التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

وآخر برأس العين ، وعلى جبل مطل على طبرية. والرق جلد رقيق يكتب فيه. والبحر المسجور أي امتلأ وفاض. وتمور تضطرب. والمراد بالخوض هنا حديث الباطل. ويدّعون يدفعون. أصلوها قاسوا حرها.

الإعراب :

والطور الواو للقسم. وما بعد الطور عطف عليه. في رق متعلق بمسطور. ان عذاب ربك الخ جواب القسم. يوم تمور «يوم» متعلق بواقع. ويوم يدعون «يوم» بدل من يوم المتقدمة. وسحر خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر. وسواء خبر لمبتدأ محذوف أي الصبر وعدمه سواء.

المعنى :

(وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ). الطور هنا هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى ، وقد أقسم به سبحانه في هذه الآية وفي الآية ٢ من سورة التين ، والمراد بكتاب مسطور كل كتاب سماوي لأن «كتاب» نكرة ، وهي شائعة في جنسها ، والتعيين يحتاج الى قرينة ، ومجرد ذكر الطور لا يصلح قرينة لارادة التوراة من كلمة كتاب ، وقوله تعالى : (مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) معناه ما أنزل الله كتابا إلا وقد جعله في متناول كل يد ، وان كل انسان يستطيع الوصول اليه والى معرفة ما فيه تماما كما تقول : هذا كتاب الله بين أظهركم ينطق بحلاله وحرامه. وفي نهج البلاغة : أشهد ان محمدا عبده ورسوله أرسله بالدين المشهور والكتاب المسطور. (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) الكعبة : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) ـ ١٢٧ البقرة. (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) السماء : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً) ـ ٣٢ الأنبياء أي كالسقف في عين الرائي (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) المملوء الذي يفيض بالماء : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) ـ ٦ التكوير أي امتلأت وفاضت. اقسم سبحانه بهذه الكائنات الخمسة للاشارة

١٦١

الى قدرته عزّ من قادر. انظر تفسير الآية ١ من سورة الصافات ، فقرة «الله والقسم بخلقه» ج ٦ ص ٣٣٠.

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) على المجرمين لا محالة. والجملة جواب القسم (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) تماما كالموت لا يملك رده إلا الذي يحيي ويميت (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) أي تذهب الجاذبية ، ويختل التوازن بين كواكب السماء وتحدث الفوضى ويعم الخراب (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) ومتى مارت السماء ارتجت الأرض وزالت الجبال عن أماكنها ، وتشير الآيتان الى قيام الساعة وخراب الكون حيث تحشر الخلائق للحساب والجزاء (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ). لعبوا بالدنيا ولعبت بهم ... ولكن شتان فما هم بأكفاء لها ، ولذا صرعتهم وعجلت بهم الى جهنم وبئس القرار (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا). يدفعون اليها بعنف وتقول لهم ملائكة العذاب : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) فذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وان الله ليس بظلام للعبيد.

(أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ)؟ خوّفهم الرسول الأعظم (ص) من نار جهنم ، فقالوا له : انك لساحر ... وفي يوم الجزاء يجعلهم سبحانه لجهنم حطبا ، ويقول لهم : ما ذا ترون الآن؟ هل محمد ساحر؟ وهل عذاب الحريق سحر؟ (اصْلَوْها) ولا كالنار يشقى من فيها (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ). فالعذاب هو هو لا يخفف ولا ينقطع (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من بغي وفساد.

أهل الحنة الآية ١٧ ـ ٢٨ :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ

١٦٢

بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨))

اللغة :

فاكهين يجوز أن يكون من الفكاهة أي طيبي النفس ، وان يكون من الفاكهة اي يتلذذون بها ، وكل من المعنيين يتناسب مع جنات ونعيم ، والمعنى الثاني انسب لقوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) اي طعاما سائغا وشرابا سائغا. ما ألتناهم ما انقصنا من ثواب عملهم. يتنازعون يتعاطون. لا لغو فيها ولا تأثيم اي ان خمر الجنة لا تذهب بعقل الشارب فيلغو ويأثم في كلامه. ومشفقين خائفين من عذاب الله. والسموم النار.

الإعراب :

فاكهين حال من الضمير في خبر ان المحذوف اي استقروا في جنات ونعيم فاكهين. وهنيئا صفة لمفعول مطلق مقدر اي أكلا هنيئا وشربا هنيئا. متكئين حال من فاعل كلوا واشربوا. والذين آمنوا مبتدأ وألحقنا بهم خبر. وبما كسب متعلق برهين. وفي أهلنا متعلق بمشفقين.

المعنى :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ).

١٦٣

اتقوا الله في الدنيا فوقاهم في الآخرة عذاب النار ، وجعل الجنة لهم ثوابا يتنعمون فيها ، لا يشغلهم عن ملذاتها شاغل (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). أنتم أيها المتقون أحق بهذا النعيم لأنكم عملتم له بإخلاص .. وتدل الآية على أنه لا كرامة عند الله لمخلوق كائنا من كان إلا بالعمل ، أما المناصب والأنساب والأموال فما هي بشيء إلا إذا كانت وسيلة للخير والصالح العام (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ). والاتكاء على السرر مع التفرغ للملذات يدل على التحرر من مشاكل الحياة وأتعابها (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) يحار العقل والطرف من حسنهن وكمالهن ... ويا لها من نعمى!.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ). ليس من شك ان الأطفال الصغار لا يعذبون بحال ، سواء أكان آباؤهم من الأخيار أم الأشرار ، إذ لا عقاب بلا عصيان ، ولا عصيان بلا تكليف ، وقد رفع سبحانه القلم عن الصبي حتى يحتلم ، وكرر سبحانه في العديد من الآيات : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ـ ١٦٤ الأنعام. أما قول من قال : ان ولد الكافر يدخل النار لأنه لو عاش لاعتنق دين أبيه ، أما هذا القول فمتروك لأن الله يحاسب الإنسان على ما فعل ، ولا يحاسبه على ما لو استطاع لفعل.

وتسأل : هل الأطفال الصغار يحشرون ويدخلون الجنة؟.

الجواب : لا سبيل الى معرفة ذلك إلا كتاب الله وسنة نبيه ، لأن العقل لا يحكم هنا بشيء سلبا ولا إيجابا. ولا شيء في الكتاب والسنة المتواترة يدل على أن أطفال الكافرين يحشرون ... وفي حديث عن الرسول الأعظم (ص) : ان أطفال المؤمنين يهدون الى آبائهم المتقين يوم القيامة. وقال كثير من المفسرين : ان الكبار المؤمنين من ذرية المتقين يلحقون بدرجة آبائهم العليا في الجنة ، وان كانوا دونهم في العمل الصالح لكي تقر بهم أعينهم ، واستدلوا بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي نزيد للأبناء كرامة للآباء ، ولا ننقص الآباء شيئا من ثوابهم ودرجاتهم.

وقال الامامية والحنفية والشافعية والحنابلة : يحكم بإسلام الطفل تبعا لأحد أبويه ، فإن كانا مسلمين فذاك ، وان كان أحدهما مسلما والآخر كافرا فالطفل بحكم المسلمين

١٦٤

سواء أكان المسلم هو الأب أم كان كافرا لكن الأم كانت مسلمة ، أما المالكية فقالوا : العبرة بإسلام الأب فقط ولا أثر لإسلام الأم بالنسبة الى الطفل.

(كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) فعليه وحده تبعة أعماله ، وبها يقبل غدا على الله ، ولا يسأل عما فعل سواه (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ). خص سبحانه الفاكهة واللحم بالذكر لأنهما سيدا الطعام (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ). يشربون منعشا بلا سكر ولا عربدة ، ولا ما يستوجب الإثم والمؤاخذة على قول أو فعل (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) صفاء وبهاء ... وقوله تعالى : «لهم» اشارة الى ان الغلمان يأتمرون بأمرهم وينتهون بنهيهم.

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضا : كيف كان في دار الدنيا؟ وبماذا استحق من الله هذه الكرامة. وتقدم مثله في الآية ٥٠ من سورة الصافات (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ). اتقينا الله في دار الدنيا خوفا من غضبه وطمعا في ثوابه (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) برحمته وخصّنا بنعمته (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) الذي يذيب الجلود ، ويشوى الوجوه (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ). كنا في الدنيا رحماء أبرارا ، فكان الله بنا في الآخرة برا رحيما.

لا عذرلمن أنكرنبوة محمد الآية ٢٩ ـ ٤٤ :

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا

١٦٥

يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤))

اللغة :

الكاهن هو الذي يوهم الناس بأنه يعلم بعض الغيب عن طريق اتصاله بالجن. والتربص الانتظار. وكلمة المنون تأتي بمعنى المنية وبمعنى الدهر ، والمراد هنا بريب المنون حوادث الدهر وضرباته القاسية بالموت ونحوه. وتطلق الأحلام على الأماني والعقول ، ويستقيم المعنى على المعنيين. والتقول الافتعال والاختلاق. ومغرم بفتح الميم التزام بالغرامة. ومثقلون محمّلون أثقالا. وكسفا بكسر الكاف جمع كسفة وهي القطعة من الشيء. ومركوم متراكم.

الإعراب :

انت اسم «ما» النافية. وبكاهن الباء زائدة إعرابا. وكاهن خبر. وبنعمة ربك اعتراض بين الاسم والخبر. والباء بنعمة لبيان السبب وليست للقسم كما في مجمع البيان ، ويتعلق المجرور بها بما دل عليه معنى الكلام أي ان الله نزّهك يا محمد عن الجنون والكهانة بفضله وكرمه. و «ام» المكررة في الآيات معناها الاستفهام مع التوبيخ والإنكار. وشاعر خبر لمبتدأ مقدر أي هو شاعر. وتقوّله

١٦٦

فعل ماض مثل تكلفه وتعسفه. ومن مغرم متعلق ب «مثقلون». فالذين كفروا مبتدأ و «هم» ضمير فصل والمكيدون خبر. وغير الله صفة لإله. ومن السماء متعلق بمحذوف صفة للكسف. وساقطا حال او صفة لأن رأى هنا بصرية.

المعنى :

تشير هذه الآيات الى حال الرسول الأعظم (ص) مع المشركين حين دعاهم الى التوحيد ونبذ الشرك ... وقد ابتدأ سبحانه بمخاطبة نبيه الكريم :

١ ـ (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ). امض في سبيلك ، وثابر يا محمد على مهمتك ، وهي الدعوة الى الله والتخويف من عذابه ، ولا تكترث بما يقوله عنك بعض المعاندين : انك كاهن تدعي علم الغيب ... ويقوله آخرون : انك مجنون ... فأنت بحمد الله وفضله أبعد من كان ويكون عن أكاذيبهم ومزاعمهم ... وكيف تكون كاهنا أو مجنونا وقد جعلك الله أمينا على وحيه ، واختارك لرسالته؟.

٢ ـ (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ). قال بعضهم لبعض : محمد شاعر يتكلم من نسج الخيال ... فاثبتوا على تكذيبه ، وانتظروا أياما ، فإن هلك فذاك ما تبتغون ، وان عاش افتضح بمزاعمه ... ثم افترقوا على هذا (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ). أمر سبحانه نبيه الكريم أن يقول لهم : انتظروا .. وأنا أيضا أنتظر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ، ويصبح من النادمين.

٣ ـ (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) الافتراء والضلال. والمراد بأحلامهم عقولهم ، البالية وأمانيهم الخادعة.

٤ ـ (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ). انهم على علم اليقين انك رسول الله حقا وصدقا ، ولكنهم ينكرون الحق بغيا وعنادا حرصا على مناصبهم ومكاسبهم.

٥ ـ (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) اختلق القرآن من تلقائه (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) بحق ولا يكفون عن باطل (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في ان القرآن

١٦٧

شعر وكهانة ، فما أكثر ما عندهم من الكهنة والشعراء. وتقدم مثله في الآية ٢٣ من سورة البقرة ج ١ ص ٦٤.

٦ ـ (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) صدفة ... لا خالق ولا مدبر ... ولا هدف ولا مسؤولية ... لا شيء تماما كما تخلق الحشرات في العفونة والقذارات.

٧ ـ (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) أنفسهم بإرادتهم وقدرتهم؟

٨ ـ (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ). وتسأل : ان المشركين لا يدعون انهم الخالقون لأنفسهم ولا لغيرهم ، بل نص القرآن على اعترافهم بأن الله هو الذي خلقهم وخلق السموات والأرض ، قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) ـ ٨٧ الزخرف. وقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) ٦١ العنكبوت ـ إذن ـ فما هو المبرر لقوله تعالى : (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)؟

الجواب : انهم من الوجهة النظرية يعترفون بأن الله هو خالق كل شيء ... ولكنهم من الوجهة العملية يتصرفون تصرف من لا يؤمن بالله ولا يعترف بوجوده ... بل يدل تصرفهم على انهم يدّعون الخلق والربوبية ... والى هذا يومئ قوله تعالى : (بَلْ لا يُوقِنُونَ). وينطبق هذا الوصف على الكثير من الذين يدعون الايمان بالله واليوم الآخر في زماننا.

٩ ـ (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ)؟ وإذا اعترفوا بأن الله خالق كل شيء فهل يدعون بأن الله فوض اليهم إدارة ملكه واختيار أنبيائه ، وتقسيم الأرزاق والأعمار على عباده؟ وتقدم مثله في الآية ٣٢ من سورة الزخرف.

١٠ ـ (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) على الخلائق وجميع الكائنات ... شاء الله أم أبى.

١١ ـ (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) وإذا لم يدعوا شيئا من ذلك فهل يدعون انهم ارتقوا بمصعد الى الله وسمعوه يقول : ان محمدا يفتري الكذب على الله؟ (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ). هذا هو منطق الحق والعدل ، والنهاية في انصاف الخصم ... فلكل انسان أن يدعي ما شاء حتى علم الغيب ، شريطة أن يقيم البينة الواضحة على دعواه ، وإلا فهو مفتر كذاب.

١٦٨

١٢ ـ (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ). لا فرق إطلاقا بين قولهم : محمد شاعر وكاهن ومجنون وبين قولهم : لله البنات ولهم البنون .. ولا ينحصر الافتراء على الرسول بالقول : انه مجنون ، ولا بنسبة الشريك والولد الى الله ... فكل من حرم حلالا أو حلل حراما فقد افترى الكذب على الله والرسول.

١٣ ـ (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ). لما ذا كذبوا رسول الله؟ هل ألزمهم بغرامة يعجزون عنها ولا يستطيعون أداءها؟

١٤ ـ (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ). هل هم كتبة الوحي عند الله يسجلون الأرزاق والأعمار ومن يختار من الأنبياء ، وما طلب منهم سبحانه في يوم من الأيام أن يسجلوا اسم محمد مع أسماء الأنبياء.

١٥ ـ (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ). هذه هي الحقيقة. انهم لا يدعون شيئا ، ولا يريدون شيئا إلا المكر والاساءة الى محمد (ص) .. ولكن ستدور عليهم دائرة السوء لأن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله.

١٦ ـ (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ). ومن هو؟ وأين هو هذا الإله الذي يرد عنهم عذاب الله عند نزوله؟ تعالى الله علوا كبيرا عن الأمثال والأضداد.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ). لو رأوا العذاب وجها لوجه لكابروا وقالوا : هذا سحاب وسراب. ومثله قوله تعالى حكاية عنهم : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) ـ ١٤ الحجرج ٤ ص ٤٦٩.

والخلاصة ان الله سبحانه لم يدع عذرا لمن كذّب أو يكذّب بنبوة محمد (ص) إلا أن ينكر وجود الخالق من الأساس.

فذرهم حتى يلاقو يومهم الآية ٤٥ ـ ٤٩ :

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ

١٦٩

كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

اللغة :

يصعقون يهلكون. بأعيننا بحراستنا. وإدبار النجوم بكسر الهمزة وقت مغيبها عن الأعين نهارا.

الإعراب :

يومهم مفعول به ليلاقوا لأن المعنى انهم يلاقون اليوم بالذات ، ولو قال : يلاقون عملهم يوم القيامة لكان يوم مفعولا فيه. ويوم لا يغني بدل من يومهم. وادبار مفعول فيه لفعل محذوف أي وسبّحه في إدبار النجوم.

المعنى :

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ). ما زال الكلام عن الذين كذبوا رسول الله (ص). والمعنى لا تكترث يا محمد بتكذيبهم وعنادهم ، فإن لهم يوما لا يجدون فيه مفرا من الهلاك والعذاب الأليم (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ). لا حيلة تدفع في هذا اليوم ، ولا ناصر ينفع (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي يعذبون عذابا آخر قبل يوم القيامة ، وقال بعض المفسرين : انه عذاب القبر. وقال آخرون : بل هو ما حل بهم يوم بدر ... أما نحن فلا نحدد ، بل نسكت عما سكت الله عنه (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

١٧٠

بأن للذين ظلموا عذابا قبل يوم القيامة وفيه (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا). المراد بحكم الله هنا إمهال الظالمين الى يومهم الموعود ، وبأعيننا ان الرسول الأعظم (ص) في حصن الله الحصين من أذى الأعداء ومكرهم (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ). اذكر الله في جميع الحالات والأوقات ، فإن ذكره أحسن الذكر ، ووعده الذاكرين المتقين أصدق الوعد.

١٧١

سورة النّجم

٦٢ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

رآه .. عند سدرة المتهي الآية ١ ـ ١٨ :

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨))

اللغة :

هوى سقط. وضل هنا بمعنى ضاع. وغوى من الغواية. وعلّمه هنا بمعنى بلغه عن الله ، وشديد القوى جبريل. والمراد بالمرة بكسر الميم الهيئة الحسنة. فاستوى

١٧٢

استقام مثل فاستوى على سوقه. والأفق الأعلى الجو. وتدلى امتد الى أسفل. والقاب المقدار. وتمارونه تجادلونه. والنزلة بفتح النون المرة من النزول. والمراد بسدرة المنتهى مكان الانتهاء. وجنة المأوى هي جنة الخلد. ويغشى يستر ويغطي أو يأتي. وزاغ مال. وطغى تجاوز.

الإعراب :

والنجم الواو للقسم. وإذا متعلق بفعل القسم المحذوف. وهو بالأفق الأعلى مبتدأ وخبر والجملة حال من ضمير فاستوى. ونزلة منصوبة على الظرفية لأنها بمعنى مرة. وإذ يغشى «إذ» منصوبة برآه.

المعنى :

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى). ذكر صاحب البحر المحيط عشرة أقوال في تفسير (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) وأقربها ان المراد بالنجم كل نجم لأن الألف واللام للجنس ، وان معنى هوت النجوم انها تسقط وتتناثر في الفضاء يوم القيامة بدليل قوله تعالى : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) ـ ٢ الانفطار فإن القرآن ينطق بعضه ببعض ... وفي هذا القسم إشارة الى أن من أنكر نبوة محمد (ص) يلقى جزاءه يوم القيامة (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى). هذا هو المقسم عليه ، وهو ان محمدا (ص) ينطق ويفعل بالوحي من الله ، لا بالشك والجهل ، ولا بغواية غاو ، ولا بدافع من ميوله وأهوائه ... وكيف ينطق النبي أو يفعل عن الهوى ، وقد جاء ليصلح ويقضي على الفساد والأهواء؟.

فكان قاب قوسين :

هذه الآيات من قوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) الى قوله : (آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ـ تشير الى حادثة معينة لا سبيل الى معرفتها إلا الوحي ، لأن موضوع

١٧٣

الحادثة هو ظهور جبريل مرتين لرسول الله (ص) على الصورة التي خلقه الله عليها لا على الصورة التي اعتاد النبي أن يراه فيها حين يبلّغه الوحي. وقد كثّر المفسرون الكلام حول هذه الآيات ، وأطنب بعضهم في أوصاف جبريل وأجنحته بلا حجة ودليل ... أما نحن فنقتصر على ما يدل عليه ظاهر اللفظ ولا يأباه العقل غير ملتزمين بقول راو أو مفسر إلا على هذا الأساس ، والله المستعان :

١ ـ (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى). علّمه أي بلّغه ، والضمير يعود الى صاحبكم ، وهو محمد (ص) ، والمفعول الثاني لعلمه محذوف أي الوحي ، وشديد القوى فاعل علمه ، وهو جبريل (ع) ، والمراد بالقوى هنا الصفات التي تؤهل جبريل لتبليغ الوحي كالحفظ والأمانة والدقة في الأداء حتى كأن النبي (ص) يسمع الوحي من الله مباشرة ، والدليل على ان المراد بالقوى الحفظ والأمانة قوله تعالى في وصف جبريل : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) ـ ١٩٣ الشعراء. وأيضا كلمة علمه تومئ الى ذلك. وعليه يكون المعنى ان جبريل القوي الأمين بلّغ محمدا الوحي على حقيقته تماما كما هو في علم الله.

٢ ـ (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى). ذو مرة صفة لجبريل ، والمراد بالمرة بكسر الميم الهيئة والصورة ، واستوى استقام ، والمعنى ان جبريل ظهر للنبي (ص) مستويا كما خلقه الله.

٣ ـ (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى). ضمير هو لجبريل أي ان جبريل حين ظهر على صورته للنبي امتد مرتفعا في الجو ، وقال المفسرون : الأفق الأعلى مطلع الشمس أي المشرق ، والأفق الأدنى مغربها ، وعلى أية حال فإن القصد هو الإخبار عن جبريل بأن صورته امتدت في الجو ، ولا يهم أن يكون هذا الجو لجهة المشرق أو المغرب.

٤ ـ (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى). في كل من دنا وتدلى ضمير يعود الى جبريل ، ودنا أي قرب من النبي (ص) ، وتدلى نزل ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، والأصل ثم تدلى فدنا ، والقاب المقدار ، والمعنى ان جبريل بعد أن ظهر للنبي كما خلقه الله ، وارتفع جسمه بالأفق ، بعد هذا عاد الى الصورة التي كان يلقى النبي بها حين يبلّغه الوحي ، وقرب منه حتى لم يكن

١٧٤

بينهما سوى مقدار قوسين بل أقل من ذلك. والمعروف ان جبريل كان يأتي النبي (ص) في صورة دحية الكلبي.

٥ ـ (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى). الضمير المستتر في أوحى يعود الى الله لا إلى جبريل ، لأن الضمير البارز في عبده يفسر الضمير المستتر ، والمراد بعبده أي عبد الله هو محمد (ص) ، والمعنى ان جبريل بعد أن عاد إلى الصورة التي كان يلقى بها النبي (ص) ودنا منه ، بعد هذا أوحى الله على لسان جبريل إلى عبده محمد أمورا هامة.

٦ ـ (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى). معناه ان رسول الله (ص) رأى جبريل ببصره وقلبه تماما كما خلقه الله ، فلا العين أخطأت فيما رأت ، ولا القلب شك فيما رأت العين بل أيقن وجزم بصدقها (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى)؟. الخطاب للمشركين ، والمعنى أتكذبون محمدا وتجادلونه فيما رأت عيناه وآمن به قلبه وعقله ، وهو من عرفتم صدقه وأمانته ، وعقله واتزانه؟.

٧ ـ (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى). الضمير المستتر في رآه يعود إلى رسول الله (ص) ، والهاء إلى جبريل ، والنزلة المرة من النزول ، والمراد بسدرة المنتهى مكان الانتهاء والحد الأقصى الذي يبلغ اليه مخلوق حتى ولو كان من الملائكة.

وقال جماعة من المفسرين : ان في السماء السابعة شجرة تقع عن يمين العرش ، وتسمى هذه الشجرة بسدرة المنتهى! ... وهذا القول يفتقر إلى دليل ، ومهما يكن فنحن غير مسؤولين عن معرفتها بالضبط ما دام الله سبحانه قد سكت عن التحديد. والذي نفهمه من الآية مع ملاحظة ما جاء في سورة الإسراء ـ ان جبريل (ع) حمل النبي (ص) ليلة المعراج ، وطاف به في السموات حتى انتهى به المطاف إلى الحد الأقصى الذي عبّر عنه سبحانه بسدرة المنتهى ، فوقف عنده ولم يتجاوزه إلى غيره لجهة العلو ، أما جنة المأوى فقد تضاربت الأقوال في تفسيرها ... والظاهر انها جنة الخلد التي جعلها الله ثوابا للمتقين بدليل قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) ـ ٣٩ النازعات فإن القرآن ينطق بعضه ببعض.

١٧٥

والمعنى المحصل ان رسول الله (ص) رأى جبريل مرتين كما خلقه الله : المرة الأولى هي المشار اليها بقوله سبحانه : (فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) الخ وتقدم الكلام عنها. والمرة الثانية كانت في ليلة المعراج حيث طاف جبريل في السماء بالنبي (ص) حتى بلغ به مكان الانتهاء والحد الأقصى الذي لا يتجاوزه مخلوق كائنا من كان .. هذا كل ما دل عليه ظاهر اللفظ أو ما فهمنا نحن من الظاهر ، وما عداه فهو ـ في رأينا ـ من الغيب المحجوب.

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى). يغشى فعل يكون بمعنى يغطي ، وبمعنى يأتي ، تقول : يغشى فلان فلانا أي يأتيه ، وتفسير الآية يصح بالمعنيين لأن المراد انه يوجد عند سدرة المنتهى عجائب من آثار قدرة الله وعظمته ما لا يبلغه وصف ولا يحده عقل ، ولذا أبهم سبحانه ، وترك التفصيل (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) .. كلا ، ما حاد بصر النبي (ص) عن الواقع ولا تجاوز عنه ، وكل ما رآه في جبريل وفي السماء ليلة المعراج هو حق وصدق (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى). ورؤية الآيات التي شاهدها الرسول في معراجه هي فوق الحساب وفوق الزمان والمكان .. ومستحيل أن يراها انسان إلا بقدرة الله ومشيئته. وتكلمنا عن الإسراء والمعراج عند تفسير الآية ١ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٨ فقرة : «الإسراء بالروح والجسد».

الثلاث والعزى ومناة الآية ١٩ ـ ٢٦ :

(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ

١٧٦

الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦))

اللغة :

اللات والعزى ومناة أصنام لأهل الجاهلية. وضيزى جائرة.

الإعراب :

الثالثة صفة لمناة والأخرى صفة ثانية مؤكدة لأن الثالثة لا تكون إلا أخرى. وأنتم تأكيد لفاعل سميتموها. وآباؤكم عطف على هذا الفاعل. ومن سلطان «من» زائدة إعرابا وسلطان مفعول أنزل الله. وما تهوى الأنفس عطف على الظن. وأم منقطعة بمعنى بل. وكم خبرية ومعناها التكثير ومحلها الرفع بالابتداء والخبر جملة لا تغني.

المعنى :

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى). الخطاب لمشركي قريش ، وكانوا يعبدون هذه الأصنام ويقولون : هي بنات الله أو ترمز اليها ، ولذا أنّثوا اللات ومناة بالتاء والعزى بالألف ، وقد سفه سبحانه عقولهم بقوله : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) ظالمة جائرة ، ومثله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) ـ ٦٢ النحل ج ٤ ص ٢٥ (إِنْ هِيَ) ـ الأصنام ـ (إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) لأنها أحجار لا تضر ولا تنفع .. وتقدم الكلام عن الأصنام وعبدتها في عشرات الآيات .. وكفى ردا على من يعبدها ويقدسها قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ

١٧٧

وَالْمَطْلُوبُ) ـ ٧٣ الحج. وقال أديب معاصر : إذا سلبتك الذبابة حياتك بمرض تنقله اليك فمن يستطيع ان يرد لك تلك الحياة. وإذا سلبتك ذرة من طعامك تتحول فورا الى سكر في أمعائها ، فهل يستطيع عباقرة الكيمياء لو اجتمعوا ان يستردوا ذرتك؟.

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ). المراد بالظن هنا الجهل ، والإنسان يكبح هواه بعقله وعلمه ، فإن كان جاهلا أو ضعيف العقل تحكمت به الأهواء وقادته الى المهالك (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) فقالوا : قلوبنا غلف وفي آذاننا وقر ، فحقت عليهم كلمة العذاب (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى). تمنى المشركون شفاعة الأصنام ، فرد عليهم سبحانه : هل يتحقق للإنسان كل ما يتمناه؟. وبكلمة ان عبدة الأصنام جمعوا بين الجهل والهوى والأماني التي تعمي وتصم .. فتراكم الجهل على الجهل (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) الملك والأمر له وحده دنيا وآخرة ، ولا شيء لأي كائن. (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى)؟. قالوا : نحن لا نعبد الأصنام إلا لتشفع لنا عند الله!. فقال لهم سبحانه : ان ملائكة السماء على عظمتهم وكرامتهم لا يشفعون عنده إلا بإذنه فكيف تشفع لكم أحجار صماء؟. وتكلمنا عن الشفاعة عند تفسير الآية ٤٨ من سورة البقرة ج ١ ص ٩٧ فقرة «الشفاعة».

الظن لا يغني عن الحق الآية ٢٧ ـ ٣٢ :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ

١٧٨

أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢))

اللغة :

مبلغهم من العلم منتهى علمهم. والمراد باللمم هنا صغار الذنوب. وأنشأكم خلقكم. وأجنة جمع جنين.

الإعراب :

المصدر من ليجزي متعلق بمحذوف دل عليه سياق الكلام أي خلق الله الناس ليجزي ، وقيل : متعلق بمعنى أعلم بمن ضل واهتدى. والذين يجتنبون بدل من الذين أحسنوا. واللمم مستثنى منقطع.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى). كذبوا بالحق جهلا أو عنادا ، وكل من الجهل والعناد يصلح تفسيرا وسببا لافترائهم على الله بأن له شركاء وصاحبة وبنات .. ولم يكتفوا بنسبة البنات اليه تعالى حتى ابتدعوا لهن أسماء معينة (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) فيثبتون أشياء لا وجود لها ولا دليل عليها إلا صورة وهمية مرت بأذهانهم .. وفي الآية ١٨ من سورة يونس رد عليهم سبحانه بأنه لا يعلم ان له بنات وشركاء ، وذلك حيث قال

١٧٩

عز من قائل : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .. (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً). ولو اتبع الناس رجم الظنون لما استقام شيء في هذه الحياة. وتقدم مثله بالحرف الواحد في الآية ٣٦ من سورة يونس ج ٤ ص ١٥٩.

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا). الخطاب لرسول الله (ص) والمقصود كل من آمن بالله واليوم الآخر تماما مثل اتبع الحق وأقم الصلاة. والمعنى لا تجادل الذين يتراكضون في الغي والضلال ، ولا يؤمنون بشيء ولا يرون أية قيمة لشيء إلا لأنفسهم ومكاسبهم : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) ـ ٢٥ الأنعام. فعلام ـ إذن ـ الجدال والنقاش؟. أنظر ج ٢ ص ٦٦ فقرة «الحق وأرباب المنافع» ، وج ٥ ص ٣٠٨ فقرة «جدال أهل الجهل والضلال».

(ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ). منتهى العلم والحق عندهم انه لا علم ولا دين ولا ضمير ولا حق وقيم .. لا شيء إلا الملذات وتكديس الثروات. أنظر ج ٥ ص ٤٥٣ فقرة «منطق أرباب المال : بنك وعقار» (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى). ان ربك يا محمد يعلم ان الذين كذبوا بنبوتك لا يرتدعون عن الضلال ، وأيضا يعلم انك على الهدى أنت ومن اتبعك من المؤمنين ، لأنه محيط بكل شيء ، وقادر على ثواب من آمن واهتدى ، وعذاب من ضل وغوى.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى). هذه الآية تهديد ووعيد لمن أشار اليه سبحانه بقوله : (تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا). ووجه التهديد ان الدنيا والآخرة بيد الله لأنه هو وحده مالك الكون بما فيه ، فمن أعرض عن الآخرة ، وطلب الدنيا ، وسعى لها سعيها يؤته منها ، وما له في الآخرة إلا العذاب ، حيث يلقى كل انسان جزاء عمله ، ان خيرا فخير ، وان شرا فشرّ.

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ). كبائر الإثم عظائم الذنوب كالكفر والشرك والظلم ، وكل ما تجاوز الحد في القبح

١٨٠