التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

الإعراب :

ما لكم مبتدأ وخبر لأن معناه أي شيء حدث لكم؟ والمصدر من أن لا تنفقوا مجرور بحرف جر مقدر أي في عدم الإنفاق ، ويتعلق بما تعلق به لكم. ومن أنفق «من» فاعل لا يستوي. وفي الكلام حذف ، أي ومن أنفق بعد الفتح. وكلا مفعول أول لوعد ، والحسنى مفعول ثان. ومن مبتدأ وذا خبر والذي بدل من ذا. وقرضا مفعول مطلق ان أريد به الاقراض ، ومفعول به إن أريد به المال.

المعنى :

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ). حث سبحانه على الإنفاق ورغّب فيه بشتى الأساليب ، وهدد من بخل وأمسك بأشد العذاب .. ومن أساليب القرآن في الحث على الإنفاق في سبيل الله هذه الآية التي ساوت بين الامر بالايمان بالله ورسوله وبين الأمر بالإنفاق ، وتومئ هذه المساواة الى ان من يبخل ويمسك فهو كافر ـ عمليا ـ بالله ورسوله وان آمن بهما نظريا .. وأيضا تشير الآية الى أن الأغنياء لا ينفقون من ملكهم وأموالهم ، وانما ينفقون مما هم وكلاء فيه.

وروى الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري انه خرج مرة مع رسول الله (ص) نحو أحد فقال له الرسول (ص) : يا أبا ذر أتبصر هذا الجبل؟. فقال : نعم يا رسول الله. قال : ما أحب أن يكون لي مثله ذهبا أنفقه في سبيل الله ، أموت وأترك منه قيراطين. فقال أبو ذر : أو قنطارين يا رسول الله. قال : بل قيراطين. أنظر تفسير الآية ١٨٠ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢١٧ فقرة «الغني وكيل لا أصيل».

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). المراد بالميثاق هنا وجوب العمل بما دل عليه الدليل القاطع ، وما أكثر الأدلة على وجوب الايمان بالله .. وتقدم بيان الكثير منها عند تفسير

٢٤١

الآيات الكونية ، من ذلك ما ذكرناه عند تفسير الآية ٨٣ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٧٩ فقرة «علم الخلايا» ، كما تقدم ذكر الأدلة على نبوة محمد (ص) عند تفسير الآيات التي تشير إلى ذلك ، ومنها ما ذكرناه قريبا عند تفسير الآية ٧٧ من سورة الواقعة فقرة «الإسلام وقادة الفكر الأوروبي».

ومحصل الآية التي نحن بصددها : كيف تعرضون عن دعوة الرسول الى الايمان بالله والى ما يحييكم ، وقد قامت الأدلة الكافية الوافية على وجود الله ووحدانيته ، وصدق الرسول في نبوته ودعوته؟. قال الرازي : ان تلك الدلائل لما اقتضت وجوب العمل بها كانت أوكد من الحلف واليمين ، ولذلك سمّاه سبحانه ميثاقا.

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ). أرسل سبحانه محمدا (ص) بالحجة الكافية والموعظة الشافية ليخرج الناس من طاعة الشيطان الى طاعة الرحمن ، من الضلال والفساد الى الهدى والصلاح ، وخوّفهم الرسول من سطوة الله وعذابه إذا أعرضوا ، ووعدهم بالحسنى وجزيل الثواب إذا استجابوا وأطاعوا وقال لهم : (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). ان الله بعباده رؤوف رحيم ، وبرّ كريم ، يلطف بهم من حيث لا يعلمون ، ويمهد لهم سبل الخير من حيث لا يحتسبون ، وينعم عليهم وهم يتمردون.

(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟. كل ما في يد الإنسان من مال وحطام فهو عارية يتركه لمن بعده .. وهكذا حتى الإنسان الأخير ، فإذا ذهب الى ربه فلا وارث حينئذ إلا الله وحده : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) ـ ٤٠ مريم وما دام الأمر كذلك ، فلما ذا الشح بالمال والإمساك عن البذل في سبيل الله؟. وفي نهج البلاغة : عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب ، ويفوته الغنى الذي إياه طلب ، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ، ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء!.

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ). المقابل الثاني لقوله : لا يستوي محذوف أي ومن أنفق وقاتل بعد فتح مكة ، وتوضيح المعنى ان الشيء قد يقاس بالكم والكيف معا كالأطعمة والأشربة والألبسة والمجوهرات ، فإن ثمن

٢٤٢

هذه وما اليها يقدر بالحجم والمنفعة معا ، وقد يقاس بالكم فقط كأصوات الذين ينتخبون المخاتير والنواب ومن اليهم من الرؤساء ، فإن صوت العالم والجاهل والعادل والفاجر سواء بالنسبة لفوز المرشح أو فشله ، وقد يقاس بالكيف فقط كالدواء حيث يقدر بأثره شفاء ووقاية .. والبذل من هذا الباب فقد ينفق الإنسان على معبد ـ مثلا ـ عشرات الألوف ولا يكون له من الأجر عند الله ما لرغيف ينقذ به جائعا من الهلاك .. ومن هنا نفى سبحانه المساواة بين من أنفق وقاتل قبل فتح مكة وبين من أنفق وقاتل بعده حيث كان المسلمون قبل الفتح في ضيق وحرج ، وكان الكافرون في سعة وقوة ، أما بعد الفتح فعلى العكس ، ضعف الكفر ، وقوي الإسلام.

(أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). أولئك اشارة الى السابقين الأولين ، والمعنى ان لكل من السابق واللاحق في الخيرات أجره وثوابه عند الله ، ولكن مع التفاوت في الدرجات والمراتب : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ـ ١٩ الأحقاف. وبكلمة ان السابقين المقربين هم من الصنف الأول الذين ذكرهم سبحانه وما أعد لهم في الآية ١٠ وما بعدها من سورة الواقعة ، وأصحاب اليمين من الصنف الثاني ، وقد ذكر سبحانه ما أعده لهم في الآية ٦٧ وما بعدها من سورة الواقعة أيضا (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ). المراد بالإقراض هنا النفقة لأن الله غني عن العالمين. وفي نهج البلاغة : «لم يستنصركم الله من ذل ، ولم يستقرضكم من قلّ ، استنصركم وله جنود السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ، واستقرضكم وله خزائن السماوات والأرض وهو الغني الحميد. أراد أن يبلوكم أيكم أحسن عملا». وتقدم مثله مع التفسير مفصلا في الآية ٢٤٥ من سورة البقرة ج ١ ص ٣٧٤.

باطنة الرحمة وظاهرة العذاب الآية ١٢ ـ ١٥ :

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ

٢٤٣

بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))

اللغة :

النظر يأتي للرؤية بالبصر ، وللتأمل بالفكر ، ويأتي أيضا بمعنى الرحمة تقول : انظرني بضم الظاء أي ارحمني ، ومنه قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ـ ٧٧ آل عمران وغير بعيد أن يكون معنى (انْظُرُونا) في الآية من هذا الباب ، وإذا قلت : انظرني بكسر الظاء فالمعنى أمهلني ومنه : (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ـ ١٤ الأعراف. والمراد بنقتبس هنا نستضيء وأصله من القبس أي الشعلة من النار. والمراد بالسور الحاجز ، وبالرحمة هنا الجنة. ومن قبله من جهته. وفتنتم أنفسكم أهلكتموها. وتربصتم انتظرتم. وارتبتم شككتم. والغرور الشيطان. ومولاكم ناصركم.

٢٤٤

الإعراب :

يوم ترى متعلق بكريم في آخر الآية السابقة ويجوز أن يتعلق اليوم بفعل مقدر أي اذكر يوم ترى. وبشراكم اليوم جنات مبتدأ وخبر لأنه بمعنى الذي تبشرون به اليوم جنات مثل طعامك اليوم كذا. ويوم يقول بدل من يوم ترى لأن المراد باليومين واحد وهو يوم القيامة. ونقتبس مجزوم بجواب الأمر وهو انظرونا.

المعنى :

في الآية السابقة قال سبحانه : ان من آمن وأنفق في سبيل الله لوجهه تعالى يضاعف له الجزاء ، وله أجر كريم ، وهنا بيّن سبحانه هذا الأجر الكريم بقوله : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ). كان المتقون الباذلون يسيرون في الدنيا على هدى من ربهم .. وفي يوم الحساب والجزاء شع من هذا الهدى الإلهي نور مادي محسوس كما تومئ كلمة ترى وكلمة بأيمانهم أي ترى نورهم بعينيك تماما كما ترى نور المصباح المحمول باليد ، ويتحكم به حامله كيف يشاء .. وبكلام آخر عملوا في الدنيا لهذا النور بجد واخلاص فوجدوه في الآخرة أمامهم يمتد الى مسافات (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). يخرج المهتدون غدا من قبورهم ، ويسيرون على نور يكشف لهم طريق الأمان ، وقبل أن يصلوا الى النهاية يأتيهم النداء : ابشروا بالجنة .. وأية بشرى تعادل البشرى بجنة الخلد ونعيمها؟. وأي فوز أعظم من هذا الفوز؟.

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ). كان المهتدون في الدنيا على نور من ربهم فهم في الآخرة كذلك : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ـ ١٧ محمد. وكان المنافقون في ظلمات الأهواء والشهوات فهم يوم القيامة في ظلمات بعضها فوق بعض : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ـ ٧٢ الإسراء. وشاءت حكمته

٢٤٥

تعالى أن يرى المنافقون غدا نور المهتدين وهو يسعى بين أيديهم كي يزدادوا ألما على ألم ، ثم يتضاعف الألم حين يستغيث المنافقون بالمؤمنين ، ويسألونهم أن يسيروا على نورهم (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً). هذا هو جواب استغاثتهم : ارجعوا الى صاحبكم الشيطان ، واقتبسوا منه نورا ، فهو وراءكم اليوم كما كان وراءكم بالأمس .. ان هذا النور لمن عمل في دنياه لآخرته ، أما من اشترى الحياة الدنيا بالآخرة فما هو بخارج من الظلمات إلا إلى ما هو أشد.

(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ). ضمير بينهم يعود الى المؤمنين والمنافقين ، والمراد بالسور الحاجز ، والمعنى ان الله أنعم على المؤمنين بالجنة ، وانتقم من المنافقين بعذاب النار ، وبين الجنة والنار حاجز ، له جانبان : باطن غير منظور ، وهو يلي المؤمنين ، وظاهر منظور وهو يلي المنافقين وغيرهم من المجرمين ، والأول فيه الجنة ، والثاني من جهته جهنم

(يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ)؟ يقول المنافقون للمؤمنين بلسان الحال أو لسان المقال ، يقولون لهم : كنّا في الدنيا نصوم ونصلي ونفعل ما تفعلون فلما ذا دخلتم الجنة ، ودخلنا النار؟ (قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ). أجابهم المؤمنون : أجل ، كنتم معنا وصمتم وصليتم مثلنا ، ولكن أهلكتم أنفسكم بالكذب والنفاق (وَتَرَبَّصْتُمْ) الدوائر بالمؤمنين (وَارْتَبْتُمْ) برسول الله وأقواله (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ) حين ظننتم أن خداعكم ونفاقكم يمر بسلام ومن غير حساب وعقاب (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) وهو لقاؤه تعالى وحسابه وجزاؤه (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) وصدقتم الشيطان في وعده بسلامتكم من غضب الله وعذابه.

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) ولا تقبل منكم توبة ولا مهرب لكم من العذاب : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ـ ٩١ آل عمران. (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا). وأيضا لا تقبل الفدية والتوبة من الذين أظهروا الكفر وجاهروا به ، ولم يخادعوا وينافقوا كما خادعتم ونافقتم (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). أبدا لا مقر ولا ناصر لكم إلا جهنم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مصيركم ومآلكم.

٢٤٦

ألم يأن للذين آمنوا الآية ١٦ ـ ١٩ :

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩))

اللغة :

ألم يأن أي ألم يحن ، تقول حان حينه أي جاء أو قرب وقته. المصدّقين والمصدقات قرئ بتخفيف الصاد على معنى المؤمنين والمؤمنات ، وقرئ بتشديدها على معنى المتصدقين والمتصدقات بأموالهم. والصديقون جمع صدّيق ، ويطلق على من داوم على الصدق حتى كأنه سجية له.

الإعراب :

المصدر من أن تخشع فاعل يأن على حذف مضاف أي ألم يأن وقت الخشوع. وما نزل عطف على ذكر الله. وكالذين الكاف بمعنى مثل خبرا ليكونوا. وجملة

٢٤٧

يضاعف خبر ان المصدقين. والذين آمنوا مبتدأ وأولئك مبتدأ ثان و «هم» ضمير فصل والصديقون خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول. والشهداء مبتدأ وجملة لهم أجرهم خبر.

المعنى :

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ). عطف ما نزل من الحق على ذكر الله من باب عطف التفسير إذ لا تغاير بين المعطوف والمعطوف عليه إلا باللفظ والعنوان ، والمراد بالذين آمنوا في الآية فئة منهم ، وقبل بيانها نقدم بأن الايمان يختلف قوة وضعفا ، فمن ايمان من وجبت له العصمة ولا تجوز عليه المعصية كالأنبياء الى ايمان صفوة الصفوة كبعض الصحابة الى من هو دونهم بدرجة .. الى أدنى درجات الايمان.

والمراد بالذين آمنوا هنا من اكتفى من الدين والايمان بالقشور دون اللباب ، وبالظاهر دون الواقع ، ولا يعنيه شيء من أمور الناس والصالح العام. وقد نبه سبحانه هذه الفئة من المؤمنين الى ما أنزله في كتابه من آيات الجهاد ، والحث على اقامة العدل ، ونصرة الحق وأهله ، والإصلاح بين الناس ، نبههم الى حقيقة الدين والايمان بهذا الأسلوب الودود الرحيم : (أَلَمْ يَأْنِ) لعلهم يسمعون ويعقلون.

(وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ). أهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، وقست قلوبهم كناية عن إعراضهم عما أنزل الله في التوراة والإنجيل ، والمعنى : ان اليهود انقلبوا على أعقابهم بعد موسى ، وكذلك النصارى بعد عيسى فلا تنقلبوا أنتم أيها المسلمون بعد محمد (ص) كما انقلب أهل الكتاب من قبل ، ومثله قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) ـ ١٤٤ آل عمران. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ). المراد بهؤلاء الكثير رؤساء اليهود والنصارى الذين حرفوا التوراة والإنجيل حرصا على مناصبهم ومكاسبهم.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها). قال كثير من المفسرين : ان

٢٤٨

هذا تشبيه للقلوب القاسية بالأرض الميتة ، وانه تعالى كما يحيي هذه بالمطر كذلك يهدي القلوب القاسية بالموعظة .. وفي رأينا انه تهديد للذين ينقلبون على أعقابهم بعد محمد (ص) وانه تعالى سيحييهم تماما كما يحيي الأرض ، ويجزيهم على ارتدادهم بعد نبيهم ، ويؤيد ارادة هذا المعنى قوله تعالى بلا فاصل : (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). انكم مسؤولون يوم القيامة عما أحدثتم بعد رسول الله (ص).

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ). المراد بالمصدقين والمصدقات المتصدقون والمتصدقات ، وبالقرض الحسن الصدقة لوجه الله تعالى ، وعليه فلا تكرار ، والمراد بالأجر الكريم أن يسعى نورهم بين أيديهم يوم القيامة بالاضافة الى الحور والقصور وما أشبه. وتقدم مثله في الآية ١١ من هذه السورة و ٢٤٥ من سورة البقرة ج ١ ص ٣٧٤ (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) وعملوا بموجب ايمانهم (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) أي الذين داوموا على الصدق في ايمانهم قولا وعملا ، والصدق سبيل النجاة من كل هلكة.

(وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ). الشهداء هم الذين يقتلون في سبيل الله ، أما أجرهم عند ربهم فقد بينه سبحانه بقولهم : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) ـ ١١١ التوبة. أما نورهم فقد أشار اليه سبحانه بقوله : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) ـ ١٢ الحديد. وقال الرسول الأعظم (ص) : «ما من أحد يدخل الجنة ، ثم يحب أن يخرج منها الى الدنيا ولو كانت له الأرض بما فيها إلا الشهيد ، فإنه يتمنى أن يرجع الى الدنيا ، فيقتل عشر مرات لما رآه من الكرامة عند الله». (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ). هذا على عادة القرآن الحكيم ، يقابل المتقين بالمجرمين ، وثوابهم بعقابهم بقصد الترغيب والترهيب.

٢٤٩

الحياة الدنيا لعب ولهو الآية ٢٠ ـ ٢٤ :

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤))

اللغة :

الكفار جمع كافر ، ويطلق على من كفر بالله ، وعلى الحارث لأنه يكفّر الحب بالتراب أي يستره به ويغطيه. ويهيج يجف. والحطام الهشيم. ولا تأسوا لا تحزنوا. ومختال من الخيلاء وهو العجب والتكبر. وفخور أي امتدح نفسه بحميد الصفات وباهى بها.

٢٥٠

الإعراب :

كمثل الكاف زائدة اعرابا ومثل صفة للدنيا أو خبر بعد خبر. وفي كتاب متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي الا هي كائنة أو مكتوبة في كتاب لكيلا تأسوا كي ناصبة للفعل واللام جارة والمجرور بها متعلق بما تعلق به في كتاب ، الذين يبخلون بدل من كل مختال فخور.

المعنى :

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ). تقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية ٣٢ من سورة الانعام .. والدنيا المذمومة في كتاب الله وعلى لسان أنبيائه هي التي تطلب للشهوات والملذات ، وللزهو واللهو ، وللكبرياء والخيلاء ، أما الدنيا التي تقضى بها حوائج المحتاجين ، وتدفع بها ظلامة المظلومين ، وينتفع بها عباد الله وعياله فهي من الآخرة لا من الدنيا المذمومة ، ومن تتبع آي الذكر الحكيم يجد أن ثواب الله وقف على من آمن وعمل صالحا في هذه الحياة ، وأدى الحقوق والواجبات ، وانه لا وسيلة الى السعادة الأخرى إلا العمل النافع في الحياة الدنيا.

(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً). هذا الوصف يصلح للدنيا لأنها لا تدوم على حال .. انها تخضر وتصفر ، وتقسو وتلين ، وتعطي وتمنع .. ولو أعطت الإنسان كل ما أحب وأراد فإنها عما قليل تسلبه كل شيء حتى نفسه وأهله .. وأيضا يصلح هذا الوصف للإنسان في الحياة الدنيا .. انه يشب ويقوى عظمه ويشتد لحمه ، وينضر لونه .. ثم يدب فيه الوهن فيذوب منه اللحم ، ويدق العظم ، ويصفر اللون ، وينتقل في كل يوم من سيء الى أسوأ حتى يتحطم ويضمحل .. وإذا كان هذا شأن الدنيا ، وشأن الإنسان فيها فأولى له ثم أولى ان يعمل لحياة دائمة لا يفنى نعيمها ولا يهرم مقيمها.

(وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ). بعد أن ذكر سبحانه ان الدنيا لا يدوم لها رخاء ولا عناء ذكر ان الآخرة ثابتة على وتيرة واحدة. نعيمها

٢٥١

دائم ، وجحيمها دائم ، لأن سبب النعيم رضوان الله ، وسبب الجحيم غضبه تعالى ، وكل منهما قائم بقيام سببه (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ). نقل الرازي عن الصحابي الجليل سعيد بن جبير انه قال عند تفسير هذه الآية : «الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة ، أما إذا دعتك الى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة». وهذا الصحابي من تلامذة الرسول (ص) المقربين.

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ). المراد بالمغفرة هنا سببها كالتوبة والعمل الصالح. وقال بعض المفسرين : إذا كان عرضها كذلك فما ظنك بطولها؟. وقال آخر : ان المراصد الحديثة كشفت ان أبعاد الكون لا حدود لها ، وعليه فالمراد العرض حقيقة لا مجازا! .. وبالرغم من هذا الكشف فنحن لا نفهم من العرض هنا إلا التعبير عن عظمة الجنة وسعتها لا تقدير مساحتها حقيقة. وتقدم مثله في الآية ٣٣ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٥٦ (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) على الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون ، وليس من شك ان الطاعة سبب للمزيد من فضله ، بل هي السبب لفضله ورضوانه في يوم الفصل.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). ضمير نبرأها يعود إلى أنفسكم ، والمعنى الظاهر من هذه الآية ان المصائب بكاملها هي من الله سواء أكانت من نوع الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات ، أم كانت اجتماعية كالحروب والفقر والعدوان .. وهذا غير مراد قطعا بحكم الوحي والعقل ، وفيما يلي التوضيح :

المصائب وصاحب الظلال :

قال صاحب الظلال عند تفسير هذه الآية : «اللفظ على إطلاقه اللغوي لا يختص بخير أو بشر فكل مصيبة تقع في الأرض كلها وفي النفس البشرية أو المخاطبين هي في ذلك الكتاب الأزلي من قبل ظهور الأرض وظهور الأنفس».

٢٥٢

وتسأل : صاحب الظلال : إذا كنت تعتمد حقا على ظاهر اللفظ وإطلاقه اللغوي فلما ذا لم تعتمد على ظاهر اللفظ وإطلاقه ، وأنت تفسر هذه الآية : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ـ ٣٠ الشورى؟ وهل نسيت انك قلت في تفسيرها ما نصه بالحرف الواحد : «فكل مصيبة تصيب الإنسان لها سبب مما كسبت يداه ـ المجلد السابع الجزء الخامس والعشرون من القرآن الكريم ص ٣٨ وهل تعتمد على الظاهر من كل آية وإطلاقها اللغوي الحقيقي حتى ولو كان بين الآيتين تناقض بحسب الظاهر والإطلاق اللغوي؟ وأيضا هل تعتمد على هذا الظاهر إذا اصطدم مع حكم العقل والواقع ودل على ان لله يدا ووجها وسمعا وبصرا؟. وهل الصهيونية والاستعمار اللذين هما مصدر المصائب والأدواء في هذا العصر ، هل هما من الله لا من الصهاينة والمستعمرين؟.

ان التناقض بين الآيات حقيقة وواقعا وتصادم إحداها مع حكم العقل ـ مستحيل على القرآن وفي القرآن .. كيف وهو من لدن حكيم عليم؟ فإذا تصادم ظاهر آية مع آية أخرى أو مع حكم العقل علمنا ان هذا الظاهر على إطلاقه غير مراد لله تعالى ، وانه انما أطلق اللفظ اتكالا على ما عرف من عادته في التعبير كتعبيره عن اليهود والنصارى بأهل الكتاب ، أو على ما هو معروف بحكم العقل كالتعبير عن قدرته تعالى باليد أو على آية أخرى من كلامه كآية الشورى التي تقول : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) والآية ١١٧ من سورة آل عمران : (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) والآية ٤١ من سورة الروم : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ). فإن هذه الآية وما في معناها قرينة قاطعة على ان الإطلاق اللغوي في آية سورة الحديد غير مراد ، وان الله سبحانه قد اطلق في سورة الحديد اتكالا على ما قاله في سورة الشورى وسورة آل عمران وسورة الروم ، وعليه فالمراد بمصيبة الأرض في سورة الحديد الكوارث الطبيعية كالزلازل وبمصيبة النفس بعض الأمراض التي لا تجدي معها وقاية ولا حذر ، ونحو ذلك ، أما آيات الشورى وآل عمران والروم فالمراد بها المصائب التي هي من صنع الإنسان لا من صنع الرحمن كالظلم والحرب والجوع.

(لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ). قال الإمام علي (ع) :

٢٥٣

الزهد كله بين كلمتين من القرآن ، ثم تلا هذه الآية وقال : «ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه». وما من أحد إلا ويحزن ويفرح حتى الأنبياء ، والقصد من النهي أن لا يدخله الفرح في باطل ، ولا يخرجه الحزن عن الحق ، فقد ثبت عن الرسول الأعظم (ص) انه قال عند موت ولده ابراهيم : «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بك يا ابراهيم لمحزونون».

(وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ). ولا شيء أدل على الجهل من الكبرياء والمباهاة. وفي نهج البلاغة : ما لابن آدم والفخر؟ أوله نطفة ، وآخره جيفة ، لا يرزق نفسه ، ولا يدفع حتفه! (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ). البخيل جبان ولئيم ، أما من بخل وأمر الناس بالبخل فهو من المعنيين بقوله تعالى : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) ـ ١٣ القلم. العتل الجاف والزنيم الدعي. قال الرازيّ هذه صفة اليهود. (ملاحظة توفي الرازي سنة ٦٠٦ ه‍). وتقدم مثله في الآية ٣٧ (النساء) ج ٢ ص ٣٢٣ (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). لا يضر البخيل إلا نفسه ، والله سبحانه لا تضره معصية من عصى ، ولا تنفعه طاعة من أطاع. وتقدم مثله في الآية ٣٨ من سورة محمد.

الحديد فيه بأس شديد الآية ٢٥ ـ ٢٩ :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ

٢٥٤

وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

اللغة :

قفينا أي ان الله أرسل الأنبياء الواحد تلو الآخر. الرهبانية من الرهبة ، وهي الخوف ، والمراد بها هنا طريقة خاصة بالنصارى. وابتدعوها استحدثوها من تلقائهم. والكفل النصيب.

الإعراب :

فيه بأس شديد مبتدأ وخبر ، والجملة حال من الحديد. ورسله مفعول لفعل محذوف دل عليه الفعل الموجود أي وينصر رسله ، وقد حذف من الثاني لدلالة الأول عليه على حد قول النحاة. ورهبانية مفعول لفعل محذوف أي ابتدعوا رهبانية ابتدعوها وهنا حذف الأول لدلالة الثاني عليه. وجملة ما كتبناها صفة لرهبانية. وحق مفعول مطلق لأنه مضاف الى مصدر الفعل. يؤتكم مجزوم باتقوا.

٢٥٥

لئلا : «لا» زائدة أي ليعلم. ان لا يقدرون «ان» مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي انهم لا يقدرون. وأن الفضل عطف على ان لا يقدرون.

المعنى :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). كل ما تعرف به الحقيقة فهو ميزان سواء أكان وحيا أم عقلا أم حسا كالتجربة والمشاهدة ، وعليه يكون عطف الميزان على الكتاب من باب عطف العام على الخاص مثل قوله تعالى : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) ـ ٨٤ آل عمران. والمعنى ان الله أرسل الأنبياء بالحجج الدالة على نبوتهم ورسالتهم ، وبما يهدي الناس الى الحق والعدل ليستقيموا على صراطه القويم.

(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ). قال المفسرون القدامى عند تفسير هذه الآية : ان الحديد قوة في الحرب يتخذ الناس منه سيفا للضرب ، ودرعا للدفاع ، وأيضا يتخذون منه السكين والفأس والابرة ، وما هذه الأمثلة إلا انعكاس لعصرهم وحياتهم ، ولو كنا في زمانهم لمثلنا بأمثلتهم ، ولو كانوا في زماننا لقالوا : ان الحديد هو عصب الحياة في شتى النواحي ، فمنه وسائل المواصلات برا وبحرا وجوا ، والأدوات التي لا غنى عنها لغني أو فقير ، وبه تقوم الجسور والعمارات والسدود والخزانات ، ولولاه لما عرف الناس الكهرباء والبترول ، وهو الأساس لكثير من العلوم الحديثة ، بل هو كل شيء في المعامل والمصانع التي تقوم عليها حضارة القرن العشرين.

(وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) أي وينصر تعاليم رسل الله ، وان لم يشاهدهم بالذات .. وكل شيء في هذه الحياة فيه جهتان : ايجابية وسلبية ، منفعة ومضرة ، وإذا كان للحديد هذه المنافع في خدمة الإنسان فإن فيه أيضا الاستعداد التام للقضاء على الإنسان وهلاكه ، فلقد كانت القتلى قبل اكتشاف الحديد تعد بالعشرات في الحروب فأصبحت اليوم تعد بالملايين .. وما القلق والاضطراب والخوف الذي يعيش فيه الشرق والغرب ، ولا الدماء التي تجري أنهرا في

٢٥٦

كمبوديا ولاوس وفيتنام وغواتيمالا والشرق الأوسط ، ما هذه الويلات وغيرها إلا نتيجة تسلح قوى الشر بالحديد ، واستخدامه ضد الشعوب والحركات التحررية.

وبهذا ندرك السر لقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ). انه سبحانه خلق الحديد ليمحص به عباده ، ويمتحن ما في قلوبهم من خير وشر ، ويظهره علنا إلى عالم الوجود والعيان كي يميز الخبيث الذي يتخذ من القوة أداة لأهوائه وأغراضه ، يميزه من الطيب الذي يرى القوة نعمة من الله فيستغلها لمنفعة الناس شكرا لله على نعمته (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ينتقم من الطغاة الظلمة بأيدي المحقين الذين لا يبتغون من هذه الحياة إلا الحرية والعدل والعيش مع الجميع في هدوء وأمان .. ونحمد الله سبحانه على ان الثورة على الظلم تقوم اليوم في كل طرف من أطراف الأرض ، وليس من شك ان هذه الثورات قوة إلهية ، لا مرد لها ما دامت تبتغي الحق والعدل .. أما جزاء الطغاة في الآخرة فجهنم وبئس المصير.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ). أرسل سبحانه كلا من نوح وإبراهيم داعيا إلى الحق ، فبلغ رسالات ربه ، وجاهد في الله أعداءه ، وكان من أمر نوح ما تقدم في سورة هود الآية ٥ ـ ٤٩ ومن أمر ابراهيم ما جاء في سورة الأنبياء الآية ١ ـ ٧٤ (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ). ضمير منهم يعود الى ذريتهما ، وكان البعض من هذه الذرية من الطيبين ، أما أكثرهم أو الكثير منهم فكان بلا دين ولا ضمير تماما شأن أبناء علماء الدين (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا). أرسل سبحانه بعد نوح وابراهيم كثيرا من الرسل ، منهم هود وصالح وموسى (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ). توالت الرسل حتى انتهوا الى عيسى (ع) ، ومعه الإنجيل ، وكان فيه آنذاك الهدى والنور (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) وهم الذين أطاعوا السيد المسيح وعملوا بتعاليمه نصا وروحا ، وما حرفوها على ما تهوى أنفسهم. وتومئ الى ذلك كلمة (اتَّبَعُوهُ). أنظر تفسير الآية ٨٢ من سورة المائدة ج ٣ ص ١١٤.

٢٥٧

(وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها). إلا هنا بمعنى لكن ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، ومعناه ان هذه الرهبانية ما أنزل الله بها من سلطان ، ولكن رؤساء النصارى ابتدعوها من عند أنفسهم زاعمين انها تقربهم من الله زلفى لأنها عزوف عن الدنيا وملذاتها .. وعلى الرغم انه تعالى ما أمرهم بها ، وانه أحل لهم الزينة والطيبات من الرزق فإنهم لم يلتزموا بما ألزموا به أنفسهم من الزهد ، بل اتخذوا منها وسيلة للشهرة وتولي المناصب .. وتدل هذه الآية على انه لا رهبانية في الإسلام ، ولا في الديانة التي جاء بها السيد المسيح.

(فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) وهم العيسويون حقا وصدقا الذين يعتقدون قولا وعملا ان المسيحية محبة ورحمة ، ونزاهة وانسانية ، لا تعصب وأحقاد ، ولا ظلما واستغلالا ، ولا حروبا وانقلابات ، ولا اثارة الفتن والنعرات ، ولا قنابل ذرية وأسلحة كيماوية ، ولا شعارات كاذبة للدفاع عن الحرية ، ولا نشر الهلع والقلق والخوف في قلوب عباد الله وعياله (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ). وفي طليعتهم قادة الاستعمار الجديد وأعداء الانسانية رقم (١) الذين تنطبق عليهم جميع الصفات التي سلبناها عن العيسويين حقا وصدقا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ). أي يا أيها الذين اعترفوا بالله ورسوله اعملوا بموجب اعترافكم ، ولا يكن عملكم مكذبا لأقوالكم (وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ). أطيعوا محمدا (ص) وسيروا على نهجه وهديه (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ). الكفل النصيب ، والمراد بالرحمة هنا الثواب ، والمعنى من آمن بالله ورسوله وعمل بموجب إيمانه فله عند الله ثوابان : ثواب على إيمانه ، وثواب على العمل بموجبه. (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) يوم القيامة ، ومن لم يجعل الله له في هذا اليوم نورا خبط سادرا في ظلمات لا يخرج منها إلا الى ما هو أعظم وآلم.

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر ما أسلفتم من المعاصي لأنه هو الغفور الرحيم. قال ابن عربي في الفتوحات : «ما قرن سبحانه المغفرة بتوبة ولا بعمل صالح فلا بد من شمول الرحمة والمغفرة لمن أسرف على نفسه». ولا يكثر شيء على رحمته التي وسعت كل شيء (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ

٢٥٨

مِنْ فَضْلِ اللهِ). ال «لا» في «لئلا» زائدة ، والمراد بقوله تعالى : (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ) انهم لا ينالون يوم القيامة شيئا من فضل الله ، ومحصل المعنى ان الله سبحانه يغفر غدا للذين آمنوا بمحمد ، ومن أحسن عملا يؤتيه أجره مرتين لأنه تعالى جواد كريم ، وأيضا ليعلم اليهود والنصارى الذين رفضوا الإيمان بمحمد (ص) أنه لا نصيب لهم من مغفرة الله ورحمته لأنهم استنكفوا عن تصديق نبيه الكريم محمد (ص) (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يتفضل به على الذين آمنوا بمحمد (ص) ولا مرد لما أراد لأن بيده ملكوت كل شيء ، وهو على كل شيء قدير.

٢٥٩
٢٦٠