التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

منه يعود على الله سبحانه والمجرور متعلق بمحذوف صفة للجميع. ويغفروا مجزوم بجواب أمر محذوف أي قل لهم : اغفروا يغفروا. فلنفسه متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي فنفع صلاحه عائد لنفسه. فعليها ايضا خبر لمبتدأ محذوف أي فضرر إساءته عائد عليها.

المعنى :

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً). بعد ان وضع سبحانه أمام العقل الدلائل الحسية المفيدة للجزم واليقين بوجوده تعالى ، وقال : من لم يؤمن بها فلن يؤمن بأي دليل غيرها ـ بعد هذا هدد وتوعد من لا يتدبر هذه الدلائل ، وينتفع بها ، وأسماه بالأفاك الأثيم ، وتوعده بالعذاب الأليم ، ووصفه بمعاندة الحق وتجاهله تعاليا وتعاظما ، وانه لم يكتف بذلك حتى سخر منه واستهزأ به ... ولا فرق في يوم الحساب بين هذا الكافر الساخر من الحق وأهله ، وبين من آمن به قولا لا فعلا ، وبالنظر لا بالعمل ، قال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ـ ٢١ الأنفال أي لا يقبلون ولا يعملون. وقال الإمام علي (ع) : البصير من سمع فتفكر ، ونظر فأبصر ، وانتفع بالعبر.

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). أولئك اشارة الى كل أفاك أثيم ، والمراد بما كسبوا ، أموالهم وأولادهم وجاههم. وبما اتخذوا ، أصنامهم وأوثانهم ، والمعنى ان الذين استكبروا على الحق وسخروا منه مصيرهم الى جهنم يصلونها وبئس المهاد ، ولا ينجيهم من عذابها صنم ولا ولد ولا جاه ولا مال (هذا هُدىً). هذا إشارة الى القرآن ، وما من شك انه هدى لمن ائتم به ، وقوة لمن اعتمد عليه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ). المراد بالآيات هنا الدلائل الكونية على وجود الله وعظمته ، والعذاب والرجز والأليم كلمات مترادفة أو متقاربة المعنى ، والغرض من التكرار تأكيد العذاب اللائق بالأفاك الأثيم الذي يستعلي على الحق ويسخر منه.

٢١

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). ان فضل الله تعالى في البر والبحر والجو ، ومن نعمه تعالى في البحر اللحم والملح والأحجار الكريمة والمواصلات والنزهة والرياضة وغير ذلك ، وتقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية ٦٦ من سورة الاسراء ج ٥ ص ٦٥ والآية ٤٦ من سورة الروم وغيرهما.

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). في هذا العالم الواسع منافع وطاقات لا يبلغها الإحصاء ، وبالرغم من تقدم العلم في عصرنا فإن ما خفي عنه أكثر مما استبان له من تلك الطاقات ، ولكن الله سبحانه زود الإنسان بالاستعداد التام لاكتشاف كل ما في الكون من قوى وإمكانات والاستفادة بها لو اتجه اتجاها علميا انسانيا ، لا تجاريا ، وبذل جهدا أكثر وأطول ... وتجدر الاشارة الى ان كلمة (جَمِيعاً) تومئ الى ان في الإنسان من المؤهلات ما يستطيع معها الوصول الى القمر وغيره من الكواكب. انظر ج ٦ ص ١٠١ فقرة «القرآن والفكر». وتقدم مثله في الآية ٢٠ من سورة لقمان.

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). المراد بأيام الله هنا أيام نقمته وعذابه ، والذين لا يرجونها هم مشركو العرب. وقد أمر سبحانه نبيه الكريم أن يدعو المؤمنين الى الصفح عمن أساء اليهم ، ويدفعوه بالتي هي أحسن ، والله سبحانه يتولى حساب المسيء وجزاءه (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ). المعنى واضح. وتقدم نظيره في الآية ١٠٤ من سورة الانعام ، وبالحرف الواحد في الآية ٤٦ من سورة فصلت.

أيضا بنو اسرائيل ١٦ ـ ٢٠ :

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ

٢٢

الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠))

اللغة :

المراد بالكتاب هنا التوراة والإنجيل لأن عيسى (ع) من بني إسرائيل. والمراد بالحكم فهم ما في التوراة والإنجيل. وبالطيبات المن والسلوى. وبينات من الأمر أي واضحات مما أنزلنا من أحكام الدين. وبغيا عنادا للحق. على شريعة من الأمر أي على طريقة من أمرنا وديننا. والبصائر الدلائل التي يبصر بها العاقل الحق. ولقوم يوقنون يطلبون علم اليقين.

الإعراب :

بغيا مفعول من أجله لاختلفوا. وشيئا مفعول مطلق ليغنوا أي شيئا من الإغناء.

المعنى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). في الآيات السابقة ذكر سبحانه الأفاكين الآثمين الذين كفروا

٢٣

بدلائل الله وآلائه ، وهزأوا بالحق وأهله ، ولما كان بنو إسرائيل أصدق مثل لهذه الأوصاف عقب سبحانه بذكرهم وبما هم عليه من الجحود والآثام ، مع ان الله قد أمد لهم وأنعم عليهم بالتوراة والإنجيل اللذين أشار اليهما بكلمة الكتاب ، وأفهمهم ما فيهما من المواعظ والأحكام ، وهذا هو المراد من الحكم ، وجعل منهم أنبياء ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وفضلهم على آل فرعون حيث أغرقهم وأراح الاسرائيليين من عذابهم.

(وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ). أوضح سبحانه لبني إسرائيل كل ما يحتاجون اليه من أمور الدين ، ولم يبق عذرا ولا سببا لاختلافهم وتفرقهم (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ). لقد علموا علم اليقين ما أنزل الله على موسى ، ولكنهم تجاهلوه وحرفوه تبعا لأهوائهم ومصالحهم : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) ـ ٤٦ النساء. وقوله تعالى : (اخْتَلَفُوا) يشير الى القليل النادر الذي ثبت على الحق (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). قد يتغلب المبطل على المحق في الحياة الدنيا ، أما في الآخرة فإن الكلمة العليا للحق وحده ، وإلا كان المحق أسوأ حالا من المبطل. وتقدم مثله في الآية ٩٣ من سورة يونس ج ٤ ص ١٩٠.

ضربت الذلة على إسرائيل بحكم التوراة :

جاء في القرآن الكريم عن بني إسرائيل قوله تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا) ـ ١١٢ آل عمران. وتكلمنا مطولا حول هذه الآية في ج ٢ ص ١٣٣ ، وقلنا : ان إسرائيل قاعدة من قواعد الاستعمار ، وانها زائلة لا محالة عاجلا أو آجلا.

والآن ننقل من نصوص الأسفار ـ أي الكتاب المقدس عند اليهود ـ ما يدل بصراحة ووضوح على ان الله كتب على إسرائيل الذلة والمسكنة حتى يومها الأخير. فقد جاء في سفر الملوك الثاني اصحاح ١٧ الآية ١٩ و ٢٠ : «فغضب الرب جدا على إسرائيل ... فرذل الرب كل نسل إسرائيل وأذلهم». وفي سفر ارميا اصحاح ٩ الآية ١٥ و ١٦ : «ها أنا ذا أطعم هذا الشعب أفسنتينا واسقيهم

٢٤

العلقم وأبددهم في أمم لم يعرفوها هم ولا آباؤهم ، وأطلق وراءهم السيف حتى أفناهم». وأيضا في سفر التثنية اصحاح ٢٨ الآية ٦٢ و ٦٣ : «فتبقون نفرا قليلا ... فتستأصلون من الأرض». الخطاب لبني إسرائيل ، الى غير ذلك من النصوص الدالة على بغي اليهود وفسادهم وذلهم وهوانهم.

ونسأل الصهاينة : إذا كنتم شعب الله المختار كما تزعمون فلما ذا حكم الرب عليكم وعلى نسلكم بالذلة والرذالة والتشريد الى ان تستأصلوا من الأرض؟ وكيف قطع الرب عهدا على نفسه أن يجعل أورشليم رجما ومأوى لبنات آوى كما جاء في سفر ارميا اصحاح ٩ الآية ١١ : «واجعل أورشليم رجما ومأوى بنات آوى ، ومدن يهوذا اجعلها خرابا بلا ساكن»؟. وما هو الكتاب المقدس لدولتكم الدينية العنصرية كما قال بومبيدو رئيس جمهورية فرنسا. هل هو التوراة التي وصفتكم ووصفت عاصمتكم بقولها : «هكذا قال الرب : أيتها المدينة ـ أي أورشليم ـ السفاكة الدم ... يا نجسة الاسم يا كثيرة الشغب ، هوذا رؤساء إسرائيل كل واحد حسب استطاعته كانوا فيك لأجل سفك الدماء ـ سفر حزقيال اصحاح ٢٢ الآية ٣ و ٦».

لقد وصف القرآن الكريم بني إسرائيل بأبشع النعوت وأقبحها ، ولكنه لم يزد شيئا عما جاء في التوراة والكتاب المقدس عند اليهود ... وقد جاء ذم أورشليم في إنجيل لوقا اصحاح ١٣ : «يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين» ويقول الإنجيل : ان اليهود في كل زمان ومكان يشاركون في الجريمة أجدادهم الذين صلبوا السيد المسيح لأنهم راضون بأفعالهم مؤمنون بأقوالهم : انه ابن زنا ودجال ... وما جاء في الإنجيل يتفق تماما مع المبدأ الاسلامي القائل : «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء».

ومن أجل هذا عارضت الكنيسة القبطية بابا روما حين أصدر هو وأعوانه وثيقة تبرئة يهود الجيل من دم المسيح .. وتجدر الاشارة إلى أن هذه الوثيقة أصدرها بابا روما قبيل عدوان إسرائيل على البلاد العربية بقليل.

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها). الشريعة في اللغة مورد الماء ، وقد استعيرت للأحكام الدينية لأنها تحيي الأرواح كما يحيي الماء الأجسام ، والمراد

٢٥

بالأمر هنا الدين ، والمعنى لقد جعلناك يا محمد على عقيدة التوحيد وخلع الشرك والأنداد ، وأعطيناك الشريعة السهلة السمحة ، فتمسك بها وادع اليها ، أما قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فمعناه ان المجرمين لا يتبعون إلا الهوى والغرض ، وما عليك إلا أن تمضي في دعوتك ولا تأخذك فيها لومة لائم ، وهو سبحانه يكفيك كيد الكائدين وشر المتآمرين.

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) لأن من عجز أن يدفع عن نفسه فهو عن مؤازرة غيره أعجز (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ). لا يجد المجرم في الحياة الدنيا من يناصره ويؤازره إلا من كان على شاكلته في الإجرام والآثام .. والطيبون أعداء له وحرب عليه ، أما في الآخرة فيلعن المجرمون بعضهم بعضا (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) دنيا وآخرة (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). هذا إشارة الى القرآن ، والبصائر الدلائل التي تبصر بها الحق وطريق الهداية ، وما من شك أن من يأتم بالقرآن فهو على علم اليقين بأنه على هدى من ربه ، وداخل في رحمته. وتقدم مثله في الآية ٢٠٣ من سورة الاعراف ج ٣ ص ٤٤١.

اتخذ إله هواه الآية ٢١ ـ ٢٦ :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى

٢٦

عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦))

اللغة :

اجترح واقترف واكتسب بمعنى واحد.

الإعراب :

أم حسب «أم» للإضراب أي بل أحسب. والمصدر من أن نجعلهم ساد مسد مفعولي حسب. وسواء مفعول ثان لنجعلهم. ومحياهم ومماتهم فاعل سواء لأنه بمعنى مستو. وما يحكمون «ما» مصدرية والمصدر المنسبك فاعل ساء. وعلى علم حال. وان هم «ان» نافية. والمصدر من ان قالوا خبر كان.

المعنى :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ). هل يصح في الافهام أن يكون المحسن والمسيء بمنزلة سواء عند الله وفي نظر العقل؟ اذن ، فما معنى تعدد الأسماء وتباينها؟ وما هو الفارق بين الخير والشر والهدى والضلال؟ وأخذ علماء الكلام مضمون هذه الآية وقالوا : ان الله سبحانه وعد الطائع بالثواب ، وتوعد العاصي بالعقاب ، وما وقع في الدنيا شيء من ذلك ، فوجب أن يعيد سبحانه الإنسان الى الحياة بعد موته ليحصل الوفاء بوعده تعالى ووعيده. وأيضا الله عادل ما في

٢٧

ذلك ريب ، وقد رأينا الظالم يقضي حياته دون أن يقتص أحد منه للمظلوم ، ولولا الاعادة للحساب والجزاء لكان المظلوم أسوأ حالا من الظالم وكان الله ظالما. تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

أما نعيم الدنيا فما هو بعلامة على رضا الله ، ولا بؤسها دليل على غضبه ، قال الإمام علي (ع) : أيها الناس ان الدنيا دار مجاز ، والآخرة دار قرار ، فخذوا من ممركم لمقركم ... واخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم ، ففيها اختبرتم ، ولغيرها خلقتم.

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ). هذا تعليل لنفي المساواة بين المحسن والمسيء ، وبيانه ان الله سبحانه خلق الكون حقا وعدلا ، لا عبثا وباطلا ، لأنه منزه عنهما ، وعليه فيستحيل أن يساوي بين المحسن والمسيء ، وإلا كان خلق الكون عبثا وباطلا ، لأن من يجوز العبث عليه في شيء يجوز عليه أيضا في غيره (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). هذا هو النهج القويم نهج الحق والعدل ، من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. أنظر تفسير الآية ٤ من سورة يونس ج ٤ ص ١٣٢ فقرة : «الحساب والجزاء حتم».

والخلاصة ان الله حكيم منزه عن الخطأ ، وحكمته تعالى تحتم إحياء الإنسان بعد موته ليميز بين المحسن والمسيء ، ويجزي كلا بما يستحق وإلا كان الخلق عبثا ، قال تعالى في الآية ١١٥ من سورة المؤمنون : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) أي تنزه عن العبث.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ)؟. من الناس من لا يؤمن بشيء إلا بنفسه ومصلحته .. وقد يهلل ويكبر بل ويصوم ويصلي ما دام ذلك لا يزاحم شيئا مما يحب ويهوى ، فهواه هو المعبود الحق عنده ، وما عداه وسيلة لا غاية أو عادة لا عبادة ، وهذا هو المقصود من قوله تعالى : (اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ). وقال قائل : انما سمي هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار ، وقد أخذ هذا من قوله تعالى :(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) ـ ٤٠ النازعات. وفي بعض التفاسير ان المشرك الجاهلي كان يهوى الحجر فيعبده ،

٢٨

ثم يرى غيره فيهواه فيلقي الأول ، وهكذا من يتخذ إلهه هواه ... وليس من شك ان المشرك الجاهلي أخف جرما عند الله من العملاء الذين يبيعون دينهم وضميرهم بالمزايدة ، ويعقدون الصفقة مع من يزيد.

(وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ). الله سبحانه لا يضل أحدا ، كيف؟. وقد نهى سبحانه عن الضلال وتوعد عليه ، ولكن من يسلك طريق الضلال مختارا يدعه وشأنه ، ولا يشمله بلطفه وعنايته بعد أن علم جلت حكمته من العبد الضال الإصرار والعناد. أما قوله تعالى : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) فمعناه ان الله تعالى قد أعمى المعاند عن ادراك الحق ورؤيته وسماعه بعد أن بينه له وحثه عليه وأعرض عنه من غير مبرر ، قال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ـ ٥ الصف. (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)؟ من لا ينتفع بنصائح الله ، ويتعظ بمواعظه ، فلا تنفعه العظات والنصائح.

(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ). قال الماديون أو الدهريون عبّر بما شئت ، قالوا : ان الإنسان خليط من أشياء مادية تجمعت من هنا وهناك وتفاعلت ، فإذا مات فإلى فناء ولا شيء بعد الموت تماما كالنبات والحشرات ، وما نراه في الإنسان من إدراك وإحساس فهو من إفراز الجسم ووليد الظروف والملابسات أي ان عقل الإنسان وعاطفته من الأعراض الثانوية التي لا اصالة لها ولا استقلال.

(وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي ان قولهم هذا دعوى بلا دليل. بل قام الدليل على فسادها وبطلانها لأن الذي يتحكم بالمادة ويخضعها لمصالحه ، ويحللها في مصانعه ويعرف الكثير عنها ولا تعرف هي شيئا عنه ، ان هذا الإنسان العجيب لا بد أن يكون أعظم من المادة وأرفع منها مستوى. وسبق الكلام عن ذلك مرارا ، منها عند تفسير الآية ٧٨ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٣٦.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). وهذا تماما كقول من قال : أنا لا أصدق أن شجرة التفاح تثمر في الصيف إلا إذا رأيتها تحمل الثمر في الشتاء ، وان هذا الطفل إذا كبر

٢٩

نبتت لحيته الا إذا رأيتها الآن في وجهه ذاهلا ان لكل شيء أجلا ، وان لكل أجل كتابا لا يتقدم ولا يتأخر. وتقدم مثله في الآية ٣٦ من سورة الدخان. (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ). إذا كان الله هو الذي أحيا الإنسان من قبل ولم يكن شيئا مذكورا ، وهو الذي يميته فما الذي يمنعه من إحيائه ثانية؟. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ان النشأة الثانية أهون وأيسر من النشأة الأولى. وتقدم في العديد من الآيات ، منها الآية ٢٨ من سورة البقرة و ٦٦ من سورة الحج.

كل امة تدعى الى كتابها الآية ٢٧ ـ ٣١ :

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١))

اللغة :

جاثية باركة على الركب. نستنسخ نستكتب أي نجعل الملائكة تكتب.

الإعراب :

يوم متعلق بيخسر المبطلون. ويومئذ بدل من يوم. اليوم تجزون أي يقال لهم : اليوم تجزون. أفلم تكن آياتي أي يقال لهم : أفلم تكن الخ.

٣٠

المعنى :

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). يشير سبحانه بهذا إلى قدرته على الإحياء بعد الموت ، لأن من خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن قادر ، ولا ريب ، على أن يحيي الموتى (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) لأن مأواهم النار في هذا اليوم ، وما لهم من ناصرين (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً). يحشر سبحانه الناس يوم القيامة باركين على الركب ينتظرون الحساب والجزاء ، وغير بعيد أن يكون هذا كناية عن هول المطلع وروعة الفزع.

(كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). المراد بالكتاب هنا صحيفة الأعمال ، والمعنى ان كل أمة ، وكل امرئ مجزي بما أسلف ، وقادم على ما قدم ، وفي نهج البلاغة : «إذا هلك المرء قال الناس : ما ترك ، وقالت الملائكة ما قدم». (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). يقال غدا للمجرمين : هذا ما كتبناه عنكم ، انه صورة طبق الأصل عن أعمالكم لا زيادة فيه ولا نقصان ، لأن الله قد أمر ملائكة الحفظ والصدق أن تسجل أفعالكم ، وتحفظ عليكم عدد أنفاسكم التي قضيتموها في المعصية ولا تستركم من الكتبة ظلمة ، ولا يكنكم منهم حجاب : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ـ ٤٩ الكهف ج ٥ ص ١٣٥.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ). سلكوا طريق الأمان ، فقادهم الى رحمة الله ورضوانه. وفي نهج البلاغة لن يفوز بالخير إلا عامله ، ولا يخزى جزاء الشر إلا فاعله (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ)؟. يقول سبحانه غدا للعتاة المتمردين تقريعا وتوبيخا : سمعتم صوت الحق فلم تستجيبوا له ، ورأيتم الواضحات من دلائله فأعرضتم عنها عنادا واستكبارا ، واسترحتم الى الفساد والضلال ، فأنتم اليوم من الخاسرين.

٣١

اليوم ننساكم الآية ٣٢ ـ ٣٧ :

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))

اللغة :

حاق بهم أحاط أو حل بهم. ننساكم نترككم ونهملكم. لا يستعتبون لا يطلب منهم العتبى والاعتذار. والمراد بالكبرياء هنا السلطان القاهر.

المعنى :

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ). ما زال الحديث عن المجرمين ، وقوله تعالى : (وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) بيان وتفسير لوعد الله ، والمعنى ان المجرمين كانوا إذا قال لهم المؤمنون : ان البعث لحق ، والحساب والجزاء حق قالوا : لسنا على يقين من البعث ، ولا نعرف عنه شيئا سوى الظن ، فأتونا بما يدل عليه.

٣٢

وتسأل : ان الله سبحانه حكى عنهم في الآية ٢٤ من هذه السورة انهم نفوا البعث بلسان الجزم كما يدل قولهم : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ثم حكى عنهم هنا انهم يظنون ظنا وما هم بمستيقنين أي انهم لا يجزمون في أمر البعث سلبا ولا إيجابا ، فكيف تجمع بين الآيتين؟.

قال الرازي : يغلب على الظن انهم كانوا فريقين : فريقا كان جازما بنفي البعث ، وآخر كان شاكا فيه .. أما نحن فيغلب على ظننا انهم فريق واحد ، وان معنى الآيتين واحد ايضا ، وهو انهم لا يؤمنون بالبعث لأنه لا دليل بزعمهم يوجب اليقين به ، وانما هو غيب في غيب.

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). زرعوا في الدنيا الجرائم والآثام ، فحصدوها وجنوا ثمارها في الآخرة ، وسخروا من جهنم وعذابها فكانوا لها حطبا (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) جحدوا يوم القيامة وسخروا منه وممن آمن به ، فأمهلهم الله في ذلك ولم يشملهم برحمته ، بل أذاقهم عذاب ذاك اليوم ، وأراهم سبحانه من قدرته وسطوته فيه ما كانوا به يمترون. وتقدم مثله في الآية ٥١ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٣٦.

(ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا). ذلكم إشارة الى العذاب ، والمعنى ان السبب الموجب لعذابهم هو كفرهم باليوم الآخر ، وإعراضهم عن القرآن ، واستخفافهم بآياته حين يتلى عليهم ، واطمئنانهم الى الدنيا وزينتها (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ). ضمير منها يعود الى النار ، والمعنى انهم خالدون فيها ، ولا يطلب منهم أن يسترضوا الله بقول أو فعل ، لأن الآخرة دار حساب وجزاء لا دار عمل واسترضاء.

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ). احمدوا الله وحده لأنه خالق كل شيء (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). والمراد بكبريائه تعالى انه لا كبير يخاف ويرجى إلا هو وحده ، وقد وصف الإمام علي (ع) العارفين بالله ، وصفهم بقوله : عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يقهره شيء (الْحَكِيمُ) في تدبير خلقه.

٣٣
٣٤

الجزء السّادس والعشرون

٣٥
٣٦

سورة الأحقاف

٣٥ آية كلها أو جلها مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ابن الدليل ان كنتم صادقين الآية ١ ـ ٦ :

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦))

اللغة :

أم لهم شرك أي نصيب. وأثارة من علم بقية أو شيء منه.

٣٧

الإعراب :

من قبل هذا متعلق بمحذوف صفة لكتاب أي بكتاب منزل من قبل هذا. أو أثارة عطف على كتاب. ومن لا يستجيب مفعول يدعو. وضمير «هم» يعود الى الأصنام. وعن دعائهم متعلق بغافلين ، وبعبادتهم متعلق بكافرين.

المعنى :

(حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). تقدم بالحرف الواحد في أول سورة الجاثية وأول سورة الزمر (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى). الله حكيم لا يخلق شيئا إلا بالحق ، والعبث في حقه مستحيل ، وقد خلق الكون بما فيه لحكمة وغرض صحيح ، وقدّر لفنائه وزواله أمدا معينا ، وبعده يكون الحساب والجزاء في الدار الثانية. وتقدم مثله في الآية ٨ من سورة الروم ج ٦ ص ١٣٢.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ). خوّف سبحانه المجرمين من يوم القيامة وأهواله ، وأقام عليه الدلائل الواضحة ، فأبوا إلا العتو والعناد (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ)؟ المراد بالشرك هنا النصيب ، والمعنى أخبروني يا عبدة الأصنام : ما الذي دعاكم الى تأليهها وعبادتها؟ هل خلقت شيئا من الأرض أو في الأرض ، أو اشتركت مع الله في خلق السموات أو بعضها أو ما ذا؟ (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) القرآن كالتوراة أو الإنجيل أو غيرهما يقول : ان الأصنام شركاء لله في خلقه أو شفعاء لديه أو شيء يذكر (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). وإذا لم يكن لديكم دليل من النقل فهل عندكم دليل من العقل على صدق ما تقولون وصحة ما تعبدون؟. وتقدم مثله في الآية ٤٠ من سورة فاطر.

٣٨

الوثنية في عصر الفضاء :

وتسأل لما ذا اهتم سبحانه هذا الاهتمام البالغ بالرد على عبدة الأوثان في هذه الآية وغيرها مع العلم بأن الأمر أهون وأيسر من ذلك ، فإن نفي الألوهية عن الأصنام بمكان من البداهة والوضوح تماما كنفي البصر عن الأعمى ، والظلمة عن النور؟.

الجواب : كان تقديس الأصنام وعبادتها جزءا لا يتجزأ من حياة الناس منذ عهد نوح الى عهد الرسول الأعظم (ص) ، وبينهما آلاف السنين .. وحتى في عصرنا هذا ، عصر الفضاء ، تنتشر الوثنية في شرق الأرض وغربها .. وهل هذه التماثيل القائمة الآن في المعابد وعلى مفارق الطرق ورؤوس الجبال ، وهذه الرسوم على الجدران وفي المفكرات وهنا وهناك ، والتي تحكي الآلهة بزعم الزاعمين ، هل تقديس تلك التماثيل وهذه الرسوم إلا ضرب من الوثنية وعبادة الأصنام؟ .. وهنا يمكن السر لاهتمام الإسلام والقرآن في الرد على عبدة الأوثان ، وتتجلى عظمة محمد (ص) في تكريم الإنسان وتنزيهه عن عبادة ما صنعت يداه ، قال الشاعر :

بكيت على الإنسان ينحت صخرة

ويعبدها للنفع يوما أو الضرّ

وكفّاه اولى بالعبادة لو درى

هما نحتا هذه الصخور كما يدري

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ). المراد بقوله : الى يوم القيامة ان الأصنام لا تجيب أبدا ، ولا يمكن أن تجيب ، والمعنى لا أحد أكثر جهلا وضلالا من الذي يعبد ما لا يسمع مناديا ، ولا يجيب داعيا (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ). ضمير «هم» وواو «غافلون» يعودان الى الأصنام ، وضمير دعائهم يعود الى المشركين ، والمعنى ان المشركين يعبدون الأصنام ، ولكن الأصنام في غفلة عنهم ولا يشعرون بوجودهم (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ). وأيضا يوم القيامة عند ما يحشر الله الناس للحساب والجزاء تتبرأ آلهة المشركين منهم ، ويكفرون بهم وبعبادتهم. أنظر تفسير الآية ٢٨ من سورة يونس ج ٤ ص ١٥٢.

٣٩

أم يقولون أفتراء الآية ٧ ـ ١٢ :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢))

اللغة :

فلا تملكون لي فلا تغنون عني. تفيضون فيه تتكلمون فيه. والبدع من الأشياء ما لا مثيل له.

الإعراب :

بينات حال من آياتنا. وكفروا للحق اللام للتعدية والمجرور متعلق بقال

٤٠