التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

١
٢

٣
٤

سورة الدّخان

٥٩ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

انزلناه ف للة مباركة الآية ١ ـ ٩ :

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩))

اللغة :

الليلة المباركة هي ليلة القدر. ويفرق يبين. وحكيم محكم.

الإعراب :

والكتاب المبين الواو للقسم ، وجملة إنا أنزلناه جواب القسم ، وقال صاحب

٥

مجمع البيان : لا يجوز ذلك لأنك لا تقسم بالشيء على نفسه ... ويرده ان القسم وقع على وقت نزوله لا عليه بالذات. وأمرا نصب على الاختصاص أي أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا. ورحمة مفعول من أجله لمرسلين أو لأنزلناه. وربكم أي هو ربكم.

المعنى :

(حم) تقدم الكلام في مثله بأول سورة البقرة (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) هي مباركة لنزول القرآن فيها ، وإذا عطفنا على هذه الآية قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ـ ١٨٥ البقرة ج ١ ص ٢٨٤ إذا فعلنا ذلك تبين معنا ان هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر وانها احدى ليالي شهر رمضان المبارك ، وذكرنا في المجلد الأول ص ٢٨٥ ان بدء نزول القرآن كان في ليلة القدر ، لا ، انه أنزل كاملا فيها ، فراجع. (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) بالعذاب الأليم من عصى وأفسد في الأرض ، وقد جاء هذا الانذار في القرآن الكريم الذي أنزل على قلب محمد (ص).

(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا). يفرق يبين ، وضمير فيها يعود الى الليلة المباركة ، وحكيم محكم. واختلف المفسرون في المعنى المراد من الأمر الحكيم ، فذهب أكثرهم الى أن الله سبحانه يقسم الأرزاق والآجال في هذه الليلة بين عباده ، وأيضا يغفر الكثير من الخطايا عمن يشاء.

وقال آخرون : ان المراد بالأمر الحكيم هو ما جاء في القرآن من تبيان كل شيء من أمور الدين ... وقال سبحانه فيها ، ولم يقل فيه أي في القرآن لأنه انزل في ليلة القدر ، أما قوله تعالى في سورة القدر : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) فمعناه ان أول عهد النبي (ص) بشهود الملائكة كان في تلك الليلة ، ويأتي البيان ان شاء الله.

(إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ان الله سبحانه أرسل محمدا رحمة للعالمين كما في الآية ١٠٧ من سورة الأنبياء : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ). (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع الأقوال ، ويعلم النوايا (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ). ان العاقل إذا نظر الى الكون بتجرد وإمعان يشهد شهادة إخلاص وإيقان بأن الله هو مالك الكون بما

٦

فيه ، وانه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ). ولا أحد يهب الحياة إلا هو ، وإذا جاء الأجل فلا يبعده شيء ، وأيضا لا يقربه شيء (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) فكيف تعبدون الأوثان وتطيعون الشيطان من دون الله؟ (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ). شكوا في البعث ونبوة محمد (ص) مع قيام البينات والدلائل ، وتلهوا عن عاقبتهم وعما يراد بهم.

يوم تأتي السماء بدخان مبين الآية ١٠ ـ ٢١ :

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١))

اللغة :

فارتقب فانتظر. وليس المراد بالدخان هنا الدخان المعروف ، وانما المراد ان الإنسان كان لما به يرى بينه وبين السماء كالدخان ، ويأتي البيان. ويغشى يحيط. والذكرى التذكر والاتعاظ. وفتنا بلونا وامتحنا. وعذت لذت.

٧

الإعراب :

يوم مفعول به لارتقب. وجملة يغشى الناس صفة ثانية لدخان. وهذا عذاب أليم مبتدأ وخبر ، والجملة مفعول لقول محذوف. ربنا أي يا ربنا. ومعلم مجنون أي هو معلم مجنون. وقليلا أي كشفا قليلا أو زمنا قليلا. ويوم نبطش «يوم» متعلق بفعل محذوف دل عليه منتقمون ، والتقدير ننتقم يوم نبطش الخ. والمصدر من ان أدوا مجرور بباء محذوفة. وعباد الله مفعول أدوا. والمصدر من ان ترجمون مجرور بمن محذوفة ، وأصل ترجمون ترجموني.

المعنى :

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ). الخطاب من الله سبحانه لنبيه الكريم محمد (ص) يعده فيه باستجابة دعائه على قريش ... وذلك ان قريشا بعد أن بالغوا في أذى الرسول (ص) دعا عليهم ، وقال : اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ، فقطع الله عنهم المطر ، وأجدبت الأرض وأصاب قريشا الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة ... وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان ، فقالوا : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ). أتوا النبي (ص) وقالوا له : سل الله سبحانه أن يكشف عنا هذا العذاب ، ونحن نؤمن برسالتك.

(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ). معلم بفتح اللام مع التشديد ... وعدوا بالتذكر والاتعاظ ان كشف الله عنهم العذاب ... ولكنهم لا يتوبون ولا يوفون بالوعد ، ألم يشاهدوا دلائل التوحيد ومع ذلك أشركوا بالله؟. ألم يأتهم الرسول بالبينات الواضحة فكذبوه ، وقالوا : هو مجنون يتلقى بعض الكلمات من جني أو إنسي ويلقيها علينا؟. (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ). المراد بالعذاب هنا عذاب القحط والجوع ، وعائدون ناكثون ، والمعنى سنرفع عنهم ما هم فيه بعض الوقت ونحن نعلم انهم ناكثون بالوعد .. ولكن من باب إلقاء الحجة وقطع المعذرة (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى

٨

إِنَّا مُنْتَقِمُونَ). هذا تهديد بأن الله سيأخذهم يوم القيامة بعذاب مهين على عتوهم وتمردهم.

والخلاصة ان قريشا آذوا النبي (ص) فدعا عليهم ، ولما مسهم السوء استجاروا به ووعدوه بالتوبة ، ولكنهم نكثوا بعد أن فرج الله عنهم ، فهددهم سبحانه بجهنم وبئس المهاد.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ). ضمير قبلهم يعود الى قريش ، والمعنى ان الله اختبر آل فرعون بالنعم والتمكين في الأرض كما اختبر قريشا بكشف العذاب عنهم ، وأرسل سبحانه موسى الى قوم فرعون كما أرسل محمدا الى قريش ، فعصوا جميعهم وعتوا عن أمر الله ، وقال موسى لفرعون وقومه : (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). كان فرعون يضطهد بني إسرائيل ، يذبح المواليد الذكور منهم ، ويبقي الإناث للخدمة ، فطلب منه موسى أن يرسلهم معه ليذهب بهم حيث يشاء ، ومثله قوله تعالى : (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) ـ ٤٧ طه ج ٥ ص ٢٢٠.

(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ). هذا من كلام موسى لقوم فرعون ، ومعناه لا تتعالوا على طاعة الله ، فإن لديّ الحجة الكافية الوافية بإثبات الحق (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) ألوذ بالله والتجأ اليه ان أردتم بي سوءا (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي اعتزلوني ، ودعوني وشأني لا علي ولا معي ان لم تصدقوني وتستجيبوا لدعوتي.

هولاء قوم مجرمون الآية ٢٢ ـ ٢٣ :

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها

٩

قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣))

اللغة :

رهوا ساكنا. وفاكهين متنعمين. فما بكت عليهم السماء والأرض كناية عن عدم الاهتمام بشأنهم.

الإعراب :

رهوا حال من البحر. وكم مفعول تركوا. وكذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك. من فرعون بدل من العذاب بإعادة حرف الجر ، مع حذف المضاف أي من عذاب فرعون. على علم حال أي عالمين. وعلى العالمين متعلق باخترناهم.

المعنى :

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ). يئس موسى من فرعون وقومه فدعا عليهم ، وقال : اللهم عجّل لهم الهلاك في الدنيا بسبب كفرهم واجرامهم ، فاستجاب الله دعاءه وقال له : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ). أمر سبحانه أن يخرج هو وبنو إسرائيل ليلا من مصر ، وأعلمه ان فرعون وقومه سيتبعونهم (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ). اسلك الطريق في البحر ، فإذا قطعته الى الجانب الآخر ، فدعه كما هو ، لأن جيش العدو سيدخله ويغرق بكامله.

١٠

الجزء الخامس والعشرون (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ). كان آل فرعون في ألذ مطعم ومشرب ، لهم السلطان والقصور والأنهار والثمار ، فأرسل الله اليهم موسى يدعوهم الى العدل وعدم الفساد في الأرض ، فلم يستجيبوا لداعي الله ، فأهلكهم وأورث ما كانوا فيه لقوم لا يمتون اليهم بسبب ولا نسب ... قال الشيخ المراغي عند تفسير هذه الآية : «تغلب على مصر الآشوريون والبابليون حينا ، والحبش حينا آخر ، ثم الفرس مدة واليونان أخرى ، ثم الرومان من بعدهم ، ثم العرب ثم الطولونيون والأخشيديون والفاطميون والأيوبيون والمماليك والترك والفرنسيون والانكليز ، وها نحن أولاء نجاهد لنحظى بخروجهم من ديارنا ، ونتمكن من استقلال بلادنا».

وكان هذا الشيخ في عهد الملك فاروق بن فؤاد ، ونعطف على قوله والآن يحتل الصهاينة سيناء والضفة الشرقية من قناة السويس بمعونة الولايات المتحدة قائدة الاستعمار الجديد ، والمصريون يجاهدون ويقاتلون ليخرجوا المعتدين من أرضهم ... وهكذا الحياة جهاد ونضال ، ولأن يستشهد الإنسان والبندقية في يده ، يدافع بها عن وطنه وكرامته ، خير من أن يعيش عيش الذل والهوان.

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ). هذا كناية عن عدم الاهتمام بآل فرعون حين أغرقهم الله في اليم (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) بل عجل سبحانه لهم الهلاك في الدنيا (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) وهو قتل أبنائهم واستخدام نسائهم وبناتهم وتسخير رجالهم في أشق الأعمال (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) الذين تجاوزوا كل حد في الفساد والطغيان والتعالي والتعاظم.

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ). وصف سبحانه بني إسرائيل في كتابه بأقبح الأوصاف ، وسجل عليهم أعظم الجرائم كالغدر والاحتيال والتمرد على الحق وأكل المال بالباطل ، ووصفهم بالكفر والظلم ، ولعنهم في العديد من الآيات ، وهددهم بأشد العقوبات ... ومن هنا أجمع المفسرون على ان المراد بالعالمين في هذه الآية وأخواتها ان الله فضل الاسرائيليين على العالمين في زمانهم ، لا في كل زمان ... وقلنا في ج ١ ص ٩٥ : ان الله فضلهم على أهل ذاك الزمان من جهة واحدة فقط ، وهي ان الله أرسل منهم العديد من الأنبياء.

١١

والآن استوحينا من الآية التي نحن بصددها ان المراد بالعالمين فيها فرعون ومن أقر له بالربوبية فقط ، وليس كل أهل ذاك الزمان ، أما السر في تفضيل بني إسرائيل على فرعون ومن استجاب له فواضح ، وهو ان الاسرائيليين لم يعبدوا فرعون كقدماء المصريين. (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ). المراد بالآيات هنا المعجزات كفلق البحر وتظليل الغمام وانزال المن والسلوى وتفجير الماء من الحجر ، والمراد بالبلاء المبين النعمة الظاهرة قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) ٣٥ الأنبياء.

أهم خير أم قوم تبع الآية ٣٤ ـ ٤٢ :

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢))

اللغة :

بمنشرين بمبعوثين. وتبّع اسم لأحد ملوك اليمن ، والتبابعة لقب ملوك اليمن كالفراعنة والقياصرة. ويوم الفصل يوم القيامة.

١٢

الإعراب :

إن هي «ان» نافية. وبمنشرين الباء زائدة ومنشرين خبر نحن. والذين من قبلهم منصوب بفعل محذوف أي وأهلكنا الذين من قبلهم. ولاعبين حال. وأجمعين تأكيد لضمير ميقاتهم. ويوم لا يغني بدل من يوم الفصل.

المعنى :

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ). هؤلاء إشارة الى مشركي مكة. قالوا : لا حياة ولا نشور بعد الموت ، واحتجوا بقولهم : (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) انهم لا يؤمنون بأن الله قادر على إحياء الموتى إلا إذا رأوا ذلك عيانا ... وذهلوا عن النشأة الأولى ، وان الذي أوجد الإنسان ، ولم يكن شيئا مذكورا ـ قادر على أن يحيى العظام وهي رميم.

(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ). كان للتبابعة دولة وصولة في اليمن وغيرها ، وكانوا أحسن حالا وأكثر مالا من قريش ، ولما عتوا عن أمر ربهم أخذهم بالهلاك والدمار ، وكذا أهلك قوم نوح وعادا وثمود لكفرهم وإجرامهم ، فكيف أمن قومك يا محمد عواقب الكفر والفساد؟ ولو اعتبروا لأبصروا وآمنوا ، ولكنهم قوم لا يفقهون (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ). إن الله حكيم ، والحكيم منزه عن العبث ، فلا يخلق شيئا إلا لمصلحة تعود الى الخلق ... والغاية من خلق الإنسان أن يحيا حياة طيبة خالدة الى ما لا نهاية ، وعليه فلا بد من البعث والنشر ، وإلا كان خلق الإنسان عبثا. أنظر تفسير الآية ٣٣ من سورة لقمان فقرة لما ذا خلق الله الإنسان؟. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ان الله خلق الكون بما فيه لحكمة وغرض صحيح.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ). يوم الفصل هو يوم القيامة الذي يجمع الله الناس فيه لنقاش الحساب وجزاء الأعمال ، وميقاتهم هو موعد ذاك الجمع والحساب والجزاء (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ). لا جاه

١٣

ولا مال ولا أنساب ولا حميم ... لا شيء على الإطلاق ينفع في ذاك اليوم إلا صالح الأعمال فهو وحده الشفيع عند الله (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) ولكن الله يرحم من هو أهل لرحمته كالذي له سوابق تقربه من خالقه جل وعز (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). لا ناصر ولا راحم غدا إلا الله فهو ذو العزة والرحمة تذعن الخلائق لقدرته ، وتفتقر الى رحمته.

طعام الأثيم وطعام المتقين الآية ٤٣ ـ ٥٩ :

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

اللغة :

شجرة الزقوم لا بد أن تكون رديئة الطعم لأنها طعام أهل النار ، وتقدم الكلام عنها في الآية ٦٢ من سورة الصافات. والمهل خثارة الزيت. والحميم الشديد الحرارة. اعتلوه سوقوه بعنف. وسواء الجحيم وسطها. والسندس ضرب من الحرير الرقيق. والإستبرق الغليظ منه. ارتقب انتظر.

١٤

الإعراب :

في جنات بدل من مقام أمين بإعادة حرف الجر. متقابلين حال من واو يلبسون. كذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك. آمنين حال من واو يدعون. وفضلا منصوب على المصدرية أي تفضل تفضلا.

المعنى :

بعد ان ذكر سبحانه المجرمين في الآيات السابقة ، وان موعدهم يوم القيامة ـ ذكر أحوالهم في هذا اليوم ، وهي :

١ ـ (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ). والأثيم من كثرت في الدنيا ذنوبه وآثامه ... وقد بيّن سبحانه ان طعامه يوم القيامة من شجرة اسمها الزقوم ، ووصف ثمرها بأنه (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ). والمهل خثارة الزيت ، والحميم الشديد الحرارة ، وغير بعيد أن يكون هذا كناية عن أليم العذاب وشدته ، وقال الملا صدرا في الأسفار : ان شجرة الزقوم هي الاعتقادات الباطلة والأخلاق السيئة التي تقود صاحبها الى النار ، وفي بعض الروايات ان البخل شجرة من أشجار النار ، والسخاء شجرة من أشجار الجنة.

٢ ـ (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ). أي يقال لملائكة العذاب : سوقوا الأثيم بعنف الى وسط النار (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ). يومئ هذا الى أن في جهنم ثمارا وحماما وملابس ، وكلها من نار السموم.

٣ ـ (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ). تقول ملائكة العذاب للطاغية الأثيم : لقد أنكرت يوم البعث ، وزعمت انك صاحب الجلالة والعظمة ... فذق الآن جزاء تعاظمك وتعاليك ... ومهما شككت فما أنا بشاك ان الذين يسلبون أقوات العباد ، ويصنعون منها أسلحة جهنمية لقتل الأبرياء الآمنين ونسائهم وأطفالهم ، ولا يرون حقا ولا عدلا إلا فيما يهوون ويشاءون ، لا أشك أبدا ان هؤلاء يستحقون هذا النوع من العذاب ، بل أشد وأقسى لو كان هناك عذاب فوق هذا العذاب. انظر ج ٤ ص ٤٥٦ فقرة «جهنم والأسلحة الجهنمية».

١٥

وبعد ان بيّن سبحانه أحوال المجرمين أشار الى أحوال المتقين يوم القيامة بالآيات التالية:

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) يتنعمون فيها كما يشاءون (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ). ثيابهم من الحرير الرقيق والسميك ، ويجلسون على أسرّة في اتجاه بعضهم البعض يسمرون شاكرين ذاكرين أنعم الله ورضوانه (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) لم يطمثهن قبلهم انس ولا جان (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ). يطلبون فاكهة قائمة دائمة لا يخافون لها نفادا وانقطاعا. (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ). كل انسان يموت الموتة الأولى ، وينتقل بعدها إلى الجنة أو النار ، ولا فناء في هذه ولا تلك ، ولكن الفناء أيسر بكثير من حياة وسط الجحيم (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وأي فضل وفوز أعظم من النجاة من عذاب النار وغضب الجبار.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). ضمير يسرناه للقرآن ، وضمير لعلهم للعرب ، والخطاب في لسانك للرسول الأعظم (ص) ، والمعنى أنزلناه قرآنا عربيا لينتفع العرب بتعاليمه ويتعظوا بعظاته (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ). انتظر قليلا يا محمد ، وسترى ان العاقبة لك عليهم ، وهم أيضا يدعون بأن الدائرة ستدور عليك ، ولكن : «هلك من ادعى وخاب من افترى ، ومن أبدى صفحته للحق هلك» كما قال الإمام علي (ع).

١٦

سورة الجاثية

وتسمى سورة الشريعة أيضا ، وهي مكية ، وآيها ٣٧.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ان في السموات والأرض لآيات المؤمنين الآية ١ ـ ٦ :

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦))

اللغة :

المراد بالآيات هنا الدلائل والحجج. ويبث يفرق. واختلاف الليل والنهار تعاقبهما. وتصريف الرياح تغييرها جنوبا وشمالا وشدة وضعفا.

الإعراب :

تنزيل مبتدأ ومن الله الخبر ، ويجوز أن يكون تنزيل خبرا لمبتدأ محذوف أي

١٧

هذا تنزيل الكتاب ، ومن الله متعلق بتنزيل. لآيات اسم ان وفي السموات والأرض خبرها وآيات مبتدأ مؤخر. وفي خلقكم خبر مقدم وما يبث عطف على خلقكم. واختلاف الليل والنهار أي في اختلاف الليل والنهار خبر مقدم وآيات لقوم مبتدأ مؤخر. تلك آيات الله مبتدأ وخبر.

المعنى :

(حم) تقدم مثله في أول سورة البقرة (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). المراد بالكتاب القرآن ، وكله من أوله الى آخره وحي من الله ، لا من سواه ، وقال صاحب روح البيان : ان وصف الله بالعزيز هنا يشعر بأن القرآن معجزة تقهر كل من يتحداها ، وان وصفه بالحكيم يومئ الى ان القرآن يشتمل على حكم بالغة نافعة ... وليس من شك ان القرآن أعجز ويعجز كل من يعارضه ، وانه ينبوع الحكمة ومصدرها.

ثم أشار سبحانه الى الدلائل الحسية الناطقة بوجوده وعظمته ، منها : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي لمن يريد ان يؤمن بالحق لأنه حق ، والمراد بالآيات هنا ما يستنتجه العقل من نظام الكون وسيره على سنن لا تحويل فيها ولا تبديل ، ولولا ثباتها واستمرارها لما أمكن رصدها وقياسها والاستفادة منها ، وبالتالي لم يكن لعلم الفلك وما يتصل به عين ولا أثر (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ). من أراد علم اليقين بوجود الله فليفكر ويتأمل في نفسه وفي أي حي من الأحياء ، فهل يجد في واحد منها عضوا من أعضائه لا وظيفة له ، أو غريزة من غرائزه لا حكمة لها؟ ويدل هذا دلالة قاطعة على الارادة والتصميم ، وإذا لم نر المصمم بالحس فقد رأينا آثاره رأي العين ، وعليه يكون أيماننا بالغيب مستندا الى الحس والمشاهدة.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ). أشار سبحانه في كتابه مرات الى اختلاف الليل والنهار لينبه العقول الى السر العجيب في دورة الأرض لأنها السبب الموجب لمجيء الليل بعد النهار ، ومجيء النهار بعد الليل ، ومهما قيل ويقال عن أسباب دورة الأرض حول نفسها أو حول الشمس فإن هذه الأسباب وغيرها من الأسباب

١٨

الكونية تنتهي الى ارادة الخالق الأول وقدرته وحكمته ، ويستحيل في نظر العقل أن يكون مبدأ هذا الكون العجيب مادة عمياء تتحكم بها الصدفة والفوضى التي لا قصد لها ولا غاية.

(وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها). المراد بالرزق هنا كل شيء علوي له أثر في الحياة كالماء وحرارة الشمس ، وفيهما من الدلالة على وجود الخالق ما في خلق السموات والأرض لأن الكل وجد لحكمة وغرض صحيح (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) جنوبا وشمالا وغربا وشرقا وباردة وحارة (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) كل ذلك وما إليه دليل قاطع على ارادة عليم حكيم.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ). وهكذا يضع سبحانه أمام العقل مشاهد ودلائل حسية على معرفة الخالق وقدرته (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ). من لا ينتفع ببيان الله ، ويقتنع بأدلته فلا تجدي معه أية حجة. وتكرر معنى هذه الآيات كثيرا في كتاب الله ، من ذلك الآية ١٦٤ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٥١.

ومن نهج البلاغة : ما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه الا سواء ، وكذلك السماء والهواء والرياح والماء ، أنظر الى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر واختلاف هذا الليل والنهار ، وتفجّر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه القلال ـ أي رؤوس الجبال ـ وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات ... فالويل لمن جحد المقدر ، وأنكر المدبر ... زعموا انهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع ، ولم يلجئوا الى حجة فيما ادعوا ، ولا تحقيق لما أوعوا ، وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان؟.

ويل لكل أفاك أثيم الآية ٧ ـ ١٥ :

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً

١٩

كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥))

اللغة :

أفاك كثير الكذب. وأثيم كثير الإثم. ويطلق الرجز على معان ، منها القذر والانحراف عن الحق الى الباطل ومنها شدة العذاب وهذا المعنى هو المراد من الرجز في الآية ، أي عذاب من النوع الشديد الأليم. وتطلق ايام الله على ايام نعمته ونقمته.

الإعراب :

مستكبرا حال من ضمير يصرّ. كأن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي كأنه. وأليم بالرفع صفة لعذاب. وجميعا حال مما في السموات وما في الأرض. وضمير

٢٠