا. واختلف الفقهاء في المراد بالمسيس ، فقال جماعة : المراد به كل مسيس أخذا بالإطلاق اللغوي. وقال آخرون : المراد به خصوص المضاجعة. وليس هذا ببعيد عن طريقة القرآن فقد جاء في الآية ٢٣٧ من سورة البقرة : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) أي تضاجعوهن باتفاق الفقهاء.

(ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). ذلكم اشارة الى وجوب الكفارة على الظهار ، والمراد بالوعظ هنا الزجر ، والمعنى ان الله سبحانه فرض الكفارة

٢٦٥

في الظهار لتكون زاجرا ورادعا عن الإقدام عليه لأنه منكر وزور ، والله يعلم المطيع والعاصي من عباده ويعامل كلا بما يستحق.

٣ ـ (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً). اتفقوا على أن من قال لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي فلا يحل له وطؤها حتى يكفّر بعتق رقبة ، فإن عجز عن العتق صام شهرين متتابعين ، فإن عجز عن الصيام أطعم ستين مسكينا ، وأيضا اتفقوا على أنه إذا وطئها قبل أن يكفّر يعتبر عاصيا ، ولكن الامامية أوجبوا عليه ، والحال هذه ، كفارتين.

واشترط الامامية لصحة الظهار أن يقع بحضور عدلين يسمعان قول الزوج ، وأن تكون الزوجة في طهر لم يواقعها فيه تماما كما هو الشأن في المطلقة ، كما اشترط المحققون منهم ان تكون مدخولا بها ، وإلا فلا ظهار. والتفصيل في كتب الفقه. (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ). سهّل سبحانه شريعته على عباده ليؤمنوا بها ، ولتكون حجة بالغة على من خاصمها وأعرض عن أحكامها (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) فقفوا عندها ولا تعتدوها (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) بتحديهم شريعة الله وأحكامه ، وفيه إيماء الى ان من خالف الشريعة الإلهية فهو بحكم الكافر.

النجوى الآية ٥ ـ ١٠ :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ

٢٦٦

وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

اللغة :

يحادون يخالفون ويعادون. والكبت القهر والذل. والنجوى والمناجاة سرا بين اثنين أو أكثر ، وأيضا تطلق على المتناجين مثل هم نجوى. وحسبهم كافيهم.

الإعراب :

جميعا حال من ضمير يبعثهم أي مجتمعين. و «ما» نافية ، ويكون تامة و «من» زائدة ونجوى فاعل وثلاثة مجرورة بالاضافة. ولو لا بمعنى هلا. وجهنم مبتدأ مؤخر وحسبهم خبر مقدم. واسم ليس ضمير مستتر يعود الى الشيطان ، وبضارهم الباء زائدة وضارهم خبر ، وشيئا مفعول مطلق لضارهم.

٢٦٧

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). بعد ان ذكر سبحانه حدود الله هدد من يتجاوزها ، ووصفهم بالمخالفة والعداء لله ورسوله ، وان عقابهم القهر والخزي تماما كعقاب الذين فعلوا ذلك من الأمم الماضية (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ). أقام سبحانه الدلائل الواضحة على وجوده ونبوة رسوله (ص) وبيّن حلاله وحرامه ، وهذه الدلائل هي بالذات تدل أيضا على ان طاعة الله والرسول فرض ، وان من خالفهما يستحق العذاب الذي يهينه ويخزيه على رؤوس الأشهاد (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). يجمع الله الخلائق غدا للحساب والجزاء على ما كانوا يعملون ، وإذا نسي المجرمون ما اقترفوا من الذنوب والسيئات كلها أو بعضها فإن الله قد أحاط بها علما فيخزيهم بما صنعوا ويذيقهم وبال أمرهم بالحق والعدل ، وهم لا يظلمون.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). ألم تعلم يا محمد ان الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، وتعلم أيضا (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ). قوله تعالى : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) اشارة الى ما دون الثلاثة ، وقوله : (وَلا أَكْثَرَ) إشارة الى ما فوق الخمسة. وقال جماعة من المفسرين : ان قوما من اليهود والمنافقين كانوا يجتمعون وينالون في الخفاء من مقام الرسول الأعظم (ص) والصحابة ، فنزلت فيهم هذه الآية .. وليس هذا ببعيد فان ظاهر الآية يومئ اليه ، والاعتبار يؤيده ، فإن الغيبة والنجوى بالإثم دأب المنافقين في كل زمان ومكان ، ومهما يكن فان المعنى هو لا تزعجك يا محمد أقوالهم ومناجاتهم بالنيل منك وممن آمن بك ، وكيف تهتم وتكترث وأنت على علم اليقين بأن الله يعلم السر من ضمائر المضمرين ونجوى المتخافتين قلوا أم كثروا؟ وأيضا تعلم ان الله يجمعهم غدا ويأخذهم بما كانوا يقولون ويفعلون .. والقصد من ذكر الثلاثة والخمسة مجرد التمثيل ب (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) حتى تحريك الشفة ورجع الكلمة.

٢٦٨

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ). يومئ هذا الى أن النبي (ص) كان قد نصح للمتخافتين بنجوى السوء أن ينتهوا ولا يعودوا فلم يقبلوا منه وعادوا تمردا وعنادا ، فوبخهم سبحانه على معصية الرسول (ص) بصيغة التعجب التي خاطب بها نبيه الكريم تماما كما تقول لصاحبك: ألم تر الى هذا اللئيم العاق؟ (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ). روي «ان ناسا من اليهود دخلوا على رسول الله (ص) وقالوا : السام عليك يا أبا القاسم. والسام هو الموت. فقال الرسول ، وعليكم ، فنزلت الآية» ونحن لا نشك في صحة هذه الرواية لأنها أصدق تعبير عن لؤم اليهود وحقدهم على الحق وأهله (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) فعلوا هذا وقالوا : لو كان محمد نبيا لأنزل الله بنا سوء العذاب لجرأتنا على نبيه (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ). لا تستعجلوا ما هو كائن ، فإن الله سبحانه قد أعد لكم جهنم وساءت مصيرا ، وان غدا من اليوم قريب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). ان كثيرا من الناس يؤمنون بالله ، ويصومون له ويصلون حقا وصدقا لا كذبا ورياء ، ولكنهم يذهلون عن هذا الايمان في كثير من الأحيان ، ويتناجون بالإثم تماما كما يفعل المنافقون والكافرون. والخطاب في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ) لهؤلاء الذاهلين عن ايمانهم ، وقد أمرهم الله سبحانه ان يتناجوا بالخير ، فإنه أليق بالمؤمنين ، ولا يتناجوا بالشر كما هو شأن المنافقين والكافرين.

وكأنّ هذه الآية قد نزلت الآن في بعض الدول ومن اليها من الذين يتظاهرون بالإسلام ، وهم يناصرون إسرائيل في الخفاء ويوالون من يختفي وراءها ، ويغدق عليها أنواع الأسلحة لتقتل بها النساء والأطفال ، وتدمر بيوت الآمنين وتشردهم من ديارهم وأوطانهم .. وأي نفاق أعظم من ان يدعي مدع انه مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر ، وهو يوالي أعداء الله والانسانية ، ويبارك الظلم والاستغلال؟. وقد نهى سبحانه المؤمنين عن مناصرة الطغاة ولو بكلمة تقال بالسر ، وأمر بجهادهم بالقول والفعل سرا وجهرا.

(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ

٢٦٩

اللهِ). المراد بالنجوى هنا نجوى المجرمين بالشر والإثم ، والمعنى ان الشيطان يغري أتباعه بمناجاة السوء بقصد أن يؤذي المؤمنين ويحزنهم ، ولكن المؤمنين في حصن حصين لا تنالهم أية مضرة إلا بإرادة الله ومشيئته (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) في جميع أمورهم ، ولا يخشوا الضرر من أحد ، أو يترقبوا النفع إلا منه تعالى. ومن توكل على الشيطان قاده الى المهالك.

فاسحوا يفسح الله لكم الآية ١١ ـ ١٣ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣))

اللغة :

تفسحوا توسعوا. انشزوا انهضوا لتوسعوا للقادمين. والمراد بناجيتم الرسول

٢٧٠

هنا أردتم الحديث معه. فقدموا بين يدي نجواكم صدقة أي تصدقوا بشيء من أموالكم قبل المناجاة. وأشفقتم خفتم.

الإعراب :

يرفع مجزوم لأنه جواب الأمر وهو انشزوا أي إن نشزتم يرفع الخ. ودرجات منصوبة بنزع الخافض أي الى درجات. ومفعول أشفقتم محذوف. والمصدر من ان أشفقتم مجرور بمن مقدرة أي أأشفقتم الفقر من تقديم الصدقة.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ). كان الصحابة يتسابقون الى مجلس رسول الله (ص) ويحرصون على القرب منه ، وكان المجلس في كثير من الأحيان يزدحم بالناس ، ولا يفسح الجليس للقادم ، فيضطر الى الرجوع أو الوقوف على قدميه ، فأدبهم سبحانه بخلق الإسلام ، وأمر أن يفسح ويوسع بعضهم لبعض ، ووعد الذين يفسحون في مجالسهم ان يفسح لهم في الجنة.

(وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا). أمر سبحانه أولا الجالسين ان يوسعوا للقادم إذا اتسع المجلس له ولهم ، ثم أمرهم بالسمع والطاعة لرسول الله (ص) إذا طلب منهم ان يتركوا مجالسهم للقادمين حيث لا يتسع المكان للجميع حتى مع التفسح والتوسع ، وفي بعض الروايات ان النبي (ص) كان يقيم نفرا من مقاعدهم ليجلس فيها من هو أفضل وأسبق الى الخيرات ، وكانت تبدو الكراهية في وجوه البعض لذلك ، ولكن بعد ان نزلت هذه الآية تأدبوا بآدابها ، وأفسحوا لإخوانهم عن طيب خاطر وقبل أن يأمرهم النبي (ص) بذلك. وفي بعض التفاسير ان المعنى إذا قيل لكم : انهضوا الى الخير فأجيبوا .. وليس هذا ببعيد لأن الأمر عام لجميع معاني النهوض الى الخيرات سواء أكانت افساحا أم جهادا أم غيرهما.

وإذا كان من آداب القرآن ان يفسح الإنسان لأخيه أو يخلي له مكانه فليس

٢٧١

من الآداب والأخلاق في شيء أن يقيم القادم أحدا من مجلسه ، فلقد كان الرسول الأعظم (ص) يجلس حيث ينتهي به المجلس .. أجل ، إذا طلب صاحب المجلس القيام من أحد الجالسين فينبغي ان يجيبه .. ولكن لا ينبغي لصاحب المجلس ان يطلب ذلك إلا لمبرر كما لو خرج الجليس عن الآداب ، أو كان للقادم شأن أجل وأرفع عند الله ، قال تعالى :

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). ان الله خبير بأهل الفضل وغيرهم ، وعليم بمراتب الفضل ودرجاته ، وهو يعطي لكل ذي فضل حقه ، وأفضل الناس عنده أشدهم ورعا عن محارمه ، وإذا كان مع هذا الورع وعي وعلم فصاحبهما في أعلى عليين .. وليس من شك ان تعظيم من عظّم الله فرض لازم ، فقد جاء في الحديث : ان رسول الله كان يكرم أهل بدر ويقدمهم على غيرهم ، وفي ذات يوم دخل جماعة منهم الى مجلسه ، فوجدوه مزدحما بالناس ، ولم يفسح أحد لهم ، فقال النبي (ص) لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان ، وأنت يا فلان ، وأجلس أهل بدر .. وتتفق هذه الرواية مع قوله تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) الخ.

صدر المجلس :

وبهذه المناسبة أشير الى اني إذا قرأت في الصحف مقالا يتصل بموضوع آية من آي الذكر الحكيم احتفظت به في ملف خاص حتى إذا بلغت بالتفسير الى الآية رجعت الى المقال ، واستشهدت بشيء من كلماته ، وأشرت الى اسم الصحيفة وتاريخها لأن بعض الجيل الجديد يقتنع بالصحف ولغتها أكثر من أي مصدر.

ويلاحظ القارئ هذا الاستشهاد فيما سبق من المجلدات ، منها ـ على سبيل المثال ـ ما جاء في المجلد الرابع ص ٣٧٩ بعنوان «الماديون والحياة بعد الموت» والمجلد الخامس ص ٧٩ بعنوان «الله وعلم الخلايا» والمجلد السادس ص ٤٩ بعنوان «الرحلة الى القمر» وص ٣٨٨ بعنوان «الإسلام وفتاة انكليزية». وفي ذات يوم قرأت في احدى الجرائد عن مجادلات السياسيين الكبار حول مائدة

٢٧٢

المفاوضات : من الذي يتصدر ومن الذي يتأخر؟ وأي وفد يدخل حجرة المفاوضات قبل الآخر .. ومن الأمثلة التاريخية التي ذكرها الكاتب : انه في سنة ١٩٤٥ عقب الحرب العالمية الثانية اتفق تشرشل وستالين وروزفلت على أن يتفاوضوا في بودابست ، ولكنهم اختلفوا أيهم يدخل الحجرة قبل غيره ، وطال هذا الخلاف أمدا غير قصير .. ثم انحلت المشكلة في أن يتفاوضوا في حجرة لها ثلاثة أبواب ، يدخل كل واحد منهم من باب في آن واحد.

وحين بلغت بالتفسير الى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) حين بلغت الى هنا تذكرت المقال ، وأشرت ـ كما ترى ـ الى بعض ما جاء فيه ليعلم القارئ ان الإسلام لا يقيم وزنا إلا للعلم والإخلاص : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ). هذه هي حضارة الحق والعدل بمعناها الصحيح ، أما تكريم صانعي الموت الذين يملكون صواريخ «مينوتمان» وصواريخ «س س» وغيرها من اسلحة التخريب والتدمير ، أما هؤلاء فلا وزن لهم إلا في شريعة الشيطان ، وحضارة البغي والعدوان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). لا أجد تفسيرا لهذه الآية أحسن من تفسير مقاتل بن حيان لها ، قال : ان الأغنياء غلبوا الفقراء على مجلس النبي (ص) ـ وهذا شأنهم في كل زمان ـ وأكثروا من مناجاته حتى كره النبي (ص) طول جلوسهم ، فأمر الله بالصدقة عند المناجاة ، فأما الأغنياء فامتنعوا ، وأما الفقراء فلم يجدوا شيئا ، واشتاقوا الى مجلس الرسول (ص) فتمنوا لو كانوا يملكون شيئا ينفقونه ويصلون الى مجلس رسول الله (ص) وعند هذا ازدادت درجة الفقراء عند الله ، وانحطت درجة الأغنياء.

وفي العديد من التفاسير ، منها تفسير الطبري والرازي : ان هذه الآية ما عمل بها أحد إلا علي بن أبي طالب (ع). كان معه دينار فصرفه بعشرة دراهم ، فكان كلما أراد مناجاة الرسول تصدق بدرهم ، ثم نسخت الآية قبل أن يعمل بها

٢٧٣

أحد غير علي. وقال صاحب تفسير روح البيان : روي عن عبد الله بن عمر انه قال : كان لعلي ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى.

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ). لما شق الأمر بالصدقة على الأغنياء حرصا على أموالهم ، وعلم الله منهم ذلك ، وعرفوا ان وقت النبي هو لابلاغ الرسالة وتدبير شئون المسلمين ، وليس لهم وحدهم ، لما كان الأمر كذلك رخّص الله لهم في المناجاة دون أن يقدموا الصدقة ، وعفا عن الذين لم يتصدقوا على أن لا يفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) لا يخفى عليه إحسان من أحسن ، وإساءة من أساء ، وهو يجازي الأول بالحسنى ، والثاني بما هو أهله.

اتخذوا ايمانهم جنة الآية ١٤ ـ ١٩ :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩))

٢٧٤

اللغة :

ألم تر أي اخبرني ، وفيه معنى التعجب. وتولوا من الموالاة وهي المودة ، والمراد بالقوم المغضوب عليهم اليهود. وجنة ستر ووقاية.

الإعراب :

ألم تر الى الذين تعدت «تر» هنا بإلى لأنها متضمنة معنى تنظر. وشيئا مفعول مطلق. وألا أداة تنبيه.

المعنى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). الخطاب في «تر» الى النبي (ص) ، والذين تولوا هم المنافقون ، والقوم المغضوب عليهم هم اليهود ، والخطاب في منكم للمسلمين ، والضمير في منهم لليهود ، والمعنى : أخبرني يا محمد عن المنافقين ، فقد والوا اليهود وتآمروا معهم على الإسلام والمسلمين ، وهم في حقيقتهم وواقعهم ليسوا من المسلمين ولا من اليهود مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا الى هؤلاء .. وقد حلفوا متعمدين الكذب انهم مسلمون وانهم ما تكلموا على الرسول (ص) ولا تآمروا عليه مع اليهود ، ومن أجل نفاقهم وأيمانهم الكاذبة (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). وكل من أظهر خلاف ما أضمر فهو مسيء في أقواله وأفعاله لأنها بمعزل عن ذاته وحقيقته.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ). قال صاحب البحر المحيط : «قرأ الجمهور أيمانهم بفتح الهمزة جمع يمين ، والجنة ما يتسترون به ويتقون». والمعنى ان المنافقين يحاولون الستر على دسائسهم ومؤمراتهم بالايمان الكاذبة ، ويتقون بها من المسلمين ، ويخدعون من يبتغي الهداية وقصد السبيل ويصدونه عن غايته وبغيته .. ولكن الله سبحانه لا تحجبه السواتر ، ولا تخفى عليه

٢٧٥

الضمائر ، فهتك في الدنيا سترهم ، ولهم في الآخرة عذاب الحريق (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). سنحت لهم الفرصة في الحياة الدنيا فأضاعوها ، ولا شيء لمن سوّف وأهمل إلا العذاب ، أما الأموال والأولاد فلا ترجع ما قد فات. وتقدم مثله بالحرف الواحد في الآية ١١٦ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٤٢.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ). ان للعباد في يوم القيامة مواقف لا موقفا واحدا ، يؤذن لهم بالكلام في بعضها دون بعض ، فإذا ما أذن الله للمجرمين بالكلام حلفوا له كذبا وزورا تماما كما كانوا يحلفون في الدنيا للنبي والمسلمين ، وهم يعتقدون ان ايمانهم الفاجرة تدفع عنهم العذاب .. كيف والله سبحانه يعلم انهم لكاذبون في ايمانهم وعقيدتهم؟. وتقدم مثله في الآية ٢٢ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٧٤.

(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ). دعتهم شياطين الأهواء والأغراض الى الضلال والفساد فاستجابوا لها ، فأعمتهم عن الهدى وقادتهم الى الضلال (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأن من أسلس زمامه لشيطان الهوى قاده الى كل سوء وألقى به في المهالك لا محالة ، إما غدا أو لا فبعد غد .. حتى ولو تسلح بالذرة والصواريخ.

لأغلبن انا ورسلي الآية ٢٠ ـ ٢٢ :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ

٢٧٦

مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

اللغة :

يحادون الله يخالفونه في حدوده ويعادونه في أحكامه. والأذلين جمع الأذل. ويوادون مفاعلة وتبادل المودة بينهم وبين أعداء الله.

الإعراب :

لأغلبن اللام في جواب كتب لأن فيه معنى القسم. وجملة يوادون مفعول ثان لتجد. وخالدين حال. وألا أداة تنبيه.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ). هذه الآية أشبه بالجواب عن سؤال مقدر ، ويتلخص السؤال : بأن أعداء الله يعيشون في عز من عدتهم وعددهم ، وينكّلون بأهل الله تقتيلا وتشريدا ، فكيف امهلهم سبحانه وأمدّ لهم؟

وتجيب الآية بأن الأشرار هم أذل خلق الله من الأولين والآخرين لأن نهايتهم الخزي والخذلان دنيا واخرة ، أما في الدنيا فلأن الله يعذبهم بأيدي الطيبين الأحرار : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) ـ ١٤ التوبة. وأما عذاب الآخرة فهو أشد وأعظم.

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). الغلبة تكون في الآخرة ،

٢٧٧

وتكون في الدنيا بالسيف أو بعذاب من السماء أو بالحجة والبرهان أو بخلود الذكر. أنظر تفسير الآية ٣٨ من سورة الحج ج ٥ ص ٣٣١ فقرة «لا يخلو المؤمن من ناصر» ، وتفسير الآية ٧ من سورة محمد (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ). مستحيل ان يجتمع الايمان مع محبة الكافر وموالاته .. كيف وهو سبحانه القائل : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ـ ٤ الأحزاب. وقد اشتهر عن الإمام علي (ع) : ان صديق العدو عدو. وقال : «فلقد كنا مع رسول الله (ص) وان القتل ليدور على الآباء والأبناء والاخوان والقرابات ، فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا ايمانا ومضيا على الحق وتسليما للأمر». وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٢٨ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٣٨.

(أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ). أولئك اشارة الى الذين لا يؤثرون شيئا على ايمانهم حتى الآباء والأبناء ، والمعنى ان الله ثبّت الايمان في قلوب المخلصين ، وأيدهم بالحجج والبراهين : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ـ ٢٧ ابراهيم. (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ). ومعنى رضى الله عن العبد هو أن يعطيه من فضله ، ومعنى رضا العبد عنه تعالى هو ان يرضى بما أعطاه. وقال ابن عربي في الفتوحات : «يرضى الله باليسير من عمل عباده ، وهم أيضا يرضون باليسير من ثوابه لأن الله مهما أعطى فعطاؤه أقل القليل بالنسبة الى ما عنده». ولكن هذا الذي أسماه ابن عربي أقل القليل بالنسبة اليه تعالى هو أكثر الكثير بالنسبة الى العباد. قال عز من قائل : (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) ـ ٢٤٥ البقرة.

(أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). هذه الآية في مقابلة الآية ١٩ من هذه السورة : (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ).

والخلاصة ان الإنسان بالغا ما بلغ من المقدرة فإنه أعجز من أن يجمع بين مرضاة الله ومرضاة أعدائه تعالى ، فإن أرضاهم أغضب الله ، وان أرضى الله

٢٧٨

أغضبهم .. ومستحيل أن يرضوا الا عمن هو على شاكلتهم بشهادة الله عز وجل : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ـ ١٢٠ البقرة. وفي الحديث الشريف ان رسول الله (ص) قال : «اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة فإني وجدت فيما أوحيت : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ).

٢٧٩

سورة الحشر

٢٤ آية مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سبح لله الآية ١ ـ ٥ :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))

اللغة :

الحشر الجمع. والجلاء الخروج عن الوطن. واللينة النخلة. ويشاق يخالف.

٢٨٠