التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

فهو فحش كالزنا واللواط ، وذنب كبير أيضا ، أما اللمم فهي صغار الذنوب التي لا يكاد يخلو منها إنسان إلا من عصم الله كالنظرة ومجرد الجلوس الى مائدة الخمر. وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٣١ من سورة النساء ج ٢ ص ٣٠٦. ومعنى الآية ان من أقلع عن الكبائر فإن الله سبحانه يشمله بعفوه وإحسانه ، وان اقترف بعض الصغائر .. وليس معنى هذا ان للإنسان أن يقترف الصغائر .. كلا ، وإلا كانت من المباحات ، وانما المراد ان من اجتنب الكبائر فله أن يأمل العفو والصفح من ربه وان ارتكب بعض الهنات ، وإلا كانت الجنة وقفا على أهل العصمة دون غيرهم. وفي نهج البلاغة : أشد الذنوب ما استهان به صاحبه .. وان يستعظم الإنسان من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه ، ويستكثر من طاعته ما يحقر من طاعة غيره.

(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى). أجل ، ان الله أعلم بالإنسان من نفسه بالغا ما بلغ من العلم .. ومستحيل أن يعلم من نفسه ما يعلمه الله منه ، لأنه تعالى هو الذي أوجده وأحياه ، ويميته وينشره ، وهو معه بعلمه منذ تكوينه في بطن أمه الى النفس الأخير .. يضاف الى ذلك ان جميع جوارح الإنسان حتى قلبه هي شهود عليه عند خالقه. وأصدق شاهد ينطق بتزكية الإنسان وإخلاصه هو عمله الصالح. وتقدم مثله في الآية ٤٩ من سورة النساء ج ٢ ص ٣٤٦ والآية ٢١ من سورة النور ج ٥ ص ٤٠٩.

ليس للانسان الا ما سعي الآية ٣٣ ـ ٤١ :

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١))

١٨١

اللغة :

أكدى قطع وأمسك. وصحف موسى التوراة. ووفّى تمم وأكمل. والوزر الإثم.

الإعراب :

قليلا صفة لمحذوف أي عطاء قليلا. وابراهيم على حذف مضاف أي وبما في صحف ابراهيم. أن لا تزر : «ان» مخففة واسمها محذوف أي انه ، والمصدر المنسبك عطف على (بِما فِي صُحُفِ مُوسى). وان ليس «ان» مخففة أيضا والمصدر عطف أن لا تزر. وكذا وانّ سعيه.

المعنى :

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) أي منع ، والمعنى أخبرني يا محمد عن الرجل الذي أعرض عن ذكر الله ، وكان قد بذل شيئا يسيرا من ماله أو نفسه في سبيل الخير ، ثم منع وأمسك عن البذل! .. هذا ما دل عليه ظاهر كلامه تعالى .. ويأتي السؤال : هل أراد سبحانه رجلا خاصا يعرفه النبي (ص) أو أراد مثلا عاما لكل من يصدق عليه هذا الوصف؟ قال بعض المفسرين : نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة. وقال آخر : انها نزلت في عثمان بن عفان .. وكل من القولين يفتقر الى الدليل .. اذن ، فالآية على دلالتها من الشمول والإطلاق.

(أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى)؟ هل علم هذا المعرض الممسك انه في أمان من عذاب يوم القيامة حتى أعرض وأمسك؟ وانّى له هذا العلم مع ان الله سبحانه قد أنزل في كتبه ما يكذّب زعمه ان ادّعى ذلك (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى).ألم يسمع هذا المعرض الممسك بما أنزل الله في التوراة وفي صحف ابراهيم الذي وفى بعهد الله وميثاقه على أكمل وجه ، ألم يسمع أو يخبره مخبر بأن الله قد أنزل في هذين الكتابين (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ان

١٨٢

كل انسان يؤخذ بذنبه ، ولا أحد يحمل عنه أوزاره وأثقاله. وتكررت هذه الآية في سورة الأنعام ١٦٤ ، وفي سورة الاسراء الآية ٩٥ ، وفي سورة فاطر الآية ١٨ ، وفي سورة الزمر الآية ٧.

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى). المراد بالسعي هنا العمل والحركة في هذه الحياة. وتدل الآية على ان الإسلام هو دين الحياة لأنها تنص بصراحة على أن الله ينظر الى عباده من خلال أعمالهم في الحياة الدنيا ، ويعاملهم بموجبها ، ومعنى هذا ان الإنسان كلما عاش الحياة بأبعادها وفي أعماقها ، وعمل لخيرها وحل مشاكلها ـ فقد اقترب من الله ودين الله ، واستحق منه الرحمة والكرامة ، وانه كلما تهرب من الحياة وابتعد عن همومها ومشاكلها مكتفيا بالتكبير والتهليل والصوم والصلاة ـ فقد ابتعد عن الله ودينه ورحمته.

(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أي سوف يحاسبه الله على عمله يوم القيامة ، فالمراد بالرؤيا هنا الحساب وإلا فإن الله سبحانه يعلم كل شيء حتى خطرات الوساوس (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى). واضح لا يحتاج الى تفسير تماما كقوله تعالى : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) ـ ١٩٥ آل عمران.

الى ربك المنتهى الآية ٤٢ ـ ٦٢ :

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما

١٨٣

غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

اللغة :

تمنى تراق في فرج الأنثى. والنشأة الأخرى البعث. والمراد بأغنى هنا انه تعالى كفى عبده وأغناه عن سؤال الناس. والمراد بأقنى انه أعطاه أيضا ما يقتني من المال ويدخر بعد الكفاية ، وفي تفسير الرازي ان الإقناء فوق الإغناء. والشعرى نجم مضيء ، وفي تفسير الطبري : كان بعض أهل الجاهلية يعبدونه من دون الله. والمراد بالمؤتفكة قرى قوم لوط. وأهوى أسقطها في الأرض أي خسف بها الأرض. وغشاها غطاها العذاب. وآلاء الله نعمه. تتمارى تشكّ. وأزفت دنت. والمراد بالآزفة الساعة. وكاشفة من الكشف ، ويأتي بمعنى الاظهار مثل كشف أمره أي أظهره ، وأيضا يأتي بمعنى الازالة مثل كشف الله غمك أي أزاله. وسامدون لاهون.

الإعراب :

وان الى ربك المنتهى وما بعده عطف على ما تقدم وهو ان ليس للإنسان إلا ما سعى. وثمود وقوم نوح عطف على عاد. والمؤتفكة مفعول أهوى. فغشاها ما غشى فاعل غشاها ضمير مستتر يعود الى العذاب و «ما» مفعول.

المعنى :

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى). هذه الآية وما بعدها هي من جملة الآيات التي

١٨٤

ذكر سبحانه انه أنزلها في صحف موسى وابراهيم ، والمراد بالمنتهى موقف الإنسان بين يدي الله لنقاش الحساب الذي لا منجى منه (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى). الضحك اشارة الى فرح أهل الجنة ، والبكاء الى ترح أهل النار ، ومن الجائز أن يكونا إشارة الى ما أودعه الله في الإنسان من غريزة اللذة والألم والحزن والفرح ، وقد ذهب جماعة من الفلاسفة الى أن الإنسان لا يتحرك إلا بتأثير من جذب اللذة كالجنس أو من خوف الألم كالجوع.

المادة والحياة :

(وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا). هو سبحانه يهب الحياة ويأخذها ، أما قول من قال : ان المادة أصل الحياة وسببها فهو مجرد ادعاء تكذبه بديهة العقل لأن المادة لا تتحرك بطبيعتها بل بعلة مغايرة لها ، وأي عاقل يقبل القول بأن المادة الصماء أنشأت بنفسها لنفسها أبصارا وأسماعا وأفئدة ، وإذا كانت الحياة صفة تلازم المادة فلما ذا ظهر النمو والحركة والحس والتفكير في بعضها دون بعض؟. وان قال قائل : ان لبعض أفراد المادة استعدادا للحياة دون بعض قلنا في جوابه : من أين جاءت هذه التفرقة؟ هل جاءت من داخل المادة أو خارجها. فإن كانت من الداخل وجب أن تكون كل مادة صالحة لاستقبال الحياة ، وإلا لزم أن يكون الشيء الواحد سببا لوجود الشيء وعدمه في آن واحد ، وان جاءت بسبب خارج عن المادة فهو الذي نقول.

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى). يريق الذكر منيه في رحم الأنثى فيتم التلقيح ، ويتكون الجنين ذكرا أو أنثى ، فمن الذي أوجد الاستعداد في الجسم لهذه النطفة؟ ومن الذي أوجد فيها ملايين الخلايا الحية؟ وهل يستطيع العلماء أن يصنعوا خلية واحدة يتكون منها ذكر أو أنثى؟ بل هل يستطيعون أن يميزوا بين الخلية التي يتكون منها الذكر والتي تتكون منها الأنثى؟ وإذا استندت النطفة الى أسباب طبيعية فإن هذه الأسباب تنتهي الى السبب الأول الذي أوجد الطبيعة (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى). ضمير عليه يعود الى الله تعالى ، والمعنى ان البعث حتم لا بد منه (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى). انه سبحانه كفى بعض عباده

١٨٥

وأغناه عن الحاجة الى غيره ، وأعطى البعض الآخر ما يقتني ويدخر زيادة على ما يكفيه أي هيأ له أسباب الغنى والقنية. وقال أحد العارفين : من ذاق طعم الغنى عن الناس فقد حصل على نصيب وافر من الغنى ، وان في ذلك لشرفا عظيما.

(وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) بكسر الشين وتشديدها ، وهي نجم مضيء ، وخصها سبحانه بالذكر لأن بعض أهل الجاهلية كانوا يعبدونها ، وقيل : انها أضخم من الشمس بعشرين مرة ، وانها تبعد عن الشمس مقدار مليون ضعف بعد الشمس عنا (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) وهم قوم هود ، وتقدم الكلام عنهم مرات ، ووصفهم سبحانه بالأولى بالنسبة الى من تأخر عنهم من الأمم ، وقال صاحب مجمع البيان : بل لأن ثم عادا أخرى (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) منهم أحدا ، وهم قوم صالح ، وأيضا سبق الكلام عنهم وعن قوم نوح الذين أشار اليهم سبحانه بقوله : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) من عاد وثمود (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) قرى قوم لوط (أَهْوى) بها الى بطن الأرض (فَغَشَّاها ما غَشَّى) من العذاب (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى). الخطاب لكل انسان ، والآلاء النعم ، وتتمارى تشك وتجادل.

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى). قال أكثر المفسرين : ان «هذا» اشارة الى القرآن أو محمد (ص). وليس من شك ان كلا من القرآن والرسول الأعظم هما من النذر الأولى من نوعها وصفاتها. ومع هذا فإن الذي نفهمه ان الله سبحانه أشار ب «هذا» الى ما ذكره من الدلائل والعظات التي تضمنت أمورا هامة جديرة بالتأمل والدراسة كمسألة ان كل انسان هو وحده المسئول عن جرمه وجريرته ، وان الله ينظر اليه من خلال عمله ، وانه لا مصدر للحياة إلا الله ، وان مصير الطغاة الى الهلاك ، وهذه وما اليها من أهم موضوعات العلوم الكونية والانسانية ، وإذا ذكرها سبحانه ليستدل الإنسان على وجود الله وعظمته فإن ذكرها بالذات يومئ الى ان معانيها وأهدافها انما تتجلى للعلماء وانهم أحق الناس بمعرفة الله والايمان به والخوف منه : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ـ ٢٨ فاطر.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ). أزفت دنت ، والآزفة الدانية ، والمراد بها الساعة ، وانما وصفها سبحانه بالدانية لأنها آتية ، وكل آت قريب .. وكل ما أدبر كأنه ما كان (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) ضمير «لها» يعود الى الآزفة أي الساعة ، ولك أن تفسر الكشف بالعلم كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها

١٨٦

عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) ـ ١٨٦ الأعراف. وأيضا لك ان تفسرها بقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) ـ ٤٣ الروم. (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ)؟ هذا الحديث إشارة الى قيام الساعة. وقيل الى القرآن. وكل منهما صحيح لأن الكافرين قد عجبوا من البعث : (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) ـ ٣ ق. وأيضا عجبوا من القرآن : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) ـ ٦٣ الأعراف. (وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي لاهون ، وكان الأولى أن تبكوا على أنفسكم التي ظلمتموها بالكفر والبغي : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ـ ٨٢ التوبة.

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا). قال الحنفية والشافعية والامامية والحنابلة : يجب السجود عند تلاوة هذه الآية لأن الرسول الأعظم (ص) سجد عند تلاوتها ، وسجد من كان معه. وقال المالكية : لا يجب.

١٨٧

سورة القمر

٥٥ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وانشق القمر الآية ١ ـ ٨ :

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨))

اللغة :

مستقر بكسر القاف أي له غاية ينتهي اليها. والزجر المنع ، ومزدجر بفتح الجيم من الفعل المطاوع ازدجر ازدجارا ، تقول ازدجرته فازدجر. وبالغة بلغت الغاية من الموعظة. ونكر بضم النون والكاف وهي الشيء المنكر الذي تعافه النفوس. وخشعا جمع خاشع وهو الذليل. والأجداث القبور. ومهطعين مسرعين.

١٨٨

الإعراب :

كل أمر مستقر مبتدأ وخبر. ما فيه مزدجر «ما» اسم موصول فاعل جاءهم وفيه خبر مقدم ومزدجر مبتدأ مؤخر والجملة صلة الموصول. وحكمة بدل من «ما فيه» وبالغة صفة. فما تغني «ما» نافية. يوم يدع الداع «يوم» منصوب بفعل مقدر أي اذكر يوم يدع ، والداع أصله بالياء وحذفت تخفيفا. وخشعا حال من فاعل يخرجون والأصل يخرجون من الأجداث خشعا ، وأبصارهم فاعل لخشع. ومهطعين حال ثانية.

المعنى :

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) وأزفت الآزفة بمعنى واحد ، وهو ان يوم القيامة آت لا ريب فيه (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ). قال أكثر المفسرين : ان المشركين طلبوا من رسول الله (ص) أن يشق القمر فرقتين ان كان صادقا .. فسأل ربه ، فانشق القمر ، ثم عاد الى ما كان ... وليس من شك ان هذا ممكن في ذاته ، ولكن الإمكان شيء ، والوقوع شيء آخر ، لأن الوقوع يفتقر الى دليل الإثبات ، ولا دليل على ان الانشقاق حدث في عهد الرسول الأعظم (ص) ، بل الأدلة قائمة على العكس ، وهي :

أولا : ان هذا لا يتفق مع العديد من الآيات التي نصت بصراحة على ان النبي (ص) لم يستجب لاقتراح المشركين في طلب الخوارق والمعجزات ، وانه أجابهم بما أمره الله : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) ـ ٩٤ الإسراء. وفي الآية ٥٩ من هذه السورة أي سورة الإسراء بيّن سبحانه ان المقترحين يظلون على الكفر حتى ولو أجيبوا الى ما يقترحون : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ). وقال أيضا : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) ـ ١٤٦ الأعراف .. هذا ، الى ان الله سبحانه لم يبق عذرا لمتعلل بعد ان تحدى العالم كله بقوله : (وَإِنْ

١٨٩

كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ـ ٢٣ البقرة.

ثانيا : ان انشقاق القمر حدث كوني هام ، فلو وقع لرآه أهل الشرق والغرب ، ودوّنه العلماء والمؤرخون الأجانب وغيرهم ، كما دوّنوا ما هو دونه من الأحداث.

ثالثا : ان الانشقاق من الموضوعات التي لا تثبت إلا بالخبر المتواتر ، وخبر الانشقاق من أخبار الآحاد ، فلا يصح الاعتماد عليه في هذا الباب ، والفرق بين الخبر الواحد والمتواتر ان رواة الثاني كثيرون ومختلفون في ظروفهم وأهدافهم بحيث لا يجمعهم على الكذب جامع ـ بحسب العادة ـ والخبر الواحد بعكس ذلك ، ولك ان تفرق بينهما بأن الخبر المتواتر يفيد الاطمئنان دون الخبر الواحد.

رابعا : ان قوله تعالى : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) بعد قوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) ـ يدل على ان القمر ينشق حين تقوم الساعة ، وان المراد من الانشقاق هنا هو نفس المراد منه في قوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) ـ ١ الانشقاق أي يتصدع ما فيها من الكواكب يوم القيامة.

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) لا نهاية له على مدى الأيام. وفي الآية ٢٤ من سورة المدثر حكى سبحانه عن الوليد بن المغيرة انه قال : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي يروى (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ). لقد أعماهم الهوى والجهل عن كل حجة ودليل ، فكذّبوا بكتاب الله ولقائه على الرغم من الدلائل الواضحة (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ). هذا تهديد لمن أعرض عن القرآن ، والمعنى ان كل شيء ثابت في علم الله تعالى لا تخفى عليه خافية ، ومنه إعراض من أعرض عن القرآن ، ومثله قوله تعالى في الآية ٦٦ من سورة الأنعام: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ). المراد بالأنباء هنا كل آية في القرآن فيها عظة وعبرة ، وترغيب وترهيب ، أو تدل على طريق الايمان بالله واليوم الآخر والوحي الذي نزل على رسول الله (ص) ، والمعنى ان الله سبحانه بيّن للمشركين على لسان نبيه محمد الدلائل الكافية على الحق ، والمواعظ الوافية

١٩٠

في الزجر عن الباطل (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ). كل ما جاء في القرآن فهو حكمة بلغت الغاية في العظة والدلالة على الحق ، ولكن (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) مع العناد والإصرار على الكفر والضلال.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) يا محمد لأنك قد بلّغتهم رسالات ربك ، فلم يستجيبوا ، وبالغت في النصيحة فلم يقبلوا (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ). والنكر بضم النون والكاف ، وهو ما تنكره النفوس ولا تطيق له حملا ، والمراد به هنا العذاب .. وهذا تهديد ووعيد للذين أعرضوا عن الحق ، وان لهم يوما اسود لا مفر من عذابه ، وهو اليوم الذي يخرجون من القبور الى لقائه وحسابه أذلاء خاضعين يموج بعضهم ببعض من الحيرة والدهشة (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) لكثرتهم حيث يجمع الله الأموات بعد إحيائهم ، ويلحق آخرهم بأولهم ، وفيه إيماء الى ان الحشر يكون بالروح والجسم معا (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) مسرعين الى دعوة الله للحساب والجزاء (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) شديد الأهوال والمخاطر ، عظيم الآلام والمخاوف ، ومثله : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) ـ ٤٤ المعارج.

نوح الآية ٩ ـ ١٧

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧))

١٩١

اللغة :

ازدجر أي ردعوه وزجروه عن التبليغ. ومنهمر منكب ومتدفق. وقد قدر أي قدره الله. ودسر بضم الدال والسين جمع دسار مثل كتب وكتاب ، وهو المسمار. وبأعيننا بحراستنا. ومدكر معتبر.

الإعراب :

مجنون خبر مبتدأ محذوف اي هو مجنون. واني مغلوب أي بأني مغلوب. وعيونا تمييز محول عن مفعول والأصل وفجرنا عيون الأرض. وجزاء مفعول من أجله. وآية حال من مفعول تركناها. وكيف خبر كان مقدم ، وعذابي اسمها.

المعنى :

أشار سبحانه في الآيات السابقة ان محمدا (ص) أنذر قومه فما أغنت النذر .. وفي الآيات التي نحن بصددها أشار الى ان شأن محمد (ص) في ذلك مع قومه تماما كشأن نوح مع قومه (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) لئن كذّب بك قومك يا محمد فقد كذّب قوم نوح عبدنا نوحا : وقوله تعالى : فكذبوا تفسير لقوله : كذبت ، فكأنّ سائلايسأل : من كذبت هذه الجماعة؟ فأجاب سبحانه بأنهم كذبوا عبدنا نوحا (وَقالُوا مَجْنُونٌ) تماما كما قالت قريش عن الرسول الأعظم (ص) .. وهذا الشتم عادي وطبيعي بالنسبة الى العاجزين عن الجواب (وَازْدُجِرَ) يشير بهذا سبحانه الى ما جاء في الآية ١١٦ من سورة الشعراء : (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) ردعوه وزجروه عن التبليغ ، وهددوه إذا هو أصر بالرجم والقتل.

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ). لما ضاق نوح بقومه وضاقوا به التجأ الى خالقه وقال : لقد غلبت على أمري ، وقلّت حيلتي ، وانتهى دوري في التبليغ والانذار ، وبقي أمرك وقضاؤك في هؤلاء الكفرة الفجرة ، فانتقم منهم بعذابك ،

١٩٢

وانتصر لدينك ورسولك .. وتجدر الاشارة الى أن نوحا ما دعا على قومه إلا بعد اليأس من هدايتهم ، فلقد لبث يدعوهم بلا جدوى ألف سنة إلا خمسين عاما كما جاء في الآية ١٤ من سورة العنكبوت (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً). دعا نوح على قومه ، فاستجاب الله لدعوته ، وأغرقهم بماء تدفق من السماء ، وتفجر من الأرض (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ). التقى الماء المتدفق من السماء مع الماء المتفجر من الأرض ، فكان بحرا عظيما أتى على كل شيء ، وما سلم إلا من كان في السفينة. وكان هذا الطوفان والإهلاك بأمر الله وقدره ، فقوله تعالى : (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) في معنى قوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) ـ ٣٨ ـ الأحزاب.

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ). ضمير حملناه يعود الى نوح. والألواح الأخشاب ، ودسر مسامير ، والمعنى ان سفينة نوح كانت عادة كغيرها مصنوعة من الخشب والمسامير ولكنها (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) بحفظ الله وحراسته ، ولهذا نجت من المخاطر وإلا ما استطاعت الصمود لأهوال الطوفان (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ). وكلمة الجزاء تشير الى السبب الموجب للطوفان وإهلاك من هلك به من الكافرين.

(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). أي ترك سبحانه أخبار سفينة نوح لتكون عظة لمن يتعظ بالعبر ، وينتفع بالنذر (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ). حقا كان الطوفان مدمرا ، أما نوح البشير النذير فقد كان صادقا فيما بلّغ وأنذر. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ). أنزل سبحانه القرآن للتذكير والاتعاظ ، ويسر معانيه على الافهام لينتفعوا به ، لا ليتغنوا بكلماته أو يتداووا بآياته او يحرفوها ويشتروا بها ثمنا قليلا (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ هل يعتبر ويتعظ بما جاء في القرآن الجاحدون والذين يتاجرون بالدين ويحرفون الكلم عن مواضعه تبعا لأهوائهم وأغراضهم. وتقدمت قصة نوح في سورة هود وغيرها.

هود وصالح الآية ١٨ ـ ٣٢ :

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ

١٩٣

رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢))

اللغة :

صرصر من الصر وهو البرد أي شديدة البرد ، وقيل : من الصرير وهو الصياح أي شديدة الصياح. وتنزع تقلع. واعجاز أسافل. ومنقعر منقلع. والسعر الجنون يقال : سعر فلان فهو مسعور أي جنّ فهو مجنون. وأشر بطر ومتعاظم. وشرب بكسر الشين وتخفيفها نصيب. ومحتضر بفتح الضاد يحضره صاحبه في نوبته دون غيره. وهشيم يابس متكسر. ومحتظر بكسر الظاء. والمراد بالمحتظر هنا ما يجمعه صاحب الحظيرة من الحشيش اليابس لتأكله الماشية.

١٩٤

الإعراب :

جملة كأنهم اعجاز حال من الناس. وبشرا مفعول لفعل مقدر أي أنتبع بشرا. ومنّا : صفة. وواحدا صفة ثانية لبشر. وفتنة مفعول من أجله ل «مرسلو».

المعنى :

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)؟. عاد قوم هود كذبوا نبيهم ، فأخذهم الله بالعذاب الأليم ، وبيّن نوع هذا العذاب بقوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ). أرسل سبحانه عليهم ريحا باردة عنيفة في يوم عسير وخطير ، فلقد استمرت ريح العذاب في هذا اليوم حتى أفنتهم عن آخرهم (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ). اقتلعتهم الريح الصرصر من أماكنهم ، وألقت بهم صرعى تماما كأسافل نخل اقتلعت من الأرض (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)؟. كرر سبحانه هذا السؤال مبالغة في التحذير والانذار (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟. أنظر الآية ١٧ من هذه السورة فالنص والتفسير واحد.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ). ثمود قوم صالح. وجمع سبحانه النذر مع ان الذي كذبوه كان نذيرا واحدا ، وهو صالح لأن تكذيب أي نبي هو تكذيب لجميع الأنبياء لوحدة الرسالة والمرسل (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ)؟ صالح منا وفينا .. وعرفناه صغيرا وكبيرا .. فكيف نتبعه؟ ولا يتبعه ويصدقه إلا ضال أو مجنون .. أجل ، لو كان له مال وعبيد وإماء لهان الخطب وكان لتصديقه وجه (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا)؟ مستحيل .. كيف وهو واحد منا؟ (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) ـ ٣٤ المؤمنون.

(بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ). ويكفي في الدلالة على كذبه انه واحد منهم .. هذا هو منطقهم .. إذن ، فالمسألة مسألة أشخاص وأفراد ، لا مسألة حق ومبادئ .. فلا بدع ، فهذا هو منطق أرباب المناصب والمكاسب في كل زمان ومكان .. وأيضا منطق أهل الجهل والتقليد.

١٩٥

(سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ). هل هو صالح أو الذين كذبوه؟. أجل ، سيعلمون عما قريب انهم هم المفترون البطرون عند ما يمتحنهم الله بالناقة ، فيعقرونها ، ويحل عليهم غضب من ربهم وعذاب مهين (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) ابتلاء وامتحانا يتميز به الخبيث من الطيب (فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) انتظر قليلا يا صالح ، واصبر على أذاهم ، وسترى ما يحل بهم من العذاب والهوان.

(وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ). أخبرهم ان الماء مناصفة بينهم وبين الناقة .. هم يحضرون يوما يستوفون فيه نصيبهم من الماء ، وتحضر هي يوما لنفس الغرض (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ). لم ترضهم قسمة الماء هذه فدعوا أشقى رجل فيهم ليعقر الناقة ، فلبى الشقي الدعوة ، قال تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) ـ ١٢ الشمس. فعقر الناقة ، ووقع العذاب .. واختلف المفسرون في قوله تعالى : «فتعاطى» ما ذا أراد به؟. فمن قائل : المراد ان الشقي شرب الخمر ثم عقر الناقة. وقائل : انه حمل آلة العقر وأقبل على الناقة وعقرها .. وغير بعيد أن يكون المراد بالتعاطي هنا الاقدام بدون اكتراث.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ)؟. كان مدمرا ، والتكرار مبالغة في التحذير والانذار (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ). أخذتهم صيحة العذاب فأصبحوا كفتات النبات اليابس تذروه الرياح. وقال الرازي : «استعمل الهشيم كثيرا في الحطب المكسر اليابس». وهذا الهشيم يحظره صاحب الحظيرة لماشيته ، وعليه يكون وصف الهشيم بالمحتظر مجازا لا حقيقة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). وعسى أن ينتفع بهذا التكرار من ضل سواء السبيل. وتقدمت قصة هود وصالح في سورة هود وغيرها.

لوط الآية ٣٣ ـ ٤٤ :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ

١٩٦

أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢))

اللغة :

حاصبا هواء يحمل الحصباء. تماروا شكوا وجادلوا. وراودوه طلبوا منه ونازعوه في ارادته. والضيف اسم جنس يقع على الواحد والجماعة. وبكرة صباحا. ومستقر ثابت ومستمر أي ان العذاب بقي حتى أفناهم أو ان عذاب الدنيا يتصل بعذاب الآخرة.

الإعراب :

حاصبا صفة لمقدر أي هواء أو عذابا حاصبا. ونعمة مفعول من أجله لنجيناهم. وكذلك الكاف بمعنى مثل صفة لمفعول مطلق محذوف أي جزاء مثل ذلك الجزاء نجزي. بكرة ظرف زمان والعامل فيه صبّحهم.

المعنى :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) تماما كما كذبت قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم وغيرهم ، والسر واحد وهو صراع الحق مع الباطل ، والعدل مع الجور .. ثم بيّن سبحانه نوع العذاب الذي أنزله بقوم لوط : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً)

١٩٧

أي رماهم بالحصباء التي تحملها الريح بالاضافة الى الخسف ، وهذه الحصباء هي التي ذكرها سبحانه في الآية ٣٣ من سورة الذاريات : (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ). (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ). أنجى لوطا ومن آمن معه من العذاب حيث أخرجهم آخر الليل من القرية الظالم أهلها (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ). انتقم سبحانه ممن عصى ، وأنعم على من أطاع عملا بمبدإ العدالة ، ولكن الرازي قال : «ولو أهلكوا ـ أي آل لوط ـ لكان ذلك عدلا» .. والله أصدق حديثا ، وهو القائل : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) ـ ١١٥ الأنعام. أي ان العدل فيما تم منه تعالى ، وما عداه فهو ظلم.

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ). خوّفهم لوط من عذاب الله ، فشكوا وسخروا ، بل هددوا وتوعدوا و (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) ـ ١٦٧ الشعراء. (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ). سمعوا ان اضيافا دخلوا على لوط ، فأسرعوا اليه ، وقالوا له بوقاحة وصلف : أعطنا أضيافك لنفجر بهم ونفحش (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) أعمى الله أبصارهم عن أضياف لوط ، ثم أرسل عليهم العذاب ، وقال لهم : (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) وهو الذي شككتم فيه وسخرتم منه (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ). أتاهم العذاب صباحا ، واستمر حتى أفناهم عن آخرهم (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ). ذكر سبحانه هذا بعد عذاب الطمس ، ثم كرره بعد العذاب الحاصب (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟. كرر ، جلت حكمته ، هذه الآية أربع مرات : الأولى بعد الاشارة الى قصة نوح ، والثانية بعد قصة هود ، والثالثة بعد قصة صالح ، والرابعة بعد قصة لوط ، والغرض ان نعتبر ونتعظ بكل قصة من هذه الأربع لأنها كافية وافية في التذكير والوعظ. وتقدمت قصة لوط في سورة هود وغيرها. (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ). ومثله (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) ـ ١٠٣ الأعراف. (كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) وكانت تسعا (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) ـ ١٠١ الإسراء ذكر سبحانه خمسا منها في الآية ١٣٢ من سورة الأعراف : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) والأربع الباقية أشار اليها سبحانه في آيات متفرقة

١٩٨

وهي اليد والعصا وحل العقدة من لسان موسى وانفلاق البحر (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ). أغرق سبحانه فرعون وملأه في اليم ، وكان من قبل يقول لقومه : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) .. فأذاقه الله عذاب الخزي في الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر.

كل شي خلقناه بقدر الآية ٤٣ ـ ٥٥ :

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

اللغة :

الزبر جمع زبور ، وهو الكتاب. والمراد بالضلال هنا الهلاك وبالسعر النيران. وأشياعكم أي اشباهكم. ومستطر مسطور. ونهر بفتح النون والهاء اسم جنس مثل حجر ويستعمل في الأنهار.

الإعراب :

أم لكم «أم» منقطعة أي بل ألكم. وفي الزبر متعلق بمحذوف صفة لبراءة

١٩٩

أي براءة مكتوبة في الزبر. ذوقوا أي يقال لهم : ذوقوا. وسقر علم لجهنم وهو ممنوع من الصرف للتعريف والتأنيث. وواحدة صفة لمقدر أي كلمة واحدة. وفي مقعد متعلق بمحذوف خبرا ثانيا لإن المتقين.

المعنى :

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ)؟ الخطاب للذين كذبوا محمد (ص) ، وأولئكم إشارة الى الأمم البائدة الهالكة بسبب كفرها وعنادها ، وقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة ما حل بهم من أنواع العذاب. والمعنى : لستم خيرا ممن أهلكنا ، بل أنتم شر مكانا ، وأشد على الرحمن عتيا ، فهل أمنتم أن يخسف بكم أو يرسل عليكم حاصبا كما فعل بالذين قبلكم؟ (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ)؟ هل أنزل الله في كتاب من كتبه انكم في أمان من عذابه؟ (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ)؟ أم تدعون انكم جمع لا يقهر؟ (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) يوم نزلت هذه الآية كانت القوة للمشركين لأنهم الأكثرية الغالبة ، أما المسلمون فكانوا أفرادا ضعافا ، وكان في استطاعة أي مشرك أن يؤذي المسلمين ، وهو آمن .. وما مضت الأيام حتى انعكست الآية ، وولى المشركون الأدبار ، وأصبحت كلمة الإسلام والمسلمين هي العليا ، واستبان للقريب والبعيد ان قوله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) هو حق وصدق. وهذه واحدة من البينات القاطعة على ان الله سبحانه ينطق على لسان رسوله الأعظم (ص)

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ). الضمير في موعدهم يعود الى الجميع من قوم نوح الى كفار العرب الذين كذبوا محمدا (ص) والمعنى كل ما أصاب المكذبين من عذاب الدنيا فما هو بشيء إذا قيس بعذاب الآخرة .. فكل بلاء دون النار عافية (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ). هذا تفسير وبيان لقوله تعالى : (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ). فأهل النار لا يقاسون أهوالها وكفى ، بل تنكل بهم ملائكة العذاب بشتى أنواع التنكيل ، كالسحب على الوجوه ، والضرب بمقامع من حديد ، الى ما لا يبلغه الوصف.

٢٠٠